الفصل الثالث سفر المزامير والعالم الكنعانيّ

الفصل الثالث
سفر المزامير
والعالم الكنعانيّ

سفر المزامير هو كتاب الصلاة في العهد القديم. فيه التوسّل والشكر، وفيه المديح والطلب، فيه الاناشيد للرب، للملك، لصهيون.
تُذكر فيه أعمال الرب بشكل عام وحروبه بشكل خاص. يُذكر عمل الخلق ويُذكر عمل الخلاص. ونحن ننتظر أن نجد المواضيع عينها في عالم الشرق القديم، ولا سيّما في العالم الكنعاني.

1- أرض كنعان
أما كنعان فهي المنطقة البحرية التي امتدّت من مصر الى تركيا، فضّمت الشاطئ الفلسطيني واللبناني والسوري حتى مدينة اوغاريت، جنوبي الجبل الاقرع. وقد توغلّت الحضارة الكنعانية في الداخل حسب الازمنة والمناطق، بحيث اعتبر بعضهم أن فلسطين كلها كانت "كنعانية"، وأن العبرانيين الذين دخلوا اليها أخذوا بحضارتها ولغتها وكتابتها. واعتبر بعضهم أن الكنعانيين امتدّوا حتى مدينة بعلبك في البقاع. ولكن مهما يكن من أمر، فلم يبقَ لنا من هذا العالم الوسيع سوى القليل من الادب، خاصة اذا وضعنا اوغاريت (او: رأس شمرا على الشاطئ السوري) جانبًا.
والسؤال الذي نطرحه الآن: ما هو تأثير العالم الكنعاني على سفر المزامير؟ نبدأ فنقول بأن التوراة عاشت في محيط حياتي منفتح، وبأن الشعب العبراني اغتنى من آداب الشعوب المجاورة على مستوى نظرته إلى الكون والتاريخ، إلى الله وإلى "الآلهة" التي تسود ممالك الشرق. فلا نعجب ان كان سفر المزامير تأثّر بالصور المأخوذة من الأدب الكنعاني. ولقد انطلق العالم اليسوعي اللبناني الأصل، ميشال داود، من النصوص الاوغاريتية ليكتشف في المزامير معاني عديدة لم تُفهم كما وردت في النص العبري. نذكر على سبيل المثال مز 2: 12: "قبّلوا الابن لكي لا يغضب". هي ترجمة "ن ش ق. ب ر". ولفظة "ب ر" تعني الابن كما في السريانية. وقد تعني البُرّ اي الحنطة كما في العربية.

2- عالم أوغاريت
وقبل أن نعطي نماذج واسعة، نُورد بعض الصلوات من عالم اوغاريت. الاولى تتوجّه إلى الإلاهة "ش م ش" (اي الشمس) التي هي رسولة الآلهة والبشر الى عالم الموتى الذي تصل اليه خلال الليل: "إلتَهبي ايتها الشمس، التهب ايها النيّر! إنزلي إلى الأرض وانغرزي في التراب، إلى أرواح الموتى". والصلاة الثانية تتوجّه إلى بعل تجاه الخطر الذي يهدّد الوطن. "اذا هاجم القوي بابكم، والجبار أسواركم، ارفعوا عيونكم إلى بعل (وقولوا): "يا بعل، ليتك تُبعد القويّ عن بابنا والجبّار عن أسوارنا. نكرِّس لك ثورًا يا بعل. نفي لك نذرًا يا بعل...". فيُصغي بعل إلى صلاتكم. ويُبعد القويّ عن بابكم والجبار عن أسواركم".
لن نتكلم عن أهمية الذبائح في الديانة العبرية، وقد نكون أمام ذبيحة بشرية على مثال ما فعل ميشَاع ملك موآب أو أحاز ملك يهوذا (2 مل 16: 3). بل نتذكر أولاً النشيد للشمس في مز 19: "هي كالعريس الخارج من خدره، وكالجبار تبتهج في عَدْوها. من أقاصي السماء خروجها، وإلى اقاصيها مدارها، ولا شيء في مأمن من حرّها". كما نتذكر "أرواح الموتى" وظلالهم (مز 88: 11) حيث نقرأ: "أللأموات تصنع العجائب؟ أم يقوم الاشباح ليعترفوا لك"؟
وفي مديح للإلاهة عنات، نكتشف ما يقوله مز 139: 13: "أنت الذي جبل كليتيّ ونسجني في جوف أمّي". كما نكتشف ما يقال عن الندى في مواضع عديدة من الكتاب المقدس: "مثل ندى حرمون، كالندى النازل على جبال صهيون" (مز 133: 3). قال النص الاوغاريتي: "بما أنك نسجت ذاك الذي يُرفع، بما أنك ألبست الفرع المرسل، فالسماوات تبارك الامير والملك. والسماوات تنشر الندى. فبارك ابنك كأمير بكر". في هذا الاطار، نتذكّر ما قاله موسى عن سبط يوسف: "يبارك الربّ أرضهم بفيض ندى السماء" (تث 33: 13).

3- المزمور الثامن عشر
ونتوقّف الآن بشكل خاص عند بعض المزامير حيث نرى الأثر الكنعاني واضحًا جدًا. الاول مز 18 الذي هو نشيد ملكي يُنسب إلى داود ويُقرأ أيضًا في 1 صم 22. يُقسم هذا المزمور قسمين. في القسم الأول يمتدح المرتّل الله (آ 2-4) ثم يصوّر خطرًا يقود إلى الموت (آ 5-7). وبعد ذلك، يصوّر في لغة قريبة جدًا من الاسلوب الكنعاني، تدخّل الله في شكل تيوفانيا أو ظهور إلهي. وفي القسم الثاني الذي يهمّنا أقل (آ 31 ي) يمتدح المرتّل الربّ الذي نصره.
تتحدث آ 1 عن يد شاول. ولكن بالاحرى عن "يد شيول"، أي يد عالم الموتى، كما في الادب الاكادي، أو الأدب الاوغاريتي حيث نقرأ: "منذ يوم نجيتني من فم الموت". وتبدأ التيوفانيا أو ظهور الله. فنجد نفوسنا في خط الكاهن العرّاف (بارو في عالم بلاد والرافدين) الذي ينصح الملك بالذهاب إلى الحرب أو يعدم الذهاب. هنا نتذكر 1 مل 22 حيث أراد ملك إسرائيل وملك يهوذا أن يستعيدا راموت جلعاد، فالتمسا كلام الرب. فقال لهما "العرّافون": "الله يدفعها إلى يد الملك". ولكن الاله هو الذي يحارب. هو الذي يُلقي الرعب في قلب الاعداء. يظهر بعل في العاصفة وهو يشهر سلاحه (كما رُسم في راس شمرا) فيتبدّد الاعداء.
نقرأ مثل هذا عن الرب الذي أرعد من السماء وأسمع صوته، الذي "أرسل سهامه فشتّتهم، وأكثر البروق فزعجهم. أرسل من العلاء فأخذني، وانتشلني من المياه الغامرة. أنقذني من عدوي الشديد ومن مبغض أقوى مني". "ركب على كروب وطار، وخُطف على أجنحة الرياح" (آ 11). تلك عبارة من رأس شمرا (ر ك ب. ع ر ف ت) نجد مثلها في مز 68: 5 (ر ك ب. ب. ع ر ب و ت). هذه الصورة تقودنا إلى عالم الاشوريين ومنه إلى العالم الارامي والكنعاني حيث يُعتبر الكروب مركبة لله.

4- المزمور التاسع عشر
المزمور الثاني الذي يستوقفنا هو مز 19. إنه في أساسه نشيد كنعاني يتوجّه إلى الشمس. لا شكّ في أن الكاتب الملهم نزع عنها صفة الألوهة. لقد صارت الشمس بوجودها وإشراقها تمجيدًا لله الواحد. أما في الاصل، فنحن قريبون مما كان ينشده الكهنة للشمس عند شروقها وغروبها، كما اعتادوا أن ينشدوا للاله قمر. فمجيء الشمس يملأ الطبيعة كلها فرحًا وابتهاجًا. ولهذا تنشد الآلهة كما ينشد إلهُ العاصفة. وقد قيل في اوغاريت: "تجلس الاهة الشمس (في مسكنها، في عليائها)، ويقيم على بابها رشف" (الاله الحربي بقوسه وسهامه).
يبدأ هذا المزمور مع لفظة "إيل"، لا "الوهيم"، كما اعتدنا أن نقرأ في التوراة. وايل هو الاله العظيم في مجلس الآلهة الفنيقي. بعد ذلك نجد "من أقاصي إلى أقاصي". نحن أمام جبلين تشرق بينهما الشمس، والجبال ترتبط عادة بعالم الآلهة. والشمس هي كالجبار، كالرجل الذي يسبق الجميع لكي يلتقي بالالاهة عروسه ("ايا" في الادب البابلي).
وهكذا نكون أمام تحفة شعرية حول السماء بشمسها وكواكبها، تحفة دخلت في سفر المزامير، وهي تطلب من الانسان أن يتعبّد للالاهة "ش م ش" (الشمس). ولكن الكاتب الملهم جعل من القسم الثاني من المزمور نشيدًا للتوراة التي هي كلمة الله. فنزع الهالة القدسية عن الجلَد، وجعله يرفع المديح إلى الله، على مثال التوراة التي هي كلمة الله وسط البشر.

5- المزمور التاسع والعشرون
والمزمور الثالث والأخير الذي نشير إليه في هذه العجالة، هو مز 29. إنه مديح يدعو أبناء الله، يدعو الآلهة، كي تنشد عظمة الإله. صار في النص البيبلي "يهوه". "قدّموا للرب (ليهوه) يا أبناء الله، قدّموا للرب مجدًا وعزة". امّا في الاصل، فعلى ابناء الآلهة أن ينشدوا بعل اله العاصفة. "لا شيء يقف في وجه بعل الذي يعمل في البحر والبر. الذي يحطّم الأرز الشامخ على جبل لبنان ويزلزل البرية". وهكذا تبدو قدرته فوق كل قدرة على الأرض.
دخل هذا المزمور الذي هو نشيد للرعد ولبعل إله الرعد في سفر التوراة. فصار "ابناء الآلهة" "قبائل الشعوب". فنقرأ في مز 96: 7: "قدمّوا للرب يا قبائل الشعوب، قدّموا للرب مجدًا وعزّة". وموضع النشيد صار هيكل أورشليم حيث الله حاضر وسط مدينته وشعبه. أما ما يريد الكاتب أن يعلن، فقدرة الله على الجبال العالية والاشجار الباسقة والحيوانات التي لم يستطع الإنسان أن يدجّنها. بل هو يبيّن حماية الله لشعبه. قد تحطّم العاصفة كل شيء في طريقها، ولكنها في الواقع تدور حول أرض فلسطين: تنطلق من البحر فتصل إلى جبل لبنان وتسير شرقي فلسطين، في البرية، ثم جنوبي فلسطين في قادش، وتعود إلى البحر. وهكذا تبقى أرض الرب بأمان، فلا يصيبها الطوفان كما أصاب البشرّية في بداية التاريخ.

خاتمة
تلك لمحة سريعة إلى علاقة سفر المزامير بالعالم الكنعاني. جاء الشعب العبراني من البريّة، فأخذ الصور والتعابير التي رآها في محيطه، وهو أرض كنعان التي حملت حضارة تعود إلى آلاف السنين. ولكن ما يجب أن نقوله هو أن كل ما أخذه الكتاب المقدس من الشعوب المجاورة، قد صفّاه بمصفاة الإيمان بالله الواحد. أخذ خبر الخلق من نشيد "انوما اليش"، ولكنه حوّله حوارًا بين الله والإنسان. واخذ خبر الطوفان من ملحمة غلغامش، ولكن الآلهة الذين حاموا على اللحم كالذباب طاروا، فما عدنا نرى سوى الاله الواحد الذي يعاقب الإنسان الخاطئ ويجازي البار خير جزاء، بحياة على الأرض هي رمز للحياة الخالدة. فالخبر والصورة والعبارات والكلمات لم تسبق فكر الكاتب الملهم. فقد نال في الاصل نورًا سماويًا، فحاول أن يعبّر عن هذا النور بلغة البشر، فاستعمل المواد التي وجدها في محيطه، ولكنه حمّلها معنى جديدًا جدًا لا يمكن ان يتوقعه شعب من الشعوب، ولا حضارة من الحضارات. فالكتاب المقدس هو قبل كل شيء كتاب الله. وقد استعمل أيدي البشر الضعيفة ليوصل إلى البشر اسمى الحقائق عن الله والكون والانسان. وهذا ما حدث بالنسبة إلى المزامير التي أنشدت في ما أنشدت: "السماوات تنطق بمجد الله والفلك يخبر بعمل يديه. فيعلنه النهار للنهار، والليل يخبر به الليل، بغير قول ولا كلام ولا صوت يسمعه أحد".

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM