الفصل الثالث عشر النصوص القمرانيّة والعهد الجديد

الفصل الثالث عشر
النصوص القمرانيّة
والعهد الجديد

1- قراءة الكتاب المقدّس
يعرف الشرق تيّارين: واحدًا يرفض العهد القديم ويودّ أن يفصله عن العهد الجديد. هذا ما فعله مرقيون منذ القرن الثاني المسيحي فانتهى به الأمر إلى الإبقاء على إنجيل لوقا وبعض الرسائل البولسيّة، واستبعاد سائر أسفار العهد الجديد بدءًا بمتّى. وآخر يحاول باسم إلغاء الطائفية أن يقرّب بين الديانات على مستوى قاسم مشترك، فيخلق ديانة خاصة تشرف على الديانات السماويّة. وكما أن التيار الأول يخلق التعصّب والبغض للآخر والانغلاق على تفكير ضيّق يحسب نفسه مرتكز الكون، فالتيّار الثاني يخلق دوغماتية متحجّرة لا ترضى بالآخر ولا بأفكاره، فتصبح أكثر ذمًّا من الطائفيّة. فانفتاح الواحد على الآخر في حقيقة تنمي الإنسان، وكلَّ إنسان، رجلاً كان أو امرأة، غنيًّا كان أو فقيرًا، متعلّمًا كان أو أميًّا... ما زال بعيدًا عنا. نريد أن نفرض حقيقتنا على الآخر، ولا نريد أن نتقبَّل الآخر، فتكون النتيجة هذا الوضع الذي نعيش فيه.
ويعرف الغرب الدينيّ تيارًا أصوليًّا يحمل خطرًا كبيرًا على المسيحيّة. هو يريد أن يتعلّق بيسوع المسيح تعلّقًا على مستوى الجسد. ولكن بولس يقول: "إن كنا قد عرفنا المسيح بحسب الجسد، فالآن لا نعرفه كذلك" (2 كور 5: 16). لا شك في أن أناسًا عرفوا يسوع في الجسد، ولكنهم رذلوه وصاروا خارج رعيّته. أما الذين قبلوه، فبالإيمان قبلوه، وبالإيمان صاروا أبناء الله.
هذا التيار يحاول أن يجعل الإنجيل حرفًا ميتًا مسجّلاً خرج من فم يسوع ودوّنته الأناجيل الأربعة بطريقة "حرفيّة". ولكنهم ينسون أن الأناجيل تختلف في تفاصيل عديدة. فما يسند صحة الإنجيل ليس قرب "الكتاب" من يسوع، بل الروح القدس الذي حلّ على المسيح وعلى الرسل وعلى الجماعات ولا يزال حاضرًا معنا. بل الكنيسة التي هي جسد المسيح وتعرف كلَّ المعرفة كلام المسيح الحقيقيّ الذي هو روح يحيي لا حرف يقتل (2 كور 3: 6).
وكما يشوّه أبناء الشرق قراءة النصوص من أجل أغراضهم الخاصة وهي أبعد ما تكون عن منطق الإيمان والديانة الحقة، يشوّه بعض الباحثين قراءة الوثائق لكي يسندوا تفكيرهم الخائف من عاصفة الروح القدس الذي ما زال ينفخ في الكنيسة ويطلقها على طرق العالم المعروف. أرادوا أن يجعلوا المسافة قريبة بين يسوع وإنجيله، فقالوا إن هناك نصًا إنجيليًّا وُجد في قمران. وتوخّى آخرون أن يعودوا ببولس والكنيسة إلى عالم يهوديّ متحجّر، فأعلنوا أنهم اكتشفوا لدى الأسيانيّين مقاطع من رسائل القديس بولس. فبدل أن نكون خاضعين لكلام الله، نُخضع كلام الله لمفهومنا ونعجب إن رأيناه مشوَّهًا.
قدّمنا جوابًا موجزًا للذين يجعلون يسوع إنسانًا من البشر وينسون أنه إله وإنسان معًا. قدمنا جوابنا منطلقين من نصوص نُشرت أكثر من مرّة. وسنحاول أن نقدّم الوثائق التي يستند إليها بعض الباحثين ليدلّوا على قدم إنجيل مرقس وغيره من كتابات العهد الجديد.

2- آيات من العهد الجديد في قمران
في سنة 1972، اعتبر الأب جوزيه أوكلاغان أنه وجد في المغارة السابعة نص مر 6: 53 الذي يقول: "لأنهم لم يفهموا شيئًا من أمر الأرغفة، بل كانت قلوبهم عمياء. ولما أفضوا إلى البرّ جاؤوا إلى جنسارت وأرسوا هناك". ماذا كان في يد الباحث؟ بضعة حروف. حاول أن يزيد ويصحّح حتى بلغ إلى الجملة المطلوبة. في العبارة الأولى هناك حرفٌ واحد من أصل عشرين حرفًا، وفي العبارة الثانية نجد خمسة حروف من أصل 23 حرفًا، وفي الثالثة، 6 من 20، وفي الرابعة 4 من 20، وفي الخامسة 4 من 21. وهكذا تكون مجمل الحروف الموجودة 20 حرفًا من أصل 105 حروف. وجاء الردّ سريعًا من الأب بنوا: يبدو لي أن القراءة ليست أكيدة ولا تصحيح الحروف، لاسيَّما وأن الأب أوكلاغان لم يصل إلى الأصل، بل إلى صور عن الأصل. ومع ذلك راحت مجلّة فرنسية تعلن وتكرّر: ما وُجد في قمران يتطابق تمامًا مع نص مر 6: 52-53. يكفي أن ننظر إلى الصورة لكي يكون البرهان واضحًا. وكانت المجلة نفسها قد قالت على الغلاف: "إن مرقس كتب حالاً (بعد موت يسوع). إن فتيتة قديمة تبرهن أن مرقس دوّن إنجيله بضع سنوات فقط بعد موت يسوع المسيح وقيامته. وهكذا، ردّت على التأويل الحديث. غير أن هناك صمتًا سريًّا يحوم فوق هذا الاكتشاف". وفي الداخل نقرأ: "اكتشاف مزعج. التحديد القديم لزمن كتابة الأناجيل ليس بصحيح. فبين المخطوطات التي وُجدت في منطقة البحر الميت، هناك فتيتة لإنجيل مرقس تدل على أنه كتب قبل سنة 50".
وسُئل الأب بيار غرالو عن رأيه فقال: "ظن هذا الأب اليسوعي البسيط أنه وجد في فتيتة مبعثرة نصّ مرقس. هي فرضية عبثيّة. ونحن نستطيع أن نكوّن من هذه الحروف خمسة أو ستة نصوص من العهد القديم. والهدف من كل هذه الضجة هو دفاعيّ. يريد صاحبُها أن يبيّن أن الأناجيل كُتبت في وقت مبكّر...".
واعتبر الأب أوكلاغان أنه وجد مر 4: 28: "فالأرض من ذاتها تثمر، تخرج الساق أولاً، ثم السنبلة، ثم الحنطة ملءَ السنبلة". في يد الأب اليسوعي خمسة حروف من أصل 55 حرفًا. لهذا قال الأب بنوا: تعب الأب أوكلاغان، ولكن قراءته ليست بأكيدة. واستنكف التوقف عند 7 ق 8 (أي: المغارة السابعة في قمران، الوثيقة الثامنة) حول يع 1: 32-24: "فإن من يسمع الكلمة ولا يعمل بها يشبه إنسانًا ينظر في مرآة وجه...". معنا سبعة حروف. ويجب أن ننطلق منها لكي نجد 69 حرفًا. الإمكانيّات عديدة ولا إمكانية تفرض نفسها.
وفي مقال ثان، قدم الأب أوكلاغان نص 1 تم 3: 16؛ 4: 1-3؛ أع 27: 38؛ مر 12: 17؛ روم 5: 11-12؛ 2 بط 1: 15. فاجاب بنوا بأن قراءة الحروف مشكوك فيها إن لم تكن مستحيلة، لأن الحروف الموجودة هي قليلة جدًا لكي تتيح لنا أن نجد نصًّا يفرض نفسه.
على مثل هذه الأمور الواهية ارتكز بعضهم ليتحدّثوا عن خوف الكنيسة من قراءة نصوص قمران. لنفترض أن تكون هذه النصوص حقيقة وواقعًا، فهي لا تتضارب ونصّ الكتب المقدّس. أما البحث في المخطوطات فيرتبط بالعلماء لا بالوحي والإلهام. وليتناقش العلماء ما شاؤوا حول هذا المقطع أو ذاك، حول زمن كتابة وثيقة من الوثائق. فكلام الله يبقى كلام الله، وليس على المؤمنين أن يضطربوا من هذا المناقشات التي قد تساعدنا على التعرّف إلى المحيط الذي فيه دُوّنت أسفار العهد الجديد.

3- أفكار من العهد الجديد في قمران
منذ أن نُشرت مخطوطات البحر الميت، ظهر أنها تفتح الطريق لدراسة أصول المسيحيّة، وأنها تتيح لنا أن نتعرّف بشكل أفضل إلى التيارات الدينيّة في العالم اليهوديّ الفلسطينيّ الذي منه انطلقت الديانة الجديدة.

أ- الملك الأخير بألقابه المسيحانية
وُجد في المغارة الرابع (4 ق 246) نصٌّ أراميٌّ يُنسب إلى دانيال. إن هذا الملك الأخير هو المسيح، هو الربّ وابن الله. وقد استند هذا الكلام إلى مز 2 و110 اللذين هما مزموران مسيحيّان نقرأ فيهما: "انت ابني. أنا اليوم ولدتك". هل ترك هذا النصّ أثرًا في إعلان ميلاد المسيح في لو 1: 32-33: "إنه يكون عظيمًا، وابن العلي يُدعى، وسيعطيه الرب الإله عرش داود أبيه، ويملك على بيت يعقوب إلى الدهر، ولن يكون لملكه انقضاء"؟ إن هذه الألقاب المسيحانية لشخص إسكاتولوجيّ هي في أساس ما كتبه بولس في روم 1: 3-4 و1 كور 12: 3.
ثم إن الأصل الداوديّ للمسيح موجودٌ في نصوص أخرى من قمران. مثلاً، تستعيد 4 ق 174 نبوءة ناتان حول السلالة الداوديّة (2 صم 7: 12) ثم تفسّر مز 2: 1-2 الذي يتحدّث عن بنوّة المسيح الإلهيّة.
واليك نصَّ دانيال المزعوم (4 ق 246). "حلّت عليه مخافة عظيمة، فسقط أمام العرش وقال دانيال للملك: أنت تغضب من زمان بعيد وتسير سنوك في المخافة. سأفسّر لك الرؤية وكل شيء. عش إلى الأبد. بسبب الملوك المقتدرين سيحلّ ضيق بالأرض. ستكون حرب بين الشعوب ومجازر كبيرة في المقاطعات. ويقوم الملوك ويتحالف ملك أشورية وملك مصر. ويقوم ملكٌ آخر عظيم، وهو يكون عظيمًا على الأرض. تسالمه الشعوب والملوك، والجميع يخدمونه. يسمّى ابن الربّ العظيم السامي، يسمّى باسمه. يقال فيه إنه ابن الله ويدعى ابن العلي. ومثل كواكب الرؤية هكذا يكون ملكهم. يملكون سنوات على الأرض ويدوسون كل شيء".

ب- التطويبات
هل من مقابلة بين "التطويبات" في قمران وما نقرأ في مت 5: 3-10 "طوبى للمساكين بالروح، طوبى للودعاء. طوبى للحزانى..."؟
نشر بواش الباحث المعروف مقالين من المغارة الرابعة يقدّمان خلفيّة تساعدنا على فهم أصل التطويبات ومعناها حسب مت 5: 3-10. يستند البرهان إلى مديح نجده في 4 ق 525 والتطويبة الطويلة في سي 14: 20-27 التي تبدأ بـ "طوبى" واحدة تتبعها ثمانية أبيات شعرية: "هنيئًا لمن يهتم بالحكمة، وبعقله يفكّر فيها. لمن يراعي طرقها ويكشف أسرارها. يسعى وراءَها كالصيّاد...".
وإليك نصّ التطويبات كما نسّقه بواش: "طوبى للذي يقول الحقّ بقلب نقيّ ولا يفتري بلسانه. طوبى للذين يفرحون به (= الحق) ولا يسيرون في خطى الجهل. طوبى للذين يطلبونه بيدين طاهرتين لا بقلب معوجّ وملتو. طوبى للرجل الذي أدرك الحكمة، الذي يسير في شريعة العليّ ويربط قلبه بخطاها ويتعلّق ببرّها ويرضى دومًا بتأديبها. فلا يرذلها حين تؤلمه النكبات ولا يتخلّى عنها في وقت الضيق ولا ينساها في أيام الربّ ولا يندّد بها في تواضع نفسه".
حتى الآن عرفنا في العهد القديم عددًا من التطويبات (مز 1: طوبى للرجل الذي لا يسير في طريق الخاطئين) منعزلة أو مجموعة. أما نصُّ ابن سيراخ فجاء في ثمانية أبيات. كل هذا يجعلنا مع نصّ قمران في خطّ ما دوّنه مّتى. والفقراء في الروح تترجم عبارة ترد مرارًا في وثائق قمران، ولكنها تعني بالأحرى المتواضعين والحافظين للشريعة الذين يعيشون في مهبّ الروح. هم أبناءُ النور تجاه أبناء الظلمة. هكذا نفهم "سعادة المساكين بالروح"، هؤلاء الأبناء، أبناءِ ملكوت الميثاق الجديد الذي دشّنه يسوع، موسى الجديد وحكمة الله.
ولكننا نتوقف عند الجديد الجذريّ في نصّ متّى: لقد أعلن اجتياح الملكوت مع يسوع بهذه الخطبة التدشينيّة التي ستجد جوابًا في الخطبة الأخيرة (مت 25: 31-46) التي تعلن مشاركة المؤمنين مشاركة تامة في السعادة، في الدينونة الأخيرة. حينئذ يفصل الأبرار عن الأشرار، المباركين الذين عملوا بشرعة الملكوت كما حدّدتها التطويبات، والملعونين أو أبناء الشرير.

ج- الأزمنة المسيحانيّة والقيامة
في منتصف القرن الخامس ق.م. أعلن ملاخي عودة إيليا النبي ليهيّئ الشعب للتوبة وممارسة الشريعة قبل مجيء يوم الربّ (ملا 3: 23). واستعاد ابن سيراخ هذا الموضوع في بداية القرن الثاني فزاد التطويبة التالية: "طوبى لمن يراك قبل أن يموت، لأنك تردّ إليه الحياة فيحيا" (سي 48: 11 حسب العبريّة). وهكذا بيّن ابن سيراخ أن اليهوديّ الذي يموت ميتة الأبرار في المحافظة على الشريعة قبل مجيء يوم الرب، يقوم في ذلك اليوم.
لقد كانت حيّة في محيط الحكماء فكرة قيامة اليهود الأبرار في الدينونة، مكافأة على سلوكهم. ولكن مجيء هذه الأزمنة الجديدة التي سيدشّنها يوم الربّ كما يهيّئه إيليا الجديد، يرتبط بمجيء الملك المسيح. وهكذا وُلد تقليدٌ يرى في إيليا الجديد مرافق المسيح وسابقه. وقد ترك هذا التقليد آثاره في العهد الجديد: مر 9: 11-13 (سؤال التلاميذ عن عودة إيليا وجواب يسوع)؛ يو 1: 19-27 (سؤال اليهود وشهادة يوحنا المعمدان)؛ مت 11: 2-15 ولو 6: 18-30 (سؤال يوحنا المعمدان وشهادة يسوع)؛ مر 6: 15 و8: 28 (رأي هيرودس والشعب في يسوع). ونجد أثرًا عن ذلك في البشارة بمولد يوحنا المعمدان الذي يسبق يوم الربّ (لو 1: 16-17؛ رج ملا 3: 23؛ سي 48: 10).
إن هذا التقليد اليهوديّ عن إيليا الجديد وسابق المسيح، يجد سندًا له في المغارة الرابعة. فتيتة أولى دُوّنت بالأرامية (منتصف القرن الأول ق.م.) فعادت إلى ابن يسّى الثامن (= داود) ولمّحت إلى إرسال إيليا أمام مختار الله واشتعال الأرض، وفتيتة ثانية (4 ق 521) دوّنت بالعبريّة فتحدّثت عن الملك المسيح والفرح المسيحاني على الأرض.
نجد في هذا النص الثاني إطار أش 40-41 ومز 146: توبة، أمانة، انتظار مجيء المسيح أو المسيحَين. ولكننا نعلم أن المسيح الملك لن يسبق المسيح الكاهن عند الأسيانيّين. فالربّ سيجازي "الفقراء، والمتواضعين الذين يحلّ روحه عليهم، فيكرمهم على عرش ملك أبدي... يحرّر الأسرى، ويردّ النظر إلى العميان، ويقوّم المنحنين. ولا يستطيع أحدٌ أن يؤخر ثمرة عمله. وكما سبق له وقال، فهو يشفي الذين جُرحوا جرحًا مميتًا. ويعيد الحياة إلى الموتى ويبشّر المساكين ويغدق نعمه على المساكين، ويقود المطرودين ويغني الجائعين (أو يدعوهم إلى وليمته)، وينير الحكماء في المجد (أو: في النور)".
تشوّهت الفتيتة في الأسفل فلم تسمح لنا بأن نعرف إن كانت هذه الخيرات سترافق مجيء المسيح. غير أن التقارب مع مت 11: 3-6 ولو 7: 22-23 هو واضح. سأل تلاميذ يوحنا المعمدان يسوع: "أأنت هو الآتي أم ننتظر آخر"؟ فأجاب يسوع بكلام مأخوذ من المراجع التي استقى منها هذا النصُّ من قمران وحدّثنا عن الخيرات المسيحانيّة. "إذهبوا وقولوا ليوحنا...". وهكذا دلّ يسوع أنه ليس ذاك الديّان الذي يفصل الأشرار عن الأخيار، ولا محرّر شعبه من الضيق الأجنبيّ، بل ذاك الذي يدشّن الأزمنة المسيحانيّة. حين أتمّ بنفسه أعمالاً خاصة بالله دلّ على أنه مساوٍ لله.
إن إقامة ملكوت الله لا تكون الحقبَةَ الأخيرة في يوم الربّ، مع خراب للبعض ونور للآخرين. فالفتيتة السابعة في 4 ق 521 تصوّر المجازاة والعقاب في الدينونة: الموت الأبديّ للملعونين. وللمباركين قيامة الموتى التي تبدو كخلق جديد. "إفرحوا يا صانعي الخير أمام الربّ، أيها المباركون. لا مثل هؤلاء الملعونين الذين سيذهبون إلى الموت حين يقيم (الله) المحيي موتى شعبه".
لسنا في هذه النصوص أمام القيامة العامة. فالأبرار (الأسيانيّون) وحدَهم يقومون ويتجلّون في النور الذي فيه يتحوّل الأبرار وهم بعد أحياء. هذه النظرة موجودة في الرسائل البولسيّة (1تس، 2 تس، 1 كور 15). هي نظرة ضيّقة بدأت في عالم قمران ولكنها ستتوسّع في المسيحيّة لتتحدّث عن الله الآب الذي لا يريد أن يهلك أحدٌ بل أن يُقبل الجميع إلى التوبة ويخلصوا.

خاتمة
هذا بعض ما نستطيع أن نقول عن الأسيانيّين وجماعة قمران، وارتباطهم بالمسيحيّة. أعطينا فكرة عن الوثائق التي أخفتها هذه المغارات، كما أشرنا إلى الصعوبات في جمع الفتائت وقراءتها بعد أن لعبت بها أيدي الزمن وعبث العابثين. ونبّهنا إلى ضرورة قراءة هذه النصوص ومقابلتها بأسفار العهد الجديد بروح تتوخّى البحث عن الحقيقة، لا بآراء مسبقة ومغرضة تحاول أن تفرض نفسها على الحقيقة وعلى كلمة الله.
وفي النهاية، يبقى أن تقديم الأناجيل للمسيح يختلف كل الاختلاف عمّا تقدّمه نصوص الأسيانيّين والفريسيّين. فيسوع الأناجيل يحقّق في شخصه صورة ابن الإنسان السماويّ والمتسامي، وصورة ابن الله الذي عمل بقدرة الله وبالروح القدس.
إن البعد الشامل لصورة يسوع المسيحانيّة، ذاك الذي أُسلم من أجل خلاص الكثيرين، يختلف عمّا في التيار الأسيانيّ من انغلاق وتحجّر. فالعماد باسم يسوع لغفران الخطايا وعطيّة الروح، لا يقابل بالاغتسال الطقسيّ الذي يدلّ على تطهير عابر يجب أن يتكرّر. فالعماد كدخول في الكنيسة هو فعل إيمان بيسوع ابن الله الذي مات وقام، الذي صار ربَّا ومسيحًا، موسى الجديد وآدم الجديد، الإنسان الجديد وبكر الخليقة وباكورة العالم الآتي.
على هذا المستوى، وعلى هذه المستوى وحده، نستطيع أن نقرأ النصوص القمرانيّة فنرى المسافة التي تفصلها عن الأناجيل وسائر أسفار العهد الجديد.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM