الفصل السابع عشر الكهنوت في الاناجيل وأعمال الرسل

الفصل السابع عشر
الكهنوت في الاناجيل وأعمال الرسل

نترك الرسالة إلى العبرانيين من أجل فصلين لاحقين. ونتوقّف هنا أولاً عند الكهنوت اليهودي في الأناجيل وأعمال الرسل. ثم عند كهنوت المسيح.
1- الكهنوت اليهوديّ في الأناجيل وأعمال الرسل
أ- الكهنة
نجد لفظة كاهن عشر مرات في الأناجيل الإزائية، مرّة واحدة في يو، وثلاث مرات في أع، بينها مرة واحدة يتحدّث فيها 14:9 عن كهنة زوش.
أولاً: في أخبار الطفولة
لا تظهر اللفظة أبدًا عند متى. ولكنّنا نجدها في لو 1: 5: "كان في زمن هيرودس، ملك اليهودية، كاهن اسمه زكريا، من فرقة أبيا«. هذه الفرقة هي الثامنة بين الفرق الأربع وعشرين المذكورة في 1أخ 24 (رج آ 10). إن المقطع الانجيلي (لو1: 5- 25) الذي يتحدّث عن زكريا مملوء بكلمات خاصة بطقس التقدمة اليوميّة التي يقرّبها الكهنة في الهيكل. هناك "الكاهن"، "وظيفة الكاهن"، "مارس وظيفة الكاهن" "المعبد". "أحرق البخور"، "تقدمة البخور"، "المذبح". ونلاحظ أيضًا أن اليصايات انتمت إلى نسل هارون. وهكذا نكون أمام عائلة متجذّرة في السلالة الكهنوتيّة. هذا الواقع مهمّ في نظر لوقا الذي يجعل خبره كله في مناخ من التقوى والعبادة.
نستطيع أن نعنون لو 1: 5- 25، إعلان ولادة يوحنا وبداية التتمّة. هذا التشديد على التتمّة يتيح لنا أن نلاحظ أمرين في ما كتبه لوقا. الأول هو أن لوقا لا ينتقد المؤسّسة الكهنوتيّة. فخلال القيام بشعيرة عبادة عاديّة، حصل الظهور الالهيّ. الثاني، هو أنه بعد هذه المقطوعة لن يذكر لوقا الكهنة، مع أنه كان بالامكان ذكرهم بمناسبة تقديم يسوع إلى الهيكل (لو 2: 24؛ رج لا 2: 8؛ عد 6: 10) أو حادثة يسوع مع المعلّمين في الهيكل (لو2: 46 يتحدّث عن المعلّمين لا عن الكهنة). فلوقا لا يهتمّ في الدرجة الأولى بأن يصوّر بالدقّة المطلوبة سير عمل المنظمات وشعائر العبادة في العالم اليهوديّ. في ف 4، أرانا مسيرة الليتورجيا في المجمع، ولكنه لم يذكر قراءة الشريعة (آ 16ي). إن امّحاء الكهنة في أخبار الطفولة بعد المقطوعة المكرّسة لزكريا، تتيح للانجيليّ أن يقود خبره المركّز على يسوع خارج الدائرة الكهنوتيّة حيث بدأ. وقد لاحظ الشرّاح التعارض بين نطاق العبادة مع الهيكل وليتورجيّته التي دخلت فيها البشارة بمولد يوحنا، ونطاق خاص وفرديّ مع بشارة مريم في قرية منسيّة.
ثانيًا: في سائر الإنجيل
في النصوص المشتركة بين الإزائيين، هناك نصّان يتعلّقان بالكهنة: مر1: 44 وز؛ 2: 26 وز. إن مر1: 44 (= مت 8: 4 = لو5: 14) يقع في مقطوعة تطهير الأبرص الذي أرسله يسوع إلى الكاهن ليلاحظ طهارة هذا المريض ويردّه إلى الحياة في المجتمع (لا 14: 2- 32). أشار الشرّاح إلى عمل يسوع ودوره المزدوج: من جهة، خضع لضرورة تأكّد الكهنة من شفاء هذا المريض بحسب طلب الشريعة. ومن جهة ثانية، تجاوز الشريعة حين لمس الأبرص. في الوقت عينه قال: "يكون لهم شهادة". تدهشنا صيغة الجمع (هم)، لأن "الكاهن" في النصوص الثلاثة هو في صيغة المفرد. فيسوع يتطلّع من خلال الكاهن إمّا إلى السلطات الدينيّة بشكل عام، وإما إلى الشعب. أجل هذا الأبرص سيحمل البشارة إلى الكهنة الذين لن تكون لهم مناسبة ليسمعوا يسوع ويفهموا أنهم أمام آية مسيحانيّة (شفاء البرص).
هناك مقطع في لو17: 11- 19 قريب ممّا وجدنا في الأناجيل الإزائيّة. ترينا المقطوعة عشرة برص جاؤوا إلى يسوع. فأرسلهم إلى "الكهنة" ليروا أنفسهم أنهم شفوا (آ 14). في هذا النص لا يلمس يسوع البُرص، بل يشفيهم من بعيد، فيراعي قواعد الطهارة مرسلاً الرجال العشرة ليُروا نفوسَهم للكهنة. ولكن الشكر يتمّ في الهيكل حيث حضور الله. أما الذي شُفي وعاد إلى يسوع، فقد أعطى مناسبة ليسوع ليقول: "أما كان فيهم من يرجع ليمجدّ الله سوى هذا الغريب" (آ 18)؟ أجل صار يسوع الهيكل الجديد.
ولمحّ مر 2: 26 (= مت12: 4؛ لو6: 3) إلى حدث من 1صم 21: 2 = 7 حيث نرى احيمالك، كاهن معبد نوب، يعطي داود من خبز التقدمة (الخبز المكرّس). تفرّد مرقس فذكر اسم الكاهن: أبياتر بدل احيمالك كما في التوراة (رج 2 صم 8: 17 حيث نقرأ احيمالك بن ابياتر). توخّى الحدث أن يبيّن القيمة النسبية لما يحرَّم هنا، ويربط هذه النسبّية بسيادة ابن الانسان على السبت (مر 2: 28 = مت 12: 8 = لو 6: 5). وزاد مت على ذلك اعتبارًا حول ممارسة الكهنة في الهيكل في يوم السبت (12: 5؛ رج لا 24: 5- 9؛ عد 28: 9- 10): "الكهنة ينتهكون حرمة السبت في الهيكل ولا لوم عليهم". إن المثل الذي أخذه يسوع يقع في قلب مقدّسات الهيكل، ومع الكهنة الذين ينتهكون بطريقة شرعيّة، وصيّة تُعتبر مطلقة. ويدلّ مت 12: 6 أن هناك موضعًا أهمّ من الهيكل: نشاط المسيح أو يسوع نفسه. وهكذا نكون أمام "موضعين"، حيث الموضع الثاني (يسوع) هو اسمى من الموضع الأول (الهيكل). والتجاوز الشرعيّ للسبت في الموضع الأول يؤكد شرعيّة تجاوز السبت في الموضع الثاني: ما أخطأ الكهنة (آ 5). إذن، ما اخطأ التلاميذ (آ 8). والايراد من هو 6: 6 يحافظ على النصّ في إطاره العباديّ مع ذكر الذبيحة (آ 7). وفي الوقت عينه يحافظ على المستويين اللذين عندهما يتحدّد على التوالي موقع الذبيحة وموقع الرحمة. الرحمة هي موضوع إرادة الله، لا الذبيحة.
ونجد ذكرًا لكاهن في مثل السامريّ الصالح كما نقرأه في لو 10: 30- 27. ما أراد الكاهن أن يصير قريبًا من الجريح بسبب اهتمامات الطهارة الطقسيّة (لا 21: 1- 2). لا يقول النصّ شيئًا عن موقف الكاهن، ولا عن موقف اللاوي الذي ظلّ هو أيضًا بعيدًا عن الجريح (آ 31-32).وهكذا بدا الكاهن واللاوي وجهين "قبيحين"، فهيّأا الطريق لتصرّف السامريّ.
في يو، ترد مرّة واحدة لفظة "كاهن". وهي ترد مع لفظة "اللاويين". نحن في بداية شهادة يوحنا المعمدان: أرسل اليهود إليه "كهنة ولاويين" ليسألوه (1: 19). إن اعلان المعمدان حول هويّته، يتمّ أمام وفد رسميّ أرسل من أورشليم. ويحدَّد في الوقت عينه دورُ السابق بالنسبة إلى "ذلك الذي لا تعرفونه" (آ 26). وهكذا نكون أمام شهادة ليسوع ويوحنا منذ البداية تقدَّم للكهنة واللاويين الذين أرسلهم يهود أورشليم.
ثالثًا: في أعمال الرسل
يستعمل أع ثلاث مرّات لفظة "كاهن". في 4: 1، يجد بطرس ويوحنا نفسيهما أمام الكهنة ورئيس حرس الهيكل والصادوقيين. هناك مخطوطات تقول: "الكهنة". "وأخرى" "رؤساء الكهنة". في أع 6: 7 نقرأ إجمالة حول نموّ كلمة الله، تدلّ على أن عدد التلاميذ يتكاثر جدًا في أورشليم، وتضيف: "واستجاب (خضع) للايمان كثير من الكهنة". نحن هنا أمام عبارة بولسيّة (رج روم 1: 5؛ 16: 26). من كان هؤلاء الكهنة الكثيرون الذين يرتدّون إلى الإيمان الجديد؟ هناك من تحدّث عن الكهنة الاسيانيين، ولكن البرهان ظلّ ضعيفًا. كان عدد الكهنة كبيرًا في أورشليم، ليعلن لوقا بنبرة احتفاليّة، انتقال الكهنة إلى الإيمان المسيحي.
2- عظماء الكهنة
ترد عبارة "عظماء الكهنة" 83 مرة في الأناجيل الأربعة، و62 مرة في الأناجيل الازائيّة.
أولاً: في الأناجيل الازائية
أول مرّة يُذكر عظماء الكهنة هو الإنباء الأول بالآلام، وهذا أمر له معناه. نقرأ في مت 16: 21: "يجب عليه (= ابن الانسان) أن يذهب إلى أورشليم ويتألّم كثيرًا على أيدي شيوخ الشعب ورؤساء الكهنة والكتبة" (رج مر 8: 31؛ لو 9: 22). وهكذا تحدّد المناخ. فعظماء الكهنة في الأناجيل الازائيّة، هم جزء من الذين يرفضون يسوع ويلعبون دورًا رئيسيًا في الحكم عليه. وإذا كان خصومُ يسوع الفريسيين خلال حياته العلنيّة، فالأمور تتبدّل وقت المحاكمة: رؤساء الكهنة هم الذين يأخذون المشعل. إن المتهمين الأولين ليسوع هم عظماء الكهنة، وحدهم (مر 15: 3- 11) أو مع خدّامهم (يو 19: 6). ولكن عمّم التقليد فذكر شيوخ الشعب (مت 27: 12- 20) والسنهدرين أو المحكمة العليا (لو 22: 66) والرؤساء (لو23: 13) والشعب (لو 23: 4- 13) وأخيرًا "اليهود" عند يوحنا.
ثانيًا: في أعمال الرسل
يُذكر الكهنة قليلاً في أع، وُيذكر عظماء الكهنة (أو: عظيم الكهنة) بدورهم السلبي تجاه الكنيسة. في 4: 6، جميع أعضاء عائلات عظماء الكهنة هم هنا مع حنان الكاهن الاعظم وقيافا ويوحنا والاسكندر لاستجواب بطرس ويوحنا (رج 4: 1؛ 4: 23). ونعرف في 4: 15 أن المحاكمة تكون أمام السنهدرين. وبدا رؤساء الكهنة هنا وكأن في يدهم سلطة تخوّلهم بأن يأخذوا قرارًا ضدّ الاشخاص. وتحدّث بطرس إلى الجماعة فقال: "يا رؤساء الشعب وأيها الشيوخ"، فدلّ على السلطة التي يتمتّع بها عظماء الكهنة. وأع يحتفظ دومًا بوظيفة الرئيس والمسؤول. في 5: 17، قبض رئيس الكهنة وحاشيته على الرسل. ويحدّد الخبر: "حزب الصادوقيين" (آ 21، 24، 27).
في ف 6، يسأل عظيم الكهنة اسطفانس، وهو يلعب دور رئيس السنهدرين المذكور في آ 12، 15. في ف 9، أخذ بولس من عظيم الكهنة رسائل إلى مجامع دمشق (آ 2؛ رج 2: 5؛ 26: 10، 12) ليقبض على المسيحيين هناك. وسيجد بولس نفسه أمام هذه السلطة عينها حين يأمر القائد "رؤساء الكهنة وجميع أعضاء مجلس اليهود أن يجتمعوا" (22: 30). وبأمر رئيس الكهنة حنانيا نال بولس صفعة (23: 2). ونلاحظ هنا أيضًا أن بولس يتوقّف عند صفة "الرئيس"، لا الصفة الكهنوتيّة عند عظيم الكهنة. وسيتوجّه "اليهود" إلى عظماء الكهنة والشيوخ، حين يتآمرون لكي يقتلوا بولس (23: 14). في 24: 1، اشتكى على بولس عظيم الكهنة حنانيا يرافقه عدد من الشيوخ. وفي قيصرية، لاحق عظماء الكهنة والوجهاء بولس مرّة أخرى (25: 2- 5).
إذن بدا عظماء الكهنة كالفاعلين الأساسيين الذين يعارضون عمل التلاميذ في خدمة الكلمة. نراهم في دورهم كرؤساء، ولا نراهم أبدًا يمارسون دورهم الكهنوتي على المذبح. هذا من جهة. ومن جهة ثانية، الدور الخفر الذي لعبه الكهنة العاديون في أع، يجعلنا نحسّ أن لوقا ترك جانبًا مؤسّسة الكهنوت اليهودي. نحن نلاحظ أن التلاميذ يؤمّون الهيكل (2: 46) للصلاة (3: 1). ونلاحظ أن بولس يقوم بطقس التطهير مع أناس، إيفاء لنذر، ويذهب إلى الهيكل ليعلن "الموعد الذي تنقضي فيه أيام الطهور حتىّ يقدّم فيه القربان عن كل واحد منهم" (21: 26؛ رج 18، 18). ولكنّنا لا نرى التلاميذ يومًا يشاركون في الذبائح.
ثالثًا: إنجيل يوحنا
إن الدور الذي لعبه عظماء الكهنة أو عظيم الكهنة في يوحنا، لا يختلف عمّا في الازائيين. فمسؤوليتهم واضحة في الأحداث التي قادت يسوع إلى الموت. ولكن نشدّد على بعض الأمور الخاصة:
. بدأت مداخلتهم باكرًا في الخبر. فمنذ 7: 33 نعرف أن "عظماء الكهنة والفريسيين" أرسلوا حرسًا ليقبضوا على يسوع . ولكن محاولتهم فشلت (7: 45- 46).
. بدا التقارب واضحًا بين عظماء الكهنة والفريسيين أكثر ممّا في الازائيين. مت 21: 45؛ 27: 72؛ يو 7: 32-45؛ 11: 47-57؛ 18: 3. ولكن سيختفي الفريسيون بعد 18: 3، أي بعد القبض على يسوع ليتركوا المسؤوليّة على عظماء الكهنة.
. تفرّد يوحنا فذكر مثول يسوع أمام حنان (18: 13ي). في 18: 19- 22، تدلّ عبارة عظيم الكهنة على حنان أو ربما على قيافا الذي يسأل يسوع في بيت حميّه. مهما يكن من أمر هذه المسألة الصعبة، فالشخصان "مرتبطان" برئاسة الكهنوت، وقد جعلهما يوحنا بهذه الصفة في خبره. وقيافا "الذي كان عظيم كهنة في تلك السنة" (11: 49؛ 11: 51؛ 18: 13) يتميّز في الخبر "بنبوءته" التي لم يع أبعادها في 11: 49- 53. فالخبر يُقرأ عند يوحنا على مستويين: إن الإعلان السياسيّ والواقعيّ لدى عظيم الكهنة، يتّخذ مدلولاً آخر ويصبح نبويًا، وإمكانية التنبؤ ترتبط بصفته عظيم كهنة. يلاحظ الشرّاح أن موهبة النبوءة ارتبطت بوظيفة عظيم الكهنة، بمعزل عن صفات الشخص على المستوى الأدبي.
2- كهنوت المسيح
أ- إشارات عن كهنوت المسيح
أكدّت الرسالة إلى العبرانيين بوضوح كهنوت المسيح. فبحث الشرّاح عن إشارات تدلّ على علاقة يسوع بالكهنوت، في سائر كتابات العهد الجديد. ولكن جاء الحصاد ضعيفًا. قال الاب فانوا: "لا نستطيع القول إن التقليد الإنجيلي يقيم علاقات عديدة بين "سر" يسوع وشعائر العبادة الكهنوتيّة. أما فوييه فاكتشف أعمالاً كهنوتيّة عند يسوع: حين بارك الأطفال، وطرد الشياطين، وغفر الخطايا فصالح البشر مع الله. ولقب "قدوس الله" (مر 1: 24؛ رج يو 6: 69) الذي أعطاه المتشيطن ليسوع، هو لقب كهنوتي، لأن الكهنة كانوا يسمّون "مقدَّسين للربّ" (لا 21: 6؛ 2أخ 23: 6؛ 25: 3). ولأن عظيم الكهنة كان يضع على جبينه صفيحة من ذهب حُفر عليها "قداسة يهوه" (حز 28: 36). وطبّق يسوع على نفسه مز110 حيث المسيح هو كاهن وملك معًا حسب رتبة ملكيصادق (مر 12: 35- 36 وز؛ 14: 62 وز). في خبر التجلّي، اللون الأبيض لثوب المسيح قوبل باللون الأبيض لعظيم الكهنة، والمجد الذي غطّى يسوع يقرَّب من المجد الذي تنسبه التقاليد اليهوديّة المتأخّرة للزينة الكهنوتيّة والوظيفة التي يقوم بها الكهنة. في لو 24: 51، بارك يسوع تلاميذ قبل أن يتركهم ويصعد إلى السماء. هذه المباركة الاحتفالية تذكّرنا بمباركة عظيم الكهنة (سي 50: 22) أو ملكيصادق الذي هو صورة المسيح الكاهن حسب عب 7: 1، 6، 7. ويرى عدد من الشرّاح أنه حين تأمّن الطابع الذبائحيّ للطقس الذي أتمّه المسيح في العشاء الأخير، برز الموقف الكهنوتي الذي اتّخذه يسوع في تلك المناسبة.
وعاد الاب فوييه إلى الرسائل. في أف 5: 2: "سيروا في المحبّة سيرة المسيح الذي أحبّنا وضحّى بنفسه من أجلنا قربانًا وذبيحة لله طيبّة الرائحة". وفي روم 8: 34: "المسيح يسوع هو الذي مات. بل قام، وهو الذي عن يمين الله يشفع لنا". وهناك موضوع الدخول الذي نقرأ عنه في روم 5: 1- 2: "بربنا يسوع المسيح الذي به نلنا أن ندخل إلى هذه النعمة التي نحن مقيمون فيها". رج أف 2: 4- 8؛ 1 بط 3: 18: "فإن المسيح أيضًا مات مرة من أجل الخطايا هو البار عن الاثمة لكي يدخلنا إلى الله". وفي أع 7: 56، نرى ابن الإنسان جالسًا عن يمين الله. ويشدّد الاب فوييه أخيرًا على أهميّة عودة العهد الجديد إلى أش 53: "كل مرة يُذكر في العهد الجديد دورُ المسيح انطلاقًا من التقدمة التي فيها يقدّم عبد يهوه نفسه، يقدّم لنا يسوعُ بكلمات خفيّة ككاهن العهد الجديد". وفي النهاية هناك تأسيس الافخارستيا.
لا يتّفق الشرّاح على هذا الموقف. مثلاً، في روم 8: 34، نتحدّث عن وظيفة المسيح القائم من الموت، الذي هو عن يمين الله، حسب مز110. "إذا رأينا في دور المتشفّع هذا دورًا كهنوتيًا، فلا يمكن أن يكون إلا خارج تنصيب يختلف كل الاختلاف عن تنصيب الكهنوت اللاوي، كما في عب".
في نهاية المطاف، لا ننسى أننا لا نجد ذكرًا لكهنوت المسيح خارج عب. هناك تقاربات قد تكون مفيدة مثل مباركة يسوع لتلاميذه في لو 24: 50- 51 وارتباطها بمباركة الكاهن. ولباس يسوع غير المخيط (يو 19: 23) يذكّرنا بلباس عظيم الكهنة. ولكنّنا لا نجد هنا ذكرًا واضحًا لكهنوت المسيح.
ب- يو 17
ونتوقّف بشكل خاص عند يو 17 حيث الجدال صار حاميًا حول كهنوت المسيح. منذ زمن بعيد سمّيت هذه الصلاة "الصلاة الكهنوتيّة". وأراد عددٌ من الكتّاب أن يبرزوا شخص المسيح في موقف كهنوتي وهو يقدم نفسه، بل يشرك تلاميذه في تكريسه الكهنوتي والذبائحي.
ذكر فوييه أولاً الخلفيّة الليتورجيّة (خلفيّة افخارستية) لصلاة يو 17. ثم قدّم موازاة بين صلاة يسوع والليتورجيا اليهوديّة لعيد التكفير: إن يو 17 يذكّرنا بيوم كيبور من وجهين: ببنيته أولاً، ثم بمضمونه. واختار بنية في ثلاثة أقسام: صلاة يسوع من أجل نفسه (آ 1- 5). صلاة من أجل رسله (آ 6- 19). صلاة من أجل الشعب (آ 20- 26). هذه الأقسام الثلاثة تذكّرنا بأزمنة التكفير الثلاثة التي يقوم بها عظيم الكهنة في كيبور: "من أجل نفسه، من أجل بيته (= كهنوت اسرائىل). وأخيرًا من أجل الشعب المختار (لا 16: 1ي؛ 18: 26- 32؛ عد20: 7- 11). نجد أن هذه البنية قد تبدو في جزئين. في يو 17 كما في كيبور: "فصلاة يسوع عن نفسه وصلاته عن تلاميذه ترتبطان ارتباطًا حميمًا.
وعاد فوييه إلى مستوى المضمون، فاكتشف تشابهين اثنين. الأول هو التشديد على الكشف عن اسم الآب. والثاني هو دخول المسيح في المسكن السماوي. وذكّر أن اسم يهوه الذي لا يُذكر عادة، يتلفّظ عظيم الكهنة به مرّات عديدة في يوم كيبور. في يو ،17 يُذكر اسم الآب" أربع مرات (آ 6، 11، 12، 26). في يوم التكفير يدخل عظيم الكهنة إلى قدس الأقداس. وفي يو17 يؤكّد يسوع أنه يذهب إلى الآب في هذا المسكن السماوي الذي كان هيكلُ أورشليم رمزَه البدائي. ونجد أيضًا فكرة تقول إن دخول المسيح إلى المعبد السماويّ تترافق مع توسّل ملحّ يتوجّه إلى الآب السماوي لكي يُحفظ التلاميذ من الشرّ ويتقدّسوا. ومجمل الكلام، عودة يسوع إلى بيت الآب تقيمه بشكل نهائي في وظيفته كوسيط كهنوتيّ مهمّة الصلاة من أجل الناس الذين صاروا تلاميذه. وهكذا نكون أمام الدور المذكور في نهاية أش 53: حين قبل عبد يهوه (يسوع) أن يكون الضحيّة التكفيريّة عن خطايا البشر، صار متشفِّعًا لهم لدى الآب.
إن العودة إلى أش 53 تلعب دورًا حاسمًا في تأويل يو 17، لانها تجعلنا نسمّي المسيح كاهن العهد الجديد. هذه العودة إلى عبد يهوه نجدها في مقاطع عديدة من العهد الجديد: في أخبار تأسيس الافخارستيا، في مشهد غسل الأرجل (يو 13). وعبارة "وضع نفسه لأجل" (يو 10: 11، 15، 17، 18؛ 13: 37- 38؛ 15: 3؛ 1يو 3: 16، يضحّي بنفسه) تلتقي عمليًا وعبارة أش 53: 10: "حين يقدّم العبد نفسه ذبيحة تكفيريّة". وعبارة "أقدّس (أكرّس) نفسي لأجلهم" "تعني: "أقدّم نفسي ضحيّة"، وتلتقي مع "وضع نفسه". وهكذا يرتبط فعل "قدّس" (17: 19) مع فكرة التقدمة الكهنوتيّة. إن يسوع يقدّم نفسه ذبيحة تكفيريّة. في يو 17: 19 يعبِّر النصّ عن ذبيحة المسيح بهذه العبارة: "أقدّس نفسي لأجلهم". وهذا ما يُحيلنا إلى ذبيحة عبد يهوه. ولكن نظرة أش 53 بجمالها، ستُرفع وتتجلّى، لأن الضحيّة الذبائحيّة لم تَعُد فقط انسانًا مقدسًا مثل عبد يهوه، بل ابن الله المتجسّد.
تحفّظ بعض الشرّاح تجاه نظريّة فوييه. طلب فانوا عدم المزج بين تلميحات غير أكيدة وتأكيدات واضحة. واستعاد جان دالورم مجمل برهان فوييه حول أش 53، ولاحظ أن اللغة الذبائحيّة تُستعمل هنا على سبيل الاستعارة. فالاستعمال الاستعاري للغّة الذبائحيّة لا يفرض بالضرورة ذات الاستعمال في اللغة الكهنوتيّة. فيجب على مسيرة الاستعارة أن تمتدّ من وظيفة الكهنة إلى حقّهم بأن يقوموا بها. هناك ألقاب توارتيّة تدلّ على يسوع: النبي، المختار، قدوس الله، المسيح، خادم الله. وكان يمكن أن يُعطى لقب "عظيم كهنة" بتفسير ذبائحيّ لموت يسوع. ولكن هذا لم يظهر إلا في الرسالة إلى العبرانيين. هذا يعني أن التطبيق لم يكن سهلاً بسبب الاختلافات الكبيرة بين الذبائح الطقسيّة والكهنوت اللاوي من جهة، وبين عمل المسيح وشخصه من جهة ثانية.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM