الفصل السادس إخوة متّحدون

الفصل السادس
إخوة متّحدون
آ 17- 20

بعد أن شدّد بولس على ما كان له أونسيمس (آ 8- 12)، وعلى ما يمكن أن يكونه بالنسبة إلى فيلمون (آ 13- 16). قدّم تعبيرًا ثالثًا عن طلبه يستند بشكل خاص إلى العلائق التي تربطه بفيلمون (آ 17- 20). لهذا استعمل صيغة الأمر ثلاث مرات ثم لغة التمنيّ (آ 20 أ): يستقبل فيلمون أونسيمس وكأنه يستقبل بولس نفسه (آ 1 ب). وهناك أفعال في صيغة المتكلّم المفرد، مع "إغو" (أنا) ثلاث مرات (آ 19، 20 أ). وهذا ما يدلّ على التزام الرسول الشخصيّ تجاه محاوره. في الواقع جعل بولس من نفسه "كفيل" أونسيمس. لهذا بدت الكلمات مطبوعة بالطابع القانوني، بطابع البيع والشراء والافتداء (آ 18- 19).
والسبب في ذلك هو أن فرار أونسيمس قد شكّل ضرزًا حقيقيًا لسيّده (هذا يبقى أمرًا سطحيًا). وهناك الطابع القانوني مع التشديد على الحقّ العدل. في أي حال، لا يمكن أن تكون المحبّة طريقة بها نطمس الوضع الحقيقيّ. وليست مسألة عواطف "خارجيّة" نظهرها للسيّد كما للعبد. بل هي تحويل عميق للوضع حتى في وجهاته الماليّة. هكذا نصل إلى حياة الجماعة، "إلى الشركة" (كوينونيا) (آ 17 أ).
يدلّ هذا التقابل بين موضوعَي الحقّ والمحبّة، الذي يظهر حتى في بناء الجملة (هناك تصالب في التركيب، أ ب ب أ)، على موضوع الاستقبال والمحبّة في آ 17 و20. وعلى موضوع التعويض المالي في آ 18 و19. ثم إن آ 18- 19 قد بنيتا بشكل متواز: بعد الشرط (آ 17 أ: فإن كنت... آ 18 أ: إن كان) نصل إلى فعل الأمر (آ 17 ب: إقبله؛ آ 18 ب: احسب ذلك) الذي يشير أولاً إلى الاستقبال (آ 17 ب) ثم إلى المسألة الماليّة (آ 18 ب). فيلمون هو فاعل الأفعال في آ 17- 18، وبولس في آ 19- 20 (ما عدا 20 ب) بحيث نرى أننا أمام عهد "في المسيح"، "في الربّ" (آ 20) عهد بين رجلين، عهد أساسه المحبّة والحقّ، ومرماه هنا عودة أونسيمس.
نتوقّف هنا مع آ 20 ولا نمدّ المقطع، كما فعل بعض الشراح، إلى آ 21 أو آ 22. والبنية العامة لطلب بولس تصل بنا إلى ذات النتيجة. فعبارتا "في المسيح" و"في الربّ" في آ 20، تدلان على نقطة هامّة، وتبدوان كصدى لنهاية آ 16 (رج آ 3). ولكن نقول بشكل خاص إن الشقّ الثاني من آ 20 يستعيد بشكل شبه حرفيّ نهاية آ 17 مع "استراحة" (أناباوو) و"أخ" و"أحشاء" (سبلنخنا) التي لعبت دورًا كبيرًا في نهاية آ 12. وهكذا انتهت الدائرة في آ 20: ما هو معروف عن تصرّف فيلمون تجاه "القدّيسين" (آ 7)، يجب أن ينطبق الآن بشكل خاص تجاه بولس عبر أونسيمس (آ 20).
أما على مستوى النصوص، فلنا ملاحظتان. حسب البازي، زيد "في الرب" في آ 19 (أنا أفي في الربّ). وفي آ 20 حلّت محل "في المسيح" عبارة "في الربّ".

1- اقبله قبولك لي (آ 17)
ما عاد التعبير الثالث عن الطلب يضيع في اقتراحات، بل عُبّر عنه بدون دوران في صيغة الأمر: اقبله. غير أن هذه الصيغة ليست أمرًا لا جدال فيه، ولكنها ترتبط بجملة شرطيّة، فتبدو نتيجة وضع جعل فيه فيلمون نفسه: "إذا كنت تعتبرني شريكًا لك، متّحدًا معك...". وبحسب سمة تميّز لاهوت الرسول، ليست صيغة الأمر اعتباطيّة أو خارجيّة بالنسبة إلى الشخص الذي يتوجّه إليه. بل هو يحاول أن يستخرج النتائج الاخيرة لوضع اعتنقه هذا الشخص اعتناقًا حرًا. إن لفظة "كوينونوس" (رفيق، مشارك، أخ) تتلوّن بعدة تفاصيل. من جهة، تعود بنا إلى آ 6 التي امتدحت أهميّة وخصب "مشاركة" (كوينونيا) فيلمون في ايمان جعل جميع المسيحيين متّحدين في شركة واحدة. جعلهم أعضاء متضامنين في جسم واحد يشترك فيه الرسول، كما يشترك فيه منذ الآن أونسيمس. ومن جهة ثانية، فهذه اللفظة (التي لم يستعملها بولس كما اعتاد أن يفعل، لم يحدّدها) تُفهم أيضًا في معنى "شريك" في عمل تجاريّ أو في مشروع من المشاريع، وهذا ما يهيِّئنا للتبادل كما في آ 18- 19. فشراكة بولس مع فيلمون تحمل أكثر من وجه: هي تعني الحياة المسيحيّة بشكل عام (آ 6)، وتتجسّد بشكل خاص في إعلان الانجيل (آ 2- 13). وهذان الواقعان (الايمان وإعلان الانجيل) قد تجسّدا بشكل ملموس في ارتداد أونسيمس وعودته: كل هذا يتمّ في الاستقبال الأخويّ بدون أيّة خلفيّة وفي الوضع الجديد الذي سيكون منذ الآن لأونسيمس.
يستعمل فعل "بروسلمبانوماي" ليدلّ على علاقة كلها عمق وحرارة. يستقبل "الاقوياء" "الضعفاء" في الجماعة استقبال التفهّم والأخوّة (روم 14: 1، 3؛ 15: 7).
وبدا التشديد واضحًا حين ماهى الرسول نفسه مع أونسيمس (قبولك لي أنا). لا شكّ في أن مثل هذا التماهي يرتبط بأساليب أدبيّة وبلاغيّة عرفتها المرافعات في ذلك الزمان. ومع ذلك فهو يرتدي معنى عميقًا جدًا: أونسيمس هو بولس نفسه. هو "أحشاؤه" (آ 9، 20). لا على المستوى البلاغي فحسب، بل على المستوى العاطفي، على مستوى المحبّة. وهكذا ظهرت مرّة أخرى قوّة الانجيل (قوّة الله) ظهورًا مدهشًا ولافتًا، فخلقت جديدًا.

2- إحسب ذلك عليّ (آ 18)
لا يمكن لاستقبال أونسيمس (وعودته إلى ما كان عليه) أن يستند إلى سوء تفاهم، ولا إلى توبيخ خفيّ ومحصور باسم المحبّة. فيجب أن يكون الوضع واضحًا فيرتكز على أسس صحيحة. لهذا عرض بولس على فيلمون أن يدفع له ما على أونسيمس أن يؤدّيه. وهكذا يدلّ الرسول على التزامه الشخصيّ بالقضيّة، ويوقّع التماهي بين نفسه وبين العبد العائد إلى سيّده. فالألفاظ هي ألفاظ العدالة والحساب والمال. "أديكيو" (أضرّ، اقترف ظلمًا). "اوفايليو" (وجب عليه دين). "إلوغاوو" (جعله على حسابه). وهذا ما تعود إليه أيضًا آ 19.
تقوم المسألة هنا في المعنى الحقيقيّ للشرط الذي نجده مع "آي" (إن). هل نحن أمام دين حقيقيّ، أو عرضيّ ولا واقعيّ ذكره بولس في صيغة بلاغية؟ صيغة الفاعل تدلّ على أننا في العالم اللاواقعيّ. ومع ذلك، فصيغة الحاضر في الفعل الثاني، والتوازي مع الحاضر في آ 17، والالتزام الحقيقيّ في آ 19، كل هذا يجعلنا في عالم الواقع: "إن كان حقًا قد أضرّ بك". إن واقع دين أونسيمس تجاه فيلمون يقوم في الضرر الذي سبّبه له: توقّف عن العمل فلم يربح سيّده. وأرسل فيلمون من يبحث عن عبده. وقد يكون أونسيمس "سرق" بعض المال، ليسهّل فراره. استعمل بولس الشرط، لا ليتوقّف عند الضرر الذي سبّبه أونسيمس، بل ليرى كيف "يقدّر" فيلمون هذه الضرر؟ هل يعتبر فرارَ أونسيموس خسارة لأنه اشتغل عند بولس لا عند فيلمون (آ 13)؟ هل يخسر فيلمون إن أعيد إليه أونسيمس كأخ لا كعبد (آ 15 أ)؟ وهكذا لا يكون فيلمون من الخاسرين، بل من الرابحين في هذه القضية. يبقى على فيلمون أن يحكم: هل خسر أم ربح؟ وإن ظنّ أنه خسر، فبولس مستعدّ لأن يعوّض، لأن يفي.

3- أنا بولس أتعهد (آ 19)
جاءت آ 19 كامتداد لتعهّد أخذه بولس على نفسه، فكوّنت اعترافًا بدَين حقيقيّ: "أتعهّد بذلك بخطّ يدي". هو يوقِّع. وهذا يتوافق مع العادة المعمول بها فى ذلك الزمان، مع تشديد على الالتزام الشخصيّ. تكررت الأداة "إغو" (أنا) مرّتين: أنا بولس. أنا أفي. وأعلن الرسول عن نفسه "أنا بولس". إن ذكر بولس اسمه (وهو يذكره نادرًا) فليدلّ على الطابع الاحتفاليّ (2 كور 10: 1؛ غل 5: 2؛ 1 تس 2: 18). واستعمل فعل "أبوتينو" (دفع، أدّى) فدلّ على دفع غرامة. وهكذا نرى الحدّ الذي وصل إليه بولس في تجنّده من أجل أونسيمس وعمق قوّة الرباط المذكور في آ 15- 12، 17. ونفهم أيضًا أن هذا الرباط لا يترك جانبًا الواقع القانوني والواقع الاقتصادي، بل يأخذهما على عاتقه ويعطيهما وجودًا جديدًا.
ويعود الشقّ الثاني من الآية إلى هذا الالتزام، أو هو يحاول أن يخفّف من بُعده، فيذكّر فيلمون بأنه هو أيضًا مدين للرسول، مدين بنفسه، مدين بارتداده إلى المسيحيّة. فبولس قد ردّ فيلمون بشكل مباشر أو غير مباشر. وهكذا أصبح السيّد مدينًا لبولس. وسيزداد دَيْنه ممّا سيتيح له الرسول أن يعيشه من حياة جديدة حين يستقبل أونسيمس، فيرتفع معه من المستوى الماديّ والتجاريّ المحض إلى المستوي المسيحيّ.

4- أرح أحشائي في المسيح (آ 20)
وبعد أن تنظّمت المسألة القانونيّة والماليّة، عاد بولس إلى التتمّة التي فيها يتجاوز المؤمن نفسه "في الرب" و"في المسيح". وهكذا نكتشف مرّة أخرى الجدليّة مع "في العنصر البشريّ وفي الربّ": فمن خلال الحسابات التجاريّة وعبرها، تنكشف الأخوّة والفرح والاحشاء والاستراحة. وهنا يبدو بولس سائلاً واثقًا: واثقًا بالاستقبال الذي سيناله أونسيمس. وبعودته، وبالنتيجة التي ستتبع هذا الأحداث من فرح وسلام. نحن هنا أمام أفق جديد (في الرب، في المسيح) بشكل عام في الجماعة، وبشكل خاص في ما يخصّ أونسيمس.
وتعود هذه الآية أيضًا إلى آ 7 حيث نجد ذات الالفاظ: الفرح، الأخ، الاحشاء، الاستراحة. فالصفات التي دلّ عليها فيلمون بشكل عام، يدعى لكي يمارسها بشكل خاص بالنسبة إلى بولس وأونسيمس.
قدّم بولس أونسيمس في آ 12 ويشكل عميق جدًا. هو أحشاء بولس. هو ابن بولس. وها نحن نستشفّ حضوره هنا من خلال لفظة "أحشاء". كما نستشفّ هذا الحضور من خلال فعل "اونايمن" (أثلج صدري) الذي لا يرد إلاّ هنا في كل العهد الجديد، وتبدو رنتّه قريبة من اسم "أونسيمس". ونستطيع أن نقابل بين "اونايمن إن كيريو" (أرح قلبي في الرب) و"سبلنخنا إن خرستو" (أحشائي في المسيح). وما قرأناه في آ 11 حول أونسيمس الذي صار نافعًا: في المسيح، في الربّ، اتّخذ الفرح والسلام وجهًا بشريًا ملموسًا. لم نعد أمام لفظتين مثاليتين ومجرّدتين، بعد أن تجسدّتا في أشخاص محرّرين هم بولس وفيلمون وأونسيمس.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM