الفصل الثالث والعشرون الكهنوت في مؤلفات أوريجانس

الفصل الثالث والعشرون
الكهنوت في مؤلفات أوريجانس

عاش أوريجانس، شأنه شأن اكلمنضوس، وعلّم في الإسكندريّة. كان اكلمنضوس من العوام، أما أوريجانس فكان كاهنًا. كان رجل الكنيسة حتّى قبل أن يصير كاهنًا. جعله الأسقف ديمتريوس رئيس مدرسة التعليم المسيحيّ، فمارس وظيفة رسميّة، وظيفة التعليم. واختلف مع ديمتريوس، فمضى إلى قيصرية فلسطين حيث رسم كاهنًا. فعلّم المؤمنّين البسطاء الذين جاؤوا يسمعون عظاته البيبليّة: قدّم أعمق ما في قلبه، فجاء تعليمه تفسيرًا أمينًا لتعليم الكنيسة.
1- أوريجانس المدافع عن الكهنوت
لا يقدّم أوريجانس نظرية واضحة عن الكهنوت. ولكنه يتحدّث عنه خلال عظاته فيعلمنا بوجود الأساقفة والكهنة والشمامسة، كما يخبرنا بالعبء الذي يحمله الأساقفة. في العظات حول سفر اللاويين (6: 3) نعرف أن على الأسقف أن يتميّز بالعلم والقداسة... من يُدعى إلى الاسقفيّة لا يُدعى ليُعطي الاوامر بل لكي يخدم الكنيسة كلها (عظات في أشعيا 6: 1). ولا يُطلب منه التواضع فقط. بل الخدمة حتى العبوديّة. لهذا عليه أن يتميّز بجميع الفضائل. فإذا كانت الكنيسة بناء، فالاساقفة والكهنة هم سقفه المصنوع من السرو والأرز. والسرو شجر معروف برائحة ومتانته، والارز شجر معطّر لا يفنى. شجرتان ترمزان إلى الفضيلة والعلم اللذين يجب أن يتحلّى بهما الكهنة والاساقفة (عظات نش 1: 3). إذا كان كل شيء يطلب من الكهنة أن يحكموا على نفوسهم، فلأن مهمتهم الحكم على الشعب. "قال القديس بولس: أتظن أنك تفلت من دينونة الله، من أمراء الدهر وآراء العالم؟ ولكن يقال لرؤساء وأمراء الكنائس أي الأساقفة والكهنة والشمامسة، أن لا يحسبوا أنهم يفلتون من دينونة الله إذا قبلوا بما به يدينون الناس ويحكمون عليهم" (في روم 2: 2). فكأني بأوريجانس يقول: لا تتبلبل نفسُ الذين يرئسون الكنيسة. يجب أن يكونوا بكلّيتهم لأعمالهم الروحيّة (في روم 9: 3).
أراد فرعون أن يكون لكهنته أراضٍ يملكونها، فيمارسوا فلاحة الأرض، لا فلاحة النفوس، ويولوا كل اهتمامهم بالريف لا بالشريعة. أما المسيح فطلب من كهنته أن يتجرّدوا من كل ما هو أرضيّ. وبعد أن يذكّر أوريجانس بأمر الرب (لو 14: 33) ليطبِّقه على الكهنة، يعود إلى نفسه فيهتف: "أرتجف حين أتكلّم هكذا. فأنا أول من أتهم نفسي. كيف نستطيع نحن أن نقرأ هذه الكلمات ونشرحها للشعب المسيحي، نحن الذين لا نتخلّى فقط عمّا نملك، بل نريد أن نقتني ما لم نمتلكه قبل أن نأتي إلى المسيح. لماذا؟ بما أن ضميرنا يتّهمنا، أيحقّ لنا أن نخفي ما هو حقيقيّ، أن لا نظهره في وضح النهار؟ لا أريد أن أكون خاطئًا مرتين. أنا أعترف أمام كل الشعب الذي يسمعني، أن هذا كُتب وإن لم أعمل به. فتفحّص نفسك بدقّة وانظر إلى المستوى الذي فيه تمارس كهنوتك: إذا كنتَ تنتبه إلى ما هو منظور وزمنيّ، إعلم إنك ما زلت تنتمي إلى شعب مصر" (في تك 16: 5)
2- القداسة الكهنوتيّة
إذا كان الأمر كذلك، نستنتج أن القداسة الكهنوتيّة هي عطيّة من الله نطلبها في صلاة حارّة. فالشعب له الكهنة الذين يستحقونهم ويشبهونهم. "إن أمراء الشعب وقضاة الكنيسة لا يُعطون للمؤمنين بحسب قصد الله، بل بحسب استحقاقاتهم الخاصة... إذا كان الشعب مستحقًا، منحه الله قائدًا قويًا في الأقوال والأعمال. ولكن إذا أساء الشعب أمام الله، أعطي له قاضٍ سيتألّم في أيامه من الجوع والعطش، أتحدّث عن جوع إلى سماع كلمة الله. إذن لنسلك كما يجب ولنصّل لئلاّ يحكم علينا غضب الله بجوع وعطش إلى الكلمة، لئلا ينقصنا الرجل الذي يستطيع أن يعلّمنا بمثاله وكلامه، الرجل الذي يكون مثالاً للشعب بأخلاقه وطهارته، فيقدّم له نموذجًا في الصبر وطول الأناة" (في قض 4: 3).
في العالم الذي يعيش فيه أوريجانس، ليس الكهنة الصالحون كثرًا. "بين الكهنة، من يستحقّ اليوم أن يسجّل في هذه الدرجة" (في يش 4: 2)؟ ويتابع: "اليوم، في جميع الكنائس التي تحت السماء، هناك عدد كبير بين القضاة أوكلوا بأن يهتمّوا لا بالاعمال وحسب، بل بالنفوس، ولست أدري إن كانوا جديرين بأن يمتلئوا من روح الله، فيستحقوا (مثل عتنـيئيل) شهادة الله" (في قض 3: 3).
وبين الرذائل التي يبرزها معلّم الإسكندرية الكبرياء. فالأساقفة والكهنة والشمامسة يتنافسون في طموحاتهم. هم يريدون المراكز الأولى. يحبّون أن يأخذوا أو ينالوا لقب "معلّم". هناك رجال جشعون ومراؤون يعملون لكي يصيروا شمامسة. وحين يصلون، تقودهم رغبتهم أبعد من ذلك: يريدون أن يصيروا كهنة. ولا يكتفون بهذه الكرامة فيحتالون كثيرًا لكي يستولوا على الأسقفيّة. على الأساقفة أن يكونوا خدّام الخدّام كما أوصاهم الكلمة يسوع المسيح: "بل نتصرّف أحيانًا بحيث نتجاوز أمراء الأمم الأشرار كبرياءً. فلا يبقى إلاّ أن نؤمِّن لنفوسنا حرّاسًا على مثال الملوك. نحن قاسون ولاسيّما تجاه الفقراء. حين يصلون إلينا ويطلبون طلبًا، نتفوّق بالوقاحة على المستبدين والأمراء الظالمين تجاه الآتين طالبين. هذا ما نستطيع أن نراه في عدد من الكنائس المعروفة ولا سيمّا في المدن الكبرى" (في مت 61: 8).
ومع الكبرياء حبّ المال. فتقبّلُ الدرجات المقدّسة وممارسة الخدمة هما بالنسبة إلى عدد من الكهنة والشمامسة مناسبة لاقتناء الغنى. فهناك وعّاظ كثيرون امتلأوا بروح العالم فطلبوا قبل كل شيء حياة هادئة مرفَّهة. همّهم الوحيد هو التجارة والمال والولائم (في حز 3: 7). صارت التقوى تجارة، والإنجيل وسيلة للاثراء. فإن كان يسوع بكى على أورشليم، فكم يحتاج إلى أن يبكي على الكنيسة التي هي بيت صلاة حوّلها حبّ المال والرفاه إلى مغارة لصوص. وكم نتمنّى أن لا تكون الخطيئة خطيئة رئيس الشعب (في مت 6: 21). وبين الكهنة، هناك عدد كبير يستولي على أموال الكنيسة فيؤكدون، شأنهم شأن يهوذا، أنهم يريدون الاهتمام بالفقراء. يا للتعاسة (في مت 11: 9).
3- تدبير أموال الكنيسة
هنا يتحدّث أوريجانس عن أموال الكنيسة، وتدبيرها أمر صعب. وتنظبم خدمة المحبّة يتمّ بدراية ورويّة. قال: "لنكن فطنين، حتى نمارس المحبّة مع كل واحد حسب كرامته واستحقاقه. نتذكّر ما كُتب: طوبى لمن يفهم المسكين والبائس. لا يكفي أن نوزّع أموال الكنيسة متنبهّين فقط بأن لا نحيد عن الفقير، فنقترف سرقة تجاههم. بل يجب أيضًا أن ندلّ على الفطنة: فهناك أسباب عديدة للفقر، وعلينا أن نتساءل لماذا هؤلاء الناس فقراء. ماذا يستحقّ كل واحد؟ ما كانت تربيته؟ ما هو المال الذي يحتاج إليه؟ لماذا يطلب مساعدة؟ إذن، لا نعامل المعاملة نفسها أولئك الذين تربّوا تربية قاسية منذ طفولتهم وأولئك الذين سقطوا في الشقاء بعد أن كبروا في الغنى والرفاهية. لا نعطي معونة مماثلة للرجال وللنساء، للشيوخ وللشبّان. وبين الشبّان هناك من هم أضعف من أن ينالوا طعامهم بالعمل، ولن يستطيعوا أن يقوموا ببعض أودهم. ونبحث أيضًا إن كان للفقراء أولاد يقومون بجميع واجباتهم أو يهملونها. وبمختصر الكلام، نحتاج إلى حكمة كثيرة لكي نتصرّف كما يليق بأموال الكنيسة" (في مت 61).
تدلّ هذه النصائح على حكمة لدى أوريجانس. ولكن ماذا ينفع كل هذا للكهنة الجشعين. فأموال الكنيسة طعم يجتذب عالم الكهنوت فيطلبون الكهنوت أو الأسقفيّة بجميع الوسائل. فمن أجل "الوظائف" الكهنوتيّة يلعب المال، والوراثة. وأعطى أوريجانس مثل موسى الذي لم يعيّن خلفًا له أحد أبنائه أو أبناء أخيه. "ليتعلّم أمراء الكنائس بهذا المثل أن لا يعيّنوا خلفهم بوصيّة من بين أقاربهم، وأن لا يجعلوا الوراثة مبدأ للتسلسل الكهنوتي، بل أن يسلّموا أمرهم إلى حكم الله. لا نرفع ذاك الذي تربطنا به عاطفة بشريّة. بل ذاك الذي اختاره الله".
4- الوظائف الأساسيّة في الكهنوت المسيحي
نستطيع أن نطيل هذه اللوحة المظلمة عن عالم الكهنوت في القرن الثالث المسيحيّ. لا شك في أن أوريجانس ما أراد أن يعمّم، بل انطلق من بعض الأمثلة وصوّرها بألوان فاقعة لتكون مثلاً للجميع. يبقى علينا أن نتساءل عن الوظائف الأساسيّة في الكهنوت المسيحي.
أول واجبات الأساقفة والكهنة إعلان كلمة الله. فالأسقف يشبه عظيم الكهنة عند اليهود. فما كُتب عن عظيم الكهنة في التوراة ينطبق على الأسقف. فعليه أن يدرس باهتمام شريعة الله، وينظر إليها كما في مرآة لكي يرى إن كان يحقّق في شخصه ما طلبه موسى في الماضي من رئيس الكهنة (في لا 6: 6). وليتنبّه إلى قراءة الكتاب المقدس، فيجد فيه لوحة بالفضائل التي يجب أن يمارسها وبالوظائف التي يجب أن يقوم بها (في عد 10: 3). فعمل الحبر عملان: يتعلّم من الله حين يقرأ الكتب المقدسة ويتأمّل فيها بعناية. ويعلّم الشعب. فعلى رؤساء الكنائس أن يعزّوا الشعب المؤمن ويشجّعوه بكلمات التحذير وبنعمة التنبيه. إن رسالتهم تتمّ في داخل الكنيسة. قال أوريجانس: "إن مضى أحد إلى مدينة لا مسيحيين فيها، وشرع يعلّم فيها، فليعمل ويعلّم وليدعُ إلى الايمان كل الذين يقدر أن يدعو. بعد ذلك، يقام على الذين علّمهم رئيس وأسقف" (في عد 11: 4).
خدمة التعليم هي من المهمات الرئيسية للأسقف. ولكن الأسقف لا يقوم بها وحده. فالكهنة أوكلوا أيضًا بتعليم الشعب المؤمن. وهذا ما فعله أوريجانس. والعوام أيضًا يعلّمون. فالاسكندر، أسقف أورشليم وتيوكتستس، أسقف قيصرية، طلبا من أوريجانس أن يعظ قبل رسامته الكهنوتيّة، أن يشرح الكتب المقدسّة للشعب. وبرّرا سلوكهما بمثَل أساقفة سابقين يذكرهم أوسابيوس القيصري. ولكن لم تكن العادة في الإسكندرية تسمح للعوام بإلقاء الوعظ في الكنائس، بل يُحفظ هذا الحقّ للكهنة.
فعلى الذين يعلّمون أن يوزّعوا على كل واحد حصّة من الحقيقة التي يستطيع أن يحملها. فما يُعطى للبسطاء غير ما يُعطى للكمّال. قال أوريجانس: "نلاحظ أن الرسل حين وعظوا الإيمان بالمسيح، بينّوا التعاليم التي اعتبروها ضروريّة للجميع، حتى لأولئك الذين كانوا أقلّ تقدمًا في أمور الله. وشرحوا الأسباب العميقة للذين نالوا من الروح القدس، مواهب الكلام والحكمة والعلم. اكتفوا بأن يعلنوا بعض الشيء دون أن يشرحوا السبب أو الشكل، وتركوا لأصدقاء الدراسة والحكمة في الأزمنة الآتية، مادة يستطيعون أن يتمرّسوا فيها مع ثمرة" (المبادئ 1: 3).
وعلى الكهنة أن يدلّوا على فطنتهم فلا يكشفوا للجميع، بدون تمييز، أسرارًا توكّلوا بحفظها. لا يصل الإنسان اللحمي إلى الأعمال الصوفيّة التي لا تُكشف إلا للكهنة. فهذه المعرفة ليست مفتوحة حتى للمتمرّسين والعلماء، إن لم يُرفعوا إلى الكرامة الكهنوتيّة (في عد 4: 3؛ 5: 1).
ومن واجبات الكهنة ممارسة الأسرار. يتدخّلون أولاً ليأتوا بالخطأة إلى التوبة وليصالحوهم مع ا&. ينبغي عليهم أن لايحابوا الوجوه. هم يخطأون خطأ جسيمًّا إن بدوا قاسين تجاه البعض حتى الحرم، وضعفاء تجاه الآخرين ضعفًا يصل بهم إلى الإهمال. يجب أن يكونوا كلاً للكل. وإن سقط أحد مؤمنيهم بالخطيئة، فيجب أن لايهدأ لهم بال حتى يردّوه. فهناك توبة قاسية فيها يروي الخاطئ سريره بدموعه ولا يستحي من كشف خطاياه للأسقف (في لا 2: 4). ويكون دور الأسقف بأن يقدّم ذبيحة تكفير عن الخطيئة على مثال الكاهن الأعظم الذي يتحدّث عنه سفر اللاويين.
"ليتعلّم كهنة الربّ الذين يرئسون الكنائس أنهم مشاركون للذين يحملون خطاياهم. ما معنى حمل خطيئة شخص آخر؟ إذا أخذتَ الخاطئ على حدة، إذا جئتَ به إلى التوبة بأرائك وتحريضاتك وتعاليمك ونصائحك، إذا أصلحت خطأه، إذا ملت به عن رذائله، إذا هيّأته ليرضى ا& عنه ويغفر له خطيئته، عند ذلك تكون قد حملت خطيئته" (في لا 5: 4).
وللكاهن السلطان بأن يطرد الخاطئ من الكنيسة: فقبل أن يعلن الحرم، يكون الخاطئ قد استبعد نفسه في داخله. يستطيع أن يدخل إلى صحن الكنيسة، ولكنه يبقى منفصلاً عن المؤمنين الذين يكوّنون قلبًا واحدًا وروحًا واحدًا (في لا 14: 3). إن سلطة الكاهن في هذه الحال تشبه سلطة الرسل، سلطة بولس الذي سلّم زاني كورنتوس إلى الشيطان (في قض 2: 3).
في هذا المجال يقول أوريجانس في شرح انجيل متّى (12: 14): "إن الذين يطلبون درجة الأسقفيّة يستندون إلى هذه الكلمة، على مثال بطرس، ليقولوا إنهم نالوا من المخلّص مفاتيح ملكوت السماوات. وبالتالي، ما يربطونه (أي يحكمون عليه) يُربط في السماء، وما ينال منهم الغفران يُحلّ في السماء. نقول إن كلامهم صحيح شرط أن يعملوا العمل الذي لأجله قيل لبطرس: أنت صخر. وإن كانوا "صخر" بحيث يبني المسيح كنيسته عليهم ، تنطبق حقًا هذه الكلمة عليهم. فأبواب الجحيم لن تقوى على الذي يريد أن يربط ويحلّ. فإن كان هو نفسه مربوطًا برباطات ذنوبه، فباطلاً يربط ويحلّ".
تلك هي نظرة أوريجانس إلى الكهنوت. هو يطلب القداسة من الذين نالوا نعمته. ولهذا يرسم لوحة معتمة عن الكهنة على مثال ما يفعل الوعّاظ ومعلّمو الأخلاق. ومن جهة ثانية نتعرّف إلى الفضائل الكهنوتيّة والوظائف الكهنوتيّة. يجب على الكهنة أن يكونوا قدّيسين لكي يعلّموا المؤمنين التعليم القويم ويحاربوا الضلال. يجب أن يكونوا قدّيسين ليعرفوا كيف يتصرّفون بأموال الكنيسة. ليغفروا الخطايا للتائبين. هذا ما علّمه أوريجانس. وربّما عاشه ساعة رُسم كاهنًا في كنيسة قيصريّة، فجمع القول إلى العمل.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM