الفصل السابع الكتبة

الفصل السابع
الكتبة

عرف العهد الجديد الكتبة والفريسيين وعلماء الشريعة ومعلمي الناموس. فمن هي هذه الفئات وما الذي مثّلته في حياة يسوع خاصة؟ نتعرّف أولا إلى الألفاظ وإلى الكتبة في العالم اليهودي المعاصر ليسوع، قبل أن نرافق هذه الفئة من الناس من خلال الأناجيل.

1- مفردات والفاظ
إن كلمة "غراماطيقي" التي نترجمها عادة بلفظة "كتبة" (جمع كاتب) ترد 62 مرة في العهد الجديد، منها 57 في الأناجيل الازائية، 4 في أعمال الرسل، ومرة واحدة في الرسائل. اذا وضعنا جانبا أع 19: 35 (غير أن الكاتب أو رئيس الديوان هدّأ المجمع) حيث تدلُ الكلمة على موظّف وثني في مدينة أفسس، و1 كور 1: 20 (أين الكاتب أو العالم بالشريعة)، حيث ايراد اش 33: 18 (حسب الترجمة السبعينية) يعطيها معنى عاما، نجد أن لفظة الكتبة، تدلّ على وظيفة لدى اليهود. ولها مرادفان نجدهما خاصة في كتابات القديس لوقا: علماء الشريعة (أو التوراة او الناموس) (22: 35؛ رج 7: 30؛ 10: 25...). ومعلم الشريعة (لو 5: 17؛ أع 5: 34؛ 1 تم 1: 7). هو من تعلّم الشريعة وعرف نواميس التوراة فعلّمها للآخرين.
تعني كلمة "غراماطيقي" في اليونانية السكرتير والكاتب في المحكمة. ويقابلها في السبعينية لفظتان: ساطر (في العربية: سطره: كتبه)، وسافر (في العربية: سفر الكتاب: كتبه). تدلّ الأولى على وظيفة المراقبة وإعطاء الأوامر. أما "سافر" فاخذت معنى كاتب (غراماطيقي). ثم دلّت، بعد المنفى، على حافظ شريعة الله ومفسّرها، وهي وظيفة ارتبطت في الماضي بالكاهن (تث 31: 9-13؛ 2 مل 12: 3). لقد تمّ هذا الانتقال مع عزرا الكاهن والكاتب ("سافر"، عز7: 6 ,10؛ 12: 21؛ نح 8: 2 ,4) الذي جدّد الشريعة اليهودية. وإذا عدنا إلى المشناة (مجموعة شرائع انتقلت شفهيا قبل أن تدوّن في القرن الثاني ب.م) نرى أن "سافر" هو ناسخ الكتب ومعلّم المدرسة الذي يهتمّ بالاولاد. أما معلم الشريعة فيُعطى تسمية "حاخام" ويقابلها في العربية "حكيم".

2- الكتبة في العالم المعاصر ليسوع
كانت الشريعة تسيطر سيطرة تامة على الحياة الدينيّة في العالم اليهودي الذي بعد المنفى (587 ق.م.). لهذا نفهم أن الذي اوكلوا عليها امتلكوا سلطة روحية كبيرة وهيبة ونفوذًا لم يجارهم فيهما أحد. كانوا موضوع اكرام عظيم. فسمّوهم "رابي" أي "سيدي" (ربَّ القوَم: ساسهم وكان فوقهم). وتضمّن هذا الاسمُ الوظيفةَ التعليمية. ففي يو 1: 38 نقرأ نداء التلميذين إلى يسوع: رابي أي يا معلم. كان نشاط الكتبة محصورا في اليهودية حتى سنة 70 ب.م ودمار أورشليم. مثلا نقرأ في مر 3: 22: "أما الكتبة الهابطون من أورشليم" (رج 7: 1). أما أهل الجليل فقد اعتُبروا جهّالا في معرفة الشريعة وممارستها.
مارس الكتبة وظائف مثلّثة ترتبط كلها بصفتهم خبراء في القوانين والشرائع. الاولى: تفسير الشريعة. يتوسّلون الفتاوى في خط تقليد صاغه الآباء، فيعبّرون عن السلوك الواجب اتباعه في ظرف محدّد. الثانية: تكوين تلاميذ يحملون التقليد إلى الأجيال الآتية. يتمّ التعليم بشكل حوار. يطرح المعلم سؤالاً فيحاول التلميذ أن يجيب عليه، ويصحّح المعلم، فيتلقّى التلميذ تعليمًا تقليديًا ويحتفظ به كما تحتفظ البئر بالماء ولا تضيع منه نقطة واحدة. الثالثة: مهمّة القضاء. جعل التقليد هذه المهمّة في يد الكهنة، وهذا ما نتحقّق منه خاصة بعد المنفى (حز 44: 24؛ 1 أخ 23: 4). ولكن بما أن الكتبة كانوا مفسّري الشريعة، وكان بعضهم كهنة، فقد دُعوا للجلوس في مجلس القضاء مع الارستوقراطية الكهنوتية والنبلاء العوام برئاسة رئيس الكهنة، وكان لهم تأثير كبير جدًا.
لم يكن للكاتب أجر يقبضه ولا سيّما في القضاء، لأن ممارسة العدالة تستند إلى الشريعة نفسها (خر 23: 8؛ تث 16: 19). أما المعلّمون الذين لا ملك لهم يعتاشون منه، فهم يختارون مهنة توافق دراستهم للشريعة.
تميّز الكتبة عن الفريسيين، وإن جمعَهم العهدُ الجديد معهم. فجماعات الفريسيين تألّفت من شعب لم تكن له ثقافة رفيعة. ولكن بما أن الفريسيين خضعوا لقواعد فرضها الكتبة، لهذا انضم الكتبة إلى التيّار الفريسي. ولكن هذا لا ينفي وجود مفسّري الشريعة بين الصادوقيين. حين يتحدث لو 5: 30 عن كتبة من حزب الفريسيين، فهو يعني أن هناك كتبة في الحزب المزاحم، أي الصادوقيين.

3- الكتبة في انجيل مرقس
يتحدّث مرقس عن الكتبة اكثر مما يتحدّث عن الفريسيين (22 مرة مقابل 13 مرة). وهو قلَّما يجمع الكتبة إلى الفريسيين كما يفعل متّى خاصة (رج مر 2: 16: كتبة من حزب الفريسيين، 7: 1، 5: الفرسيون وبعض الكتبة). ونلاحظ أن الفريسيين يختفون بعد مر 12: 13. أما الكتبة المذكورون منذ البداية (1: 22)، فيظلّون حتى النهاية، حتى الصليب، وكانوا يسخرون من يسوع مع عظماء الكهنة (15: 31). فالكتبة يُضمرون العداء دوما ليسوع (ما عدا في 12: 28-34: لست بعيدًا عن ملكوت الله)، ويخطّطون لقتله (11: 18؛ 12: 12) مع عظماء الكهنة. إنهم يعملون هنا في إطار المجلس الاعلى (أو السنهدرين). وسينظّم الكتبة مباشرة قتل يسوع (14: 1، 43، 53؛ 15: 1، 31)، كما سبق يسوع فأعلن قائلا: "يرذله (= ابن الانسان) الشيوخ وعظماء الكهنة والكتبة" (8: 31؛ رج 10: 33). وإذا نظرنا من الوجهة الجغرافية، رأينا الفريسيين يسيطرون في حقبة الانجيل الجليلية، ويتركَّز الكتبة في أورشليم، ومنها ينطلقون مرتين (3: 22؛ 7: 1) ليعارضوا يسوع في الجليل.
ما الذي يميّز الكتبة؟ يقابَل تعليمُهم بتعليم يسوع، ولكن شتّان بين التعليمين (1: 22: كان يعلمهم كمن له سلطان، لا مثل الكتبة). هم يتدخَّلون ليعارضوا سلطان يسوع في مغفرة الخطايا (2: 6-7: المخلع)، أو ليتّهموه بانه متّفق مع الشيطان (3: 22: بسيّد الشياطين يطرد الشياطين). انتقد يسوع نظرتهم إلى المسيح المنتظر (12: 35: كيف يقول الكتبة إن المسيح هو ابن داود؟)، فحكم عليهم حكما قاسيا: "إياكم والكتبة! إنهم يحبّون المشي بالجبب، وتلقّي التحيّات في الساحات، وصدور المجالس في المجامع، والمقاعد الأولى في المآدب. يأكلون بيوت الأرامل، وهم يظهرون أنهم يطيلون الصلاة. هؤلاء سينالهم العقاب الأشدّ" (12: 38-40). ومع ذلك، فيسوع يهنّىء أحد الكتبة لأنه أدرك عمق وصايا الله (12: 28-34). وهناك جدال بين الكتبة والتلاميذ أمام الشعب قبل شفاء الولد المصاب بالصرع (9: 14). وهناك مقاطع لا نستطيع فيها أن نميّز وظائف الكتبة من وظائف الفريسيين، ونحن نرى الفئتين معًا من أجل عمل مشترك (2: 16؛ 7: 1، 5).
حين وزّع مرقس الفريسيين في الجليل والكتبة في أورشليم، قدّم موضوعين متعارضين. الاول: يشتمل على أسئلة تتعلّق بالشريعة: الطعام (2: 16-17؛ 7: 1-7)، الصوم (2: 18-22)، السبت (2: 23-28؛ 3: 1-5)، القربان (7: 1، 11-12، أو النذر)، الطلاق (10: 2-19)، الجزية لرومة (21: 3-7). يلعب الفريسيون هنا دور الخصم. والموضوع الثاني: هو موضوع كرستولوجي (يتحدّث عن يسوع المسيح) ويتدخّل فيه الكتبة. فمنذ البداية تتعارض سلطة ابن الله المطلقة مع تعليم الكتبة الذي هو محض بشري (1: 22، 27؛ رج 1: 11؛ 7: 8). وحين مارس يسوع هذا السلطان في مغفرة الخطايا، اتّهمه الكتبة بأنه يجدّف (2: 7؛ رج 14: 64). وحين نسبوا إلى بعل زبول تقسيمات يسوع وإخراج الشيطان، أنكروا عليه كل سلطة إلهيّة 31: 22). والجدال بين الكتبة والتلاميذ الذي هو مقدمة شفاء الولد المصروع وإخراج الشيطان منه (9: 14)، يصل بنا إلى الموضوع نفسه. وفي النهاية، طرح الكتبة مع مجموعتَي السنهدرين الأخريين على يسوع سؤالاً يدلّ على معارضتهم له: "بأي سلطان تفعل هذا؟ أو من أعطاك السلطان لتفعله" (11: 28)؟
إذن، ما هو دور الكتبة في مشروع مرقس؟ أولاً هو يجعل الكتبة مسؤولين عن آلام يسوع وموته، كونهم جزءًا من المجلس الاعلى. وبما أن الكتبة يخاصمون الجماعة المسيحية الأولى ويعارضون مؤسّسها، قدّم مرقس الكتبة على أنهم أكبر أعداء يسوع. هنا نفهم هذا الحكم القاسي عليهم: "سينالهم العقاب الاشدّ" (12: -4). تعليمهم فاسد، حياتهم فاسدة، ويريدون أن يقودوا الشعب. إنهم معلّمون في إسرائيل ويعرفون واجباتهم. أما يجب عليهم أن يجعلوا سلوكهم يوافق علمهم؟!

4- الكتبة في إنجيل متى
كان الكتبة الأعداء الالدّ ليسوع في إنجيل مرقس. فانتقلوا مع متى إلى المركز الثاني، وحلّ محلّهم الفرّيسيون. فالسائل عن أعظم الوصايا كان كاتبًا عند مرقس، فصار عند متّى فريسيًا صاحب نيّة سيّئة (22: 34-35). يتفرد متّى فيُبرز الأحزاب اليهودية ولا ينسى الفريسيين (3: 7؛ 16: 11-12؛ 27: 62). ولا يني متّى يذكر الفريسيين في أية مناسبة كانت، وهذا ما لم يفعله مرقس ولا لوقا. في 15: 12: "فدنا التلاميذ وقالوا له: أتعلم أن الفريسيين صُدموا عندما سمعوا هذا الكلام"؟ في 22: 15: "فذهب الفريسيون وعقدوا مجلس شورى". وفي 23: 26: "أيها الفريسي الأعمى، طهّر أولاً داخل الكأس". وفي 12: 14 مضى الهيرودسيون (حزب هيرودس) وتركوا الفريسيين وحدهم يدبّرون موت يسوع. وأخيرًا، إن الجمع بين الكتبة والفريسيين أمر يميّز متّى: "إن لم يزد برّكم على برّ الكتبة والفريسيين" (5: 20). "على كرسي موسى جلس الكتبة والفريسيون" (23: 2). "الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون المراؤون" (23: 13).
ولكننا نرى أن لوقا يميّز بين الفئتين، فيوزّع اتّهامات للكتبة (لو 11: 46-48، 52) وأخرى للفريسيين (لو 11: 39-41). أما متّى فيلغي كل اختلاف بين الفئتين في النص الموازي (23: 1-32). وهكذا يصبح العوام الاتقياء، أي الفريسيون، على مستوى المفسّرين البارزين للشريعة، فيجلسون "على كرسي موسى" (مت 23: 2).
إن متّى يعكس وضع العالم اليهودي بعد سنة 70، ساعة سيطر الفريسيون على معلّمي يمنية (جنوبي يافا) ليؤلّفوا جبهة تعارض المسيحية. ويرى متّى أن كل الاحزاب اليهودية اتّحدت، بمن فيهم الصادوقيون والفريسيون (16: 1)، لكي يعارضوا يسوع. ويرى عدد من المفسّرين أن الفريسيين يمثّلون موقف اللايمان والشرّ. وهذا ما يعارض الموقف المطلوب من تلاميذ يسوع. ومهما يكن من أمر، فالكتبة قد ابتُلعوا في مجموعة واسعة. انضمّوا إلى الفريسيين فما عادوا يتميّزون عنهم. وكانوا كلهم مجموعة واحدة ترسم برنامجًا معاكسًا لذلك الذي رسمه يسوع، وهكذا لعبوا دور الرافض للسلوك الذي نتبعه حسب الانجيل (23: 1-12). وينتج عن هذا أنهم أبدوا نحو يسوع عداوة شريرة ومتنامية منذ بداية الإنجيل، وشاركوا مع عظماء الكهنة في مشروع هيرودس المجرم (2: 4)، بانتظار الوقت الذي فيه يقفون في المجلس الأعلى فيقرّرون موت ابن الله (26: 57-66). إنهم "قادة عميان" (15: 14؛ 23: 16، 19): يضلّون أبناء جنسهم حين يدلّون على جهلهم للمعنى الحقيقي للكتاب المقدس (22: 29). ويحوّلون المثال الأخلاقي إلى "برّ" مبتور مفرطين في طرح الفتاوى (5: 20، 34-36؛ 23: 16-22). منعوا نفوسهم ومنعوا الآخرين من أن يروا المسيح في شخص يسوع (21: 15-16). وفوق هذا، كان شرّهم كبيرًا (9: 4)، فصاروا الجيل الفاسق الفاسد الذي يتحدّى يسوع ويطلب منه آية تكفل رسالته الالهية (12: 38-39؛ 16: 11-12). إنهم مراؤون، ويتصرّفون كاشخاص منقسمين على نفوسهم: يعبدون الله بالشفاه، وقلبهم خائن للرب (15: 7-8). يشرّعون للآخرين، يحمّلونهم الاحمال الثقيلة، ويهملون ممارسة الوصايا (23: 3).
حكمٌ قاس. لا يتشبّه تلميذ يسوع بالكتبة والفريسيين، ولكن عليه أن يطيعهم (23: 2-3). كيف نوفّق هذا الموقف مع الكلام القادح الذي نقرأه في ف 23؟ هل نحن أمام مساومة مع المعلمين اليهود؟ لا. فالفصل واضح بين المجمع (العالم اليهودي) والكنيسة (العالم المسيحي) ساعة دوّن متّى إنجيلَه. هو يتحدّث عن مجامعهم أي مجامع اليهود (4: 23؛ 9: 35)، لا مجامعنا، ويقول "كتبتهم" لا كتبتنا (7: 29؛ أما مر 1: 22 فيقول: الكتبة ولا يخصّص). ويشير متّى إلى أن سبب الفصل لم يكن ذلك الذي جاء أولاً من "أجل الخراف الضالة في بيت اسرائيل" (متى 10: 6: 15: 24)؛ وإنه إن انتقد يسوع قوّادَ شعبه لعدم أهليتهم، فهو لم يبادر إلى معارضة سلطتهم. وهذا ما دفع متّى لكي يندّد بهم لأنهم أهلكوا يسوع قبل أن يضطهدوا تلاميذه.
ونقرأ في 8: 19: "دنا منه كاتب وقال له: يا معلم، أتبعك إلى حيث تمضي". ولكن لاتّباع يسوع متطلّباته. وهكذا اكتفى الكاتب بهذا الكلام، ولم يُتبع قولَه بعمل يدلّ على قوَّة إرادته.
ويبقى مقطعان ينتقل فيهما لفظ "كاتب" من العالم اليهودي إلى الواقع المسيحي. الأول نجده في خاتمة زادها متّى على خطبة الامثال (13: 51-52). انتهى الدرس وسأل يسوع تلاميذه: أفهمتم هذا كله؟ افهمتم الخطبة كلها (13: 10، 18)؟ ثم قال: "لذلك كل كاتب تتلمذ لملكوت السماوات يشبه رب بيت يُخرج من كنزه كل جديد وقديم". الفعل يعني: صنع تلاميذ، علّمهم كما يعلّم التلميذ (28: 19). جعل كل "كاتب" عارفا بأسرار الملكوت، فاهمًا لها وعالمًا بها. وهكذا يتميّز عن الذين أغلقوا عقلهم على أسرار الملكوت وانقطعوا عن الخلاص (13: 11-15). حين يتكوّن الكاتب بهذه الطريقة، يستطيع أن ينقل إلى الآخرين علمه فيزرع "كلمة الملكوت" (13: 19).
هذا الكلام يتوجّه إلى الجماعة كلها. فما نقرأ في ف 13 يعني التلاميذ كلهم الذين اعطي لهم التعليم المسيحاني لينشروه في العالم كله (28: 19-20). وصورة ربّ البيت الذي يخرج من ذخيرته كل جديد وقديم، نفسرها في السياق المتّاوي. فمتّى ينطلق من التوراة ليصل إلى الإنجيل. ومن الإنجيل ليصل إلى التوراة. فقد اهتم أن يبيّن أن يسوع يُتمّ الشريعة والأنبياء (5: 17). يذكر متّى "الجديد" في المقام الأول، ويحتفظ "بالقديم" ولكن القديم يخضع للجديد الذي يعطيه كامل معناه. هذا ما قام به متّى، وهذا ما تقوم به الكنيسة بعد أن سلّمها الرب هذه المهمة.
والمقطع الثاني الذي ينسب إلى كلمة "كاتب" معنى مسيحيًا، هو قول متّى في نهاية كلام يسوع ضد الكتبة والفريسيين (23: 34-36): "من أجل ذلك، هاءنذا أرسل إليكم أنبياء وحكماء وكتبة". إن الانبياء الذين يلقون المصير المأساوي الذي لاقاه سابقوهم في العهد القديم، هم أيضًا حكماء وكتبة تعلّموا أسرار الملكوت واستعدّوا لأن يسلّموها إلى أخرين.

5- الكتبة في إنجيل لوقا وفي سفر الاعمال
حين نقرأ إنجيل لوقا وسفر الأعمال، نجد لفظة مختلفة تدلّ على معلّمي الشّريعة. فهناك الغراماطيقي (14 مرة) أو الكاتب. وهناك الناموسي (7 مرات) أي العارف بالناموس. وهناك معلّم الشريعة (لو 5: 17؛ أع 5: 34).
لا شيء يميّز الأحزاب اليهودية في لوقا عمّا عند الإنجيليين الآخرين. إلاّ أن الفريسيين ينعمون ببعض رضاه. وهذا واضح في سفر الاعمال حيث لا يذكر لوقا الفريسيين بين أعضاء المجلس الاّ ساعة يراعون أمور المسيحيين (جملائيل، 5: 34) أو بولس (23: 6، 7، 8، 9). ويعلن بولس بوضوح أنه فريسي، وذلك بعد أن صار مسيحيًا (23: 6؛ رج 26: 5). ونحن نعرف أن بعض الفريسيين انضمّوا إلى كنيسة أورشليم (15: 5).
ولكن اللوحة تختلف في إنجيل لوقا. صوّر لنا هذا الانجيليّ يسوع على مائدة الفريسي. ولكنه لم يعفّ عن الفريسي ورفاقه. صارت الخاطئة أفضل من سمعان الفريسي (7: 36، 44-46). واستحقّ الفرّيسيون اللوم، لأنهم يطهّرون ظاهر الكأس والصفحة وباطنهم مملوء نهبًا وخبثًا (2: 37-44). ويصوّر لوقا قساوة قلوبهم أمام مريض مصاب بالاستسقاء (14: 1-6).
ولا يختلف لوقا عن متّى ومرقس في الحكم على الفريسيين. فما أورده مر 12: 38-40 قد أورده لو 21: 45-57. وما أورده مت 23 أورده لو 11: 37ي. و"الكاتب" الذي يسأل يسوع عن الشروط لدخول الحياة الابدية (10: 25) يشبه الفريسي في مت 22: 35. يقول النص: قام ليحرجه، لينصب له فخًا. وسنجد الكتبة وحدهم أو مع مجموعات أخرى حيث يستعمل متّى أو مرقس صيغة المجهول. مثلاً، قال لو 6: 7: "وكان الكتبة والفريسيون يراقبونه". أما مر 3: 2 فاكتفى بالقول: وكانوا يراقبونه" (من كان يراقبه؟) (رج مت 12: 10). قال لو 20: 19: "حاول الكتب وعظماء الكهنة أن يبسطوا أيديهم عليه في تلك الساعة". أما مر 12: 12 فقال: "فحاولوا أن يمسكوه". ومت 21: 46: "وحاولوا أن يمسكوه". وفي كل هذه الظروف نجد المعارضة والمقاومة ليسوع، كما نجدها في مقاطع يتفرّد بها لوقا. مثلا في 11: 45-46: "فأجابه أحد علماء الشريعة: "يا معلم، بقولك هذا تشتمنا نحن أيضًا. فقال: الويل لكم أنتم يا علماء الشريعة". وفي 11: 53 لاحظ لوقا: "فلما خرج من هناك، بلغ حقد الكتبة والفريسيين عليه مبلغًا شديدًا، فجعلوا يستدرجونه إلى الكلام على أمور كثيرة. وهم ينصبون المكايد ليصطادوا من فمه كلمة". وفي 15: 2 نقرأ: "كان الفريسيون والكتبة يتذمّرون".
قد يكون لوقا راعى الفريسيين ليدلّ على التواصل بين المسيحية والنخبة اليهودية، ولكنه لم يخفّف من حدّة التعارض بين الكتبة ويسوع. فالكتبة يجسّدون المعارضة اليهودية منذ بداية الانجيل حتى نهايته. ولكن يبقى نصّ وحيد يظهر فيه الكاتب وهو يوافق يسوع على ما قاله حول قيامة الاموات (20: 39). ولكن هدف لوقا واضح في آ 40: "لم يجترئوا بعد ذلك أن يسألوه عن شيء". لقد أراد الإنجيلي أن يبيّن أن الخصوم هُزموا فأجبروا على الصمت.

خاتمة
هؤلاء هم الكتبة. وقد اجتمعوا مرارًا مع الفرّيسيين، فأثّروا في الشعب تأثيرًا كبيرًا، وكانوا مع عظماء الكهنة السبب الأول في جعل الشعب اليهودي يرفض رسالة يسوع وتعليمه. بل يرفض يسوع نفسه ويحكم عليه بالقتل. كان بإمكانهم لو فهموا الكتب أن يكونوا تلاميذ يسوع. ولكنّهم تحجّروا في القديم فظلّوا تلاميذ موسى (يو 9: 28) مع أن "الأعمى" الذي انفتحت عيناه سألهم: "أترغبون أن تصيروا تلاميذ يسوع؟ لقد ظلّوا عميانًا ورفضوا أن يُقرّوا بعماهم، فتثبّتت الخطيئةُ فيهم (يو 9: 41).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM