الفصل السادس والثلاثون: حياة الكنيسة الأولى

الفصل السادس والثلاثون

حياة الكنيسة الأولى

حين نقرأ أعمال الرّسل ونشاهد وجه الكنيسة الأولى، يلفت نظرنا لوحات ثلاث يرسم فيها القدّيس لوقا حياة الكنيسة الأولى. نقرأ في اللوحة الأولى: "وكان المؤمنون كلّهم متّحدين يجعلون كل ما عندهم مشتركًا... وكانوا يلتقون كل يوم في الهيكل بقلب واحد، ويكسرون الخبز في البيوت، ويتناولون الطعام بفرح وبساطة قلب" (أع 2: 44-46). وفي اللوحة الثانية: "وكان جماعة المؤمنين قلبًا واحدًا وروحًا واحدة، لا يدّعي أحد منهم ملك ما يخصّه، بل كانوا يتشاركون في كل شيء لهم" (4: 32-33). وفي اللوحة الثالثة: "وجرى على أيدي الرسل بين الشّعب كثير من العجائب والآيات، وكانوا يجتمعون بقلب واحد في رواق سليمان (للتعليم). وما تجاسر أحد أن يخالطهم، بل كان الشعب يعظّمهم" (5: 12-13).
شدّدت اللوحة الأولى على وحدة الجماعة، واللوحة الثانية على المشاركة في الخيرات، واللوحة الثالثة على النشاط الرسولي. أما نحن، فنتوقف على أربعة مواضيع: تعليم الرسل، المشاركة في الخيرات، كسر الخبز، الصلوات.

1- تعليم الرسل
قال القديس لوقا في أع 2: 42: "وكانوا يواظبون على تعليم الرسل". لقد بدأ بطرس يوم العنصرة بتعليم الشعب: "يا أيها اليهود، ويا جميع المقيمين في أورشليم. أصغوا إلى كلامي" (2: 14). وخطب فيهم بعد أن شفى المخلّع (3: 12: يا بني إسرائيل...). وعلّم بولس اليهود والوثنيين. علّم في دمشق أن يسوع هو المسيح (9: 22)، وبشّر بشجاعة باسم الرب في أورشليم (9: 28)، وحدّث اليهود في إنطاكية بسيدية (13: 6: يا بني إسرائيل، ويا أيها الذين يتّقون الله، اسمعوا)، ووجّه كلامه إلى غير اليهود بعد أن رفضها اليهود (13: 46)، فأوصل كلامه إلى أثينة، عاصمة الفلسفة في العالم اليوناني. كما قدّم اسطفانس وفيلبس وبرنابا وغيرهم التعليم الذي نادى به الرسل.
ماذا علّموا؟ الإنجيل الذي هو في الوقت عينه إعلان أن يسوع هو الرب والمسيح، الذي هو نداء إلى المؤمنين يطلب منهم ليجعلوا حياتهم تطابق هذه الحقيقة المعلنة. الإنجيل شخص هو يسوع المسيح، وهو أيضًا تعليم عن هذا الشخص وعن معنى الحياة البشرية. أين علّموا؟ في البيوت، في الهيكل، في المجامع، على الطريق، قرب شاطئ النهر. وهكذا وصلت البشارة إلى كل مكان.
فيبقى على المؤمنين أن يثابروا على اتّباع التعليم المعطى لهم: مثابرة على السماع، مثابرة على العيش. فالمواظبة على تعليم الرّسل تبقى القاعدة الأولى والأساسية لحياة الكنيسة اذا أرادت أن تتجنّب الهرطقة والضلال، أن تنجو من الخلاف والانقسام. ولا يكفي أن يسمع المؤمنون، فعليهم أن يعملوا. فإلى العمل دعاهم بطرس في عظته الأولى: "توبوا وليتعمّد كل واحد منكم باسم يسوع المسيح... تخلّصوا من هذا الجيل الفاسد" (2: 38، 40).

2- المشاركة في الخيرات
وشدّد القدّيس لوقا في سفر الأعمال على المشاركة، على الحياة المشتركة. قال: "كانوا يبيعون أملاكهم وخيراتهم ويتقاسمون ثمنها على قدر حاجة كل واحد منهم" (2: 45). المشاركة توحّد المؤمنين بعضهم ببعض، توحّدهم مع الرسل، بل مع الله بالذات. إنهم يشاركون في الإنجيل الواحد والايمان الواحد، فكيف لا يشاركون في الخيرات الضرورية لحياتنا على الأرض. هذا ما فعل برنابا، "فباع حقلاً يملكه وجاء بثمنه فألقاه عند أقدام الرّسل" (4: 37). وهذا ما لم يفعله حنانيا وزوجته سفيرة اللذان استولى الشيطان على قلبيهما فكذبا على الروح القدس واحتفظا بقسم من ثمن الحقل (5: 3). ولقد قالت الرسالة إلى العبرانيين (13: 16) في هذا الصدد: "لا تنسوا الاحسان (أو عمل الخير) والمشاركة في كل شيء، فمثل هذه الذبائح ترضي الله". وقال يوحنا في رسالته الأولى (3: 17): "من كانت له خيرات العالم ورأى أخاه محتاجًا فأغلق قلبه عنه، فكيف تثبت محبة الله فيه"؟
ولا تتوقّف هذه المشاركة على مستوى الأفراد، بل تتعدّاها إلى الجماعات، إلى الكنائس أو الرعايا المختلفة. افتقرت "رعية" أورشليم، فمدّت لها سائر "الرعايا" يد العون. فجمع بولس المال من كنائس كورنتوس وفيلبي وتسالونيكي. وهذه "اللمَّة" ليست فقط تبرّعًا وسخاء، إنّها قبل كل شيء تعبير عن المحبة الأخوية، وهي تدلّ على الشركة التي توحّد بين المؤمنين.

3- كسر الخبز
وكانوا يداومون على كسر الخبز. هذا ما يقوله لوقا عن الجماعة المسيحية الأولى، وكسر الخبز يعني العشاء المسيحي الخاص الذي هو الافخارستيا. نحن نجد تلميحًا إلى عشاء الرب في خَبَر ارتداد سجّان فيلبي. يقول سفر الأعمال إن بولس بشّر السَجّان وأهل بيته وعمّدهم. ثم يزيد: أقام السجّان مائدة جمعت عائلته إلى الرسولين، وفرح، هو وأهل بيته، لأنه آمن بالله (16: 32-34). لا ترد كلمة مائدة الاّ في هذا المقطع من أعمال الرسل وفي 6: 2 حيث تدلّ خدمة الموائد على وليمة الكنيسة الأولى التي فيها يحتفل المؤمنون بالافخارستيا. والتلميح إلى الافخارستيا واضح في خبر الليلة التي قضاها بولس في ترواس، خلال السفرة الأخيرة وقبل اعتقاله (20: 7-12). كانت الكنيسة مجتمعة في العلّية كما في أورشليم، في اليوم الأول من الأسبوع الذي صار اليوم المكرَّس للعبادة لدى المسيحيين، لأنه يوم ذكرى القيامة. بدأ الاجتماع في المساء وامتدّ إلى الصباح، وكان في العليّة مصابيح كثيرة تدلّ على نور الرب. نام الفتى أفتيخوس عند النافذة، فوقع من الطبقة الثالثة إلى أسفل وحُمل ميتًا. ولكن حضور الرب بالافخارستيا لا يسمح لقوى الظلمة أن تسيطر على المكان. فبعد أن كسروا الخبز جاؤوا بالفتى حيًّا.
عندما يجتمع المؤمنون لكسر الخبز، يكون المسيح حاضرًا معهم. هذا ما اختبره التلميذان اللذان ذهبا من أورشليم إلى عماوس. اشتعل قلبهما عندما حدّثهما في الطريق عن الكتب المقدّسة، وعرفاه عند كسر الخبز. فاذا كان يسوع بيننا، فكيف ننسى شريعة المحبة والتقاسم والمشاركة؟ كيف نتفرّق فرقًا ونحن كنيسة واحدة؟ كيف نسمح لنفوسنا بأن نتناول عشاءنا الخاص ونترك إخوتنا جياعًا؟ أهكذا نجتمع لتناول عشاء الرب (1 كور 11: 17-21)؟

4- الصلوات
كانوا يداومون على الصلاة في الهيكل، كما كانوا يفعلون قبل ارتدادهم. ولكنهم بالحري كانوا يداومون على الصلوات المسيحية. هناك صلوات ترافق الاحتفال بالافخارستيا كما يقول يوستينوس الشهيد (أصله من نابلس في فلسطين). ولكن الصلاة ترافق الكنيسة الأولى منذ بداية حياتها. فبعد الصعود كان الرّسل "يواظبون كلهم على الصلاة بقلب واحد، مع بعض النساء ومريم أم يسوع وإخوته" (أي اقاربه) (1: 14). والصلاة هي اهتمام أول في حياة الكنيسة. يقول لوقا إن الرّسل أرادوا أن يتفرّغوا للصلاة والتبشير بكلام الله (6: 4). قبل أن يختاروا متيّا صلّوا، وكذلك فعلوا قبل أن يرسلوا برنابا وبولس: "صاموا وصلوا ووضعوا أيديهم عليهما وأرسلوهما" (13: 3). صلّت الكنيسة وقت الشدّة والصعوبة، فردّدت كلمات المزمور الثاني (لماذا هاجت الأمم وتآمرت الشعوب باطلاً؟) وطبّقته على وضعها الحاضر. رفعوا أصواتهم إلى الله بقلب واحد وقالوا: "تحالف في هذه المدينة هيرودس وبيلاطس وبنو إسرائيل والغرباء على فتاك القدّوس يسوع...". ويتابع النصّ: "وبينما هم يصلّون، اهتزّ المكان الذي كانوا مجتمعين فيه" (4: 24-31).
يتحدّث سفر الأعمال مرارًا عن الصلاة، ولكننا نجد النصوص المسيحية في رسائل القديس بولس وسائر أسفار العهد الجديد. وتبقى قمّة الصلاة في تلك التي علمناها الرب نفسه: أبانا الذي في السماوات.
على هذه الممارسات الأربع داومت الكنيسة: على التعليم والمشاركة، على كسر الخبز والصلاة. وهذه الممارسات تكفي لتصوّر حياة الكنيسة المؤسَّسة على المسيح والمبنية على عمل الفداء. وإن الكنيسة لا تستطيع أن تبقى أمينة لذاتها إلاّ إذا بقيت أمينة لهذا الماضي الذي يبدو لنا تقليدًا نعود إليه وقاعدة حياة تساعدنا على أن نكون شهودًا للمسيح في أورشليم واليهوديّة والسامرة، بل وفي أقاصي الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM