الفصل الثامن والعشرون: الشعب ورؤساؤه

الفصل الثامن والعشرون
الشعب ورؤساؤه

شعب البرّية شعب يحتاج إلى رؤساء. أعطي له موسى وهارون وغيرهما. هل سمع دوماً منهم؟ بل هو عارضهم وتمرّد عليهم مراراً وتطلّع إلى وقت يعود فيه إلى مصر. نقرأ في 21: 5 ما يلي: "وتكلّم الشعب على الله وعلى موسى وقالوا: لماذا أصعدتنا من مصر؟ ألنموت في البرّية؟! فلا خبز لنا ولا ماء، وقد سئمت نفوسنا خبز الشقاء هذا"، هذا الخبز الخفيف الذي لا يقوت الانسان. ونبدأ مع موسى.

1- موسى
حين نجمع معطيات سفر العدد ونقابلها مع سفر الخروج، نستطيع أن نرسم وجه موسى الذي كان لشخصيته مركز لم يصل إليه نبيّ في كل أرض اسرائيل.
موسى هو أولاً كليم الله. حامل كلمة الله. فجميع الشرائع تبدأ: "قال الرب لموسى: كلّم بني اسرائيل وقل لهم". وفي الأخبار، كل ما يريد الربّ أن يقوله للشعب يمرّ بواسطة موسى. وهناك مقاطع تحدّد الإطار الذي فيه تلقّى موسى ما يجب عليه أن يوصله إلى الشعب. "حين كان موسى يدخل إلى خيمة الاجتماع ليكلّم الربّ، كان يسمع الصوت يكلّمه من فوق الغشاء الذي على تابوت العهد" (7: 89). ونقرأ في 11: 24- 25: "خرج موسى من الخيمة ودعا سبعين شيخاً وجعلهم حوالي الخيمة. فنزل الرب في الغمام وكلّمه". وفي 12: 6- 7 يقول النصّ: "إن يكن فيكم نبيّ، فأنا الرب بالرؤيا أتعرّف له (أجعله يعرفني)... وأما عبدي موسى فليس كذلك. فماً إلى فم أخاطبه... وشبه الرب يعاين". هو يرى "ظلَّ" الربّ شكلاً مبهماً غامضاً. لم يصل بعد إلى وجه الربّ ولا إلى مجده (خر 33: 18- 20). ولكنها مع ذلك خبرة صوفيّة تجعل موسى فوق جميع الأنبياء.
بما أن موسى كلّف بأن ينقل إلى الشعب أوامر الربّ، فقد اعترفوا به كرئيس وقائد. وعندما تطلّ صعوبة ما، ينتقدونه، يتكلّمون عليه. وإن اتخذت قبيلة من القبائل مبادرة فهو الذي يوافق أو يرفض (ف 21، 32). هو الذي يقرّر العمليّات الحربيّة (31: 3) والمساعي الدبلوماسيّة (20: 14) ومعاقبة المذنبين (16: 28؛ 25: 5). وهو يتصرّف في أغلب الأحيان بأمر من الرب لا بمبادرة خاصة من عنده. وهناك عدد من النصوص تدلّ على أنه يتعلّق كلياً بما يقرّره الله. وقد يحصل له بعض المرّات أن ينتظر هذا القرار الالهي لكي يعرف ما عليه أن يفعل (9: 8؛ 15: 34). وإن عارض أحد سلطته، اشتكى إلى الربّ. في خر 16: 8؛ 17: 2، ينقل موسى إلى الربّ التشكّيات التي تصيبه. إن تذمّر الشعب على موسى فهو في الواقع يتذمّر على الربّ. فليتدبّر الربُّ أمره. غير أن مثل هذا الوضع لا نجده في سفر العدد.
موسى رجل تكرّس بكليته لمشروع الرب، نذر نفسه لخدمة الشعب: "إحمل هذا الشعب... إلى الأرض التي وعدتُ بها آباءهم" (17: 2). فالذين يرفضون سلطته هم يرفضون أيضاً هذا المشروع، فيتحسّرون على مصر ويودّون الرجوع إليها. ويريد موسى باسم أمانته لرسالته أن يتضامن كل التضامن مع الشعب الذي يقوده. هو يفعل كما فعل في قادش (رج خر 32: 10- 14، 32): يرفض العرض الذي قدّم له بأن يبدأ مسيرة جديدة مع شعب جديد (عد 14: 12- 19). وفي النهاية يقاسم مصير جيله الذي حكم عليه بأن يموت قبل أن يدخل إلى أرض كنعان.
في بعض الأخبار نرى شخص موسى كأنما بعيوننا، نلمسه كما بأيدينا. ولكن المفارقات كثيرة. هذا يعني أن التقاليد حول موسى جاءت مختلفة جداً. من جهة، نراه رجل العنف والغضب (16: 15، 30؛ 20: 10)، ومن جهة ثانية "ذاك الرجل المتواضع أكثر من جميع الناس الذين على وجه الأرض" (12: 3). من جهة، نراه يتّخذ قرارات جذريّة بل "وحشيّة"، ومن جهة أخرى لا يدافع عن نفسه أمام المعترضين عليه ويعلن أنه مستعّد لأن يقاسم الآخرين الروح الذي عليه والذي هو أساس سلطته (11: 29). من جهة يسير لا يلوي على وجهه مهما تراكمت الصعوبات والعوائق، ومن جهة أخرى يمرّ في أوقات من الخيبة والضياع واليأس. "قال للربّ: لم ابتليت عبدك؟ لماذا خسرت كل حظوة لديك بحيث وضعت عليّ أثقال هذا الشعب كله؟ إذا كنت تعاملني هكذا، فاقتلني" (11: 11- 15. أي أودّ أن أموت وأرتاح). وهذا القنوط قاد موسى حتى الشكّ والارتياب بالله (11: 21- 23؛ 20: 10).
مع أن موسى كان أميناً لرسالته، ومع أن الرب سانده، إلاّ أنه عرف الفشل مراراً: في قادش ما استطاع أن يقنع الشعب (ف 14). بعد ذلك، منعه الادوميون من المرور (20: 14- 21). وفي النهاية، رأى أن الناس الذين قادهم إلى موآب ليسوا أولئك الذين أخرجهم من مصر (26: 64). ومع ذلك فقد نجح في أن يحوّل "الفارين من مصر" إلى شعب يستعدّ أن يشارك سائر الشعوب في صنع التاريخ، إلى جماعة ستقطع عهداً مع الرب.

2- هارون
يُذكر هارون مع موسى في عدد كبجر من النصوص. كأني به ممثّل بديل له. فلا وظيفة خاصة له. وإن عارضه أحد معارضة شخصيّة، دافع عنه موسى. أما هو فلا يقول شيئاً (ف 16- 17). ولكن إن دافع موسى عن هارون، فهارون لا يقابله بالمثل. بل سيأتي وقت يقاوم فيه هارون موسى مع أخته مريم، ويعترض على موقعه كوسيط مميّز. "قالا (أي هارون ومريم): ترى أموسى وحده كلّمه الرب؟ أم يكلّمنا نحن أيضًا" (12: 2)؟ هي المرة الوحيدة يتكلّم فيها هارون في سفر العدد، وهي لا تشرّفه كثيرًا. نحن هنا في وضع يشبه ما حصل بمناسبة العجل الذهبيّ (خر 32): كان الصراع بين الأخوين خطيراً جداً.
لا أهميّة لهارون إلا في وظيفته العباديّة. فيها يؤمّن الحياة لشعبه، يمنع عنه الموت حين يغفر له خطاياه فيُبعد عنه غضب الله. كان التقليد ينسب إلى الملك وظيفة "حفظ الشعب في الحياة". هو "نسمة أنوفنا" كما قالت مرا 4: 20. غير أن هذا اللقب صار خاصاً بالكهنة في النظام الكهنوتيّ. وهذه الاهميّة من أجل حياة الشعب، تبرّر الامتيازات الهائلة التي يمنحها له سفر العدد (ف 18؛ 31: 35- 47). أما لباسه الذي يصوّره لا 8: 7- 9 وخر 28، فهو لباس الملوك. وهو يُمسح كما يُمسح الملوك بالزيت المقدّس. ففي الجماعة العائدة من المنفى، سيكون للكاهن التأثير الأول وإن لم يعترف الفرس ولا اليونان بسلطته السياسيّة. إذن، لا ندهش إذا رأينا الرجاء المسيحانيّ يتّخذ في بعض الأحيان ألواناً كهنوتيّة. فجماعة قمران مثلاً، انتظرت "مسيح هارون" الذي تكون له الاولويّة بالنسبة إلى "مسيح اسرائيل".
ولكن كل هذا يعني خلفاء هارون، لا هارون نفسه. كل ما أفاد منه هو هالة نالها بسبب اختيار الربّ له (ف 17). لم يكن أكثر حظاً من موسى، فمات دون أن يرى حتى من بعيد (كما حصل لموسى) أرض الموعد (20: 24).

3- خلفاء موسى وهارون
بما أن موسى وهارون لا يرافقان الشعب إلى كنعان (20: 12؛ 27: 12- 14)، يجب أن يتأمّن من يخلفهما في هذه المهمّة. ففي نظر موسى، يشوع هو الخلف. "قال موسى للربّ: ليعيّن (ليوكل) الربّ، إله روح كل بشر، رجلاً على الجماعة، يخرج ويدخل (إلى المدينة) أمامهم. هكذا لا تكون جماعة الربّ كخراف لا راعي لها. فقال الرب لموسى: خذ يشوع بن نون. فإنه رجل فيه روح الرب. ضع يدك عليه، وقدّمه إلى ألعازر الكاهن والجماعة كلها، وأقمه في مهمّته أمام عيونهم. اجعل عليه من مهابتك لكي تسمع له جماعة بني اسرائيل كلّها" (27: 15- 20).
أما خلافة هارون فتصّت بصورة آليّة. أخذ موسى هارون وابنه ألعازر إلى جبل هور على مرأى الجماعة كلها. وأخذ موسى ثياب هارون (الكهنوتيّة) وألبسها العازر ابنه. ومات هارون هناك في رأس الجبل (20: 25- 28).
ولكن في هذه المرّة انقلبت الأدوار. فيشوع ما ورث سوى الوظائف السياسيّة التي بها "يخرج ويدخل أمام الشعب". ولكنه لن يكون حامل كلمة الله. فمشيئة الرب تصل إلى الجماعة بواسطة الاوريم والتوميم، بواسطة إلقاء القرعة بشكل "شبه سحريّ"، ولا يلقي القرعة إلاّ أبناء هارون ولا أحد غيرهم (خر 28: 30). وإن اقترف الشعب خطيئة عظيمة فهو لن يحصل على الغفران إلاّ بالذبائح وتقادم البخور المحفوظة لأبناء هارون. بل إن على يشوع أن يسأل الكاهن في كل القرارات الهامّة. "يقف بين يدي ألعازر الكاهن حتى يطلب له قرار الاوريم. وبحسب هذا القرار يخرج ويدخل هو وجميع بني اسرائيل" (27: 21). ثم إن الكتاب لا يتحدّث عن خلف يشوع. أما العازر فخلفه ابنه فنحاس الذي دلّ على غيرته في بعل فغور (25: 7). هو أيضاً ينعم بـ "عهد" خاص يؤمّن الكهنوت لنسله (25: 10- 13)، مثل جده هارون (18: 19). والعهد هنا يعني "عطيّة" توهب لانسان لقاء خدمة قام بها.
وهناك مسؤولون آخرون: رؤساء القبائل، الشيوخ أو رؤساء العشائر، رؤساء البيوت أو رؤساء العائلات. فالنظام كلّه مؤسّس على علاقات القرابة (1: 16؛ 13: 2) أو "بيوت الآباء" (2: 1). هذه البنية التي تعود إلى أصول اسرائيل، ستتواصل أقلّه في زمن الملكيّة، وتتّخذ أهميّة خاصة خلال المنفى وبعده. وسيكون فيما بعد رؤساء محليون، أو رئيس يحكم بين القبائل. كل هذا بانتظار المؤسّسة الملكيّة التي بدأت يوم مسح صموئيل شاول ملكاً.

خاتمة
ذكرنا موسى ويشوع. ذكرنا هارون والعازر وفنحاس. ثم سائر الرؤساء أو المسؤولين. وتجاههم يقف الشعب: مرّة يسمعون ومرّة يتمرّدون ويخاصمون. ولكن بعد كل خصومة كانت سلطة موسى تتقوّى وبالتالي سلطة هارون. فالهدف هو أرض الموعد. وكل من عارض هذا الهدف كان قصاصه الموت. وهكذا لن يصل أحد من الذين خرجوا من مصر، إلى موآب. كلهم وُلدوا في البرّية. هم شعب جديد. لهذا ختنهم يشوع حالاً بعد عبورهم الاردن (يش 5: 2- 3).


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM