الفصل التاسع عشر عظمة كهنوت المسيح

الفصل التاسع عشر
عظمة كهنوت المسيح وذبيحته
عب 5: 11-10: 39

في عرض أول توقّفنا عند العقيدة، وتعرّفنا إلى المسيح ذاك الحبر الأمين والرحيم الذي هو كاهن على رتبة ملكيصادق. في عرض ثان نتوقّف عند خصوصيّة كهنوت المسيح وذبيحته.
1- التحريض (5: 1- 6: 20)
ويأتي تحريض طويل يهيّئ القارئ (أو السامع) لصعوبة الموضوع، ويشكّل فصلاً واضحًا بين القسم التعليمي في العرض الثاني (7: 1- 10: 39) واعلانه في 5: 9- 10. إن 6: 20 يعيد الانتباه بلباقة إلى الموضوع الذي أعلن في 5: 9- 10. ونلاحظ الطريقة التي بها تصل عب إلى خصوصية كهنوت المسيح وميزته. استُعمل مز 110: 4 في 5: 6 ليدلّ على التشابه بين يسوع وهارون. ويُستعاد الآن في ف7 ليدلّ على أن كهنوت المسيح يختلف عن كهنوت هارون ويتفوّق عليه. والعناصر الثلاثة المعطاة في 5: 9- 10 (صار كاملاً. علّة خلاص أبدي. أعلنه ا& حبرًا على رتبة ملكيصادق) تبدو كخاتمة البرهان حول التواصل بين كهنوت هارون وكهنوت المسيح. ستعود هذه العناصر نفسها هنا، فتشكّل انتقالة إلى العرض الثاني الذي يبيّن خصوصيّة كهنوت المسيح. نقرأ العنصر الاول (صار كاملاً) في 8: 1- 9: 28. والعنصر الثاني (علّة خلاص) في 10: 1- 18. والعنصر الثالث (على رتبة ملكيصادق) في 7: 1- 28.
2- حبر على رتبة ملكيصادق (7: 1- 28)
إن النمط التأويلي الذي أخذت به عب لتصوّر ملكيصادق، يجد بعض الشبه مع ما فعله فيلون. اهتمّت عب بترجمة الاسم مثل فيلون، وتأويلُها له جاء مدراشيًا مثل تأويل فيلون. ولكن تبقى الاختلافات. جعل فيلون من ملكيصادق صورة عن العقل المستقيم والعادل الذي يسود الانسان، هكذا يكون كاهن العلي. لا نجد شيئًا من هذا في عب التي تتحدّث عن ملكيصادق مستندة إلى مز 110. فما هو خاص بتأويل عب، هو أنه يتوجّه منذ البداية نحو سرّ المسيح. تعرف عب أن المسيح هو كاهن. وقد أوردت مز 110 في 5: 6- 10؛ 6: 20. وحين وصلت في 7: 1 إلى شرح تك 14: 18- 20، قادها التأويل المدراشي إلى كهنوت المسيح. تركّز هذا التأويلُ على الذي صار كاملاً بآلامه، فوجد في مز 110 أولاً ثم في تك 14، ملكيصادق هذا الذي هو صورة مسبقة عن المسيح الكامل والكاهن إلى الأبد. مثل هذه النظرة أتاحت للرسالة إلى العبرانيين أن تتجاوز بشكل واضح نص تك 14: 17- 20 فتعلن أن ملكيصادق "يشبه ابن الله".
أ- استعمال صورة ملكيصادق
اهتمت عب، شأنها شأن فيلون، باشتقاق الاسم: ملك البر. واشتقاق اللقب: ملك السلام. ويوجّهنا التشديدُ على أن لا أب له ولا أم ولا نسب، إلى كهنوت غريب حين نعرف أهميّة الأنساب في الكهنوت اللاوي (عد 17: 5؛ لا 21: 13ي: حز 44: 24؛ عز 2: 61- 62). وإذ لم يذكر النصّ مولد ملكيصادق ولا موته، استطاع أن يصل به إلى ابن الله والكاهن إلى الأبد. وهكذا انتظمت فكرة كهنوت أبدي، يختلف كل الاختلاف عن الكهنوت اللاوي الذي كان ينتقل من جيل إلى جيل. نلاحظ هنا الجمع بين ابن الله والكاهن إلى الأبد (7: 3؛ رج 3: 5؛ 4: 14). وشدّد فانوا على واقع يقول إن ملكيصادق لا يستطيع أن يكون صورة ابن الله إلاّ إذا عادت هذه العبارة إلى المسيح الممجَّد. "نستطيع القول عن المسيح القائم من الموت إنه انسان "لا أب له ولا أم ولا نسب"، لأن قيامته كانت ولادة جديدة للطبيعة البشريّة. وقد تمّت هذه الولادة بدون أب بشريّ ولا أم بشريّة فصار المسيح "البكر" (عب 1: 6) الذي لا نسب له.
ب- ملكيصادق وكهنوت لاوي (7: 4- 10)
تدلّ عب هنا على تفوّق كهنوت ملكيصادق كما سبق. وهي تقابل بينه وبين ابراهيم على أساس تك 14: 18- 20. ولكن عب توخّت المقابلة بين ملكيصادق ولاوي "الذي كان في صلب أبيه". يستند البرهان على التوالي إلى العشور (8: 4- 6 أ)، إلى مباركة حامل المواعيد (آ 6ب- 7)، ثم إلى العشور أيضًا. فلاوي الذي يأخذ العشر، قد خضع للعُشر عبر جدّه إبراهيم. هذا يعني على أنه الأدنى. ويتأكّد تفوّق ملكيصادق هنا أيضًا باستعادة ميزتين وجدناهما في 7:3: لا نسب له (7: 6). يُشهد له أنه حي (7: 8). هاتان النقطتان تميّزانه عن لاوي وعن نسله. وتُطلقان فكرةَ كهنوت لا ينتقل من جيل إلى جيل، بل يبقى إلى الأبد. إذن، يتمّ تجاوز الكهنوت اللاوي هنا بعودة إلى الاصل. وننتقل من الشريعة التي تسمح للاوي ونسله أن يتلقّوا العشر، إلى زمن الوعد مع ابراهيم أبي الآباء. هنا يأتي ملكيصادق الذي قبل العُشر من حامل الموعد، فجعل مؤسّسة الكهنوت الشرعيّة مؤسّسة نسبيّة تجاه كهنوت "آخر" كانت له هذه المؤسّسةُ صورة مسبقة.
ج- حبر على رتبة ملكيصادق ( 7: 11- 28)
وننتقل من تأويل تك 14: 17- 20 (عب 7: 1- 10) المركّز على ملكيصادق، إلى الكاهن حسب رتبة ملكيصادق (مز 110: 4 = عب 7: 17). هنا نتطلّع إلى الرب (آ 14) الذي هو كاهن حسب نظام جديد. ستميزّه عب عن الكهنوت اللاوي وتدلّ على تفوّقه. فتشدّد على أن الرب لا يمتلك شروط الشريعة الموسويّة ليكون كاهنًا (7: 13، 14، 16). ويظهر التفوّق في أن الكهنوت على رتبة ملكيصادق يتأسّس على "قوّة حياة لا تزول" (7: 16). ما قبلَ يسوعُ بالوراثة الكهنوتَ اللاوي. إنه كاهن حيّ وأبديّ. وتبرّر آ 11- 14 بشكل سلبيّ زوال الكهنوت اللاوي. فلو قاد إلى الكمال، لكان ظلّ هنا، لأن ما هو كامل لا يمكن تجاوزه. إن آ 15- 19 تثبّت الآن بشكل إيجابي إلغاء الشريعة الموسويّة في ما يخصّ كهنوت لاوي. وهذا التثبيت ينطلق من مز 110: 4 الذي تعتبره عب »إلغاء لفريضة سابقة بالنظر إلى ضعفها أو عدم جدواها، وانفتاحًا على رجاء جديد". ويتيح لنا المزمور عينه أن نلفت الانتباه إلى أن الله ألزم نفسه بقسَم بأن يقيم "كاهنًا إلى الأبد". بفضل هذا القسَم صار يسوع كفيل "عهد أفضل". ودلّ كهنوته على تفوقّه لأنه أبدي ولا يزول. إذن يتوجّه النظر إلى ثبات الكهنوت الجديد: وهذا الثبات يظهر في الاختلاف بين الكهنة اللاويين ويسوع. كان الموت يمنع الكهنة اللاويين من البقاء، أما يسوع فيبقى إلى الأبد. وتختتم آ 26- 28 المقطع بتصوير »الحبر المثاليّ« الذي يتميّز عن سائر الأحبار (عظماء الكهنة) المجبَرين بأن يقدمّوا كل يوم ذبائح عن خطاياهم. لاحظ الشرّاح البُعد الهجوميّ في 7: 11- 28، الذي سيقود إلى وضع الشريعة كلها في قفص الاتهام. هذا البُعد الهجومي سنجده أيضًا في 8: 1-9: 28 و10: 1- 18.
د- الكمال
إن الحكم السلبيّ على الكهنوت اللاوي يدور في الواقع حول الكمال (أو بالاحرى: الإكمال). ارتبطت هذه اللفظة في العهد القديم بالمؤسّسة الكهنوتيّة. استُعملت في سفر اللاويين لتدلّ على ذبيحة تقديس (تكريس) عظيم الكهنة (لا 7: 37؛ 8: 22، 26، 28، 29، 31، 33؛ رج خر 29: 22، 26، 27، 31، 34). ما وافقت عب 7: 11 على أننا وصلنا إلى "الاكمال" بالكهنوت اللاوي. وأكّدت آ 19 أن الشريعة ما قادت شيئًا إلى الكمال. وعارضت آ 27- 28 بين ضعف عظماء الكهنة المجبرين على تقديم الذبائح عن خطاياهم، والكمال الذي ناله الابن إلى الأبد. وما ناله يجب أن يرتبط بآلام المسيح.
3- صار كاملاً بذبيحة (8: 1- 9: 28)
مع هذا الجزء نصل إلى النقطة المركزيّة في العرض (8: 1). إلى الخلاصة. وهكذا ننتظر أن يعطينا الكاتب جوهر الوقائع. هذا الجوهر قد أعلن في الآية التي اختتمت الجزء السابق: "أما كلام القسَم فيقيم الابنَ الذي جُعل كاملاً إلى الأبد" (7: 28). وهو يعلن في 8: 1- 2: "إن الحبر الذي لنا جلس في السماوات عن يمين عرش الجلال". إذن، يدور هذا الجزء حول هذا التمجيد المرتبط بتقدمة المسيح. وسيثبت الكمالُ الذي أدركه المسيح، ويبيّن المستوى الحقيقيّ الذي عليه يمارس كهنوته. قسم فانوا هذا الجزء مقطعين. يشير الأول إلى عدم كفاية العبادة القديمة فحلّت محلّها عبادة أخرى. والثاني إلى ذبيحة المسيح الفاعلة والنهائيّة. ويشمل كلّ مقطع ثلاثة تقسيمات تتجاوب بعضها مع بعض:
أ- مستوى العبادة (8: 3- 6)
ب- مسألة العهد (8: 7- 13)
ج- وصف العبادة القديمة (9: 1- 10)
ج ج- وصف عبادة المسيح (9: 11- 14)
ب ب- اناس العهد (9: 15- 23)
أ أ- المستوى الأخير للعبادة (9: 24- 28).
أ- مستوى العبادة (8: 3- 6)
تذكّرنا آ 3 بالعلاقة الضروريّة بين فكرة العبادة وفكرة الذبيحة. لا كاهن بدون ذبيحة ولا ذبيحة بدون كاهن. ولكن الانتباه يرتفع هنا إلى المعبد الذي فيه يمارس المسيحُ كهنوتَه. فكل كاهن مرتبط بمعبد. وتؤكّد آ 4 أن المسيح الذي هو كاهن لا يستطيع أن يكونه على الأرض. فإن احتاج إلى معبد، ففي السماء نبحث عنه. فلا يبقى عند ذاك (آ 5) إلاّ أن نبيّن سموّ مثل هذا الكهنوت المرتبط بمثل هذا المعبد. أما آ 5 (بما فيها من تهجّم وسخرية) فتُظهر الاختلاف متحدّثة عن عبادة "الذين يقدّمون القربان حسب الشريعة" (آ 4). فعبادتهم تتوجّه إلى صورة وظلّ السماويات. والفعل خدم المستعمل هنا، يدلّ في العهد القديم، على العبادة المؤدّاة لله. ومع ذلك، تستعمله عب لعبادة الأشياء من صورة وظلّ، وهذا منتهى السخرية. ويلاحظ فانوا في هذا الإطار الهجوميّ أن عب ترى في نظم العهد القديم، مستويين: هي إقتداء بنموذج إلهيّ موجود منذ البدء. ولكن لها أيضًا وظيفة نبويّة لأنها تصوّر مسبقًا تحقيق مخطّط الله. يجب أن لا ننسى هذه النظرة حين نرى العلاقات التي تضعها عب بين القديم والجديد.
ب- العهد (8: 7- 13)
إن انتقاد العهد الذي بدأ في الآية السابقة يحتلّ هنا المكان كلَّه. تبدو البراهين شبيهة بما في 7: 11ي. هي تستند إلى إر 31: 31- 34 لتدلّ على عجز الميثاق (العهد) القديم. وسيعود نصّ إرميا في 10: 16- 17 بشكل إيجابي. أما هنا فنلاحظ قوّة التعارض: تحدّثت عب عن عهد يحلّ محلّ العهد القديم: "صار قديمًا وقريبًا من الزوال" (8: 7). لسنا أمام ميثاق (عهد) قديم يتجدّد، بل أمام شيخوخة سبّبها وصولُ عهد آخر، أفضل من الأول ويحلّ محلّه. ففي صور المزج المختلفة بين القديم والجديد، نجد هنا أفضل صورة عن عدم التوافق بين العهدين. لهذا حلّ واحدٌ محلّ الآخر.
ج- وصف العبادة القديمة (9: 1- 10)
إذ أرادت عب أن تدلّ على شيخوخة العهد القديم، حوّرت شعائر عبادته وهيكله. وبدأت فتحدّثت عن عدم جدواها (آ 8- 10). وأبرزت صورةُ الهيكل نظامَ الفعل المعمول به في الميثاق القديم. ما دخلت عب في التفاصيل (آ 5)، ولكنها اكتفت بتصوير أثاث الخيمة الأولى المسمّاة القدس، والخيمة الثانية المسمّاة قدس الاقداس. يستند الوصف إلى خر 25- 26؛ 40. والوعاء الذي يحوي المن يعود إلى خر 16: 32- 34. وعصا هارون إلى عد 17: 16- 25. ووجود خيمتين يدلّ على فعل يتحوّل في منطق عب إلى خفض وإنقاص: ترتبط بالخيمة (أو: المسكن الأول) الأولى خدمةُ الكهنة التي تدوم (في كل وقت، آ 16). وترتبط بالثانية خدمةُ عظيم الكهنة الفوق عادية (مرة في السنة، آ 7). فالكهنة الذين يمارسون خدمتهم في كل وقت، يُمنعون من الدخول إلى أقدس موضع في المعبد. وعظيم الكهنة الذي يمارس خدمته، لا يستطيع أن يدخل سوى مرة واحدة. وأن يُوصف الهيكل بـ "الأرضيّ" هو إنقاص أيضًا. ففي نظر يوسيفوس يمثّل الهيكلُ الكون. وفي نظر فيلون تمثّل ألبسةُ الكاهن الكون، وحجاب الهيكل يمثل المسكونة. ارتبطت الصفة "الأرضيّ" بالآية 10 التي تصف طقوسًا بشرية فقط، فبدت سلبيّة في عب. هي تتيح للكاتب أن يُدخل التعارض بين الأرضي والسماوي، بين اللاكامل والكامل (رج تي 2: 12).
وتوافق آ 8- 10 على التوسّع الانقاصي حول الهيكل والعبادة. فترتيبات الشريعة الليتورجيّة التي هي في أساس التمييز بين العبادة العاديّة في القدس والعبادة الفوق عادية في قدس الاقداس، هي طريقة أراد بها الروح القدس أن يبيّن أن الطريق إلى المقدّسات غير مفتوحة. لا الطريق إلى المعابد (إلى المقادس) التي هي مقام ا& على الأرض، بل المعبد السماويّ الذي نجد نسخة عنه ورمزًا في قدس الأقداس. هذا التقييم السلبيّ للعبادة يهيّئ الطريق لوصف ايجابي لعبادة المسيح. في 8:،2 المسيح هو خادم المعبد الحقيقي والخيمة (أو المسكن) الحقيقيّة التي نصبتها يد الرب لا يد البشر. وتستعيد آ 9 مسألة "الإكمال" (أو الكمال). في آ 8 نجد ألفاظًا عن المساحة والحركة. في آ 9 عن التحوّل الشخصيّ.
ج ج- وصف عبادة المسيح (9: 11- 14)
ونصل هنا إلى الوصف الايجابي، وصف عبادة المسيح، وهكذا ننتقل من مستوى إلى مستوى: »أما المسيح«. هناك كاهن آخر، خيمة أخرى، دم آخر، عهد (ميثاق) آخر. وحسب سبيك لا تعارض عب مؤسّسة أخرى بالمؤسّسة القديمة، بل هذه المؤسّسة بـ "شخص عظيم الكهنة الخادم في الهيكل السماوي وفاعليّة ذبيحته".
يُوصف هذا المسيح منذ البداية على أنّه "حبر الخيرات الآتية". دخل هذا الحبر مرة واحدة إلى المعبد فنال بذلك الفداء الأبديّ. لاحظ الشرّاح وجود الاداة "ديا" (بواسطة) ثلاث مرات، من أجل تقييم الوسائل التي استعملها المسيح لينال الفداء الأبدي. ولكن يبقى الجدال قائمًا حول مدلول الخيمة الأعظم والاكمل. أوجز سبيك تفسيرات الآباء في هذا المجال. أوغسطينس وامبروسيوس قالا إن الخيمة هي بشريّة المسيح. بها دخل إلى المعبد. ولكن هل نستطيع أن نقول إن هذه البشرية ليست من هذه الخليقة (آ 11)؟ لهذا فسّر سبيك هذه الآية في معنى كوسمولوجي (على مستوى الكون): "إن يسوع، بعد قيامته وصعوده، اجتاز السماوات ليصل إلى حضرة الله". ولكن شّراحًا آخرين رأوا في هذه الخيمة السماء المتوسطة، سماء الملائكة.
أما فانوا فيرى أن الخيمة هي الهيكل الذي بُني في ثلاث أيام في آلام المسيح وقيامته. هذا التفسير يلتقي بالتقليد الانجيليّ. وهكذا نفهم أن تكون هذه الخيمة "غير مصنوعة بأيدي البشر"، لأن القيامة هي عمل الله. قادت المسيح إلى التمجيد عبر سرّ الآلام، فهي تمنحه الكمال الذي يجعله حبرًا فاعلاً . وأن يقال عن الخيمة أنها "أعظم"، يقرّبنا من واقع يقول إن المسيح القائم من الموت هو في علاقة مع جميع البشر: به يستطيعون كلهم أن يدخلوا لينالوا الفداء (10: 19- 20).
وتقدّم آ 12- 14 مفردات الدم الذبائحيّة. فالتعارض بين دم التيوس ودم المسيح، يقود إلى التشديد على الوجهة الخاصة لتقدمة المسيح الذي يلعب في الوقت عينه دور الكاهن ودور الضحيّة. فالمسيح كضحيّة هو "بلا عيب". وككاهن هو مؤهَّل كل التأهيل. عبّرت عب عن هذا التأهيل حين قالت إن المسيح قدّم نفسه "بالروح الأزلي" (9: 14). هو روح حاضر في المسيح الذي سيكرّس (سيقدّس) الضحيّة ويجعلها التقدمة التي ترضي الله.
ب ب- أساس العهد (9: 15- 23)
وننتقل من الموضوع الذبائحي إلى موضوع العقد المختوم بالذبيحة. ويظهر ار 31 هنا أيضًا كما في 8: 12. فالعهد الذي وسيطه المسيح هو جديد. في إرميا ارتبط العهد بمحو الخطيئة (31: 12). أما عب فأعلنت أن موت الوسيط والموصّي هو للفداء من التجاوزات. ترتكز أصالةُ البرهان على توسّع فكرة تقول إن موت الموصّي ضروريّ لكي تصبح الوصيّة نافذة. وإذ فعلت عب هذا، توسّعت في معنيين ممكنيين للفظة "دياتيكي": عهد ووصيّة. وترد في آ 22 فكرة تقول إن الدم يطهّر. وهكذا كان تقارب بين موت المسيح وذبيحة العهد. وتختتم آ 23 البرهان دون أن تضيف شيئًا حول كهنوت المسيح.
أ أ- المستوى الأخير للعبادة (9: 24- 28)
حين دخل المسيح إلى السماء تجاوز مستوى العبادة الأرضيّة التي يُحتفل بها في هيكل هو نسخة عن الهيكل الحقيقيّ. فالمستوى الأخير للعبادة يميَّز بأنه لا يتجدّد كل سنة. مرّة واحدة تكفي. ولا تتردّد عب في الدلالة على الزمن الذي فيه تجلّى المسيح ليزيل الخطيئة: إنه نهاية الأزمنة. فنهاية الأزمنة هذه تلغي تكرار العبادة القديمة، وتدشّن "المرة الواحدة" في امّحاء الخطايا. ولن يكون مجيء يسوع الثاني تكرارًا للأول: سيكون تجليًا لا علاقة له بالخطيئة "للذين ينتظرونه من أجل الخلاص" (9: 28).
4- فاعليّة الكهنوت الجديد (10: 1- 18)
إن العبادة الذبائحيّة تقود حتمًا إلى الكمال الذي لا نحصل عليه في نظام الشريعة التي تشرف على الذبائح. فضعفها الجذريّ (10: 1، 4، 11) تشرحه آ 1: "لا تملك الشريعة سوى ظلّ الخيرات الآتية، لا جوهر الحقائق". وهكذا يرتبط عمل الشريعة التقديسيّ بعمل المسيح. ولكنّه رباط معارضة كما الظلّ والحقيقة. لهذا يكون الواحد عقيمًا والثاني فاعلاً. ودلّ الكاتب على عدم جدوى الذبائح والوظائف الخدميّة لدى كهنة العهد القديم، مشدّدًّا على كثرتها (10: 1) وتواترها (10: 11). ذهب الانتقاد هنا أبعد ممّا نجد عند الأنبياء الذين هاجموا استعدادات قلب سيّئة ترافق الذبائح. أما هنا، فحكم قاطع على لا جدوى تامة لهذه الذبائح.
أخذت الإيرادات الثلاثة (10: 4- 9) من المزامير وأسفار الأنبياء، فساندت البرهان الذي يقدّم نقيضة نوجزها كما يلي: إلغاء العبادة الأولى. إقامة العبادة الثانية (10: 9). نستطيع أن نرى في استشهاد مز 40: 7 (حسب اليوناني) تلميحًا إلى التجسّد، ونلاحظ كيف أن »الجسد« صار تقدمة ترضي الله ساعة رفُض دم العجول والتيوس تقدمة (10: 4، 5، 10). فتقدمة المسيح هي التي تتمّ مشيئة الله (10:7)، لا الذبائح التي تفرضها الشريعة. وتوضح آ 12ي فاعليّة ذبيحة المسيح للذين يقدّسهم. "هو يقود إلى الكمال" أولئك الذين يقدسّهم. فآلام المسيح ودخوله إلى السماء، عن يمين الله، قادته إلى الكمال وأتاحت له أن يحّول البشر حقًا. هؤلاء لا يصيرون وسطاء معه، بل يقدَّسون به ويصيرون أهلاً لأن يقدّموا عبادة ترضي الله.
إن 10: 1- 18 نصّ مهمّ جدًا. أولاً تحدّد طبيعتَه ذبيحةُ المسيح المرتبطة بكهنوته. تتضمّن هذه الذبيحة الموت كتقدمة جسده (10: 10) كما تقوم جوهريًا بتتميم مشيئة الله (10: 19). من هذا القبيل قدّم يسوع جسده. ثانيًا: لم يعد من ثنائيّة بين أولئك الذين يمارسون الكهنوت والضحايا المقدمّة كذبائح (10: 4): فالمسيح هو المقدِّم والمقدَّم معًا، وموضوع ذبيحته هو تقدمة ذاته لله في تتميم مشيئته. وكهنوته هو ممارسة وساطة تتمّ العهد الجديد بين الله والبشر، وتصنع غفران الخطايا (10: 16- 18). ثالثًا: الكهنوت وذبيحة المسيح يضمّان في فعل واحد كل وجوده منذ دخوله إلى العالم (10: 5) حتى جلوسه السماوي عن يمين الله (10: 12- 13). والتلميحات المتكرّرة إلى جسد المسيح على أساس مز 40: 7 المحوَّل من أجل البرهان (10: 5ب)، بيّن أن الكاتب جعل أمامه تجسّد المسيح، ونظر إليه كأساس كهنوته. وهذا الموضوع يتوسّع فيه الكاتب داخل نظرة سماويّة.
5- الوضع المسيحي (10: 19- 39)
هذا الجزء يشكّل حضًا على العيش المسيحي. فتح المسيح الطريق وهو يتيح لنا الدخول إلى المعبد (10: 19). ويفترض كلُّ البرهان إزالة الحواجز التي شكّلت احترامَها الدقيق العبادةُ »القديمة«. أما في العبادة الجديدة، فوحدة المسيحي مع المسيح تجعله يدخل معه إلى المعبد بحيث لا ينفصل الشعب عن الكاهن. في المعبد يقدِّم المسيحيون "الذين تقدّسوا بالمسيح"، ذبائحَ هي واقع حياتهم التي هي التقدمة الوحيدة التي ترضي الله. والعبادة في المسيح تقود إلى تحوّل الحياة تحوّلاً يعبّر عنه الإيمان والرجاء والمحبّة (آ 22- 25). وهكذا نصل إلى الكنيسة التي ترتبط بذبيحة المسيح.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM