الفصل التاسع والعشرون: المسيرة الطويلة في البريّة

الفصل التاسع والعشرون
المسيرة الطويلة في البريّة

في سفر العدد، نرى شعب اسرائيل يسير في البرّية. هو يتنقّل في جزيرة سيناء، حيث صار "شعباً"، ويتوجَّه إلى سهول موآب. ومن هناك سينطلق إلى أرض كنعان. وقد روى التقليد الكهنوتيّ باحتفال، الانطلاقَ من سيناء. فقال: "في السنة الثانية (منذ الخروج من مصر)، في العشرين من الشهر الثاني، ارتفعت الغمامة فوق تابوت العهد، فانطلق بنو اسرائيل من برّية سيناء، كل بدوره"، أي يهوذا في المقدّمة مع يساكر وزبولون ثم سائر القبائل (10: 11- 12).
نتكلّم عن الهدف من هذا التحرك، عن مراحل المسيرة، عن المعنى اللاهوتي للمسيرة.

1- الهدف
هدف هذا الارتحال معروف منذ البداية: الأرض التي وعد بها الله الآباء، أرض كنعان. هذا ما يذكّرنا به الكتاب مراراً، وذلك حسب التقاليد. "قال موسى لحوباب (حميّة): "نحن ننطلق إلى الأرض التي قال الرب إنه يعطينا إياها" (10: 29). "قال موسى للرب: لماذا تقول لي إحمل هذا الشعب كطفل على صدرك إلى الأرض التي وعدت بها آباءه" (11: 12)؟ "وكلّم الرب موسى: "أرسل رجالاً يجسّوا أرض كنعان التي أعطيها لبني اسرائيل" (13: 1- 2).
وبعد 26: 52- 56، يتكلّم النصّ بشكل دقيق عن هدف المسيرة، كما يتطلّع إلى الطريقة التي بها يقسم الأرض المحتلّة بين القبائل. وفي 34: 1- 6 نتعرّف إلى حدود هذه الأرض بالتفصيل.
ولكن منذ ف 14 حتى ف 25، لم يعد الهدف هو الذي يحرّك الشعب. إنه يُذكر ليقال للشعب وموسى أنهم لن يدخلوا إلى تلك الأرض (14: 30؛ 20: 12). رفض الشعب أن يدخل إلى الأرض ساعة طلب الربّ منه ذلك. أولاً، لأنه خاف: "لماذا يقودنا الرب إلى أرض سنموت فيها بالسيف" (14: 3)؟ ثانياً، لأنه احتقر عطيّة الرب واعتبرها كلا شيء. "هي أرض تأكل ساكنيها. فالأفضل أن نعود إلى مصر" (13: 32؛ 14: 3). وهكذا تبدو المسيرة في كل هذا القسم (ف 14- 25) وكأن ليس لها هدف واضح. صارت مسيرة تحمل في ذاتها العقاب، فلا تردّ أحداً إلى مصر، ولا توصل إلى كنعان أحداً من جيل الخروج. ويتحدّث النصّ أيضاً عن أهداف ثانويّة قد تميل بالشعب عن الهدف الرئيسيّ. هناك أهداف رُفضت قطعاً. وأخرى قُبلت بعد جدال.
رُفض كل موضع أراد الشعب أن يقيم فيه بشكل نهائيّ لا عابر. هذا هو وضع قادش في ف 20. فبدلاً من عبارة اعتدنا عليها: "نصبوا الخيام"، نقرأ: "أقام الشعب في قادش" (20: 1). ووعى الشعب نفسُه الخطأ الذي وقع فيه. فلام موسى: "لماذا جئتما بجماعة الربّ إلى هذه البرّية... إلى هذا الموضع الخبيث؟ هو موضع لا زرع فيه ولا تين ولا رمّان. بل لا ماء فيه للشرب" (20: 5). وحلّ موسى مشكلة المياه، ومع ذلك عليهم أن يرتحلوا (20: 22). غير أن هناك إشارات تجعلنا نحسّ بأن الاقامة في قادش كانت طويلة جداً. أما عد 34: 4 فيجعل هذه الواحة في حدود اسرائيل الجنوبيّة.
وكان جدال حول شرقيّ الاردن حيث تريد قبائل جاد ورأوبين وماكير أن تقيم. روى عد 21 مع بعض التفاصيل احتلال مملكتَي سيحون وجوج الاراميتين، اللتين يذكرهما مز 135: 11- 12؛ 136: 19- 21. قاد موسى الحملة العسكريّة ونُسبت إلى بني اسرائيل. تلك طريقة بها يقرّ الكاتب بشرعيّة احتلال هذه المنطقة بيد رأوبين وجاد وماكير. إلاّ أن حقوق هذه القبائل ستكون موضوع جدال طويل في عد 32، لأن الإقامة في هذه المنطقة تميل بقسم من اسرائيل عن الهدف الأساسيّ لمسيرته. وساوموا. وفي النهاية وصلوا إلى اتفاق: "قال لهم موسى: إذا عبر كل رجال الحرب عندكم الأردن أمام الرب إلى أن يطرد أمامه جميع أعدائه، وإذا كنتم لا تعودون قبل أن تخضع الأرضُ للرب، تحسنون أبرياء عند الرب وعند اسرائيل، وهذه الأرض (شرقيّ الاردن) تكون لكم ميراثاً (32: 21- 22). فأجاب أبناء جاد ورأوبين: نساؤنا وأولادنا ومواشينا عبيدك يصنعون بما يأمرهم سيدنا. وسائر بهائمنا يقيمون هنا في مدن جلعاد. وعبيدك المجرّدون للحرب يعبرون أمام الرب من أجل القتال كما قال سيّدنا" (32: 25- 27). كل هذا يؤكّد أن الهدف الحقيقيّ للمسيرة هو كنعان، أي غربيّ الاردن.

2- مراحل المسيرة
نجد في عد 33 لائحة بالمراحل التي اجتازها بنو اسرائيل. وتذكر 42 محطة. هذا يعني أنه كانت 41 مرحلة: 11 من رعمسيس إلى سيناء. 21 من سيناء إلى قادش. 9 من قادش إلى سهول موآب. تستعيد هذه اللائحة بشكل موجز الاشارة التي نقرأها في خر 13- 19 وعد 10- 21، مع بعض التفاصيل حول الإقامة في هذه المحطّة أو تلك. وهناك أمور أصيلة لم تُذكر قبل. هي: أسماء بعض المحطات زمن موت هارون (رج 20: 22- 29).
إذا أردنا أن نحدّد على خريطة أسماء المحطّات، نجد نفوسنا أمام مسيرة معقّدة لا تماسك فيها. قد نفسّر هذا الوضع بتاريخ النصوص، والأخبار واللوائح. ومع ذلك، فهدف هذا المزج هو أن يبيّن أن هذه القبائل المختلفة هي اسرائيل، وتاريخ كل قبيلة ينتمي إلى تاريخ الشعب كله.
وسينطلق التأويل الاستعاريّ في خط آخر فيفسّر أسماء المراحل على أنها مراحل متعاقبة في مسيرة روحيّة. بدأ أوريجانس وتبعه ايرونيموس. مثلاً "الجلجال" (33: 32) ويعني: "التجربة" أو "التضييق". فالتجربة هي قوّة النفس وسور منيع، وهي تمتزج بالفضائل بحيث إن سائر الفضائل تبقى بدونها ناقصة وغير جميلة. ووصلوا إلى "بيطابات" (آ 33) أي الخيرات. هكذا نصل إلى الخيرات بعد المحنة والتجربة. ثمّ خيّموا في "عبرونة" أي العبور...
ولكننا لن نتوقّف عند هذه الأسماء. بل نتساءل لماذا كانت المسيرة، ولماذا اختيرت هذه المراحل ولم يُختر غيرُها. إن الاخبار التي تتوسّع فيها النصوص تشرح بعض التبدّلات في الارتحال: "غداً تدورون نصف دورة وتمضون في البريّة نحو بحر القصب" (14: 25). "رفض أدوم أن يترك بني اسرائيل يعبرون في أرضه، فابتعدوا عنه" (20: 21). وإذ أراد أن يحدّد المسيرة التي يسيرون فيها، دلّ 10: 29- 32 على الحلّ الطبيعيّ: "قال موسى لحوباب إبن رعوئيل المدياني حميّه: نمضي إلى الأرض التي قال لنا الرب: لكم أعطيها. فتعال معنا ولا تتركنا. بما أنك تعرف المواضع التي فيها نستطيع أن نخيِّم. تكون أنت عيوننا".
اذن، نرى شعب اسرائيل قد استنار في طريقه بأنصاف البدو الذين يقيمون في جزيرة سيناء. وهناك محطات عرفتها التنقيبات وهي تعود إلى الألف الثاني ق. م. ولكن حالاً بعد ذلك، نجد تقديمًا آخر لهذه المسيرة: "انطلق تابوت العهد أمامهم في مرحلة ثلاثة أيام لكي يتعرّفوا إلى الموضع الذي فيه يخيّمون" (10: 33). وفي الحديث عن المسكن، أعطيت الوظيفة عينها للغمامة. "حين ترتفع الغمامة فوق الخيمة كان بنو اسرائيل يرتحلون. وحيث تحطّ الغمامة كان بنو اسرائيل ينزلون" (9: 17). من خلال هذه الصور المختلفة، يعبّر الكاتب عن العقيدة الواحدة: الرب هو الذي يقود شعبه بشكل مباشر. وهذا ما يقودنا إلى طرح السؤال حول معنى هذه المسيرة.

3- المعنى اللاهوتي للمسيرة
إن وصف الانطلاقة من سيناء (10: 11- 28) والتذكيرات بالهدف المنشود، قد تجعلنا ننتظر مسيرة سريعة تنتهي بنصر حاسم. ولكننا سوف ننتظر 21: 31- 35 لكي يبدأ بنو اسرائيل باحتلال الممالك الاموريّة الواقعة شرقيّ الاردن.
أما في قلب الكتاب، فنجد صورة التيهان عبر البريّة. وإن ذُكر الهدف فليقال بأن الوصول إليه مستحيل، وبأن الشعب لا يعرفون لماذا يجب أن يمشوا بعد. هذا ما تعبّر عنه الأزمة القبل الأخيرة.: ضجرت (قنطت) نفوس الشعب في الطريق. وأخذوا ينتقدون الله وموسى: لماذا أصعدتنا من مصر؟ ألنموت في البريّة (21: 4- 5)؟! والحديث هو حديث موت في البريّة. فالتيهان في البرية هو عقاب: "تسقط جثثكم في هذه البرّية. ويتيه أبناؤكم في الصحراء أربعين سنة، ويحملون خياناتكم إلى أن تفنى أجسادكم في هذه الصحراء. تجسّستم على الأرض أربعين يوماً، فتحملون أوزاركم أربعين سنة، كل يوم بسنة" (14: 32- 34).
إن العدد القليل من المراحل المذكورة لتَملأ الاربعين سنة التي أعلنها الرب في قادش، تجعلنا نفترض إقامات طويلة فهـب هذا الموضع أو ذاك. ثم إن لفظة صحراء (مدبر، برية) لا تعني موضعًا جافاً كل الجفاف. بل فيافي يرعى فيها الغنم في بعض الفصول من السنة. هذا ما يفسّر القول في 14: 33: "يكون أبناؤكم رعاة في البرية مدة أربعين سنة". فالاربعون سنة تكون للجيل الثاني تدريبًا على حياة شبه بدويّة على مثال آبائهم. ونلاحظ أن هؤلاء الآباء لن يُذكروا في سفر العدد إلاّ في 11: 12؟ 20: 15. ويبقى أن جزيرة سيناء ليست الإطار المثاليّ لحياة الرعاة.
وفي النهاية، ما الذي أخذه اسرائيل من هذه الأربعين سنة؟ تجدّد الناس تجدّدًا تاماً على ما يُقال في الاحصاء الثاني: "لم يكن فيهم أحد ممّن أحصاه موسى وهارون الكاهن حين أحصيا بني اسرائيل في برّية سيناء" (26: 64). وهكذا سيدخل إلى كنعان شعبٌ جديد وُلد في البرّية وتربّى فيها. ولكن هل هو شعب بقلب جديد؟ إن التحذيرات التي توجّه إليه المرة بعد المرة لا تتيح لنا أن نؤكّد ذلك. وأخذ الشعب أيضًا تثبيتًا لبُناه ونظُمه التي تحقّقت بشكل خاص خلال إقامته في المحطات المختلفة.
والدرس الذي نستنتجه من المسيرة في حدّ ذاتها، هو أن اسرائيل شعب يسير في الطريق ولا يتوقّف في محطّة من المحطّات. عليه، شأنه شأن آبائه، أن يمضي، أن يترك أرض الطمأنينات. لا شك في أنه وُعد بأرض يقيم فيها، وأنه تلقّى تشريعاً من أجل تلك الاقامة فيّ نهاية الكتاب. غير أن عطيّة الأرض هذه مشروطة: "تطردون أمامكم جميع سكّان الأرض... وإن لم تطردوهم فالباقون يكونون لكم أعداء في الأرض التي ستقيمون فيها. وأصنع لكم ما فكّرت أن أصنعه لكم" (33: 52- 56)، أي أطردكم من الأرض. وهذا ما حدث سنة 587 ق. م.
والمعبد أيضاً لا يمكن أن يتوقّف في مكان يقيم فيه ولا يتركه. فالذي يصوّره خر 25- 28 وعد 3: 25- 4: 32؛ 10: 17، 21، يُفكّ ويُنقل. وهو يرافق الشعب طوال الطريق. ولا شيء يدلّ على أنه سيكون مثبّتاً حين يقيم الشعبُ في كنعان (2 صم 7: 6- 7).
وكما لا يصوّر النصّ المسيرة من أجل المسيرة (كل ما يحدث من أمور يحدث في المحطات التي ينزلون فيها)، فهو لا يقول شيئاً عن البرّية التي تتمّ فيها هذه المسيرة. تحدّث سفر التثنية عن صحارٍ عبرها بنو اسرائيل وعن أخطار ما زالوا يتذكّرونها (تث 1: 19؛ 8: 15). لا نجد شيئًا من ذلك في عد. بل يهتمّ الكاتب فقط بالشعب لا بالاطار الذي فيه عاش الشعب خبرة فريدة. لم تعد الصحراء ذاك المكان الفارغ الذي لا يُوجد فيه انسان، ولا الموضع الذي نعبره فنبقى سجناء فيه مدّة أربعين سنة. إذن، لن نبحث هنا عن لاهوت البرّية وروحانيتها فإذا أردنا ذلك، يجب أن نعود إلى الأنبياء، ولاسيّما إلى هوشع وإرميا.

خاتمة
المسيرة في البريّة هي حقبة في تاريخ طويل، نرى فيها كيف يبني الشعب نفسه ويكتشف هويّته وبنيته، ويبحث عن موقعه تجاه الله. في كل هذا نجد مستقبلاً يُبنى يوماً بعد يوم. وهذا التوجّه حاضر في المسيرة التي تصل في النهاية إلى أبواب الأرض المرجوّة. كما هو حاضر في النظم ولاسيّما تلك التي تشير إلى الاقامة في كنعان.
فسفر العدد تحدّث عن هذا الماضي وعن المستقبل المباشر. ولكن نجد ذكرًا لتاريخ أوسع تبدو الاربعون سنة في البرية، حقبة قصيرة فيه. فباتجاه الماضي، يعود النصّ إلى الأحداث التي أسّست الشعب، وأعطت معنى لوجوده. في 33: 3- 8 يُذكر الخروج من مصر كما هو موجز في خر 12- 15. وفي 20: 14- 16 نجد أيضًا خلاصة صغيرة عن أحداث الخروج تُقدّم للأدوميّين (رج تث 26: 5- 10). وبالنسبة إلى المستقبل، يتحدّث النصّ عن القريب المباشر، عن الدخول إلى كنعان، ولكنه يشير أيضًا إلى المنفى في بابل، الذي يجب أن نعود منه. وكما ندّد عد بالذين يريدون العودة إلى مصر، كذلك لمحّ المدوّن الأخير إلى الذين رفضوا العودة من المنفى إلى اليهوديّة، بعد أن طابت لهم الإقامة في أرض بابل. هذا ما يدفعنا إلى القول بأن قسماً كبيراً من سفر العدد قد دوّن خلال المنفى أو بعد المنفى ليقدّم جواباً على تساؤلات معاصريه.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM