الفصل الخامس والثلاثون: يسوع ابن الإنسان

الفصل الخامس والثلاثون

يسوع ابن الإنسان

ابن الإنسان! عبارة سرية استعملها يسوع واحتفظت بها الكنيسة الأولى، ولا سيّما تلك الجماعات الخارجة من العالم اليهودي. لقب أخذ به يسوع ليسّمي نفسه فلا يقول "أنا". ولكن هذا اللقب سيزول من أفواه المسيحيين فيحلّ محلّه لَقَبان: واحد مأخوذ من عالم الشرق وهو "ابن الله"، وآخر مأخوذ من عالم الغرب وهو "كيريوس" (نجده في لفظة كيريي إليسن) أي السيّد والرب. كان الوثنيون يعتبرون الأمبراطور سيّدًا وربًا، لأنه القويّ، لأنه المخلّص، لأنه ذاك الذي يجعل شعبه ينعم بالسلام. أما المسيحيون فربطوا كيريوس الاسم بيسوع الذي هو المخلّص الحقيقي. وكان اليهود يعتبرون الملك ابن الله، لأن الله يتبناه يوم يُنصَّب ملكًا. ولكن المسيحيين تعدّوا المعنى المجازي وأنشدوا يسوع المسيح كابن الله الحقيقي. وستقول الكنيسة في مجامعها إن هذا الابن مساوٍ للآب في الجوهر.

1- النصوص الإنجيلية
ونعود إلى لقب ابن الإنسان الذي نقرأه في قرابة ثمانين مقطعًا في الإنجيل. ونميّز هذه المقاطع في ثلاث فئات متمايزة.
الفئة الأولى تتحدّث عن ابن الإنسان في عمله الحاضر على الأرض. نقرأ في مر 2: 10: "إن ابن الإنسان هو سيّد السبت". وفي التقليد المشترك بين متى ولوقا: "جاء الإنسان يأكل ويشرب فقالوا: هذا رجل أكّول وسكّير وصديق لجباة الضرائب والخاطئين" (م 11: 19؛ لو 7: 34). ونقرأ أيضًا: "إن ابن الإنسان لا يجد أين يسند رأسه" (مت 8: 20؛ لو 9: 58). ونجد عند متّى وحده هذه الآية: "الذي زرع زرعًا جيدًا هو ابن الانسان". أما رسالة الخلاص التي يحملها الابن في العالم، فيشير إليها مر 10: 45: "لأن ابن الانسان جاء، لا ليخدمه الناس، بل ليخدمهم ويفدي بحياته كثيرًا منهم" (رج مت 20: 28). وقد أعلن لو 19: 10 في المعنى نفسه: "فابن الإنسان جاء ليبحث عن الهالكين ويخلّصهم".
في الفئة الثانية، نحن أمام النصوص التي تجعل ابن الإنسان أمام الألم والموت، بانتظار القيامة. هذا ما نقوله عن الانباءات بالآلام عند مرقس وما يوازيه من نصوص: "وبدأ يعلّمهم أن ابن الإنسان يجب أن يتألم كثيرًا" (مر 8: 31= لو 9: 22). أما متّى فقال: "وبدأ يسوع من ذلك الوقت يصرّح لتلاميذه أنه يجب عليه أن يصعد إلى أورشليم ويتألّم كثيرًا" (مت 16: 21). وهكذا عنى متّى يسوع بكلامه دون أن يسمّيه ابن الإنسان. وقال مرقس في الإنباء الثاني: "سيُسلم ابن الإنسان إلى أيدي الناس، فيقتلونه وبعد قتله بثلاثة أيام يقوم" (مر 9: 31= مت 17: 22، 23= لو 9: 44). وقال مرقس في الإنباء الثالث: "سيسلم ابن الإنسان إلى رؤساء الكهنة ومعلّمي الشريعة، فيحكمون عليه بالموت" (مر 10: 33= مت 20: 18= لو 18: 32). هنا يقول لوقا: "فما فهم التلاميذ شيئًا من ذلك، وكان هذا الكلام مغلقًا عليهم، فما أدركوا معناه" (لو 18: 34). أجل حسبوه المسيح الممجّد، ونسوا البعد الإنساني. اذا كان يسوع إنسانًا مثلنا، فهو سيموت. وتوقّفوا عند الوجه الأول من هذه المسيرة مسيرة الآلام. ولكن بعد القيامة سيفهمون أن القيامة هي النهاية، وأن الموت محطّة في هذه الطريق.
في الفئة الثالثة، يبدو وجه ابن الإنسان وجهًا اسكاتولوجيًا، أي إنه يرتبط بنهاية الأزمنة وعالم السماء. يقول يسوع عن نفسه: "لأن من يستحي بي وبكلامي في هذا الجيل الخائن الشرير، يستحي به ابن الانسان متى جاء في مجد أبيه مع ملائكته الأطهار" (مر 8: 38؛ رج مت 16: 27؛ لو 9: 26). ونسمع في خطبة نهاية الأزمنة: "في ذلك الحين يرى الناس ابن الإنسان آتيًا على السحاب في كل عزّة وجلال" (مر 13: 6= مت 24: 30= لو 21: 27). ويتفرّد لوقا بنقل هذه الآية: "من اعترف بي أمام الناس، يعترف به ابن الإنسان أمام ملائكة الله" (لو 12: 8؛ رج 17: 22، 30؛ 18: 8؛ 21: 36). ويتفرّد متّى في هذا الكلام يعلنه يسوع للرسل: "الحقّ أقول لكم: لن تنهوا عملكم في مدن اسرائيل كلّها حتى يجيء ابن الإنسان" (مت 10: 23؛ رج 13: 41؛ 16: 27، 28؛ 19: 28).

2- أصل هذا اللّقب
إنّ عبارة "ابن آدم" العبرية تقابل عبارة ابن الإنسان، وهي تدلّ على الإنسان العظيم، كما تدلّ على الإنسان السّريع العطب والمائت (رج مز 8: 5؛ 10: 18). وتعود عبارة "ابن آدم" في النصوص الشعرية ولا سيّما عند حزقيال، فتدلّ على الإنسان الضّعيف والمائت أمام إلهه السامي. وسنجد قرابة تسعين مرة هذه العبارة التي يستعملها الله ليوجّه كلامه إلى النبي: "قف أيها الإنسان فأتكلم معك (حز 2: 1). "أيها الانسان كُلْ هذا الدرج" (حز 3: 1).
أما في الآرامية، فعبارة "بَرْ اناش" تعني ابن الإنسان، وهي تعني إنسانًا من الناس. وستحلّ محلّ الضمير. فبدل أن يقول يسوع: "من هو ابن الإنسان في رأي الناس" (مت 16: 13)؟ كان باستطاعته أن يقول: "من أنا في رأي الناس"؟ اذًا تعني العبارة إنسانًا من الناس، وتعني أكثر من ذلك، وهذا واضح حين تبرز في الآية الواحدة "الناس" "وابن الانسان". نقرأ في مر 9: 31: "سيسلم ابن الإنسان إلى أيدي الناس". هل ابن الإنسان هو كسائر الناس؟
أجل إن يسوع إنسان من الناس، وهو يريد أن يبيّن وجهه البشري. وقد نجح في ذلك، فأراد معاصروه أن يحصروه في عبارات مثل هذه: إنه ابن يوسف، إنه ابن النجار، نحن نعرف أمه وإخوته، هو من الناصرة، فكيف يذكره موسى في الشّريعة والأنبياء في الكتب (يو 1: 45)؟ ولكن يسوع أكثر من انسان. وحين يفتح نافذة على لاهوته يقول الناس: إنه يجدّف، إنه يكفر. ولكن يسوع يقول الحقيقة، لأنه يعرف من أين جاء وإلى أين يذهب، أما الناس فلا يعرفون.
3- عودة إلى سفر دانيال
نحن نقرأ عبارة ابن الإنسان في سفر دانيال: "رأيت في رؤى الليل، فإذا بمثل ابن الإنسان آتيًا مع سحاب السماء، وصل إلى الشيخ المسن، فقُرّب إليه. وأوتي سلطانًا ومجدًا وملكًا: فجميع الشعوب والأمم والألسنة يعبدونه. سلطانه سلطان أبدي لا يزول. وملكه لا ينقرض" (دا 7: 13-14). ونزيد هنا التفسير الذي أعطاه دانيال (7: 27): "أما الملك والسلطان وعظمة الممالك التي تحت السماء بأسرها، فتُعطى لشعب قدّيسي العلي: سيكون ملكه ملكًا أبديًا، وكل السلاطين يعبدونه ويطيعونه".
من هو ابن الإنسان؟ هل هو إنسان عظيم كآدم؟ هل هو ملاك أوكائن سامٍ؟ هل هو المسيح الملك أو رمز من رموز شعب اسرائيل؟
إن ابن الإنسان يرمز إلى الشعب، وهو يرمز أيضًا إلى الملك المسيح. أما مجيئه مع (أو: على) السحاب، فهو يربطه بعالم الله. وبما أن ابن الإنسان لا يأتي من الله إلى البشر، بل يأتي نحو الله لينصَّب ملكًا، فهذا يربطه بعالم البشر. أجل، انتظر الشعب اليهودي مخلّصًا يختاره الله من البشر ويمنحه روحه. وانتظر أيضًا شخصًا يرسله الله من عليائه. فهذان الانتظاران تمّا في يسوع المسيح. إنه من البشر، إنه الإنسان الذي شابهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة. وإنه من الله. هو الكلمة الآتي إلى العالم. كان عند الله بل هو الله (يو 1: 1). لقد كان يسوع إنسانًا بكل معنى الكلمة. كان في صورة الله، ولكنّه تجرّد من ذاته واتخذ صورة العبد. صار شبيهًا بالبشر وظهر بمظهر الإنسان (فل 2: 6-7). والعلامة الكبرى على أنه إنسان هو موته على الصليب.
لقد بدا يسوع من خلال تسمية ابن الإنسان على ضوء دانيال، أنه الألف والياء، أنه آدم والمسيح الآتي مع السحاب. نحن هنا أمام عبارة تغطّي كل الألقاب الكرسْتُولوجية في العالم المسيحي: من آدم الكامل إلى المسيح المنتظر في السحاب، من ابن الله السماوي إلى الرب والديّان السامي. وهكذا حين أخذ يسوع هذا اللقب عبّر عن "مسيحانيته" كلّها. عبّر عن وجهه البشري، ولكنه فتح أيضًا أمامنا الطريق لنتأمّل أيضًا في وجهه الالهي.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM