الفصل الثامن الفريسيون

الفصل الثامن
الفريسيون

يذكر الإنجيل الفريسيين مرارًا، ويهاجمهم إنجيل متّى بقساوة قائلاً: "على كرسيّ موسى جلس الكتبة والفريسيون. فافعلوا ما يقولون لكم واحفظوه. ولكن مثل أفعالهم لا تفعلوا، لأنهم يقولون ولا يفعلون" (23: 2-3). ويتوجّه يسوع إليهم مباشرةً: "الويل لكم أيّها الكتبة والفرّيسيّون المراؤون. فإنّكم تُقفلون ملكوت السماوات..." (مت 23: 13-32). ويُنهي يسوع كلامه: "أيّها الحيّات أولاد الأفاعي، كيف لكم أن تهربوا من عقاب جهنّم" (مت 23: 33)؟
فمن هم هؤلاء الفرّيسيّون؟

1- عودة إلى التاريخ
احتفظ لنا التلمود (في أقوال الآباء) بلائحة بآباء الحركة الفريسية. الأوّل هو سمعان البار. كان إبن أونيا ورئيس الكهنة. امتدحه إبن سيراخ فقال فيه: "هو الذي رمّم البيت في حياته، ووطّد الهيكل في أيّامه... ما أمجده محاطًا بشعبه عند خروجه من وراء بيت الحجاب (قدس الأقداس) مثل كوكب الصبح بين الغمام، أو البدر أيام تمامه أو الشمس المشرقة على هيكل العلي..." (50: 1-21).
الفريسيون هم المنفصلون عن الآخرين. فقد فُسّر خر 19: 2 (تكونون لي مملكة كهنة وأمّة مقدّسة) على الشكل التالي: تكونون قديسين ومقدّسين. مفصولين (فروشيم) عن أمم العالم وعن رجاساتهم. وفُسّر لا 20: 26 (كونوا قدّيسين لاني أنا الرب قدّوس) إنطلاقًا من اعتقاد بأن الله نفسه هو نموذج الفرّيسيين: كما أني أنا "فروش" منفصل، تكونون أنتم "فروشيم" منفصلين. فإن انفصلتم عن العالم، قال الرب، تكونون خاصتي. والاّ فأنتم خاصة نبوخذنصرّ وبابل ورفاقهم.
يرتبط الفريسيون بالغيورين (حسيديم أو أتقياء)، وتعود جذورهم العميقة إلى أيّام عزرا ونحميا مع إعادة بناء الهيكل وأسوار أورشليم، ومع إعلان الشريعة على يد عزرا الكاهن والكاتب (أو السافر من سفر الكتاب: كتَبُه). ويبدو أنّهم تأسّسوا بصورة رسمية في أيّام المكابيين (القرن الثاني ق م). رفضوا الحضارة الهلّينيّة التي حملها خلفاء الاسكندر السلوقيون (عاصمتهم انطاكية)، وحملوا معها العبادة للآلهة الوثنية. رافقوا يهوذا المكابي في ثورته، فكانوا رجالاً أتقياء ورجالا أشداء (1 مك2: 42، حسب أفضل الترجمات). وما إن تحرّر الهيكل حوالي سنة 165 ق م.، حتّى انفصل الفريسيون عن المكابييّن وعادوا إلى الشريعة يدرسونها ويتمسّكون بها في تفاصيل حياتهم. وما عتَّمت التقاليد الشفهية أن سيطرت على روح الشريعة. فقد قال فيهم يسوع: "تؤدّون عشر النعنع والشمرة والكمون، وتهملون أهمّ ما في الشريعة أي العدل والرحمة والأمانة" (مت 23: 23). وقال فيهم أيضًا: "تهملون وصية الله وتتمسّكون بسنّة البشر. تنقضون وصايا الله لتقيموا سنّتكم. فقد قال موسى: أكرم أباك وأمّك. وقال: من لعن أباه أو أمّه فليقتل. وأمّا أنتم فتقولون: إذا قال أحد لأبيه أو أمّه: كل شيء قد أساعدك به جعلته قربانًا، فإنكم لا تدعونه يساعد أباه أو أمّه أيّة مساعدة" (مر 7: 8-12). هذا يعني أنّهم كانوا "يُنفقون" بعض مالهم للهيكل فيُعفون من إعالة والديهم الطاعنين في السن أو المعوزين.

2- بعض الأسماء المشهورة
هناك الكاهن يشوع بن يوعازر. قتله ابن أخيه الكيمس الذي استولى على رئاسة الكهنوت مستندا إلى السلوقيين (1 مك 7: 5-24؛ 9: 54-56)، وكان ذلك حوالي سنة 160.
أما يشوع بن فرحيا فأشار إلى تلاميذه بأن يقيموا في مدرسة: "خذ لك معلّمًا. اقتنِ لك رفيقًا".
ما كانت علاقة الفريسيين مع يوحنا هرقانوس، عظيم الكهنة سنة 135-104 ق م؟ بدأ فاعتمد عليهم، وهم حزب الشعب، ليغطّي فشله يوم اجتاح أنطيوخس سيداتيس البلاد. ولكنه ما عتّم أن انقلب عليهم، وقد تنظّموا في "رفقات" فصاروا "الرفاق" (حبوريم). ومع الاسكندر ينا (103-76)، وهو أوّل عظيم كهنة اتّخذ لقب ملك، كان صراع مرير انتهى بمقتل 6000 يهودي. ويبدو أن الفريسيين شاركوا في هذه الثورة، فزاد تأثيرهم على الشعب. ولما حكمت اسكندارة (76-67 ق م)، أعادت السلام إلى أورشليم، وأدخلت الفريسيين في المحكمة العليا أو السنهدرين. في ذلك الوقت، ترك سمعان بن شطه قولاً في القضاء. كما أسّس المدراس للأولاد وجعلها متاخمة للمجامع.
وحين بدأ انحطاط الحشمونيين (سلالة ملكيّة تعود إلى المكابيّين) الذي انتهى بسيطرة رومة على فلسطين بقيادة بومبيوس (63 ق م)، عمد الفريسيون إلى اعتزال الشؤون العامة. هنا برز إسمان. شمعيا وابتاليون. لم يكونوا من أصل يهودي، بل غريبين. هنا نتعرّف من جهة إلى الإشعاع الروحي الذي عرفه العالم اليهودي في ذلك الوقت. فقد بدأ عدد المهتدين يتكاثر. منهم من اعتنق كليًا الدّيانة اليهودية فسُمّي دخيلاً. ومنهم من تعهّد بحفظ الشّريعة ولم يتقبّل الختان فسمي عابدًا (أع 2: 11، 10: 2).
وبرز في أيّام هيرودس الكبير (40-4 ق م) أكبر معلِّمي الفريسيين: شماي وهلاّل. وُلد شماي في أرض فلسطين، وفسّر الشريعة تفسيرًا حرفيًا، وزاد من متطلّباتها. وجاء هلاّل من بابلونية، فبحث عمّا يعيد الطمأنينة إلى القلوب. إستعمل قواعد التفسير (كانت سبعا ثم صارت ثلاث عشرة) التي إليها يعود المعلّم الحكيم ليكتشف قياسًا بين شرائع موسى والحالة الجديدة المعروضة عليه. يُروى خبر عن هذين المعلّمين: جاء ثلاثة وثنيين إلى شماي يطلبون الاهتداء إلى اليهودية ووضعوا شروطهم. استاء شماي من تصرّفهم وطردهم من داره قائلاً: عندما يهتدي الإنسان فهو لا يضع شروطًا. فذهبوا إلى هلاّل. استمع إليهم بهدوء وشرح لهم شرحًا مستطيلاً لماذا تبدو شروطهم غير مقبولة. فتخلّى الرجال عن شروطهم ودخلوا في شعب الله. ثم جاء واحد منهم ليشكر هلاّل: أيّها الوديع هلاّل، لتحلّ على رأسك البركات، لأنّك أدخلتني تحت جناح الحضور الإلهي. وقال أحدهما للآخر: كاد شمعي بشدة غضبه واحتداده أن يطردنا من العالم. أما هلاّل فأدخلنا بوداعته تحت جناح الله.
ونذكر فيما نذكر جملائيل الأوّل الذي أخذ لقب "رابي" وكان معلّم شاول الطرسوسي (أي بولس الرسول). قال بولس في دفاعه: "تلقّيت عند قدمَي جملائيل تربية توافق شريعة الآباء " (أع 22: 3). ولا ننسى أنّ بولس كان فريسيًا ابن فريسي (غل 3: 5). تميّز بحفظ الشريعة حفظًا دقيقًا. ولذلك قاوم يسوع (أع 23: 6. 26: 5). وجملائيل هذا دافع عن المسيحيين، أو بالأحرى عاد إلى ضميره وتقواه. قال: "كفّوا عن هؤلاء الرجال (أي الرسل) واتركوهم وشأنهم. فإن كان هذا المقصد أو العمل من عند الناس فإنه سيُنتقض. وإن كان من عند الله فلا تستطيعون أن تقضوا عليه. وهكذا يُخشى عليكم أن تجدوا أنفسكم تحاربون الله" (أع 5: 38-39). وعُرف جملائيل الثالث بعد الثورة ضد رومة (66-70 ب م)، ويوحنا بن زكا الذي فتح مدرسة في يمنية، ويهوذا الصديق الذي دوّن تعاليم أسلافه.

3- "حزب" الفرّيسيين
يروى المؤرّخ اليهودي فلافيوس يوسيفوس أن "حزب" الفريسيين ضمّ في أيّام هيرودس الكبير 6000 عضو. لسنا أمام حزب سياسي بالمعنى الحصري للكلمة، بل أمام حزب ديني له تأثيره في عالم السياسة. وقد اعتبر الفريسيون أنّ الشعب يتبعهم، مع أنه كانت فئات ترتبط بالصادوقيين أو الاسيانيين أو الغيورين.
ما الذي يميّز هذا الحزب أو هذه الشيعة (أو البدعة والهرطقة) كما سمّاها يوسيفوس؟
إنهم جماعة من العلمانيين رفضوا الكهنوت اليهودي، وحاولوا أن يُخضعوا الكهنة للمعلمين (للرابينيّين). انطلقوا من ملا 2: 7 (لأنّ شفتَي الكاهن تحفظان المعرفة) فاعتبروا أنّ وظيفة الكاهن الأولى هي إعلان الشريعة. ظلوا يتردّدون على الهيكل ما زال قائمًا. ولما زال سنة 70 ب م، اعتبروا زواله كارثة كبرى.
أعملوا العقل في دراسة الشّريعة وخاصة حين ميّزوا بين الدرس (مدراش) والتقاليد السلوكيّة (هلكه) والتقاليد الاخباريّة (هاغاده). وسيطروا على المجامع التي تكاثرت بشكل مذهل (في أورشليم وحدها: 480 مجمعًا) لئلا يتعدّى المؤمن المسافة التي يُسمح له باجتيازها يوم السبت (حوالي الكيلومتر الواحد). وما يدلّ على سيطرتهم هذه، هو معارضتهم ليسوع في "التعدّي" على السبت. وأوضحُ مثال ما فعلوه مع المولود أعمى: طردوه من المجمع (يو 9: 34).
وتميّز الفريسيون عن الصادوقيين في عالم التقليد. اعتبر الصادوقيون أنّ للشريعة المكتوبة وحدها سلطة الهية. أما الفريسيون فاعتبروا أن للشرائع التقليدية (لا نقرأها في التوراة) سلطة الهية أيضًا. وسيأتي وقت يُبطل التقليدُ (سنن الآباء) الشريعة ويحلّ محلّها. قال أحد الكتاب: إذا وصلنا إلى مخافة الله بممارسة الشريعة، فبالأحرى نصل إليها في تفسير الشريعة.
من الوجهة النّظريّة برز تياران. واحد يجعل السنَّة على مستوى الكتاب المقدّس. وآخر يُخضع الكتاب المقدّس للسنَّة. قال مدراش تنائي (معلّم يعيد الدروس ويكررها): إن أقوال الحكماء خطيرة. فمن تجاوزها كان وكأنه يتجاوز كلمات الكتاب. بل إن أقوال الحكماء أخطر من كلمات الكتاب. ومن الوجهة العلمية، قد تسيطر التوراة أو السنَّة، أو هما تتساويان. وهكذا برزت حياة حسب الشريعة وصلت بالمؤمن إلى الشريعانية (أي: تعلّق أعمى بالشريعة). وهذه نظرة تجعل جوهر الديانة في ممارسة الفرائض التي تفرضها الشريعة وتتوسّع فيها السنَّة. إنه بحث عن القداسة بإتمام الفرائض. ومهما أتمّ الانسان من فرائض زادت قداسته. إنطلق الفريسيون من أش 42: 21: "أراد الرب الأمين والبار بأن يعظم الشّريعة ويكرّمها".
نشير هنا إلى أنّ الوصايا كانت 613. منها 248 فريضة و365 مانعًا. وهكذا تنحصر الحياة الأخلاقية في إتمام الفرائض. الصّلاة فريضة والطعام فريضة. والفرح نفسه فريضة. ولا ننسى فرائض الطهارة الطقسيّة التي هاجمها يسوع. رأى بعض الفريسيين تلاميذ يسوع "يتناولون الطعام بأيد نجسة، أي غير مغسولة. فالفرّيسيون واليهود عامة لا يأكلون إلا بعد أن يغسلوا أيديهم حتى المرفق، تمسكًا بسنّة الشيوخ. وإذا رجعوا من السوق، لا يأكلون إلا بعد أن يغتسلوا. وهناك أشياء أخرى كثيرة من السنَّة يتمسّكون بها، كغسل الكؤوس والجرار وآنية النحاس" (مر 7: 1-4).

4- يسوع والفرّيسيون
نبدأ فنقدم ملاحظتين. "اليهود" هم في إنجيل يوحنا تارة الفريسيون (وقد ينضمّ إليهم السفرة أو الكتبة) وطورًا الأمّة اليهوديّة إجمالاً التي رفضت يسوع. وكلمة "المرائين" التي يستعملها الازائيون ولا سيّما متّى، تعني الفرّيسيين وقد تعني معهم السفرة.
يتحدّث لوقا عن فريسي دعا يسوع إلى الطعام. قال: دعاه فريسي إلى الطعام معه (7: 36). وقال: بينما يسوع يقول هذا، دعاه فريسي إلى الغداء معه، فدخل وجلس للطعام (لو 11: 37). ومرة ثالثة دعا يسوع نفسه إلى بيت أحد رؤساء الفريسيين (لو 14: 1). ونيقوديمس هو فريسي ومعلّم (يو 3: 1. 10). وقد يكون يوسف الرامي صديقه فريسيًا أيضًا (يو 19: 38). ومرة طلب بعضُ الفريسيين من يسوع أن يذهب من الجليل "لأنّ هيرودس يريد قتله" (لو 13: 31). قد يكون ذلك تنبيهًا من خطر. وقد يكون أيضًا وسيلة لإبعاد يسوع عن الجليل فتبقى الساحة حرّة لهم.
أمّا علاقات يسوع مع الفرّيسين فتبدو بشكل جدال حول الممارسة وحول التعليم. لام الفريسيون تلاميذ يسوع لأنّهم لا يصومون (مت 9:14)، ولأنّهم يتجاوزون السبت (مت 12: 2). واضطهدوا يسوع لأنه شفى المرضى يوم السبت. شفى رجلاً يده شلاّء، فخرج الفريسيون يتآمرون عليه ليهلكوه (مت 12: 9، 14). واليهود الذين يذكرهم يو 5: 1-16 هم فريسيون اضطهدوا يسوع لأنّه شفى المخلّع يوم السبت.
أمّا يسوع فندّد بالفرّيسين لأنّهم يحبّون الفضة (لو 6: 14). إنهم أبناء ابليس (يو 8: 44). إن صلّوا طلبوا أن يراهم الناس، وكذلك إن صاموا أو تصدّقوا (مت 6: 2-16).
هذا على مستوى الممارسة. أما على مستوى التعليم، فالفريسيون يأخذون على يسوع أنه يطرد الشياطين ببعل زبول (مت 12: 24). ويجادلونه في موضوع المجيء الثاني (لو 17: 20). في موضوع الطلاق (مت 19: 3، مر 10: 2). يسألونه عن أعظم الوصايا (مت 22: 34) ويرفضون لاهوته (يو 7: 32) ويردّون شهادته (يو 8: 13، قالوا: أنت تشهد لنفسك فشهادتك لا تصحّ).
ويتّهم يسوع الفريسيّين بأنّهم عميان أو جهّال. ويدعو التلاميذ إلى أخذ حذرهم منهم: "إحذروا خمير الفرّيسيين والصادوقيين"، أي إحذروا تعليمهم (مت 16: 11-12؛ مر 8: 15). وأخيرا طرح يسوع على الفرّيسيين: "ما رأيكم في المسيح؟ إبن من هو"؟ قالوا له: "إبن داود" (مت 22: 41-42). ولكن يسوع هو أكثر من ابن داود. إنه ربّ داود.

5- فرادة يسوع
قال متّى: "ولما أتمّ يسوع هذا الكلام (= عظة الجبل)، أعجبت الجموع بتعليمه، لأنّه كان يعلّمهم كمن له سلطان، لا مثل كتبتهم" (مت 7: 28-29). أجل، إن التعارض الجوهري بين يسوع والفريسيين يكمن في التعليم. يستخرج الكتبة تعليمهم من الكتاب المقدّس مستعينين بالسنّة أو بقواعد التأويل. أما أسلوب يسوع فيختلف كل الاختلاف عن أسلوبهم. هو يعرف الأسفار المقدّسة، ولكنه لا يورد نصوصها معزولة في سياقها، بل يستخرج معناها اللاهوتي. ويستند إلى سلطانه حين يعلّم. قيل لكم، أما أنا فأقول لكم.
إن يسوع يتكلّم كمن له سلطان. وهذا السلطان هو سلطان الله نفسه. تكلّم موسى باسم الله، ولكنّه ظلّ إنسانًا. أما يسوع فبدا ذلك المشترع الذي يوجّه كلامه إلى البشر جميعًا. إنه يسمو على موسى، وقد جاء يكمّل شريعة موسى. تعليم يسوع يأتي من الآب، ولكن الابن متّحد بالآب. وهكذا يكون تعليم الآب هو عينه تعليم الابن. هذا هو في النهاية ينبوع سلطان يسوع.
وانطلاقًا من هذا السلطان، يوبّخ يسوع الفرّيسيين الذين يحبّون المظاهر الخارجيّة (مر 12: 38-39) في لباسهم، في تقبّل التحيّة في الأسواق، في البحث عن المقاعد الأولى في المجامع وفي الولائم. الفريسيون يحبّون المال (لو 16: 14-16)، ويأكلون بيوت الأرامل بصلواتهم الطويلة (مر 12: 40؛ لو 20: 47). الفريسيون متكبّرون. "أنتم تزكّون أنفسكم في نظر الناس، لكن الله عالم بما في قلوبكم. لأن الرفيع عند الناس رجس في نظر الله" (لو 16: 15). وأورد لوقا مثلاً "لقوم كانوا متيقّنين أنهم أبرار ويحتقرون سائر الناس" (لو 18: 9). يقوم الفرّيسي بأعمال العبادة. فيستند إلى هذه الأعمال دون أن ينتظر شيئًا من الله.
وحين يتحدّث يسوع عن خبث الفريسيين وريائهم، فهو يشير بصورة خاصة إلى المثلّث المذكور في سفر طوبيا: الصدقة، الصلاة، الصوم.
علّمنا يسوع كيف يجب أن نتصرّف وكيف يجب أن لا نتصرّف. لا نتصدّق لكي يرانا الناس (لا تضرب بالبوق) (مت 6: 1-4)، بل نعمل في الخفية. والآب الذي يرى في الخفية يجازينا. وما قاله يسوع عن الصدقة قاله عن الصّلاة (مت 6: 5-9). هو لا ينتقد الصّلاة العامة على حساب الصلاة الخاصّة، ولكنه يشجب الذين يتظاهرون حين يصلّون. ويحذّرنا يسوع من طريق سيّئة في الصوم: "إدهن رأسك واغسل وجهك لكيلا يظهر للناس صيامك، بل لأبيك الذي في الخفية، وأبوك الذي يرى في الخفية يجازيك" (مت 6: 17-18).

خاتمة
تعلّق الفرّيسيون بالهيكل، ولكن كلمات يسوع كانت قاسية ضدّ الهيكل (يو 2: 19؛ مر 14: 58؛ 15: 29). وتعلّقوا بالشّريعة، ولكنّ يسوع تخلّى عن شريعتهم، لأنّهم أهملوا الإخلاص لأحكام الشريعة الأساسية. وتعلّقوا بمسيح أرضي يعيد الملك إلى الشّعب، أمّا يسوع فوجّه أنظارهم إلى الملكوت الآتي، وإلى المسيح الذي يأتي وديعًا متواضعًا فيعرف مصير عبد الله المتألّم: "ما جاء ابن الإنسان ليُخدم بل ليخدم ويفدي بنفسه جماعة الناس" (مر 10: 45).
أبعد الفريسيون الجموع عن يسوع، وزرعوا القلق في المجلس الأعلى. واضطهدوا التلاميذ، "وعزموا على قتلهم" (أع 5: 33). لا شكّ في أن بعض الفريسيين اتّبع طريق المسيح، ولكن شريعانيتهم كانت عائقًا في وجه الإنجيل (أع 15: 5). غير أن العدد الكبير رفض التعليم الجديد. وجاءت صلاة المجمع تلعن "أصحاب الشيعة الجديدة"، تلعن المسيحيين. وهكذا تمّ الانفصال التّام بين الفريسيين والمسيحيين.
كان الفرّيسيون شيعة في التّاريخ. فلماذا توقّف عندها الإنجيلي؟ ليقدم عبرة للكنيسة. فالروح الفريسية لا تنحصر في شعب من الشعوب ولا في جماعة من الجماعات. إنها فيّ وفيك. إنها لا تزال تعشّش في الكنيسة. فحين نقرأ مت 23: 1-12، ألا نحسّ أنّ الكلام يتوجّه إلينا؟ الفريسيون يقولون ولا يفعلون. ونحن؟ الفرّيسيون يحزمون أحمالا ثقيلة ويلقونهم على أكتاف النّاس وهم لا يحرّكونها بإحدى أصابعهم. ونحن؟ يحبّون المقعد الأوّل في المآدب وصدور المجالس في المجامع والتّحية في الساحات؟ ونحن.
أبونا واحد وهو الله. مرشدنا واحد وهو المسيح. وأكبرنا يكون خادمًا للجميع. وأسعدنا هم الفقراء والمتواضعون والودعاء ومحبّو السلام. أما فهمنا بعدُ أن هذا التعليم بعيد كل البعد عن تعليم الفرّيسيين ومواقفهم؟


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM