الفصل التاسع والثلاثون: لا تسرق

الفصل التاسع والثلاثون
لا تسرق

بعد الوصيّة الخامسة التي تمنعنا النيل من حياة القريب فتقول لنما: لا تقتل. وبعد الوصيّة السادسة التي تمنعنا المسّ بحياته العائلية فتقول لنا: لا تزن. بل: لا تنظر إلى امرأة لكي تشتهيها، فكأنك زنيت بها في قلبك. ها هي الوصيّة السابعة التي تمنعنا من أن نضع يدنا على ما لا يخصّنا سواء أكان شيئاً أم انساناً. أجل، سرقة البشر ما زالت حاضرة اليوم كما في الماضي. يُسرق عدد من العبيد في أفريقيا ويباعون. أو يُسرق أولاد ويجعلون من أجل الدعارة. سرقة الأشخاص أخطر بكثير من سرقة الأشياء. لهذا قال الكتاب: "من سرق انساناً من إخوته فجعله عنده أو باعه فليُقتل. وهكذا تقتلع الشرّ من وسطك" (تث 24: 7).
ونبدأ بالحديث عن سرقة الأشياء. فالخيرات العائليّة ملك مقدّس نحافظ عليه. فالجماعة هي المؤتمنة على الخيرات التي يملكها أفرادها. والله نفسه يمنع مثل هذا التعدّي على خيرات القريب. جاءت الوصيّة في إطار تعليم الانبياء والتشديد على مخافة الله: "لا تسرق" (خر 20: 15). وتكرّرت في التقليد الاشتراعيّ (تث 5: 19) مع سائر الوصايا التي تنهي عن الزنى والقتل، كما في التقاليد الشرقيّة القديمة منذ أيام حمورابي في بلاد الرافدين حتّى أيام الفراعنة وكتب الموتى.
هذه الوصيّة وغيرها، سنسمعها في فم يسوع. سأله شاب عمّا يعمل لتكون له الحياة الأبديّة. فقال له يسوع: إحفظ الوصايا. وما هي؟ فعدّدها يسوع: لا تقتل، لا تزن، لا تسرق (مت 19: 16- 18). وهذا ما نقرأه أيضًا في مر 10: 19؛ لو 18: 20. واعتبر القديس بولس أن الوصايا تتلخَّص كلّها في هذه الكلمة: "أحبب قريبك كنفسك". فالمحبّة لا تعمل سوءاً للقريب (روم 13: 8- 10). وهي إتمام للشريعة. تتوسّع الشريعة الموسويّة حول السرقة في حالات متنوّعة: "إذاً سرق أحد ثوراً أو شاة، فذبحه أو باعه فليعوّض بدل الثور خمسة أضعاف، وبدل الشاة أربعة" (خر 22: 1). هذا ما نجده مطبّقاً في الخبر الذي حمله ناتان إلى داود. أعطى ناتان مثلاً لداود ليدلّه على خطيئته، فحدّثه عن "رجل غنيّ سطا على نعجة الفقير" فذبحها وهيّأها طعاماً لضيفه مع أن عنده مئة نعجة (2 صم 12: 4). أجاب داود: "عليه أن يردّ للرجل الفقير أربعة أضعاف، لأنه ارتكب هذا الذنب ولم يشفق" (2 صم 12: 6). وبما أن المظلوم هو فقير، زاد داود على هذا العقاب قائلاً: "إن الجاني يستوجب الموت".
وأعطى سفر اللاويين وصاياه ساعة كلَّم الشعب عن القداسة بفم الرب: "كونوا قدّيسين لأني أنا قدوس". وكيف تكون القداسة؟ "لا تسرق، ولا تكذب، ولا تغدر بصاحبك. لا تحلف باسمي كاذباً فتدنّس اسم إلهك" (9: 11). وتابع كلامه في آ 12: "لا تظلم قريبك ولا تسلبه، ولا تؤخّر دفع أجرة أجيرك إلى الغد". وهكذا نكون أمام وجه آخر من وجوه السرقة: حين يأكل الانسان حقّ أخيه الذي عمل عنده. في هذا المجال نقرأ تث 24: 14- 15: "لا تهضم أجرة مسكين ولا فقير من أخوتك أو من الغرباء الذين يقيمون في أرضك وفي مدنك. بل ادفع إليه أجرته في يومه، ولا تغيب عليها الشمس، لأنه فقير وبها يعول نفسه، لئلا يصرخ عليك إلى الرب فيكون عليك خطيئة".
الشريعة تدافع عن الفقير بوجه الغني، وعن المسكين بوجه المقتدر. وهي هي بالنسبة إلى القريب وإلى الغريب. فالقريب وابن البلد قد يجد ان من يدافع عنهما. أما الغريب فهو أعزل لا سلاح له. لهذا يستغلّه صاحب العمل. والله هو الذي يدافع عنه. إذا صرخ عليك، فالويل لك. في هذا الاطار نقرأ كلام رسالة يعقوب القاسي ضدّ الذين لا يعطون الأجير حقّه. "الأجور المستحقّة للعمّال الذين حصدوا حقولكم التي سلبتموها يرتفع صياحها. وصراخ الحصّادين وصل إلى مسامع الربّ القدير" (5: 4). أجك، أجرة العامل لها صوت وهو يصل إلى الله. وهذه الأجرة تُدفع للعامل في آخر النهار، وبعد الشغل حالاً. وإلاّ نكون قد سرقناه. قد تكون الامور تبدّلت اليوم، ولكن كم من الناس لا يدفعون للآخرين حقّهم ليستفيدوا هم من "فائدة" مالهم ولو جاع الآخرون. "صراخ الحصّادين قد وصل إلى مسامع الربّ القدير".
وكانت الوصيّة قاسية بحيث تبرّر ذاك المدافع عن ماله من السارق، حتى ولو قتله. نقرأ في خر 22: 2: "إن وُجد السارق وهو يسرق فضُرب (بعصا) وقُتل، فدمه مهدور". أي لا يحقّ للوليّ أن ينتقم له. هذه الشريعة تسري في الليل لا في النهار. أما في النهار، فلا يُهدر دم السارق، بل يُطلب منه أن يعوّض. وإن لم يكن له مال، يجب أن يباع ليدفع سرقته. وتتتابع الشريعة على مستوى الوديعة والائتمان. حين يطلب رجل من قريبه أن يحتفظ له عنده بذهب أو فضّة، فإن سُرق (هذا الذهب) من بيت المؤتمن على الوديعة، وعُرف السارق يعوّض ضعفين. وإن لم يوجد السارق يحلف صاحب المنزل أنه لم يمدد يده إلى ملك صاحبه (خر 22: 807).
وسار الأنبياء في خط الشريعة الموسويّة، ولاسيّما تجاه الذين يختبئون وراء تقواهم ليظلموا القريب وليسلبوه ماله. في هذا المجال نسمع إرميا النبيّ يوبّخ شعبه الذين اعتبروا أنهم إن لجأوا إلى الهيكل نجوا من العقاب الذي ينتظرهم. يكفي أن يقولوا "هيكل الرب، هيكل الرب" لكي تُغفر خطاياهم. فجاء كلام النبيّ قاطعاً كالسيف: "تسرقون وتقتلون وتزنون وتحلفون بالكذب... ثم تأتون وتقفون بين يديّ (أو" أمامي) في هذا البيت (أو: الهيكل) الذي دُعي باسمي وتقولون: قد أُنقذنا (أي الله يخلّصنا). ثم تقترفون مثل هذه الارجاس" (7: 9- 10). صيّرتم "هذا البيت الذي دُعي باسمي مغارة للصوص" (آ 11). فماذا يبقى عليهم أن يعملوا؟ أن يصلحوا طرقهم وأعمالهم، ويقيموا العدل بين الرجل وقريبه (لقاء رشوة هي في الواقع سرقة). وتابع النبيّ كلامه: "لا تظلموا الغريب واليتيم والأرملة" (آ 6)، فليس لهم من يدافع عنهم إلاّ الله وهو يعرف كيف يدافع.
في هذا الخطّ يأتي كلام النبيّ عاموس قاسياً جداً، ولا سيّما على مستوى التجارة. نسمع كلامه في توبيخ العظماء: "إسمعوا هذا أيّها الظامئون إلى دم المسكين، وإفناء البائسين في الأرض! تقولون: متى يمضي رأس الشهر (أي: ينتهي العيد ويبدأ العمل) فنبيع الحبوب؟ ومتى يمضي السبت (العمل بعد الراحة) لنعرض الحنطة للبيع؟ نصغّر الإيفة (أو المكيال الذي به يكيلون الحنطة) ونكبّر المثقال (أي نجعل الناس يدفعون الكثير لقاء القليل). تستعملون موازين الغشّ، فتشترون المسكين بالفضّة (أي يبيع نفسه لكم لكي يأكل)، والفقير بنعلين (بثمن بخس جداً). وتقولون: نبيع حتى نفاية الحنطة" (8: 6). قال الرب: "لا أنسى عملاً من أعمالكم" (آ 7). وكما ندّد بالرجال، ها هو يندّد بالنساء الغنيّات ويشبهّهن ببقرات باشان، لأنهن "يظلمن الفقراء ويستغللن المساكين، ويسحقن الصغار" (عا 4: 1). وعقاب الرب: "سيأخذكن العدوّ بالكلاليب" (آ 2).
تلك هي الوصيّة السابعة: "لا تسرق". قد نسلب الانسان خلسة. قد نسلب الفقير بقوّة السلاح. قد نكدّس المواد ونبيعها بالثمن الغالي. هذا ما يحدث بشكل خاصّ في أيام الحروب. قد نستغل الجاهل والضعيف والغريب. نكذب، نخدع في قيمة الأشياء، لا ندفع الأجر العادل. نتعامل بالرشوة ونكدّس المال فلا يبقى في الأرض سوى الأغنياء. عندئذ يرنّ في ختام هذا الكلام صراخ أشعيا النبيّ مهدّداً: "ويل للذين يصلون بيتاً ببيت، ويضمّون حقلاً إلى حقل (فتصبح جميع البيوت والحقول لهم)، حتى لم يتركوا لأحد مكاناً" (5: 8). بيوتهم ستخرب ومنازلهم ستكون بلا ساكن. أما هذا الذي حصل لعدد كبير من الاغنياء منذ الحرب الكونيّة الأولى حتى اليوم؟

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM