الفصل الثاني والعشرون الكهنوت عند اكلمنضوس الاسكندراني

الفصل الثاني والعشرون
الكهنوت عند اكلمنضوس الاسكندراني

تأخّرت كنيسة الإسكندرية، فما دخلت في التاريخ قبل القرن الثاني. وأول أسقف من أساقفتها نعرفه هو ديمتريوس (189-251). ولكن بما أن المعلّمين الغنوصيين الكبار، مثل باسيليوس وولنطينس، مارسوا نشاطهم في مصر قبل ذلك الوقت، افترض بعضهم أن المسيحيّة دخلت أولاً بواسطة الهراطقة، وأن الاورثوذكيّة ظهرت بعد ذلك كردّ على التيار الغنوصي. ولكن هذه الفرضيّة غير معقولة. فقد كتب اكلمنضوس الاسكندراني ما يلي: "إن تجمّعاتهم (= الهراطقة) البشريّة قد وُلدت بعد الكنائس الكاثوليكية. فهذا لا يحتاج إلى الخطب الطويلة لكي نبرهن عنه. فتعليم الربّ، في زمن حضوره على الأرض، بدأ في أيام أوغسطس وانتهى في منتصف عهد طيباريوس. وتعليم رسل الربّ مع خدمة بولس، انتهى في أيام نيرون. وسوف ننتظر عهد أدريانس لكي نرى مستنبطي البدع: سوف يتواصل عملهم حتىّ زمن انطونينس الأكبر... من الواضح أن هذه الهرطقات اليهوديّة وتلك التي جاءت بعدها، هي أمور جديدة وتشوّهات بالنسبة إلى الكنيسة البكر والحقيقيّة" (موشيات 7/7: 106- 107).
بدت المسيحيّة الاسكندرانيّة في أول عهدها مطبوعة بالطابع العقلّي، بعد أن كانت الإسكندرية المركز العلميّ الأهمّ للأدب الهلنستي. فكل ما هو حيّ في عالم الفكر نجده في الإسكندريّة. وحين كان اكلمنضوس يعلمّ فيها، كان الفلكيّ كلوديوس بطليموس الذي سيفرض نفسه على العلماء خلال ألف سنة، قد أنهى حياته. وفي فقه اللغة سنجد أبولونيوس وسكولس الذي كتب حول الصرف والنحو. وألّف اتيناوس مجموعة من 15 كتابًِا ضمّ فيها مقتطفات من قراءته حول العلوم. وكان أمونيوس يستعدّ ليعلّم الافلاطونيّة ويجمع حوله تلاميذ مندفعين لهذه الفلسفة.
ونقول الشيء عينه في المجال الروحيّ. إذا كان المعلّمون الغنوصيون الكبار قد ماتوا، فمدارسهم ما زالت حيّة، وتلاميذهم ينقلون التعليم بأمانة أو يصحّحونه بعض المرّات. وبين اليهود، ظلّ ذكرُ فيلون حيًا مع تفسيره الاستعاري للكتب المقدّسة: فتفسيره فرض نفسه على العقول التي تبحث عن تقارب مع الفكر اليوناني. هذه الظروف تفسّر في قدر كبير الطابع الخاص لكنيسة الإسكندريّة، حيث احتلّ المعلّمون مكانة كبيرة بحيث كسفوا التراتبيّة الكهنوتيّة. لا شك في أنه كان في رومة مدارس منذ منتصف القرن الثاني، وبدأت روح البحث حوالى سنة 200 وتطوّرت تطورًا واسعًا. ولكن كل هذا يبقى ضئيلاً بجانب الحركة التي نشاهدها في الإسكندريّة منذ بداية المسيحية، بل قبل ذلك.
أول اسم نعرفه بنتينيوس. كان معلّم اكلمنضوس الذي كتب عنه: "وجدته مختبئًا في مصر، فما بحثت عن غيره: هذه النحلة الحقيقيّة من صقلية كانت تجري في المروج وتقطف أزهار الأنبياء والرسل، لتكوّن في نفوس الذين يسمعونها كما في خليّة مقدسة شعاعات نقيّة، لا من العسل، بل من المعرفة والنور" (الموشيات 1/11: 2). ويقول أوسابيوس القيصري إن بنتينيوس كان معلمًا في مدرسة التعليم المسيحي. وكان اكلمنضوس معلمًا في خط بنتينيوس .
يبدو أن اكلمنضوس لم يكن كاهنًا. وقد ذكر الدرجات الثلاث في التراتبيّة الكهنوتيّة: "هناك ألف فريضة تتعلّق بالأشخاص المختارين، قد عبّرت عنها الكتب المقدسة: بعضها يتعلّق بالكهنة أو الأساقفة، والبعض الآخر بالشمامسة، والبعض الأخير بالأرامل" (المربي 3: 11). وفي موضع آخر، لا يتكلّم إلا عن الكهنة والشمامسة الذين يجعلهم أمام العوام: "يتوافق (الرسول) كل الموافقة بأن يكون زوج امرأة واحدة كاهنًا أو شماسًا أو من العوام، إذا مارس الزواج بلا لوم" (الموشيات 3/12: 9). ويتحدّث اكلمنضوس عن الرؤساء، عن الرعاة المكلّفين بتدبير قطيع المؤمنين (المربي1: 6). ويشير إلى هذه التراتبيّة إشارة عابرة في الموشّيات: "أما الاهتمامات المتعلّقة بالإنسان، فهناك السميا وهناك الدنيا: فالطبّ يهتمّ بالجسد والفلسفة بالنفس، والفلسفة أسمى من الطب. ويتلقّى الوالدون خدمات من أولادهم، والرؤساء من الخاضعين لهم لأنهم رؤساؤهم. ونقول الشيء عينه عن الكنيسة: يحتلّ الكهنة درجة سميا والشمامسة درجة دنيا. والملائكة يقومون بالنسبة إلى الله بهاتين الخدمتين حين يخدمونه في تدبير الأشياء الأرضية" (7/1: 3).
ذكر اكلمنضوس الكهنة والشمامسة وما ذكر الأساقفة. أتراه لم يجد تمييزًا بين الأساقفة والكهنة؟ أو هو اعتبر الأسقف أوّل الكهنة أو أوّل الشيوخ. وفي مقطع آخر من الموشيات، يقابل بين التراتبيّة الكنسيّة وصفوف الملائكة: "هذا هو شيخ الكنيسة والشماس (= الخادم) الحقيقيّ لمشيئة الله، الذي يمارس أمور الرب ويعلّمها. لا يُعتبر بارًا لأن الناس اختاروه ولأنه كاهن، بل لأنه، لأجل برارته جُعل في حلقة الكهنة (أو القسس والشيوخ). وإن لم ينَل على الأرض كرامة الكرسيّ الأول، سيجلس على أربعة وعشرين كرسيًا ويدين الشعب، كما يقول يوحنا في سفر الرؤيا... فالمراتب المتدرّجة التي نراها هنا في الكنيسة، من أساقفة وكهنة وشمامسة، هم في رأيي تقليد لمجد الملائكة ولهذا التدبير الذي تعتبره الكتب المقدسة محفوظًا للذين يسلكون في خطى الرسل ويعيشون في كمال البّر بحسب الإنجيل. سيُخطفون في السحب، كما يقول الرسول، ليقوموا بوظيفة الشمامسة، ثم يُقبلون في حلقة الكهنة حسب ترتيب المجد، لأن هناك مجدًا ومجدًا، إلى أن يدركوا قامة الإنسان الكامل" (6/13: 106- 107).
ظهر الأساقفة هنا مع الآخرين. هم يحتلّون الكرسيّ الأول. وهكذا يلتقي اكلمنضوس مع راعي هرماس فيجعل من الأسقف الكاهن الأول. ونلاحظ أن الشعب يختار الشمامسة والكهنة. وبرُّهم هو الذي يستحقّ لهم هذه الكرامة. فنفكّر ونحن نقرأ هذه النصوص برسالة بعث بها أسقف ليون إلى الباب الوتيرس: "كلّفنا أخانا ورفيقَنا ايريناوس أن يسلّمك رسائل. ونحثّك على أن تستقبله كرجل غيور على وصيّة المسيح. لو ظنّنا أن الحالة تمنح البرّ لأحد، لقدّمناه ككاهن الكنيسة، لأنه هو أيضًا كذلك" (أوسابيوس، التاريخ الكنسي 5:2). ففي نظر اكلمنضوس كما في نظر المؤمنين في ليون، »يتطلّب الكهنوت البرّ (والقداسة) ولكنه لا يزيد عليه شيئًا أو لا يكاد يزيد".
في الواقع، لا يهتمّ اكلمنضوس بالكهنوت ككهنوت ، بل بالمعلّم الذي يتولّى تلقين التعليم المسيحي. كان أمينًا لنظريّة قديمة تعتبر أن ما من إنسان شرير بإرادته، فماهى بين المعرفة والكمال، بحيث اعتبر أن أعظم وظيفة هي وظيفة المعلّم. فعليه أن يتزيّن بعدد من المزايا لكي يقوم بمهمّته خير قيام. "يجب على من يريد أن يعظ الآخرين أن يعرف إن كان يتوخّى خير القريب. إن كان لا يستسلم إلى التعليم بتسرّع وروح الحسد. إن لم تستلهم طريقتُه في نشر الكلمة المجدَ الباطل. إن كان يطلب أجرًا غير خلاص سامعيه. إذا كان يعظ لكي ينال الهدايا. إن كان يتجنّب النميمة... إن الذي يكلّم سامعين حاضرين، سيشعر مع الوقت، ويحكم ويميّز، ويفصل عن الآخرين ذاك الذي هو جدير بالسماع. يلاحظ الكلمات والطرق والعوائد والحياة والحركات والمواقف والنظرة والصوت لدى كل واحد. ملتقى الطرق والحجر والطريق التي تدوسها الأرجل والأرض الخصبة والمنطقة التي تكسوها الغابات. الأرض التي هي غنيّة، جميلة مفلوحة، وتلك التي تُكثر الزرع. أما الذي يعلّم بالكتابة، فيتنقّى أمام الله، لأنه يعلن في مؤلّفاته أنه لا يكتب حبًا بالكسب ولا طلبًا للمجد الباطل. إنه لا يخضع لهوى من الأهواء، ولا هو عبد الخوف. ولا تسيطر عليه الشهوة. إنه لا يطلب سوى خلاص قرّائه. هو لا ينال الآن أجره، بل ينتظره في الرجاء كجواب من ذلك الذي يستطيع أن يمنح الأجر العادل للعمّال" (الموشيات 1/1: 6).
نلاحظ أولاً أن المعلّم لا يختاره الشعب، كما يختار الكاهن. هو يرتبط بضميره وربِّه، لأنه يعلّم متى يروق له وكما يروق. وعمله عظيم جدًا بحيث لا يخضع لمراقبة بشريّة: ما ينظّم كلامَه هو تفكيره بخلاص النفوس، حسب الحكمة المطلوبة والفطنة. غير أن ما يقوله اكلمنضوس يجد ما يعارضه حتّى عند المسيحيين البسطاء. لهذا كتب في موشياته: "لا أجهل ما يردّده بعض الجهّال الذين يرتعبون من أقّل ضجّة، ويقولون إنه يجب أن نبقى عند الأمور الجوهريّة، تلك التي لها علاقة بالإيمان، وأن نهمل تلك الآتية من الخارج والتي هي نافلة" (1/1: 18). ويضيف: "اعتبر بعضُ الناس الذين يظنّون نفوسهم أذكياء، أنه لا يجب علينا أن نهتمّ بالفلسفة والجدل، ونعتني بدراسة الكون بل يطلبون الإيمان النقيّ والبسيط، وكأنهم يرفضون أن يعملوا في الكرمة طالبين حالاً أن يقطفوا العنب" (1/9: 43).
لا يستطيع المعلّم أن يفعل شيئًا مع هؤلاء الناس الذين يخافون الفلسفة كما يخاف الأولاد من الأقنعة (6/10: 8)، وينظرون إليها وكأنها اختراع شيطانيّ (6/8: 66). واعتبر اكلمنضوس نفسه مجبرًا على الدفاع في وجه سلطة الكنيسة الرسميّة من كهنة وأساقفة الذين لم يرضوا عن مجهود هذا المعلّم في تدجين الفلسفة القديمة ومصالحتها مع الكنيسة. إنه متعلّق بالتعليم القديم ويبغض الهرطقات ويحتقرها. ولكنه يقف على مستوى الفلسفة الرفيعة.
غير أنه كتب من أجل المؤمنين "أي غني يخلص"، فقدّم التعليم المعروف في الكنيسة. روى مثلاً خبر رئيس اللصوص الذي ردّه القديس يوحنا إلى الإيمان (ف 42). فالأسقف الذي نلتقي به في هذا الخبر هو رئيس حقيقيّ في الكنيسة: يرئس الليتورجيا، يعظ، يدبّر أموال الجماعة، يعتني بالنفوس الموكلة إليه. ويتكلّم اكلمنضوس عن هذا الأسقف بشكل طبيعيّ دون أن يخفي له دوره. هذا يعني أنه عرف بالخبرة عددًا من الأساقفة رآهم بعينيه يقومون بمهمّتهم في رعاية شعب الله. فالمعلّم الذي ألّف الموشيات والمربّي والتحريض إلى اليونان لطالبي الحكمة، قد امّحى الآن فصار مؤمنًا بسيطًا يكلّم إخوته الوضعاء، فيجعل الكهنوت في قلب الواقع المسيحيّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM