الفصل الثالث: صلاة الرسول

الفصل الثالث
صلاة الرسول
1: 9- 14

استعاد بولس بوقفة احتفاليّة صلاته من أجل الكولسيّين. في محطّة أولى سيطر فعل الشكر لأنهم قبلوا "كلمة الحقّ"، ولأنهم دلّوا على عمق حياتهم المسيحيّة. والكلام يشير الآن إلى المستقبل. يجب أن ينموا في "معرفة الله". وهذه المعرفة تستند إلى وحي السرّ الذي تسلّم بولس مهمّة كشفه. ومعرفة الله هي ممارسة اتجاهات العهد الأساسيّة. هي إثمار "الأعمال الصالحة".
بعد التأليف والتأويل، نقدّم نظرة عامة عن صلاة بولس لأجل هذه الكنيسة التي عرف أخبارها وأحسَّ بصعوباتها.

1- التأليف
تبدو بنية النصّ واضحة بفضل الأفعال: إن موضوع الطلب ومعرفة مشيئة الله، يتبرّر بغائيّته (أن نحيا حياة تليق بالربّ). ويتوضّح في أربعة أشكال تحركه:
* موضوع أو غائية الطلب
أ- أن تمتلئوا بمعرفة مشيئته (آ 9 ب)
ب- لكي تسلكوا على ما يليق بالرب (آ 10).
* أربعة أشكال في الحياة المسيحيّة
- تحملون ثمرًا بكل عمل صالح (آ 10 ب)
- تنمون في معرفة الله (آ 10 ج)
- تشكرون بفرح الآب (آ 12 أ).
* أسباب فعل الشكر لدى الكولسيين:
الذي أهَّلنا
الذي انتزعنا... ابنه (آ 13)
الذي لنا فيه الفداء (آ 14).
تدلّ هذا البنية على تدرّج الأشكال التي بها نعبّر عن سلوك يرضي الله. أولاً، الفعل الخلقي الكامل. ثم النموُّ في معرفة الله. بعده الثبات في كل محنة. أخيرًا في الذروة: فعلُ الشكر الذي يعطي العناصر الثلاثة السابقة معناها، كما يعطي السبب لوجود النشيد الكرستولوجي في آ 15- 20. أما آ 13- 14 فتبدوان توسّعًا يرتبط مع آ 9- 12 دون أن ترتبطا ارتباطًا مباشرًا بالأشكال الأربعة التي وجدناها في آ 9- 12.
إنَّ ذكرَ صلاة التوسّل ارتبط ارتباطًا وثيقًا بفعل الشكر، كما يجد "ما ليس بعد" (الزمن المقبل الذاهب إلى الملء على كل الصعد) من حياة مؤمني كولسي، ديناميّتَه في ما "صار الآن" (الثمار الحاضرة: الايمان، الرجاء، المحبّة). فما "صار الآن" لدى الكولسيين يوافق فعل الشكر لدى بولس. وما ليس بعد يوافق توسّله ودعاءه.
إذا نظرنا إلى 3- 12، نجد رسمة سريعة عن كل ديناميّة الحياة المسيحيّة، من إعلان الانجيل إلى المجد السماويّ مرورًا بتحقيقها ونموّها الحاليين.

2- التأليف
أ- لذلك نصلي لأجلكم (آ 9)
"فلذلك". بهذه الأداة يرتبط فعل الشكر بصلاة التوسّل. نجد هنا حرف العطف (كاي) فنترجم "نحن أيضًا". ننتقل من معلومة إلى أخرى. من ابفراس الذي هو، صنع. فعل، إلى آخر، إلى نحن (أي بولس وتيموتاوس). إذن، لسنا أمام صلاة تُزاد على صلاة (نصلّي أيضًا) بل على شخصين يرد عملهما بعد شخص أول هو ابفراس.
"لا ننفّك نصلّي". فبعد فعل الشكر المتواصل من أجل ثمار الانجيل، يأتي الطلبُ الذي هو متواصل أيضًا لكي يبلغ الكولسيون إلى الكمال. إن فعل "امتلأ" (بليروستاي) يُطلق موضوع ملء المؤمنين وهو ملء يرتبط بملء المسيح في ف 2. ولكن يجب أن نعود إلى الطريقة التي بها يعالج الرسول الموضوع في آ 9. فالتماسك ليس تامًا. لقد صلّى الرسول لكي يمتلئ الكولسيون في معرفة مشيئة الله (هذا يعني أنهم لم يدركوا بعُد هذا الملء). ولكنه سيقول لهم في 2: 10 إنهم قد امتلأوا.
إن موضوع الطلب (تمتلئوا من معرفة مشيئته في كل حكمة وفهم روحيّ) ليس بجديد. ونحن نجد في الأدب البيبلي واليهوديّ مقاطع عديدة تشدّد على العلاقة بين معرفة مشيئة الله والتصرّف الخلقيّ لدى المؤمنين: كيف يتصرّفون باستقامة إن كانوا لا يعرفون ما يريده الله منهم. رج مز 1: 2؛ 15: 3؛ 39: 9؛ 102: 7، 21؛ 110: 2 حسب السبعينيّة.
سيعود هذا النموذج في جماعة قمران (نج 1: 5؛ 3: 1، 19- 20؛ 5: 10؛ 8: 9- 10...) وفي الانجيل نفسه (مت 6: 10؛ 7: 21؛ 12: 5؛ لو 12: 47). وهذه المعرفة لا يستطيع أحد أن يعطيها لنفسه. بل عليه أن يطلبها، فهي نعمة وأعظم نعمة (نج 3: 15؛ 4: 27؛ 5: 11؛ 11: 17- 18...). ونقول الشيء عينه عن المواهب (الالهية) الثلاث المذكورة في آ 9: المعرفة (ابيغنيوسيس). الحكمة (سوفيا). الفهم (سيناسيس). رج نج 4: 3 حيث نجد هذه الألفاظ الثلاث مع ذكر الروح الضروريّ لاقتنائها (مدا 12: 11، 12؛ 14: 25). وهناك نقطة أخرى مشتركة مع التقليد البيبلي: كلهم مدعوّون لمعرفة مشيئة الله. ولا حاجة إلى مجهود يفوق طاقة البشر (رج تث 30: 11- 14). فالله يمنحها لمن يرغب فيها حقًا ويطلبها. لهذا طلبها بولس لجميع المؤمنين، لا لبعض المتدرّجين. هذا يعني أن الجميع يستطيعون أن يحصلوا عليها، بل يجب. لسنا هنا أمام نخبة تقف تجاه الجموع ولا أمام تيار باطنيّ. نحن هنا أمام موضوع جوهريّ في العالم اليهوديّ وفي الكنيسة، وهو يفتح الطريق لمعالجة موضوع المعرفة في ما تبقّى من كو.
ب- سلوك يليق بالرب (آ 10)
إن فعل "تسلكوا" له معنى غائي: إن معرفة مشيئة الله التي تتكلّم عنها آ 9 ليست معرفة نظريّة. بل تتوخّى سلوكًا أخلاقيًا ودينيًا كما يقول فعل "باريباتاين" الذي يعني عاش هذه الحياة أو تلك. سلك (2 مل 20: 3؛ أم 8: 20).
من هو "الرب" (كيريوس)؟ الله الآب أو المسيح يسوع؟ و"في كل ما يرضيه، يعود الضمير إلى "الربّ". ولكننا نستطيع أن نضع صيغة الحياد: "نرضي في كل شيء". من نرضي؟ الآب، المسيح، الإخوة المؤمنين، العالم؟ إذا عدنا إلى النصوص الموازية في العالم اليهودي (فيلون، الشرائع الخاصة 1: 176؛ 1: 297؛ 317) أو البولسي (1 تس 2: 12؛ 4: 1؛ روم 8: 8)، يبدو أن الرب هو الله الآب. وهو وحده من يجب أن نرضيه. وفي أي حال، لا نبحث عن رضى البشر (كو 3: 22: كمن يرضي الناس). ولكن إذا عدنا إلى كو، نلاحظ أن يسوع يتخذ لقب "كيريوس" (1- 10؛ 3: 13) (يزيد الشهود خرستوس)؛ 3: 16 (كلمة الرب)؛ 3: 18، 20، 22- 23، 24 أ؛ 4: 1 ب، 7- 17). وهكذا نستطيع أن نقول: نسلك بما يليق بالرب يسوع لكي نرضي الله في كل شيء.
"حاملين ثمرًا في كل عمل صالح". مع هذا اسم الفاعل ننتقل إلى الأشكال التي بها تُعرف حياةً ترضي الربّ. فعل "كربوفوراين" (حمل ثمرًا). رج آ 6. يدلّ مرّة أخرى على الأهميّة التي يوليها الكاتب لسلوك المؤمنين كموضع تُعاش فيه حقيقة الانجيل وتُعرف. في آ 4 لا يُذكر من يصل إليه العمل. هذا يعني أن آ 10 تعتبر كمية الثمر لا غائتيه: لا يستطيع المؤمن إلاّ أن يثمر ثمرًا كثيرًا. ستعود كو إلى الأعمال ولاسيّما إلى الأعمال الشريرة (1: 21؛ 3: 7- 17) لتقابل بين حاضر حياة المؤمن (الآن) وماضي وضعه الخاطئ (بالأمس). وبما أن 1: 10 لا يجعل علاقة وثيقة بين الأعمال الصالحة والايمان، رأى بعضهم في هذه الآية تشديدًا على الأعمال وإغفالاً للإيمان البولسي. هذا تفسير خاطئ. فالتدرّج البلاغي في آ 10- 12، يدلّ على أن الأعمال هي العلامة الأولى لحياة إيمان جديرة بالانجيل. ثم لا ننسى أن الأعمال الصالحة التي تتكلّم عنها آ 10 هي ثمرة نعمة الله. هي تجلّي قدرة الله التي تعمل في المؤمن (آ 11). إذن، ليست نتيجة القوى البشريّة، ولا تتوخّى أن تجعلنا نربح استحقاقًا.
وينتقل النصّ من عمل المؤمن إلى معرفته. نحن نتدرّج في المعرفة. قرأنا في آ 9 "معرفة مشيئة" الله. ونقرأ في آ 10 "معرفة الله". هل تتوازى العبارتان؟ كلا، على ما يبدو. فالأولى تشير إلى ما يريده الله منا في عمل يرضيه. والثانية موضوعها المباشر الله. هذا ما نجد في هذه الآية. ولكن إن قرأنا آ 12- 20 حيث يصوَّر عمل الله الآب في الخلق والفداء، مع وساطة الابن الحبيب، نفهم أن هذه المعرفة هي ما يكوّن الكائن المسيحيّ.
ج- نتقوّى بقدرة الله (آ 11)
وبعد أن أعلن الكاتب عنصرين بهما نعبّر عن السلوك الذي يرضي الله، وهما العمل والمعرفة، ها هو يقدّم عنصرين آخرين يتوجّهان حسب الزمن: الأول يتوجّه نحو المستقبل (الصبر والأناة). والثاني نحو الماضي (تذكير بفعل الشكر وبالنعم التي نالوها). ويتكلّم عن قدرة الله بشكل يذكّرنا بالكتابات اليهوديّة.
"متقوّين بكل قوة". هذا ما يشدّد على التدرّج. وتأتي عبارة "حسب قدرة مجده" فتضيف أن قوّة المؤمن تأتي من الله وحده، وأن هذه القدرة، قدرة المجد الالهي، ستتجلّى في كل مؤمن. هل يعني هذا أن المؤمنين مدعوّون إلى أن ينعموا بحياة سهلة تُستبعد منها كلُّ مشكلة وصعوبة؟ هل يجب أن يكونوا أقوياء في نظر العالم ليدلّوا على أن الانجيل هو قدرة الله؟ لا ليست حياة المؤمنين انتصارًا سهلاً، بل لا تغيب عنها الآلام والصعوبات، لأن القوى التي ننالها نتوخّى أن تعطينا "كل صبر وأناة" يفترضان وضعًا صعبًا. فالقوة القديرة التي ننالها من الله ليست سحرًا يُبعد كل المضايق، بل سلطة تجعلنا ثابتين أمام الألم.
هناك الاسم "هيبوموني" الذي يفترض موقف عداء تجاه المؤمنين. لهذا يكون صبرهم جواب اللاعنف على العنف. والاسم "مكروتيميا" (طول الأناة) هو ردّة فعل تتألف من التفهم والتسامح والرحمة تجاه أعضاء الجماعة (1 كور 13: 4؛ 1 تس 5: 14؛ غل 5: 22؛ أف 4: 2). يدلّ هذان الاسمان على أن الصعوبات تأتي من خارج الكنيسة كما من داخلها. ولكن سيكون الكولسيون أقوياء ثابتين في كل محنة.
د- نشكر الآب بفرح (آ 12)
يشكل فعل الشكر العنصر الرابع الذي به تُرضي الربَّ حياةُ المؤمنين. إن التحريض على العمل لا يُفهم إلاّ بالنظر إلى الوضع الجديد للمؤمن والأشكال التي توضحه. وفعل الشكر هذا يتمّ في الفرح. ولكن من يستطيع أن يشكر في الحزن؟ لا ننسى أننا في الصبر والأناة، وهذا يعني صعوبات قد تقود القارئ إلى أن يظنّ أن العزاء غاب عن الجماعة. إن الدعوة في فعل الشكر تزيل كل شكّ في هذا المجال. يعود الشكر إلى الله الآب (رج آ 3). ولكن هنا، ترك الكاتب لفظة "الله"، وما ذكر بعد "الآب" عبارة "ربنا يسوع المسيح" التي سترد في آ 13 بشكل "ابنه الحبيب".
نشكر الآب. هناك علاقة بين الآب والابن الحبيب. هل غاب الموقف البنوي؟ كلا، وإلاّ ما معنى صلاة يشكرون فيها الآب إن لم يكن أباهم؟ حين ترك الكاتب الضمير (أبانا نحن) وعبارة "ربنا يسوع المسيح"، أعطى اللقب امتدادًا أوسع (أبو يسوع المسيح وأبونا). ففعل الشكر للآب يدعو المؤمنين ليعيشوا ويتصرّفوا كأبناء عرفوا ما صنعه الله لهم. وهكذا يبقى الموقف البنويّ مرتبطًا بفعل الشكر.
إن بواعث فعل الشكر المذكورة في آ 12- 13، لا تأتي من وضع المؤمنين ولا من سلوكهم، بل من العمل الخلاصي الذي أجراه الآب ذاته لهم: "أهَّلكم للشركة في ميراث القديسين". لا يتكلّم النصّ أولاً عن العلاقة التي عادت بين الآب والمؤمنين (مثلاً، صالحنا. أو: قدّسنا)، بل عن هذا العمل الذي جعل المؤمنين في علاقة مع مجموعة ثانية (القديسين) وضعُها وضعُ الورثة. لها "جزء في حصّة". هل لها الاختيار، البنوّة، المسيح، المجد السماوي أو الخلاص النهائي؟ لا نستطيع أن نختار. ولكن التوازي بين آ 12 وآ 13 يسير بنا من العام (آ 12) إلى الخاص (آ 13). ويُفسّر "جزء حصة القديسين في النور" كـ "انتقال إلى ملكوت الابن الحبيب". وهكذا تكون الحصّة ملكوت الابن الذي يشارك فيه كلُّ مؤمن منذ اليوم.
ومن هم القدّيسيون الذين يشاركهم المؤمنون في حصّتهم، في نصيبهم؟ هناك من يقول: الملائكة. وآخرون: جميع الذين أرضوا الله منذ البدء ويملكون معه الآن في السماء. الفئة الأولى تستند إلى تقارب بين 1: 3- 13 وكتابات قمران (نظح 10: 12؛ 12: 1؛ نج 11: 7- 8). وإن كو 3: 1- 4 قد تُسند هذه الفرضيّة: يقدَّم المؤمنون مع المسيح فيسكنون في السماء مثل الملائكة. والفرضيّة الثانية تعود إلى الآباء منذ ابراهيم، الذين يشاركون الله في مجده. حينئذٍ يصبح معنى الآية كما يلي: لقد قدّرنا الآب ليكون لنا نصيب النور الذي قدمّه للقديسين في جميع الأزمنة أي المجد أو المشاركة في الملكوت. وهكذا نلتقي مع الذين يرون في آ 13 الخاص الذي نجده عامًا في آ 12.
إن عبارة "جزء حصّة القديسين في النور" هي قريبة من حك 5: 5- 6 كما أن آ 13: 15- 20 هي قريبة أيضًا من عبارات نجدها في حك 10: 6- 15. فهل نستطيع القول بتأثير حك على كو 1: 12- 13؟ ولكن عمل التحرير المنسوب إلى حك في 10: 6- 15 يُنسب هنا إلى الله الآب (لا إلى الابن). فالتشابهات في الألفاظ بين حك وكو 1: 12- 14 تحيلنا إلى محيط يهوديّ واحد.
هـ- انتزعنا من سلطان الظلمة (آ 13)
صوّرت آ 12 وضع المؤمنين على مستوى الامكانيّة (أهّلنا)، وبصورة إيجابيّة (مشاركة في النور الذي نالوه). وها هو الكاتب يعطينا ايضاحات حول الوضع نفسه وحول أشكال ظهوره.
تقسم الآية إلى شقّين متعارضين
13 أ: انتزعنا من سلطان الظلمة
13 ب: ونقلنا إلى ملكوت ابنه الحبيب.
ألفاظ تقليدية ومواضيع بولسيّة. فالفعل "انتزع، نجّى" (رواماي) يدلّ هنا على تدخّل الله الخلاصّي. وعبارة "انتزع من الظلمة" نقرأها مثلاً في "يوسف واسنات" (15: 13) وعدد من الكتب اليهوديّة. كما نجد التعارض بين النور والظلمة اللذين يرمزان إلى دائرتين وسلطتين تتقاتلان حتى النهاية: سلطة الشّر وسلطة الله (نظح 1: 11؛ 14: 9؛ 17: 5- 6). نشير هنا إلى تقارب بين هذا المقطع وما في أع 26: 18.
هذه التوازيات تتيح لنا أن نقدّم ثلاث فرضيات: إن أع وكو يعودان إلى تقليد واحد يتجذّر في العالم اليهودي (صار مسيحيًا في كو 1: 13) أو يعود إلى الكنيسة الأولى (بولس أو تقليد آخر) مع ارتباط بالعماد (انتقال من سيّد إلى آخر، الحياة الجديدة والحياة القديمة، غفران الخطايا). الفرضية الثانية: بما أن هناك تشابهًا بين لو وكو، فقد يكون لوقا دوّن كو. والثالثة: قد يكون أع استقى كو. ونبقى على مستوى الفرضيات وإن كنا نميل إلى الأولى.
الشق الثاني من الآية يدلّ على وضع المؤمنين الحالي: فلا معنى لانتزاعهم من العبودية (من السجن) إن كانوا سيتيهون دومًا فلا يجدون موضعًا يعيشون فيه حرّيتهم. جعلتهم آ 12 في علاقة مع القديسين والطوباويين (انتماء إلى مجموعة). وتذهب آ 13 أبعد من ذلك، فيرتبط المؤمن في كيانه بملك هو ابن الله. لا شكّ في أن المؤمنين يتركون سلطة ضاغطة، سلطة الظلمة، ويجدون سلطة أخرى، سلطة ملك قدير وهي سلطة غير ضاغطة. لا يقول الكاتب "اكسوسيا" أي سلطة بل "بسيلايا" أي ملكوت. وهكذا يكون الانتقال إلى ملجأ أمين، إلى ملكوت يتأسّس على المحبّة.
لا تتحدّث الرسائل الكبرى عن ملكوت المسيح (في أف 1: 6 يُسمّى الحبيب)، ولكننا نجد في كو 1: 13 وأف 5: 5: ملكوت المسيح والله. رج 1 كور 15: 23- 28؛ روم 7: 4 حيث يُقال إن المؤمنين يخصون المسيح القائم من الموت (2 كور 5: 15). في الواقع، لا يستعمل بولس سوى عبارة "ملكوت الله" ويعطيها رنّة مقبلة، لأنها يفهمها على أنها ستصير. وإن كو 4: 11 (يعاونني في أمر ملكوت الله) تفترض هذا النمط من الاسكاتولوجيا التي لم تتحقّق. إن 4: 11 تدلّ على أن ملكوت الابن لا يحلّ في كو محلّ ملكوت الله ولا يتماهى معه. إن لفظة "بسيلايا" تدلّ على أن الابن يملك (الآن، بسبب قيامته، 1- 18) بقدرة، وأن المؤمنين ينعمون بسلطانه الملكيّ. ولكننا لا نستطيع أن نستنتج "مزاحمة" بين ملكوتين، ملكوت المسيح وملكوت الله أبيه، لأن الآب نفسه هو الذي ينقل المؤمنين إلى ملكوت ابنه. حين تقول الآية إن الآب أراد أن يجعل المؤمنين تحت سلطة الابن الذي يحبّه فوق كل شيء، فهي تهيّئ الكولسيين (والقارئ أيضًا) لكي يعرفوا أنهم لا يرتبطون إلاّ بالمسيح من أجل حفظهم وحمايتهم (2: 6- 33).
و- لنا فيه الفداء (آ 14)
في هذه الآية عنصرمشترك مع أع 26: 18 وهو غفران الخطايا. وهذا العنصر يشكّل بدلاً مع عنصر آخر غاب عن أع 26: 18 هو "الفداء" (ابوليتروسيس) الذي يتخذ وجهًا خاصًا كغفران الخطايا. وهكذا يقدّم لنا هذا المقطع تفاصيل متلاحقة: أكّدت آ 13 أن المؤمنين انتُزعوا من سلطان الشر. وحدّدت آ 14 أننا أمام الفداء بل الغفران. "الفداء" يحمل رنّة اسكاتولوجيّة هنا كما في الرسائل الكبرى. أما "غفران الخطايا" فعبارة لا تظهر عند بولس إلاّ في كو 1: 14 وأف 1: 7. ولكننا نجدها في مت 26: 28؛ مر 1: 14؛ لو 1: 77؛ 3: 3؛ 24: 47؛ أع 2: 38؛ 5: 31؛ 10: 43...
مع غفران الخطايا، نصل إلى ذروة الوحدة بقدر ما يشكّل غفرانُ الخطايا جوهرَ عمل الله. إن الغفران يعطي الفداء قوّته، لأن الفداء يعني فقط تحرّرًا من السجن أو العبوديّة. فماذا يفيد المؤمنين إن تحرّروا فظلّوا في خطاياهم، إن لم يتبدّلوا في الداخل؟ نجد في خلفيّة هذه الآية موت يسوع، وإن لم يُذكر هذا الموت، لأن الكاتب لا يشدّد على "كيف" (وساطة المسيح)، بل على نتائج عمل الآب من أجل المؤمنين: لا ننسى أن آ 12- 14 شكرت الآب على ما فعل هو (لا الابن). ومع ذلك، فإن صوّرت هذه الآيات عملَ الآب الخلاصي من أجل المؤمنين، فهذا العمل بجعل المؤمنين بشكل تدريجيّ في ارتباط مع المسيح: لا يقول المقطع شيئًا عن العلاقة الجديدة بين المؤمنين والآب (صاروا أبناءه، تصالحوا معه...)، بل إن ثقل النصّ ينتقل من عمل الآب إلى ما ناله المؤمنون في المسيح. وهكذا يستعدّ الرسول ليدخل في النشيد الكرستولوجيّ.

3- نظرة عامة
أ- إن ذكر حبّ الكولسيين لبولس قد كشفته زيارة ابفراس. وهذا ما جعل الرسول يعود إلى توسّله من أجلهم، لأنه بهذا التوسّل أجاب على حبّهم منذ اليوم الأول. وتوسّلُه الأمين ليس فقط فعل شكر (آ 13)، بل هو أيضًا طلب. إنه يطلب لاخوته في كولسي نعمة فريدة تتضمّن سائر النعم: "ليكونوا مكمّلين في معرفة مشيئة الله". هذه النعمة هي شرط الحياة المسيحيّة، وهي وحدها تتيح للمؤمنين أن "يسلكوا سلوكًا يليق بالرب" (آ 10). لماذا طلب بولس هذه النعمة للكولسيين؟ إن كو (ولاسيّما 2: 10 أ) تفهمنا أن دعاية الهراطقة قدّمت للكنيسة "كذبًا" مسيحيًا أكمل من مسيحيّته، والوصولَ إلى ملء الحياة الالهية الذي يبهر المعمّدين الجدد.
ب- تجاه هذا السراب الخطر، أكّد بولس حالاً أن على المسيحيّين أن لا يكونوا "مكمّلين" إلاّ في معرفة مشيئة الله ليتجاوبوا بطاعة تامّة لخلاص تام يُعطى لهم في المسيح. وهذه المعرفة تُعطى لهم بشكل "حكمة وفهم روحي". فهي لا تُعطى لهم "معلّبة" منذ البداية، وكشريعة جديدة يعودون إليها بشكل آلي في كل الظروف. إنهم مسيحيون بالغون على المستوى الروحي. لهذا عليهم أن يميّزوا ما يطلب منهم الله بواسطة الحكمة والفهم اللذين يهبهما الروح على الدوام.
"الحكمة" هي معرفة طرق الله وهدفه ومشروعه. وهي تدلّ المسيحيّ على الاتجاه الذي يسير فيه، على القواعد التي يجب أن تتوافق معها أعماله. و"الفهم" هو معرفة الأشياء والأشخاص، وتقدير الأوضاع تقديرًا صحيحًا. وهو رؤية واضحة لما يجب على المؤمن أن يفعل في كل حالة من الحالات.
إذن، صلّى بولس بلا انقطاع لكي يفعل الكولسيون كل شيء ليعرفوا مشيئة الله في هذا الآن والمكان. وهم ينالون هذه المعرفة بحكمة وفهم ينالونهما من الروح.
ج- وكل هذا "لكي يسلكوا بشكل يليق بالرب بحيث يرضونه في كل شيء". إن اعتراف إيمانهم يجب أن يجد له امتدادًا في تصرّفهم. وعلى حياتهم كلها أن تشهد على انتمائهم للربّ. هم مسؤولون تجاهه. فيجب أن يكون همّهم الوحيد إرضاءه في كل شيء حتى اليوم الذي فيه يمثلون أمامه (1 كور 4: 4 ي؛ 2 كور 5: 10).
ويرسم بولس بخطوط كبيرة هذا السلوك "الذي يليق بالربّ". "يحملون ثمرًا في كل عمل صالح، وينعمون في معرفة الله". استعاد بولس هنا، لكي يتكلّم عن نشاط مسيحيّي كولسي وحياتهم، صورةً استعملها في آ 6 ليصوّر عمل الانجيل في كولسي وفي العالم كله. وهكذا دلّ على أننا أمام وجهتين لواقع واحد. حين نقول إن الانجيل "يحمل ثمرًا وينمو" (آ 6)، فهذا يعني أن الكنيسة "تحمل ثمرًا وتنمو". وإن الكولسيين "يحملون ثمرًا في كل عمل صالح" إمّا في حياتهم الشخصيّة، وإمّا في حياتهم الجماعية ولا تنفصل حياة عن أخرى.
امتنع الرسول عن كل تحديد، لأنه مقتنع بأن إخوته يعرفون أن يميّزوا الأعمال التي طلبها الله من طاعتهم وحبّهم. "ينمون" هم أيضًا "في معرفة الله"، وهي معرفة عمليّة للنعمة ولمتطلّبات الله التي هي شرط الحياة المسيحية (آ 9). ولكن كيف تشهد الكنيسة بكلامها وأعمالها؟ وكيف تنمو دون أن تلقى معارضة العالم؟
د- يجب على الكولسيين أن لا يخافوا هذه المعارضة، بل أن يثبتوا بالرغم من عداء العالم، وهكذا يدلّون على "صبرهم". عليهم أن يتحمّلوها بدون مرارة، ولا غضب، فيدلّون هكذا على "أناتهم". هكذا تظهر في حياتهم القوّة التي نالوها من الله، وهي قوّة تتعادل مع قتالهم وتجاربهم، لأنها تجد ينبوعها الذي لا ينضب في الله، ولأنها تدلّ على مجد الله.
هـ- غير أن الحياة المسيحيّة لدى الكولسيين لا تُستنفد في ثمارها، ولا في انطلاقتها، ولا في انتصارها على عداء العالم. هي لا تتمّ إلاّ في شكرهم الفرح لله الذي أهّلهم ليشاركوا في نصيب القديسين في النور. فحياتهم على الأرض التي فيها تتجلّى قدرة الله (آ 10) والتي بها يسعون لإرضاء الرب (آ 10)، لا تجد أصلَها في ذاتها ولا غايتَها. وحده عمل الله الفدائيّ في يسوع المسيح، جعلها ويجعلها دومًا ممكنة. لهذا، فالكولسيون لا يستطيعون أن يعيشوها إلاّ إذا تقبّلوها دومًا من الله جديدة، إلاّ إذا أدّوا الشكر بفرح للذي فتح أمامهم طريقًا يسلكون فيها الآن ليشاركوا يومًا "في نصيب القديسين في النور".
إن فعل شكرهم الفرح هو انتصار الروح، وعلامة الطابع الاسكاتولوجيّ لحياة الكنيسة التي ليست مدينة للعالم ولا تجد هدفها في العالم. هنا أيضًا يسمّي بولس الله "الآب " بدون أن يربطه بشيء بعده. في آ 2، جعل الكولسيين أمام الله أبينا، فوجب عليه الآن أن يذكّر الكولسيين أن الآب كشف عن نفسه في يسوع المسيح. وأن كل خوف يجب أن يُستبعد من علاقاتهم البنويّة معه، وأنه صاحب خلاص كامل يجب أن يشكروا الله عليه.
"أهلّكم لتشاركوا في نصيب القديسين في النور". إذا كان القديسيون هم الذين يخصّون الله، فقد أهّل الله الكولسيين ليقاسموهم مصيرهم حين جعلهم "قديسين" في يسوع المسيح. وسوف تقول لنا آ 13- 14 كيف يكون ذلك. أما هنا فحدّد بولس الخلاص المؤمَّن للكولسيين بعبارات أخذها من العهد القديم، وتبنَّتها الكنيسة الأولى في نظرتها الاسكاتولوجيّة. في العهد القديم، كانت أرض كنعان "حصة، نصيبًا" أعطي لشعب اسرائيل فنالت كل عشيرة "حصتها". هكذا بدا ملكوت الله، "حصّة" يشارك فيها كل مسيحيّ. أما عبارة "في النور" فنفهمها داخل العلاقة بين النور والخلاص (مز 27: 1؛ أش 42: 6؛ 49: 6؛ يو 1: 4؛ 8: 12).
هنا في آ 12، لا يترك بولس الاسكاتولوجيا في الزمن على مستوى المسيحيّة الأولى من أجل اسكاتولوجيا في الآخرة، لأن "نصيب القديسين في النور" هو الحياة الأبديّة في ملكوت الله، في اليوم الأخير. ومع ذلك، فالكولسيون، شأنهم شأن بولس (آ 3- 5) نفسه، يستطيعون منذ الآن أن يشكروا للآب هذا الخلاص الذي حقّق جميعَ ظروفه بموت يسوع وقيامته، ومنحهم عربونه بشكل الروح (2 كور 1: 22؛ 5: 5).
و- وذكر بولس في آ 13 فاعليّة العمل الفدائي في وجهته السلبيّة وفي وجهته الايجابيّة. قال أولاً: "انتزعنا من سلطان الظلمة". الواقع المذكور هنا هو ما يناقض نور ملكوت الله. فالظلمة التي تمدّ سلطانها على البشر، هي الكفر والجور (روم 1: 19) والوثنيّة بشياطينها وعبادة أوثانها وفساد أخلاقها. انتُزع المسيحيّون من سلطان هذه الظلمة مثل سجناء تعساء، و"نُقلوا إلى ملكوت الابن" الذي هو موضوع حب الله. لقد تبدّل وضعُهم تبدّلاً جذريًا. إنهم يعيشون تحت سماء أخرى. تحت سلطة الابن التي اعترفوا بها وتقبّلوها بملء إرادتهم فتجعلهم قديسين وأبناء الله.
ويحدّد بولس أيضًا (آ 14) جديدَ وضعهم بعبارتين: الفداء وغفران الخطايا. الفداء الذي هو واقع اسكاتولوجيّ (روم 8: 23) صار منذ الآن للايمان واقعًا حاليًا في المسيح. أفهمنا فعل "انتزع" أننا سجناء مساكين سقطوا في سلطة "ملكوت الظلمة". وجاءت كلمة فداء فأبقتنا في المناخ ذاته، لأن الفداء يدلّ على دفع جزية لاسترداد سجين. وها هو بولس يحدّد "الفداء" بـ "غفران الخطايا". فصلتنا خطايانا عن الله، وسلّمتنا إلى سلطان الظلمة. وها قد نجونا الآن حين غُفرت خطايانا. مع أن بولس يوجّه الأنظار إلى فاعليّة العمل الفدائي في يسوع المسيح، أكثر ممّا يشدّد على هذا العمل، إلاّ أن هذا العمل تفرضه كلُّ أقوال الرسول: بالابن الذي سُلّم بسبب معاصينا وأقيم من أجل تبريرنا (روم 4: 25) قد نلنا الفداء.

خاتمة
صلاة في صلاتين. الأولى صلاة من أجل نموّ الكولسيين في معرفة مشيئة الله (آ 9- 11). والثانية، فعل شكر من أجل الدخول في ملكوت ابنه الحبيب. معرفة تستمرّ وترافق الانسان في حياته اليوميّة. وشكر متواصل من أجل الخلاص الذي تمّ، ومن أجل ما ينتظر المؤمنين: مشاركة في ميراث القديسين في النور.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM