الفصل الثاني عشر علاقات المسيحيّة بجماعة قمران

الفصل الثاني عشر
علاقات المسيحيّة
بجماعة قمران

نبدأ بما يجعل المسيحيّة قريبة من حركة قمران. ثم ننتقل إلى ما يجعلها بعيدة. أما دراسة بعض النصوص القمرانيّة على ضوء العهد الجديد، فنتركها إلى فصل لاحق.

1- المسيحيّة قريبة من قمران
تتوقف المقابلة بين حركة قمران والمسيحيّة الفتيّة عند ثلاث نقاط. الأولى، لقد صرنا على عتبة الأزمنة الإسكاتولوجيّة، فوجب علينا التوبة؛ الثانية، روح المشاركة وتقاسم الخيرات؛ الثالثة، الخدَم في الجماعة وعلاقتها بالشيعة ككلّ.

أ- ضرورة التوبة
بدأت كرازة يسوع بنداء ملحّ: "تمّ الزّمان واقترب ملكوت السماء: فتوبوا وآمنوا بالإنجيل" (مر 1: 15). إن ضرورة التوبة تميّز في الوقت عينه "نظام الجماعة" (نج) والقسم الأول من "وثيقة دمشق" أو "وثيقة صادوق" (وثص). هنا يجب أن نقرأ استعمال كلمة "شوب" (ثاب، تاب) كما وردت مرارًا عند إرميا.
تكمن التوبة في العودة إلى شريعة موسى كما تقول "وثيقة دمشق" (15: 14؛ 16: 1). وحسب بيان التأسيس في المغارة الأولى (نج، 8)، قد ضلّ إسرائيل إجمالاً. فلا بدّ من الانطلاق من جديد مع مجموعة من 12 رجلاً وثلاثة كهنة يذهبون إلى البريّة ليعدّوا طريق الربّ. نقرأ في نج 8: 13- 16: "ينفصلون عن مسكن البشر الأشرار كما كتب: "في البرية هيّئوا طريق ×××× (لا يذكر اسم يهوه بحروفه الاربعة). قوّموا في الفيافي سبيلاً لإلهنا. هذا يعني درس الشريعة التي فرضها بواسطة موسى لكي نعمل بحسب ما أوحى بها زمنًا بعد زمن، والتي كشفها الأنبياء بواسطة روحه القدوس".
"الانفصال" (ب د ل في العبريّة) هو متطلّبة أساسيّة في حركة قمران. وهي كلمةٌ ترد مرارًا. نقرأ في وثص 6: 14: "يهتمّون بالعمل حسب تفسير الشّريعة في حقبة الإثم: فينفصلون عن أهل الهلاك ويحفظون نفوسهم من غنى الإثم النجس... يميّزون بين النجس والطاهر ويعلمون الفرق بين ما هو قدسيّ وما هو دنيويّ".
كلّ هذا المقطع يستلهم شريعة القداسة، وهو يفرض على جميع الأعضاء المتطلّبات عينها فلا يميّز بين الكهنة والعوامّ. فالشعب كلُّه يمارس شرائع مفروضة على الكهنة حين يخدمون في الهيكل: والآن، جماعة المنفيّن في قمران يشكّلون الهيكل الموقت. هذا الموضوع يكوّن استباقًا لمقابلة بولس بين الكنيسة والهيكل. نقرأ في 1 كور 3: 16-17: "أو ما تعلمون أنّكم هيكل الله، وأنّ روح الله ساكنٌ فيكم؟ من يُفسدْ هيكل الله يفسدْه الله. لأن هيكل الله مقدّس، وهذا الهيكل هو أنتم". وفي 2 كور 16: 6: "أيّ وفاق لهيكل الله مع الأوثان؟ فأنّا نحن هيكلُ الله الحيّ" (رج 1 بط 2: 4- 6). ونورد هذا المقطع من "نظام الجماعة" (8: 6- 8) الذي يقدم الجماعة على أنها "بيت مقدّس لإسرائيل ورفقة مقدَّسة (إن قدس الأقداس يتميّز عن القدس) لهارون... ليكفّر عن البلاد ويجازي الأشرار بشرّهم. إنها سور مجرّب وحجر زاوية لا يتزعزع، وحجارته لا تتزحزح من مكانها".
إن التلميح إلى أش 28: 16 واضح: "ها أنا أضع في صهيون حجرًا مختارًا، حجر زاوية كريمًا، أساسًا راسخًا. فمن آمن به فلن ينهزم". وقد توسّع 1 بط 2: 4- 10 في هذا النص وطبّقه على الكنيسة: "أدنوا إليه، هو الحجرُ الحيّ... وأنتم أيضًا، أبنوا من أنفسكم، كمن حجارة حيّة، بيتًا روحيًّا...".
ويترافق النداء إلى التوبة مع احتقار الخطأة بل بغضهم. هذا هو معنى مطلع نظام الجماعة (1: 9- 10): "ليحبّوا جميع أبناء النور... وليبغضوا جميع أبناء الظلمة، كلاً حسب خطيئته وحسب انتقام الله". فمن هم هؤلاء الملعونون؟ هم أولاً الوثنيّون الذين ينظر "نظام الحرب" إلى 40 سنة من الحرب ضدّهم. وهم ثانيًا بنو إسرائيل الذين "تجاوزوا العهد" (نظح 1: 2). فحين مالوا عن الطريق (وثص 1: 13) خسروا امتياز الاختيار.
إن البحث القلق عن طهارة طقسيّة جعلت أهل قمران يرذلون كلّ أصحاب العاهات الجسديّة: العُرجَ والعميانَ والصُمَّ والخرسَ والكسحان. كل هؤلاء يُستبعدون من الجماعة المقدّسة، "لأن ملائكة القداسة هم فيها". ويرى بولس أيضًا أن الملائكة يشاركون في الاجتماع الليتورجيّ (1 كور 11: 10) وهذا ما يفرض على النساء الحشمة. ولكن تجاه قساوة الأسيانيّين يأتي المثل الإنجيليّ عن المدعوّين فيتّخذ الخطَّ المعاكس: "قال السيد لغلامه: أخرج سريعًا إلى السّاحات وشوارع المدينة، وائتِ إلى ههنا بالمساكين والجدع والعميان والعرج" (لو 14: 21؛ رج آ 13).
شدّدت الجماعة القمرانيّة على الطهارة الطقسيّة والعشور، أما يسوع فعلى شريعة المحبة والقاعدة الذهبيّة (مت 7: 12). وكلمتا الشريعة والعهد اللتان تردان عند الأسيانيّين مرارًا، لا تجدان مكانًا لهما عند يسوع. وموضوع ملكوت الله الذي هو مركزيّ في الكرازة الإنجيليّة، لا يجد إلا مكانة ضئيلة في الترانيم من أجل محرقة السبت. وفي خط حزقيال سنجد تركيزًا على تسامي الله الذي يتخذ شكل إله صارم يصب غيظه على أجيال البشر المتعاقبة. وتتوزّع تحريضات "وثيقة دمشق" في ردّة تتكرّر: "اشتعل غضب الله" (1: 21؛ 2: 31؛ 3: 8...). وفي كل حقبة لا يترك الله إلا بقيّة صغيرة.
أما الإنجيل فيقدّم وحيًا مختلفًا كلَّ الاختلاف: فالله هو الآب السماويّ الذي يُشرق شمسه على الأبرار والأشرار (مت 5: 45). الذي يذبح العجل المسمّن حين يعود ابنه الضالّ (لو 15: 23). وهناك مثل موجّه ضدّ أصحاب الفكرة الخاطئة في إسرائيل: "هل عينك شرّيرة لأني أنا صالح" (مت 20: 15)؟ إن يسوع هو بكلّ حياته وتصرّفاته الشهادة الحيّة لحنان الله المشعّ هذا.
وهكذا نكون على نقيض من نظرة قمران وما فيها من قساوة تجاه الخطأة والضعفاء وأصحاب العاهات.
وهكذا نقول في ملاحظة أولى: قد يكون هناك تشابه في الصوَر، ولكن روح الإنجيل بعيدٌ كل البعد عن روح قمران. وإن جعلنا من يسوع "معلّم البرّ" جدّفنا على اسمه ولم نفهم شيئًا من هذا الخبر السعيد الذي جاء يحمله إلينا.

ب- المشاركة وتقاسم الخيرات
برّر معلّم البرّ ذهابه من أورشليم بانتقادات عنيفة ضد الكاهن الكافر الذي أخطأ حين كدّس أموال الظلم ونجّس الأمور المقدسة (وثص 17؛ تفسير حبقوق 8: 8- 13). هذا ما يذكّرنا بأقوال عاموس ضد أمصيا، كاهن بيت إيل (عا 7: 10- 11). ما يكوّن أصالة جماعة قمران هو أنها تعتبر نفسها "جماعة في الشريعة وفي القسمة"، وتتوسّع في برنامج حياة مشتركة: هذا ما سبق وقاله عنها فيلون ويوسيفوس. وهناك إيراد من نظام الجماعة يبيّن كيف ينتقل هذا المثال الاتحاديّ في كل أويقات الحياة: "يطيع الصغير الكبير في كل ما يتعلّق بالعمل والمال. يأكلون معًا. يتشاورون معًا" (نظام الجماعة 6: 2- 3). هنا نجد لفظة "ي ح د" (واحد) التي ترد 67 مرة في نظام الجماعة.
ونميّز وجهتين من هذا المثال في الحياة "الرهبانيّة". "كل شيء يؤول إلى الوحدة والتوافق التامّ بين أعضاء المجموعة في تحقيق مثالهم المشترك وممارستهم الدينيّة. من هذا القبيل، نستجمع اللوائح الطويلة من الفضائل المطلوبة من أعضاء الجماعة. نمارس معًا "الحقيقة والبرّ والعدل والمحبة والرحمة والسلوك المتواضع الواحد تجاه الآخر" (نج 8: 2). نقابل هذا الكلام مع تحريضات القديس بولس مثلاً في فل 2: 1- 4: "أناشدكم بما في المسيح من دعوة ملحّة، وفي المحبة من قوة مقنعة، وفي الروح من شركة، وبالحنان والرحمة أن أتمّوا فرحي بأن تكونوا على رأي واحد...". ولكن تبقى اللوحة في قمران محجّرة، وبالتالي بعيدة عن المثال المسيحيّ. سمّى أهل قمران نفوسهم في خط المزامير "جماعة كلّ الفقراء إلى رضى الله". وهناك عبارة "الفقراء بالروح" التي نقرأها في مت 5: 3.
والحياة المشتركة تفترض تقاسمًا للخيرات ولو كان جزئيًّا. هناك فقر تامٌّ في نظام الجماعة حيث يضع المبتدئ ما يملك في يد القيّم. أما في "وثيقة دمشق"، فيقدّم أجرة يومين في الشهر (14: 12- 13). ولكننا لا نستطيع أن نتكلّم عن الفقر في حدّ ذاته. فهم حين يعودون إلى أورشليم سينعمون بأسلاب الأمم.
هل نعتبر أن تقاسم الخيرات في الجماعة المسيحيّة في أورشليم يستلهم النموذج الأسيانيّ؟ نقرأ في أع 2: 44- 45: "كان جميع المؤمنين يعيشون معًا، وكان كل شيء مشتركًا في ما بينهم. وكانوا يبيعون أملاكهم ومقتنياتهم، ويوزّعون أثمانها على الجميع بحسب حاجة كل واحد منهم". وفي 4: 32- 35: "لم يكن أحد يقول عن شيء يملكه، إنه له، بل كان كل شيء مشتركًا في ما بينهم...". ويروي لوقا خبر برنابا الذي "كان له حقل، فباعه وأتى بثمنه وألقاه عند أقدام الرسل" (أع 4: 37). كان البعض يقدّمون، ولكن لم تفرض عليهم الفريضة، بل كانت نصيحة ومشورة: "إن شئت أن تكون كاملاً فبع ما تملك" (مت 19: 21). فحنانيا وسفيرة كانا حرّين في أن يبيعا أو لا يبيعا، في أن يقدّما المال كله أو بعضه. ولكنهما لم يكونا حرّين في أن يكذبا على الروح القدس (أع 5: 1 ي). وكانت أم يوحنا مرقس صاحبة بيت كبير تلتئم فيه الجماعة الأولى (أع 12: 12)، فلم يجبرها أحدٌ على بيعه. في قمران فرضٌ وإكراه. في المسيحيّة حريّة أبناء الله.
لسنا في قمران أمام روحانيّة الفقر كما دعا إليها المسيح مع مشاركة في الحياة على كلّ الصعد. هذا ما اهتّم به بولس حين جمع بعض المال من أجل كنيسة أورشليم التي عرفت المجاعة. قال: "إذا كان الوثنيّون شاركوا (مسيحيّي أورشليم) في خيراتهم الروحيّة، فعليهم أن يشركوهم في خيراتهم الماديّة" (روم 15: 27).

ج- تنظيم الجماعات
نبدأ فنلاحظ في قمران المكانة المحفوظة للكهنة. "لينفصلوا عن مجموعة الآثمين ليكونوا مجموعة على مستوى الشريعة والخيرات، وليسلّموا نفوسهم إلى قرار أبناء صادوق، والكهنة الحافظي العهد" (نج 5: 2- 3).
فالذي نظّم الجماعة كان ابن صادوق (وثص 1: 10) وقد أمضى 20 سنة يتلمّس طريقه. "الكهنة هم المرتدّون في إسرائيل الذين خرجوا من أرض يهوذا. واللاويّون هم الذين ينضمّون إليهم، وأبناء صادوق هم مختارو إسرائيل وأناس معروفون يقفون منتصبين في نهاية الأيام" (وثص 4: 2- 3). فالكهنة يعطون الجماعة ميزتها الكهنوتيّة. ولكن ما يدهشنا أننا لم نجد في قمران عبارة خر 19: 5 "مملكة كهنة".
وتظهر أولوية الكهنة ساطعة في الحديث عن الأزمنة المسيحانيّة. فرئيس الكهنة يكون أمام المسيح، ابن داود، ما يقول "نظام الجماعة" (2: 11- 15): "إذ كان الله قد ولد المكرّس (المسيح الداوديّ) معهم، فالكاهن يأتي في رأس كل جماعة إسرائيل. ثم كل إخوته الكهنة أبناء هارون، ثم الشرفاء". "يُدعون إلى الاجتماع ويجلسون أمامه (رتب الكهنة) كل بما يناسب كرامته، حسب موضعهم في المخيّمات وفي التنقّلات". نشير هنا بشكل عابر إلى مسائل الأولويّة والسبَقيّة. من يمشي في المقدّمة؟ من يكون أعظم من الآخرين؟ تجادل التلاميذ في من هو الأعظم. أما يسوع فكان قاسيًا في هذا المجال: "إن أراد أحد أن يكون الأول، فعليه أن يكون آخر الكل، وخادمًا للكل" (مر 9: 35).
هناك بنية مثلّثة في قمران قد تكون انتقلت إلى الجماعة المسيحيّة الأولى: الكهنة، الشيوخ، المعلّمون (رابيم). وفي الكنيسة: الرسل، الشيوخ، الشعب (مجموعة الإخوة) (أع 15: 6- 12). الإخوة هم المؤمنون الذين يشاركون في التشاور واتخاذ القرار داخل الجماعة. وإن ضمّت الجماعة المسيحيّة في صفوفها كهنة يهودًا ارتدّوا إلى المسيحيّة (أع 6: 7)، إلاّ أنهم لم ينعموا بأية كرامة خاصة بفعل كهنوتهم: فالرسل، شهود القيامة (أع 1: 22)، هم الذين يوجّهون الجماعة بمعاونة الشيوخ (أع 11: 30؛ 5: 14؛ 1 بط 5: 1- 4).
ظهرت ثلاث كلمات تدلّ على تنظيم جماعة قمران: المتفقّد الذي يبدو قريبًا من معلّم الابتداء في الديورة. المبقّر أي الراعي الذي بيده الصندوق العام. هو قيّم على الخيرات الماديّة. ولكن دوره لا ينحصر في الأمور الماديّة. هذا ما تقول فيه وثص 13: 7- 10: "هذه هي القاعدة للوكيل في المخيّم. يعلّم العديدين عن أعمال الله، ويخبرهم بمآثره العجيبة، ويروي أمامهم أحداث الماضي... يكون رؤوفًا تجاههم كالأب تجاه أولاده، ويردّ الطالبين كما يفعل الراعي مع قطيعه. ويحلّ السلاسل التي تقيّدهم بحيث لا يبقى مضايق أو مظلوم وسط الإخوة". قد يكون "المبقّر" قريبًا من السبعة في مسؤوليّاتهم في الاهتمام بالموائد (أع 6: 1 ي). ونقابل هذه الإشارات الرعائيّة بتحريض بولس لشيوخ أفسس (أع 20: 17- 35)، أو بطرس للشيوخ الذين يعملون معه: "وأما الكهنة فيكم فأحرّضهم، أنا الكاهن مثلهم والشاهد لآلام المسيح، والشريك أيضًا في المجد المزمع أن يتجلّى، أن ارعوا رعيّة الله التي أقمتم عليها، لا قسرًا بل عن رضىً بحسب مشيئة الله، لا طمعًا في مكسب خسيس بل عن بذل ذات، لا كمتسلّطين على نصيب خاص بل كمن يكون مثالاً للرعيّة" (1 بط 5: 1- 3).
والكلمة الثالثة: مسكيل. هو الحكيم والعاقل والفهيم. استعملت اللفظة في دا 12: 3 فدلّت على الحكماء الذين يعلّمون شعب الله ويحرّضونه على الأمانة للعهد.
في قمران، مسكيل هو المعلم والمدرّب بالنسبة إلى "جميع أبناء النّور" (نج 3: 13). وقد تحدّدت وظيفته التعليميّة في نج 9: 12، 21: التنبّه إلى الأزمنة وتنّوع الأرواح. إخفاء التعليم عن الأشرار وتفقيه الأخبار. "يعلمهم بكلّ ما وُجد ليمارسوه في ذاك الوقت ولينفصلوا عن كل إنسان لم يمل بطريقه عن كل شرّ" (رج وثص 12: 21؛ 13: 22). إلى مسكيل أهديت الترانيم من أجل محرقة السبت، وقد قال عن نفسه: "أنا معلّم الحكمة، عرفت إلهي بالروح الذي جعلته فيّ". وهكذا تكون وظيفة مسكيل التعليمية امتدادًا لعمل المؤسس في الجماعة.
لم نجد عند قمران "وضع اليد" كطقس يولي المعلّم وظيفة "رابي". هذا الطقس الذي مارسه الرابينيّون قد أخذت به الكنيسةُ وأعطته منحًى خاصًّا فدلّ على انتقال الروح القدس. قال بولس لتيموتاوس: "لا تهمل الموهبة التي فيك أوتيتها عن طريق النبوة وبوضع أيدي الكهنة" (1 تم 4: 14). وطلب إليه بأن لا يتسرّع بوضع يديه على أحد (1 تم 5: 22؛ رج 2 تم 1: 6).

2- المسيحيّة بعيدة عن قمران
بعد هذا الحصاد السريع، بدت الاختلافات أكثر عددًا من المشابهات. وهناك فرق أساسيّ يكمن في انقطاع المسيحيّة الحاسم عن الكهنوت بحسب رتبة هارون. فالعلاقة مع المسيح الداودي بوساطة الروح، هي غير العلاقة بين معلّم البرّ وجماعة قمران. وفي أي حال، نحن نجهل من هو معلّم البّر هذا.
لا شك في أن المدائح الخاصة تجعلنا نستشف طابع المعلّم وروحانيّته، ولكننا لا نجد خبرًا يروي لنا أعماله وحركاته. قد نستطيع أن نكتشفها من خلال التعليمات التي نقرأها في "نظام الجماعة" وفي "وثيقة صادوق"، في المعطيات التي تقدّمها المدائح، في اللغة السرّية للتفاسير التي تجعلنا نستشفّ نزاعه مع الكاهن الكافر. لم يُحط الناس ذكراه بإكرام خاصّ، وهذا ما نفهمه حين نعلم أن لا فيلون ولا يوسيفوس لمّحا إليه حين تحدّثا عن الأسيانيّين.
هذا الصمت اللافت يجب أن يعلّمنا التحفظ الفطن حين نقابل بين يسوع ومعلّم البر. نحن لا نستطيع أن نقابل الحركة الأسيانيّة بالمسيحيّة، بل بالحركة العماديّة التي تجلّت بشكل خاصّ في شخص يوحنا المعمدان وعمله. تحلّوا بغيرة بطوليّة وذهبوا إلى البريّة لكي يهيّئوا طريق الربّ. بحث الأسيانيّون في الكتب المقدسة ليكتشفوا إرادة الله ويُشعلوا حرارة الانتظار لمجيئه القريب متدخّلاً من أجل شعبه. وجماعة يوحنا المعمدان دعت إلى التوبة والاعتراف بالخطايا وتبديل الحياة لكي تنجو من الدينونة الآتية. حركتان روحيّتان هيّأتا الطريق للمسيح الذي جاء يقدّم الخلاص، لا بصرامة يوحنا المعمدان الذي انتظر أن تقطع الفأس كل شجرة رديئة، ولا بخاصيّة الأسيانيّين الذين حصروا النور في فئة قليلة من الناس، فنسوا الشموليّة التي دعا إليها يسوع حين أرسل تلاميذه إلى العالم أجمع.
عرف يوحنا المعمدان قمران، كما عرف جماعة العماديّين في وادي الأردن، واعتقد، شأنه شأن يهود عصره، ولا سيّمًا الأسيانيّين، بالدينونة القريبة. فدعا الناس إلى توبة جذريّة. ومعهم انتظر تنقية أكمل بفعل روح القداسة. وكما في قمران حيث الاغتسالات الطقسيّة كانت تشير إلى تطهير أكمل في الحقبة الإسكاتولوجيّة، جعل من عماد يمارسه بسلطان، العلامة السابقة لعماد الروح الذي يمارسه المسيح الذي سمّاه يوحنا الأقوى. إبتعد العماديّون والأسيانيّون عن العالم اليهوديّ الرسميّ، ولكنّهم لم يرذلوا ليتورجيّة الهيكل. أما في المسيحية، فالهيكل الجديد هو جسد يسوع المسيح. وعبادتنا هي عبادةٌ بالروح والحقّ، كما قال يسوع للسامريّة.
إن وثائق قمران ألقت بعض الضوء على المحيط الذي عاش فيه يوحنا المعمدان. ولكنها أبرزت أصالة شخصه وتعليمه. تركّز تعليمُ معلّم البرّ على ممارسة الشريعة بشكل حصريّ وصارم. أما يوحنا فوضع نفسه في خط الأنبياء الذين جعلوا الأولوية لمتطلّبات العهد الدينيّة والأخلاقيّة. ترك مثال "الانفصال" عن الخطأة، ودعا الجميع إلى توبة جذريّة، فهيّأ شعبًا جديدًا يستعدّ لمجيء المسيح. من هذا القبيل يبدو التعارض كبيرًا مع قمران الذي وعى أنه يشكّل البقية المختارة، فجعل سائر الشعب عرضة للغضب الإلهيّ كما تفعل اليوم شيعة شهود يهوه. استقبل يوحنا الخطأة وأعلن الغفران للعائشين على هامش المجتمع في عصره فوقف على حدود العهد الجديد. ولهذا سمّاه الإنجيل الرابع "الشاهد" الأرفع للمسيح. سيجد قسم من جماعة يوحنا ملءَ طلبهم في يسوع فيتبعونه. ويبدو أن قسمًا من أهل قمران التحقوا بيوحنا الرسول وجماعته فحملوا غنى العالم الأسيانيّ إلى الإنجيل الرابع، ولكنهم طوّروا هذا الغنى ليكون مفتوحًا على البشارة الجديدة، على شخص يسوع المسيح.
إذا كان الأسيانيّون لم يصلوا إلى مستوى العماديّين في الاستعداد لمجيء المسيح، فكيف نشبّههم بالمسيحيّين؟ وإذا كان معلّم البرّ بعيدًا جدًّا عن يوحنا المعمدان، فكيف نشبّهه بالمسيح، والمعمدان قال عن نفسه حين رأى يسوع: لا أستحقُّ أن أحلّ سيور نعليه. لا شك في أن المسيح كلمة الله وابن الله أرفع من إدراك البشر. لهذا فهم يحاولون أن يجعلوه على مستواهم لكي لا يزعجهم بحضوره ومتطلّباته. هو شخصٌ حكيمٌ مثل سائر الأشخاص الذين أسّسوا ديانات في العالم. هذا هو الوجه الخارجيّ والسطحيّ ليسوع المسيح. ولهذا، فكل تشبيه به يبقى بعيدًا بعد السماء عن الأرض، والله عن الانسان. لقد خلق الله الإنسان على صورته ليرفعه إلى مستوى الألوهة. ولكن الإنسان يحاول أن يحطّ الله فيجعله على مستواه، فيجعله صنمًا يعبده أو فكرة يسجن نفسه فيها، أو إيديولوجيّة يؤلّهها ويدخل فيها الأمور العديدة فتكون أبعد ما يكون عن الحقيقة التي نبحث عنها.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM