الفصل الثاني شرقيّ الأردن بين داود والاسكندر المقدوني

الفصل الثاني
شرقيّ الأردن بين داود
والاسكندر المقدوني

بين داود والاسكندر مرّت سبعة أجيال فيها عرفت شعوب شرقيّ الأردن وجودًا وطنيًا مع حقبات من الاستقلال وأخرى من الخضوع ودفع الجزية والاحتلال العسكري الغريب. مضى داود إلى شرقي الأردن ولبس تاجها. أما المقدوني فما ذهب هو، بل ترك الحضارة الهلينيّة التي حملها معه من اليونان، تطبع بطابعها هذه المنطقة.

1- جلعاد
يحدّ شرقيّ الأردن في الشمال، نهر اليرموك الذي يصبّ في الاردن عند مروره في بحيرة طبرية. هذا النهر يفصل عن منطقة ارام، جلعادَ البيبلي الذي تسمّيه النصوص الأشورية جلعازه. تنقسم هذه الهضبة قسمين، هما من الشمال إلى الجنوب باشان الجبليّ الواقع بين نهر اليرموك ووادي الزرقاء (يبّوق في الكتاب المقدس، رج تث 3: 12-16؛ يش 12: 2-5) والوادي الواسع الذي يمتدّ بين الزرقاء ومجيب. يبدو أننا نجد هنا نتيجةَ وضع سابق للألف الأول، ساعة أقامت قبائل رأوبين وجاد ومنسّى في هذا المكان. في نظر البيبليا، والد جلعاد هو ماكير، ابن منسّى أحد أبناء يعقوب (يش 17: 1). ولكن منذ أيام داود، صارت المنطقة الواقعة بين وادي الزرقاء ووادي مجيب تخصّ "بني عمون"
عند منعطف الألف الأول، دخلت جلعاد في تاريخ بني اسرائيل، ساعة حمل شاول عونًا عسكريًا لسكان يابيش (1 صم 11)، وبمناسبة اختيار إشبعل بن بن شاول محنائيم مركزا لعاصمته التي لم تدم طويلاً. ليس في أيدينا المعطيات التاريخيّة الكثيرة التي بها نعرف تاريخ جلعاد في تتابع حلقاته. ومع ذلك، فقرب مخاض فنوئيل، عرّفنا تل دير علا إلى مدوّنة بلعام الشهيرة. إن شهرة هذا الرجل تتجاوز أفق شرقي الاردن، لأنه مذكور أيضًا في النصوص الاكادية عند الفرات الأوسط.
وحُفظ في تل الرميت ذكر راموت جلعاد الذي كان ولاية ومدينة ملجأ. أما الجزء الذي نُقِّب في السور الشماليّ للمدينة، فيعود إلى زمن سليمان. بعد سنة 850، دلّت الفخاريات، وأساليب البناء، على تأثير أرامي سيقوى مع امتداد مملكة حزائيل الدمشقيّة إلى الجنوب. بانتظار أن تصبح جلعاد بعد وقت قصير في فلك دمشق.


2- عمون
في زمن القضاة، كان التعارض واضحًا بين سكان جلعاد الجنوبي وجيرانهم في الشمال الذين سيثورون بقيادة "القاضي" يفتاح على "بني عمون" (قض 11: 14).
أما بنو عمون فأعطوا اسمهم للمنطقة وللقب ملوكهم. هذا ما تشهد له مدوّنة على زجاجة في تل سيران تعود إلى نهاية القرن السابع ق.م. ونلاحظ في وقت مبكر وجود ملكيّة وراثيّة مع ناحاش العموني الذي عاصر شاول (1 صم 11: 1-13)، وصعد إلى يابيش جلعاد وحاصرها. بعد ذلك، ذُلَّ وفد داود على يد حنون بن ناحاش، فجرّ هذا العمل حصار ربّة عمّون (عمان الحالية) بقيادة يوآب. في هذه المناسبة، نال داود في الوقت عينه تاج عمون وبتشابع زوجة اوريا، بعد أن أرسل عمدًا هذا الضابط نحو موت أكيد (2 صم 10-11). والصراع الذي أشرنا إليه بين العمونيين والجلعاديين سيكون سافرًا خلال القرن الثامن. فدلّ النبي عاموس (عا 1: 13-15) على محاولة العمونيين، حلفاء دمشق، السيطرة على الجلعاديين القريبين من بني اسرائيل. قال: "لأجل معاصي بني عمّون المتكرّرة، وبالأخص لأنهم شقّوا حبالى جلعاد ليوسّعوا تخوم أرضهم، حكمتُ عليهم حكمًا لارجوع عنه. أشعل النور في سور ربّة فتأكل قصورها، ومع صيحة القتال وريح عاصف في يوم المعركة، يذهب ملكهم إلى السبي هو ورؤساؤه معًا. هكذا قال الرب". وتحدّدت ذروة الحضارة العمونيّة في القرنين الثامن والسابع. فالحفريات الاركيولوجيّة التي تمّت في ذاك الموضع، في منطقة عمّان، دلّت على ذلك، كما دلّت على تواصل لافت منذ بداية الألف الأول حتّى سيطرة الفرس. وجاءت مدوّنة تل سيران فأكّدت على هذا الشعور، فأوردت أسماء اربعة ملوك تعاقبوا في سلالة واحدة. أما ملكوم الذي عُرف قبل سنة 750 في مدوّنة قلعة عمان وفي عدة نصوص بيبليّة (1 مل 11: 5: ملكوم إله بني عمون). فهو الاله الوطني لدى العمونيين.
في بداية القرن السادس، صار مجمل شرقيّ الاردن بجانب بابل، ساعة ثورة يوياقيم في يهوذا. ولكن بعد مضي بعض السنوات، قاوم أهل تلك المنطقة حلفاءهم القدماء بقيادة ملكهم بعلياشا (ار 40: 14: بعليس ملك بني عمون). خلال السيطرة الفارسيّة، وُضع حدّ لمصير بني عمون: انضمت أرضهم إلى مرزبة عرابية، فأخذ السكان بالعادات العربيّة، وتكلّموا اللغة الاراميّة بين القرن السادس والقرن الرابع ق.م.

3- موآب
اختلفت موآب عن عمون. فبدت حالاً واقعًا جغرافيًا محدّدًا. ومنذ النصف الأول من القرن الثالث عشر، تحدّثت مدوّنات رعمسيس الثاني عنها على أنها كيان جغرافي. يحدّ أرضها في الشمال وادي مجيب، وفي الجنوب وادي الحسا. ومع أن جزءها الشمالي معروف لدينا في التوراة وفي مسلّة ميشاع، إلاّ أن التقليد الاسمائي للاماكن الموآبيّة ترك آثاره بشكل خاص في القسم الجنوبي حيث توجد ربة وكرك اللتين ارتبط إسمهما بموآب حتّى زمن الصليبيين، فقيل ربّة موآب، كرك موآب.
اعتبر الكتاب المقدس أشخاصًا مثل بالاق الذي دفع بلعام لكي يلعن إسرائيل (عد 22-24) وعجلون وميشاع على أنهم ملوك. غير أن اسم ميشاع وحده يُقرأ على هذا النصب الذي يحمل اسمه والذي وُجد منذ قرن من الزمن في ديبون. وربّما في هيكل كاموش. في هذه الوثيقة، يقدّم ميشاع نفسه على أنه "ابن كاموشيات، ملك موآب الديبوني". وما قاله النصب يدلّ من جهة على أهمية كاموش، الإله الوطني الموآبي، الذي يدخل مرارًا في تكوين أسماء الاشخاص. ويدلّ من جهة أخرى، على اهتمام الموآبيين بالامتداد حتى ديبون، بل أبعد من ديبون، حتى ميدبا، أي شمالي وادي مجيب. حوالي سنة 850، ضُمّت عروعير التي هي حصن يُشرف على وادي مجيب، إلى موآب، وبرز ثأر بني موآب من ظالميهم الاسرائيليين بقيادة عمري وأخاب. يلفت نظرنا تذكّر نشاط ميشاع وأعماله (في البناء)، وضمّه مناطق احتلها إسرائيل في شرقي الأردن، فنجد نفوسنا أمام جردة تتيح لنا أن نحدّد تاريخ النصب في نهاية عهد هذا الملك، أي في الربع الأخير من القرن التاسع، هذا مع العلم أن هزيمة بني إسرائيل حصلت في أيام يوآحاز، ملك اسرائيل (819-803).
لا نعرف الشيء الكثير عن تاريخ موآب في القرن الثامن. كل ما نعرفه هو أن هذا البلد دفع الجزية لأشورية، وصار تابعًا لها بعد حملة تغلت فلاسر سنة 734-732. بعد ذلك الوقت، سيتنوّع موقف موآب بين ثورة مفتوحة في أيام سرجون الثاني سنة 713، وخضوع تام مع كاموش ندبي تجاه سنحاريب سنة 701، وموسوري تجاه أسرحدون بعد ذلك الوقت بقليل. وأخيرًا، كان تعاون بين الأشوريين وكاموش حلتو لمحاربة بني قيدار. أما في الحقبة النيوبابلونيّة، أو البابلونيّة الجديدة، التي جاءت بعد الحقبة الاشورية، فقد تدخّل نبوخذ نصر في عمون وموآب فسيطر عليهما.

4- أدوم
ذُكرت أرض أدوم في نصّ مصري يعود إلى نهاية القرن الثالث عشر، فدلّت على اللون الأحمر. هي جبال تقع شرقيّ وادي عربة. غير أن بعض النصوص البيبليّة (تك 32: 4؛ يش 11: 7) تعتبر أصل الادوميين من سعير الواقع غربيّ البحر الميت. وهناك أمر خاص على مستوى الباليوغرافيا أو قراءة النصوص القديمة، يرينا لبسًا بين الراء والدال، وهما حرفان لا يختلفان إلا قليلاً (كما في العبرية والعربيّة والسريانيّة...). وهذا ما جعل الباحث يخلط بين ارام وأدوم. مثلاً نقرأ في 2 صم 8: 13: قتل ثمانية عشر ألفًا من الاراميين. والصواب هو من الادوميين. وفي 1 مل 11: 14 نقرأ في النص العبري: "وأثار الرّب خصمًا هو هدد الادومي من نسل ملوك أدوم". والصحيح: هدد الارامي من نسل ملوك أرام.
لا نعرف الشيء الكثير عن الحقبة السابقة. غير أن الاركيولوجيا كشفت في القرن السابع نشاطًا بشريًا هامًا. فقد تنظّمت مجموعات دفاعيّة كما في بصيرة، وهي مدينة تبعد 45 كلم إلى الشمال من بترا، كما كانت العاصمةَ في القرنين السابع والسادس، ومركزًا إداريًا هامًا يحيط به سورٌ كشفته الحفريات. ووُجدت وثائق نقوشيّة (ابيغرافية) تعود إلى سنة 700 تقريبًا مع براءة تذكر قوس جبر الذي هو على ما يبدو ملك ادوم. والحفريات على تلّ الخليفه ساعدتنا على التعرّف إلى مرفأ ايلات الذي أعاد بناءه عزيا (أو عزريا) ملك يهوذا (2 مل 14: 22: استردّ عزريا ايلة ليهوذا وأعاد بناءها بعدما مات أبوه). في الأصل، كان الأدوميون من الفلاّحين والرعاة، فانتقلوا من المستوى القبليّ إلى إدارة مركزيّة فرضها داود (2 صم 8: 14: أقام داود في ملوك حكّامًا). ثم جعلوا لنفوسهم ملكًا على أثر ثورة ضدّ يهوذا حوالي سنة 850 (2 مل 8: 20: ثار الادوميون على يهوذا، وأقاموا عليهم ملكًا).ودام الازدهار النسبيّ خلال الحكم الاشوري. دفعت أدوم الجزية منذ هدد نيراري الثالث حتّى أشور بانيبال. في منتصف القرن السادس، ضمّ نبونيد أرض أدوم إلى مقاطعة عرابية التي كانت عاصمتها تيماء. ومع ذلك، فالاحتلال الفارسيّ سنة 539 لن يضع حدًا للكيان الأدوميّ الذي سيبقى حيًا حتى سنة 400 تقريبًا.
وهكذا نرى، بعد هذه النظرة السريعة، أن البيبليا ظلّت الينبوع الرئيسّي لمعلوماتنا، وإن كانت جزئية ومنحازة. هي جزئيّة لأنها لا تتوخّى التكلّم عن شرقي الاردن إلاّ في علاقته مع مملكتَي يهوذا وإسرائيل. ومنحازة لأن العلاقة بين العبرانيين وأهل شرقي الاردن (وهي علاقة تتميّز عن تلك التي مع الفلسطيين والكنعانيين والفينيقيين والحثيين) تصوَّر على مستوى قرابة يقبلون بها ويحطّون من قدرها. فمجمل المعطيات البيبليّة تُبرز التاريخ وما فيه من صراع متواصل، على أنه تاريخ عائلة منشقة وحاضرة منذ قرون. من خلال الجلعاديين، نرى جدهم رأوبين الإبن البكر ليعقوب وصاحب السلوك المشين (تك 35: 22). والعادات التي يربطها عد 25 بأبناء عم ّ اسرائيل، من عمونيين وموآبيين، هي ميراث زنى لوط مع ابنتيه (تك 19: 30-38). والعواطف تجاه الأدوميين تبدو أكثر تناقضًا. تحدّروا من شخص بليد" هو عيسو (تك 36: 10، 19)، فاعتبروا إخوة (تث 2: 4-8). نجد أن التقليد اليهوديّ اللاحق سوف يرى في اسم ادوم اسمًا مستعارًا لرومة التي صارت العدوّ الموروث الذي حمل الخراب مرّة أولى ليهوذا سنة 63 ق.م. على يد بومبيوس، ومرة ثانية على يد فسباسيانس وتيطس، مع دمار أورشليم وتشتّت الشعب اليهوديّ سنة 70 ب.م.

5- علاقة شرقي الاردن بشعب الله
حسب أخبار سفر التكوين، تحدّر سكان شرقي الاردن من الآباء. فاسماعيل ومديان هما من نسل ابراهيم. وعيسو (أدوم) هو ابن اسحاق. والعمونيون والموآبيون والاراميون هم أقرباء العبرانيين. في شرقي الاردن، في فنوئيل، بين محنائيم وسكوت، تلقّى يعقوب اسم اسرائيل (تك 32: 23-33). وفي هذا الموضع أيضًا، احتُفل بجنازته احتفالاً مهيبًا (تك 50: 7-11). وظهر الله لموسى في مديان (خر 2: 15- 4: 20) التي تقع شرقي خليج العقبة كما قال علماء الجغرافيا القدماء (خر 3: 1: ما وراء البريّة). وكان يترو المدياني أول من نظّم الشعب العبرانيّ تنظيمًا إداريًا (خر 18: 13-26).
ثم إن الجغرافيا البيبلية تماهي بين بحر القصب (الذي هو مقام خلاص لبني اسرائيل الذين يطاردهم جيش فرعون) وخليج العقبة (خر 23: 31؛ عد 14: 25؛ 21: 4؛ 1 مل 9: 26؛ إر 49: 21). كانوا يجهلون في أورشليم أن البحر الاحمر ينقسم في الشمال إلى ذراعين، وأن طريق الشمال نحو مصر تمرّ في شبه جزيرة، عبر صحراء فاران (1 مل 11: 18).
في شرقي الاردن مات هارون (عد 20: 22-29) وموسى (تث 34). إن هارون وجد راحته الأخيرة كما تقول التوراة، في هور الجبل الذي يقع في جبل النبي هارون حيث يكرَّم قبره حتّى اليوم. ومنذ القرن الأول ق.م، إن لم يكن القرن الرابع، ماهوا بين قادش وبرنيع وبترا، بحيث وُجد قبر مريم (عد 20: 1) في شرقي الاردن.
وذكرت نصوص أخرى أن رجالاً من رأوبين وجاد وماكير بن منسى احتلّوا الأرض منذ زمن موسى (عد 21: 21-25)، وقبلوا أن يُعينوا سائر القبائل الاسرائيلية على احتلال غربي الاردن. ثم إن القبائل العائشة خارج الأرض المقدّسة طُلب منها أن تمارس الشريعة ممارسة دقيقة (يش 22). ولا يشك العهد القديم أن الجلعاديين كانوا جزءًا من شعب اسرائيل في بدايته. فيفتاح الجلعادي سيصير "قاضيًا"، وأحد الرجال العظام في الأزمنة الأولى (قض 10: 17-12: 7). ومشاركتهم في مشروع يهوه (قض 5: 15-17) مهمّة بأهميّة مشاركة قبائل غربي الاردن. فجدعون ابن منسى قام بحملة، شأنه شأن شاول ابن بنيامين. هذا في غربي الاردن (1 صم 11: 1-11)، وذاك في شرقيّه (قض 8: 4-17). كان جلعاد يخصّ مملكة اسرائيل، أقلّه منذ أيام اشبعل (2 صم 2: 9) إن لم يكن في أيام شاول. وداود لجأ إلى شرقيّ الاردن ساعة ثار عليه ابنه ابشالوم. وقام جيشه هناك بحرب حاسمة على المتمرّدين (2 صم 18: 24-19: 9). وفي شرقي الاردن أقام يربعام، أول ملك في مملكة اسرائيل بعد موت سليمان (1 مل 12: 25). وخلال الحرب الطويلة بين مملكة إسرائيل والاراميين، لم تخسر تلك جلعاد، بشكل نهائي، إلاّ في أيام فاقح ملك اسرائيل (2 مل 15: 29). أما مدوّنات تغلت فلاسر التي تعود إلى سنة 734-733 فتترك جانبًا الكلام عن جلعاد، فلا تقول إن كانت لاسرائيل أو لدمشق.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM