الفصل الثاني: شكر الله

الفصل الثاني
شكر الله
1: 1- 8

جاء العنوان بشكل عاديّ: المرسل (في صيغة الغائب) والمرسَل إليه والتمنيّات. المرسل هو الرسول ومعه تيموتاوس. أما سائر المشاركين في العمل، فسيُذكرون في النهاية. اختلفت كو عن سائر الرسائل فما قدّمت موضوعها. بل لمحت تلميحًا خفرًا إلى ما سوف تتحدّث عنه: أولويّة المسيح في السماوات وعلى الأرض.
وتبدأ كو، شأنها شأن سائر الرسائل في العهد القديم، بفعل شكر تمتزج فيه صلوات الطلب في خطّ ما نعرف عن العالم البيبليّ واليهودي. إن هذا الشكر قد تغذّى عند بولس برؤية متفائلة حول نموّ الانجيل في العالم. هذا الانجيل الذي ينمو ويحمل ثمارًا كالزرع الذي يحدّثنا عنه يسوع في أمثاله.
بعد العنوان (آ 1- 2)، نتوقّف عند الشكر (آ 3- 8).

1- العنوان (1: 1- 2)
أ- التأليف
يرتكز التأليف على نمط من العلاقات بين المرسل والمرسل إليه. هذا الاطار الرسائلي يعود إلى العالم الهلنستي المحيط، الذي أخذ منه اليهود عاداته الرسائليّة. ولكن بدل "خايراين" (تحية) نجد "النعمة والسلام من الله الآب". إن هذا العنوان يشبه كل الشبه عنوان سائر الرسائل البولسية. وهو أقصرها مع 1 تس وأف. هنا نستطيع أن نذكر التأليف عينه في 1 مك 10: 18؛ 11: 30، 32؛ 12: 6، 20؛ 13: 36... رج 2 با 78: 2 (بداية رسالة باروك إلى القبائل التسع ونصف القبيلة التي في المنفى).
ب- التأويل
أولاً: المرسل (آ 1)
هناك أولاً بولس الذي يسمّي نفسه "رسول المسيح يسوع" (= 2 كور 1: 1). في روم 1: 1 بولس هو عبد (دولوس) المسيح يسوع المدعو ليكون رسولاً. في 1 كور 1: 1: بولس مدعوّ ليكون رسولاً. ق غل 1: 1.
"بمشيئة الله". رج 1 كور 1: 1؛ 2 كور 1: 1 (رج غل 1: 4)؛ أف 1: 1 أ؛ 2 تم 1: 1. أراد بولس أن يشير (دون أن يشدّد) على الأصل الالهي لرسالته. هو لم يمنح لنفسه هذا اللقب (أن يُرسل). فالاختيار مجاني، وهو يرتبط بالله وحده.
ثم يذكر "تيموتاوس الأخ". رج 1 و2 تم؛ 2 كور؛ فل. فلم.
ثانيًا: المرسل إليهم (آ 12)
هم "قدّيسو كولسي" و"الأخوة المؤمنون في المسيح". هل نحن أمام مجموعتين؟ أو نقرأ: "قديسو كولسي (الذين هم) الإخوة المؤمنون في المسيح. وهكذا نكون أمام مجموعة واحدة، والشقّ الأول هو بدل عن الشقّ الثاني. كو: "القديسون الذين في كولسي والإخوة المؤمنون في المسيح". أو: "القديسون والإخوة المؤمنون في المسيح (الذين) في كولسي". قد نأخذ بالترجمة الأخيرة. هو العنوان الوحيد في المجموعة البولسيّة حيث تستعمل تسمية "إخوة" للدلالة على من ترسل إليهم الرسالة. في أماكن أخرى يستعمل بولس التسمية ليدلّ على معاونيه في العمل الرسولي أو في تدوين الرسالة.
تتوجّه الرسائل الكبرى عادة إلى كنيسة أو كنائس (1 تس 1: 1؛ 1 كور 1: 2؛ 2 كور 1: 1؛ غل 1: 2؛ فلم 2)، أو إلى القديسين (2 كور 1: 1؛ فل 1: 1)، أو إلى أحبّاء الله (روم 1: 7). فهل أراد بولس أن يشدّد على العلاقة الأخوية الموجودة بين أعضاء كنيسة واحدة، بين جميع أعضاء جسد المسيح أو بين الرسول والكنائس؟ نقول إننا لا نجد لفظة "كنيسة" في هذا الموضع من الرسالة. لهذا نقول إن لفظة "إخوة" تدلّ في ذاتها على أن المؤمنين يعتبرون نفوسهم أعضاء في عائلة واحدة، عائلة الله الآب، وأن المسافة الاجتماعية والحضاريّة لا تمنع مثل هذه العلاقة التي استعملها صاحب كو الذي هو رسول يسوع، فدلّ على أن الرسالة لا تخلق بُعدًا، بل تدلّ على رسول هو أخ يعترف بأنه يكوّن مع أعضاء الكنائس علاقة "عائليّة" أساسيّة.
إن لفظة "أخ" قد توسّع استعمالها في العهد القديم. فدلّت على أكثر من العائلة أو العشيرة. دلّت على الأشخاص الذين ينتمون إلى شعب اسرائيل، رج طو 7: 3؛ 14: 4؛ يه 7: 30؛ 8: 14، 24؛ 14: 1؛ 2 مك 1: 3؛ 7: 36. وزاد بولس "في المسيح" ليدلّ على أساس هذه العلاقة الأخويّة.
لا نقرأ اللفظتين "قديسين" و"مؤمنين" معًا سوى هنا وفي أف 1: 1. ولكننا لا نجد هنا ما يدلّ على الهويّة المسيحيّة. فلفظة "بستوي" لا تدلّ على مجموعة المؤمنين. هي الصفة. بل يُستعمل اسم الفاعل: الذين آمنوا. أما "بستوي" هنا فتدلّ على ثبات الكولسيين واستمرارهم في الايمان. أما لفظة "قديسين" فترد مرارًا في الأدب البيبلي واليهودي لتدلّ على شعب اسرائيل المدعوِّ إلى القداسة (خر 19: 6؛ لا 11: 44- 45؛ 19: 2؛ 20: 7- 26؛ 21: 6، 22- 32؛ رج نظام الحرب 3: 5؛ 6: 6؛ 10: 10). نشير هنا إلى أن قداسة الإخوة ليست عملَهم. فهم دُعوا كذلك لأن الله أرادهم كذلك (هو مخطط الله، لا مخططهم، 1: 22؛ رج 1 تس 4: 3؛ 1 كور 1: 2؛ روم 1: 7). ثم إنهم تقدّسوا بيد الله (1 كور 1: 2؛ 6: 1). إذا كانت القداسة مسيرة وصيرورة متواصلة، فهي تُعطى منذ البدء في المعموديّة.
ثالثًا: التحية (آ 2 ب)
تكوّنت التحية من المثنَّى "النعمة والسلام"، فما اختلفت عمّا في الرسائل السابقة (1 تس 1: 1؛ روم 1: 7؛ 1 كور 1: 3؛ 2 كور 1: 2؛ غل 1: 3؛ فل 1: 2؛ فلم 3). تحيّة قصيرة. وهي لا تذكر "المسيح". نقرأ: "من الله أبينا". لماذا ذُكر الله الآب وحده؟ بسبب تسمية "الإخوة في المسيح". وهكذا نكون في إطار من الأبوّة والأخوّة.
أما تسمية الله "أب" فنجدها عند اليونان (زوش أبو البشر والآلهة) دون أن نعرف كيف كانوا يتصوّرون علاقة الاله بالبشر. ربّما ولدهم فصاروا من طبعه. وفي الكتاب المقدس سمّي يهوه أبا الشعب المختار، أبا داود، أبا المسيح (تث 32: 6؛ مز 88: 27- 33 حسب السبعينيّة؛ 2 مل 7: 14 حسب السبعينيّة؛ 1 أخ 7: 14 حسب السبعينيّة). ولكن العالم العبراني ابتعد عن الحلولّية واحتفظ بجود الله وحنانه (وإن كان لم يرفض القساوة والعقاب). فالله في رحمته اللامتناهية يعرف أن الانسان ضعيف، سريع العطب.
إن يسوع طلب من تلاميذه أن يصلّوا إلى الله على مثاله مع لفظة "أبّا" وهو اسم استعادته الكنيسة الأولى في هذا الشكل أو في شكل آخر: الله الآب، الله أبونا، أبونا، الآب، مت 6: 9؛ لو 11: 2؛ روم 1: 7؛ 6: 4؛ 8: 15؛ 15: 6؛ 1 كور 1: 3...
ج- نظرة عامة
كتب بولس إلى كنيسة لم يؤسّسها بصفته "رسول المسيح يسوع بمشيئة الله". ليس من أحد يعارضه في رسالة تلقّاها من الله نفسه، فقدّمت له في الكنيسة سلطةً يشير إليها لدى المؤمنين الذين لا يعرفونه معرفة شخصيّة (2: 2). ويضمّ إليه "تيموتاوس الأخ". فتيموتاوس هو بقربه (2 كور، فل 1 و2 تس، فلم)، أو هو شريك له في العمل، أو هو يوقّع الرسالة معه إلى كنيسة يمثّلها هذا الأخ. أهلُ كولسي الذين يرسل إليهم بولس رسالته هم "إخوة في المسيح"، وهكذا يعون حالاً العلاقة الروحيّة التي تجمعهم جمعًا وثيقًا بالرسول ورفيقه: فالايمان الواحد بالمسيح يجعل منهم "إخوة". في هذه الصفة هم "قديسون ومؤمنون" (أو بالأحرى: أمناء، حافظوا على الأمانة في حياتهم المسيحيّة وثباتهم). إن صفة "قديسين" تذكّرهم أنهم يخصّون الله الذي في يسوع المسيح انتزعهم من العالم وضمّهم إلى شعبه. والصفة الثانية (المؤمنون) تعلن أنهم ظلّوا أمناء ليسوع المسيح رغم دعاية الهراطقة الذي امتحنوا هذه الأمانة (2: 4- 7).
وتأتي التحيّة موجزة كما قلنا. أما مضمونها فهو هو: تمنّى بولس لمسيحيّي كولسي "النعمة"، أي محبّة الله وحنانه (تقابل "ح ن" العبريّة) من أجل البشر الخاطئين. هذه المحبّة التي تتجلّى في غفران الخطايا. وتمنّى "السلام" أي الخلاص الذي تمنحه النعمة في واقعه الحاضر والمقبل. ولا ننسى أن السلام في العالم البيبلي هو أبعد من "انتفاء الحرب". إنّه البركة التي يمنحها الله على الصعيد الماديّ وعلى الصعيد الروحي.

2- فعل الشكر (1: 3- 8)
أ- التأليف
ماذا نجد في أفعال الشكر البولسيّة؟ ثلاثة أمور: النواة (في صيغة الحاضر): أشكر (آ 3 أ) الله (آ 3 أ) دائمًا (آ 3 ب). التذكّر (الماضي): لأجلكم (آ 3 ب)، أذكركم في صلواتي (آ 3 ب)، لأسباب مختلفة (آ 4- 8). والأمر الثالث هو الطلب (في المستقبل). نجده في آ 9 ي. وهكذا يأتي الشكر والتوسّل، فيدلاّن على أكثر من بُعد إلى تنبّه بولس المتواصل إلى كنائسه. ومع أن الشكر لا ينفصل عن الطلب، إلاّ أننا نفصل آ 3- 8 عن آ 9 ي تسهيلاً للشرح.
هذا على مستوى الشكل الخارجي. وهناك أيضًا عرض للأسباب التي دفعت بولس إلى فعل الشكر هذا.
أ- سمعنا بإيمانكم ومحبتكم... الآن (آ 4- 5 أ)
ب- إعلان كلمة الحق (الانجيل) سمح بذلك... الماضي (آ 5 ب)
ج- الانجيل أثمر في العالم كله وفي كولسي... الآن (آ 6 أ ب)
ب ب- نعمة الله في حقيقتها قد أعلنها وعلّمها ابفراس... الماضي (آ 6ج- 7)
أ أ- أخبر ابفراس بالمحبّة التي تحرِّككم... الآن (آ 8).
يدلّ التأليف على العلاقة بين المحبّة والايمان... (أ) واعلان الانجيل الذي جعلها ممكنة، ودلّ على أن العناصر المذكورة في أ هي ثمر هذا الاعلان: إذن، ينطلق المقطع من ثمار الانجيل ويعود إليها مرورًا بإلاعلان الذي بدونه لا توجد هذه النتائج. ويورد قلب (ج) المقطع شموليّة إعلان الانجيل وثماره، فيدلّ هكذا على أن حقيقة الانجيل تُعرف في امتداد ثماره.

ب- التأليف
أولاً: نشكر الله (آ 3)
يبدأ النص بصيغة المتكلم الجمع (نشكر نحن). رج 1 و2 تس. فبولس ليس وحده، بل مع تيموتاوس، وكلاهما يشكران الله.
هذا الشكر يتوجّه إلى الله كما في سائر الرسائل (1 تس 1: 2؛ 3: 13؛ 2 تس 1: 3؛ 2: 13)، بالنسبة إلى لقب "آب"، رج آ 2. لا نجد إلاّ في كو 1: 3 أن فعل الشكر يسمّي الله "أبا ربنا يسوع المسيح". لماذا هذا التوسّع؟ قد نكون أمام عبارة ليتورجيّة في الكنيسة الأولى. أو بداية التوسّعات الكرستولوجيّة (1: 13- 20) مع ابراز العلاقة بين الله والمسيح. هناك ثلاثة احتمالات: "دومًا مصلّين لأجلكم". نستطيع أن نربط "دومًا" مع الشكر (نشكر الله دومًا) أو مع الصلاة. (1) إن بولس وتيموتاوس يشكران دائمًا حين يصليّان من أجل الكولسيين: هذا يعني أن الشكر يسيطر سيطرة كاملة على الصلاة. (2) يشكران كل مرة يصلّيان من أجل الكولسيين: عند ذاك توضَّح "دومًا" باسم الفاعل (مصلّين). أي جميع صلوات بولس وتيموتاوس تتضمّن فعل الشكر (وليس هذه وحدها). (3) الصلوات من أجل الكولسيين متواصلة. هذا لا يعني أن بولس لا يطلب من أجلهم (هذا ما يناقض آ 9 ي، بل يعني أن بداية الرسالة لا تشير إلاّ إلى فعل الشكر.
ثانيًا: سمعنا بإيمانكم (آ 4)
هو اسم الفاعل: سامعين. كيف ذلك؟ سننتظر آ 8 فنعرف أن ابفراس نقل الأخبار الطيّبة عن الكولسيين.
نجد هنا سببين من أجل تأدية الشكر: إيمان الكولسيين ومحبّتهم. أن يكون إيمان الجماعات مناسبة شكر لبولس، فأمر عادي (روم 1: 8؛ 1 تس 1: 3؛ فلم 5؛ رج أف 1: 15؛ 2 تس 1: 3). يقول بولس: "في المسيح يسوع" بعد "إيمانكم". فهل يدلّ على مضمون هذا الايمان أو على محيطه الحياتي (1 كور 12: 9؛ أف 1: 15؛ 1 تم 1: 14...)، على ينبوعه أو على صفته؟ وهكذا نستطيع اليوم أن نسهب العبارة كما يلي: "إيمانكم كجماعة مسيحيّة". قد نأخذ في الفرضيّة الأولى ببُعدين يتكاملان في حياة المؤمن كما في فلم 5: موضوع الايمان هو المسيح. وهدف المحبّة الإخوة. ولكن حين يتحدّث بولس عن الايمان، يستعمل مثلاً "إيس" في 2: 5: "ثبات إيمانكم في المسيح".
"المحبّة التي لكم لجميع القديسين". لا تصل المحبّة فقط إلى هذا الأخ أو ذاك. بل إلى جميع الإخوة الذين يسمَّون قديسين. وتصل إلى جماعة المسيحيين بدون استبعاد أحد. فهي في طبيعتها توحّد بشكل كامل كما في 3: 14. لا يقول الكاتب إن هذه المحبّة تصل إلى جميع البشر. وندهش حين نجد نفوسنا محصورين داخل الكنيسة. أما قال يسوع لنا بأن نحبّ حتى الأعداء (مت 5: 44 وز)؟ ولكن هذا الصمت لا يعني شيئًا. فكلام بولس يشدّد فقط على الثمار التي تشكلها جماعة كولسي كشاهدة للانجيل: فبالايمان والحبّ، الواحد تجاه الآخر، يشهد المسيحيون لكلام الحقيقة الذي هو الانجيل.
جمع بولس مرارًا بين الايمان والمحبّة (1 تس 3: 6؛ غل 5: 6؛ 1 كور 8: 7؛ فلم 5؛ رج أف 6: 23؛ 2 تس 1: 3)، وبينهما والرجاء (1 تم 4: 12؛ 6: 11؛ 2 تم 2: 22؛ 3: 10). فالايمان ليس الثمرة الوحيدة للانجيل. ثم يذكر الايمان أولاً لأنه أساس كل شيء. فهو يربط، بإعلان الانجيل، المؤمنَ بحدث المسيح ويعطيه هويّته.
ثالثًا: من أجل الرجاء (آ 5)
ويذكر الكاتب الرجاء كما في 1 تس. ما معنى عبارة "من أجل الرجاء المحفوظ لكم في السماوات"؟ هل ترتبط بـ "نشكر" و"نصلّي"؟ أو تحدّد الأسماء التي تسبق. "نشكر من أجل الرجاء". أو: إيمانكم ومحبّتكم للقديسين يجدان سببهما في الرجاء الذي هُيِّئ لكم في السماوات؟ في الحالة الأولى، نكون أمام سبب آخر لفعل الشكر وهو يرتبط بالكرامة الاسكاتولوجيّة في الجماعة. في الحالة الثانية، يشدّد النصّ على دوافع الكولسيين التي ليست ببشريّة بل ترتبط بموضوع منتظر وذات طابع سماوي. ولكن "الرجاء" بعيد عن الصلاة والشكر. لهذا نتوقّف عند الحالة الثانية.
ولكن ما معنى "هلبيس" (الرجاء)؟ نحن هنا أمام العمل (ترجّى) بدل موضوع العمل ونتيجته (الرجاء). أي الرجاء الذي نستشفّه. ولكن ما هو هذا الموضوع؟ المجد، الجزاء الاسكاتولوجيّ للمحبّة والأعمال الصالحة، أو الكنز السماوي الذي يتكلّم عنه مثلاً مت 6: 19- 21؛ 2 تم 4: 8؛ 2 مك 12: 45. فالرجاء السماوي لدى الكولسيين هو بالأحرى المسيح ربّهم الذي هو في السماء رجاء مجدهم (1: 27). غير أن آ 5 لا تسمح لنا بجواب واضح. ولكن إن اعتبرنا باقي الرسالة، يظهر أنه إن لم يكن موضوع رجاء الكولسيين منفصلاً عن المسيح، فهو لا يتماهى معه. ففي 1: 27 (يستند البعض إليه)، المجد هو ما يشكّل الرجاء الأخير للمؤمنين، وهو مجدٌ باكورتُه المسيح. في 1: 27، ليس المسيح موضوع الرجاء بل أساسه وعلّة وجوده. وإن 3: 1- 4 يؤكّد هذا التفسير لأن المسيحيّين هم منذ الآن في السماء مع المسيح، بدون أي انفصال، وهم ينتظرون أن يظهروا معه في ملء المجد.
في الرسائل الكبرى، يتوجّه الرجاء إلى المستقبل، إلى الفداء الأخير. وهو يسند ثبات المؤمنين وصبرهم. والمثلَّث "الايمان والمحبّة والرجاء" يحيط هكذا بالزمن المسيحي كله الذي ينطلق من التعلّق بالانجيل (في الماضي) إلى انتظار الفداء الأخير، مرورًا بالمحبّة الأخويّة اليوميّة. إن 1: 3 (رج 3: 1- 4) يدلّ على تبديل موضع الرجاء: ما ينتظره المؤمن ليس في الزمن المقبل، بل في المكان في السماوات. وهكذا ننتقل من اسكاتولوجيا زمانيّة إلى اسكاتولوجيا مكانيّة.
لا يقول بولس إن الرجاء يحدّد تحديدًا كاملاً الانجيلَ. بل إن الاعلان الأول للانجيل قد أعطى منذ الآن الكولسيين، السمات التي تميّز الرجاء المسيحي. وبما أن هذه العبارة موجودة في البداية، فنفترض أنها تودّ أن تجعل الانجيل في وجه الضلال الذي يحاربه ف 2.
رابعًا: بلغت إليكم كلمة الحق (آ 6)
تقدّم آ 6 أ ب السمات الجوهريّة في الانجيل (1) ما نحن نذهب إليه، بل هو يجيء إلينا، ويبقى حاضرًا بيننا (ديناميّة وثبات). (2) هو من أجل الجميع، ويجب أن يُعلن في العالم كله (امتداد للاعلان يشمل الكون). (3) يحمل ثمرًا (نوعيّة ونموّ). (4) في كل مكان أعلن (امتداد للنموّ يشمل الكون). نجد الامتداد والنموّ في عدد من الرسائل الكبرى (روم 1: 8؛ 1 كور 1: 5- 6؛ فل 1: 5- 7؛ 1 تس 1: 3). ولكن بولس يتكلّم عنهما منطلقًا من النتائج، من إيمان الكنيسة ومحبّتها (دون أن يسمّي الانجيل). أما هنا في آ 6، فهو يعتبر هذا الامتداد وهذا النمو انطلاقًا من السبب (لا يتكلّم عن المرسلين ولا عن الكنائس). وهكذا يماهي بين النموّ اللاهوتيّ للجماعات وبين الانجيل.
إن المثّنى "تثمر وتنمو" المستعمل في معنى رمزيّ، يهيّئ مع 1: 10 أحد المواضيع الرئيسيّة في الرسالة: موضوع نموّ المؤمنين وملئهم في المسيح.
وتقدّم آ 6 ج (منذ يوم سمعتم بنعمة الله) سمة أخرى من الانجيل. (5) لا يعود النموّ إلى "البارحة"، بل إلى زمن الاعلان. وليس هذا النموّ عابرًا وغير منتظم. بل يتواصل ويدوم: إن قوّة الانجيل تُعرَف أيضًا في هذا الثبات في النموّ. إن الفضائل التي أظهرها الكولسيون تدلّ على حقيقة الانجيل وقوّته. والانجيل هو الذي يشرح وضع الكنائس ويدفع الرسول إلى فعل الشكر. ليست آ 6 ج حاشية خارجيّة نستطيع أن نستغني عنها، بل هي تهيّئ جسم الرسالة حيث يبدو حاسمًا الصراعُ من أجل الانجيل ونموّه.
نجد هنا فعل "عرف" (ابيغينوسكاين، أدرك) الذي سيعود فيما بعد (1: 9...). إن الرباط بين فعل الشكر (آ 3، رفعه بولس) ونعمة الله (آ 6، وصلت إلى المؤمنين) واضح. فالافخارستيا تعرف ما هي النعمة، ما هي عطيّة الله. وهكذا نرى الرباط بين فعل الشكر والحياة المسيحيّة، الذي تشدّد عليه كو وأف. ولكن ما هي "نعمة الله" التي رأى حقيقتها الكولسيون؟ إن التوازي بين "الانجيل، كلمة الحق" (آ 5) وبين "نعمة الله في حقيقتها" (آ 6)، يدلّ على أن الكاتب يشير هكذا إلى الانجيل: الانجيل هو كلمة الحق، وهو أيضًا النعمة في سموّها التي بها نستطيع أن نؤدّي الشكر على الدوام. ونجد هنا كما في آ 5، التعارض بين حقيقة الانجيل والضلال.
خامسًا: تعلمتم من ابفراس (آ 7)
هل يعود فعل "تعلّم" (منتاناين) إلى اعلان الانجيل أم إلى التعليم الذي تلاه؟ لا يتيح لنا النصّ أن نميّز زمنين أو طريقتين في إدخال المؤمنين إلى الانجيل: الاعلان (بواسطة من؟) والتعليم (بواسطة ابفراس): من ابفراس "تعلّم" الكولسيون الانجيل. لا نجد هذا الفعل في الرسائل الكبرى ليصوّر كيف تقبّل المؤمنون الانجيل. ولكنه يتوسّع حقل التبشير (كما في روم 16: 17؛ فل 4: 9) الذي لا يتوقّف في نقطة محدّدة، بل يضمّ دومًا جزءًا من التعليم.
ابفراس هو "الحبيب". وهو "سيندولوس": يخدم معنا. ثم هو "خادم المسيح" الأمين. وظيفة متواضعة (خادم) ولكن فيها مشاركة (سين) ومساواة مع بولس وتيموتاوس. كان ابفراس خادمًا باسم بولس وحلّ محلّ بولس. مع ابفراس أو به، هو بولس نفسه الذي بشّر الكولسيين. ففعل "دولاواين" وفعل "دياكوناين" يدلاّن على الخدمة. وعلى أن خدمة المسيح (لا الكرامة الشخصيّة ولا ممارسة السلطة) هي الهدف الوحيد والأخير لرسالة الانجيل. ابفراس حبيب في علاقته مع بولس وتيموتاوس. وفي علاقته مع المسيح الذي يخدمه كممثِّل لبولس، فهو أمين. وما يُطلب من "دياكونوس" (الخادم) هو أن يكون أمينًا (1 كور 4: 2). هذا يكفي الآن كمديح لابفراس. وستتحدّث التحيّة الأخيرة (4: 12- 13) عن هذا الرفيق بحرارة كما في المقدمّة، وتؤكّد أنه خادم المسيح يسوع على مثال بولس (روم 1: 1؛ غل 1: 10؛ فل 1: 1). حين سمّاه بولس هكذا، لم يدلّ فقط على محبته وثقته بشخص صار سجينًا معه (فلم 23)، بل رأى فيه شخصًا أهلاً للثقة يتمتع بالسلطة التي يتمتّع بها هو وتيموتاوس. وحين ربط بولس ابفراس بتيموتاوس وبنفسه، دلّ أن تبشير ابفراس وتعليمه لا يفترقان عن تبشيرهما وتعليمهما. وبعبارة أخرى: الانجيل هو هو بأصله الرسولي وإلهامه البولسي. هو يستحقّ اسم "كلمة الحقّ": هذا يعني أن تبشير الكولسيين لم يكن تبشيرًا من النوع "الرديء". تبشير ابفراس هو تبشير بولس. وهكذا نرى، في هذا التقديم، التهيئة البلاغيّة البعيدة لما في 2: 6- 29 حيث يحارَب تقليدٌ بشري ليس له سوى ظاهر الحقيقة.
سادسًا: محبتكم في الروح (آ 8)
إن الأخبار التي نقلها ابفراس تدلّ بشكل غير مباشر أن بولس هو المسؤول عن كنيسة كولسي. وهذه الأخبار هي اعتراف بهذا الوضع.
"محبّتكم". هي محبّة الكولسيين لبولس، لا محبّتهم بعضهم لبعض. والمحبّة في الروح تبعدنا عن الشعور الخارجي والتعاطف البشري. وتحدّثنا عن علاقة ينعشها الروح. هي المرّة الوحيدة في كو يُذكر روحُ الله. هكذا تفترق هذه الرسالة عن الرسائل الكبرى. والسبب هو تركيز كو على الكرستولوجيا بشكل شبه حصري ردًا على الضلال الذي عرفته هذه الكنيسة.
ج- نظرة عامة
اعتاد الناس في ذلك الزمان أن يبدأوا رسائلهم بالتأكيد أنهم يصلّون لأجل من يرسلون إليهم الرسالة. ولكن هذه العادة لم تكن مجرد اصطلاح. فهي تجيب على حاجة في قلب الرسول وتتيح له أن يحدّد حالاً علاقاته مع إخوته الكولسيين على المستوى الروحي الذي هو خاص بهم. قال بولس في سائر الرسائل (روم 1: 8؛ 1 كور 1: 4) إنه يشكر الله. وزاد هنا "أبا ربّنا يسوع المسيح". قد يكون أدرك إيجازًا غير معهود في التحيّة السابقة، فذكر أن الله هو "أبونا" (آ 2) لأنه "أبو ربنا يسوع المسيح". وهكذا تكتمل هنا في آ 3 التحيّة التي قرأناها في آ 2.
ما زال بولس يؤدّي الشكر لله من أجل مسيحيّي كولسي، منذ سمع ابفراس يتكلّم عن "إيمانهم في المسيح يسوع". ولا يريد فقط أن يذكر أن موضوع إيمانهم هو المسيح، بل أن هذا الايمان مؤسَّس على عمل الله الفدائيّ في يسوع المسيح الذي صُلب وقام. وإيمان الكولسيين، شأنه شأن كل إيمان حقيقي، يظهر في محبّتهم لجميع القديسين، أي لجميع المؤمنين أينما كانوا ومن أين جاؤوا. يعرف بولس بعض الشيء عن هذا الوضع، ولا يعرفه كله، لأن شخصه غير معروف في كنيسة كولسي التي حمل ابفراس معه حبّها للرسول (آ 8).
وما يدفع بولس إلى هذا الشكر المتواصل من أجل إخوته في كولسي، هو "الرجاء الذي حُفظ لهم في السماوات". فالرجاء هنا كما في روم 8: 24- 25، ليس فعل الرجاء، بل موضوع الرجاء المسيحيّ: الحياة الأبديّة في ملكوت الله، الخلاص. والرسول متأكّد أنه "محفوظ في السماوات" لإخوته في كولسي. هو مهيّأ لهم وهو ينتظرهم بمنأى عن محاولات القوى المعادية. حين نسمع بولس يدعو الكولسيين أنفسهم ليؤدّوا الشكر من أجل هذا الخلاص (آ 12- 14)، نظنّ أنّ له سببًا في التحدّث مع كنيسة كولسي حول يقين الخلاص الذي حقّق الله جميع شروطه بحيث لا يهدّده شيء. سيعطينا وليُ الرسالة بعض المعلومات في هذا الشأن. ويبرز اهتمام بولس بهذا "الرجاء" في آ 5 ب: سبق وسمع الكولسيون "بكرازة الحقّ". سمّى بولس هكذا الانجيل ليعارض التعاليم الضالّة التي يعلّمها الهراطقة. ارتدّ الكولسيون بكرازة الحقيقة. وهي كرازة جديرة بالثقة بحيث لا يستطيعون أن يزيدوا عليها أو ينقصوا منها. "لهذا فهم يعترفون بواقع "الرجاء" الذي أعلنته.
وهذه الكرازة ما هي إلاّ الانجيل الذي بلغ إليهم. والانجيل الذي بدا كشخص حيّ، هو قوّة بدأت تحتلّ العالم. وقد وصل إلى كولسي. ورآه الكولسيون يتجذّر عندهم كما تجذّر عند غيرهم في الثمار والنموّ. وهو يدلّ على حضوره كما يولّد الايمان. ويدلّ على قدرته بانتصاره على الخطيئة بأعمال محبّة الذين قبلوه. وهو "ينمو" فيربح مؤمنين جددًا موسّعًا يومًا بعد يوم حلقة عمله. هذا ما حدث في كولسي "منذ يوم سمعتم بنعمة الله" أي الانجيل الذي صار فاعلاً. والطابع العمليّ لهذه المعرفة يبرز بوضوح في آ 6.
لقد تعلّم الكولسيون من ابفراس. هي الكرازة الرسوليّة. الانجيل نفسه، بل الوضع الجديد الذي منحه المسيحي، المسيحُ الذي يعلنه الانجيل بل الحياة الجديدة المعطاة للمؤمن والمفروضة عليه، بل ثمار النعمة من تحرّر وولادة جديدة (3: 1- 4: 6). ما تعلّم الكولوسيون من ابفراس يتعارض كل التعارض مع التعاليم الجديدة والفاسدة التي يلقيها الهراطقة في كولسي.
لهذا شدّد بولس على سلطة ابفراس. بالنسبة إليه هو الحبيب والرفيق. وبالنسبة إلى الكولسيين هو "الخادم الأمين". هو رجل في خدمة المسيح يتمّ عملَ الرب بأمانة تامّة. لهذا يستطيع الكولسيون أن يثقوا به. لقد صار صلة الوصل الحيّة بين بولس وكنيسة بعيدة عنه. فابفراس لم يكلّم الرسول فقط عن كنيسة كولسي، بل حمل إليه محبّتها التي هي ثمرة الروح الحقيقيّة.

خاتمة
تلك كانت بداية كو، وقد أعلمتنا بشكل خاص بالدور الذي لعبه ابفراس في حمل الانجيل إلى هذه المدينة. ولكن ابفراس يعتبر أن بولس يبقى الرسول الأول، ولهذا ذهب إلى رومة يطلب منه كلامًا إلى المؤمنين في كولسي. وما نلاحظه في هذا المقطع هو ذكر الروح في آ 8، الذي لن يعود يُذكر فيما بعد، بل يلمّح إليه الكاتب تلميحًا في 3: 16. الروح هو ينبوع المحبّة (أغابي) بين المؤمنين. وإذ ذكر الرسول الروح، أخذ فعل الشكر في كو لونًا ثالوثيًا: نشكر الله أبا ربنا يسوع المسيح لتقدّم الانجيل، وهذا ما يظهر في حياة محبّة متبادلة يحرّكها الروح القدس.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM