الفصل الثالث والعشرون: سر الفصح

الفصل الثالث والعشرون
سر الفصح

ونصل إلى قمة الكتاب، إلى سر نرى علاماته وهي ستتحقّق قريبًا، إلى سر الفصح الذي يدل مسبقاً على الخروج بيد الله القديرة. الاحتفال بالعيد هو الباكورة والباقي سيتم في أوانه. وكما ان الاحتفال بيوم الخميس المقدّس في الليتورجيا يهيّئ المسيحي لفهم ما حدث يوم الجمعة العظيمة، هكذا الاحتفال بسر الفصح يهيّئ الشعب العبراني ليفهم أن خلاصه متضمَّن في هذا الاحتفال كما الثمرة في البذرة وكما الانسان في الجنين.
يقول النص: تذكروا هذا اليوم الذي خرجتم فيه من مصر من دار العبودية. الرب أخرجكم من هناك بيد قديرة. والتذكر أعظم من تصوّر عقلّي لأحداث مضت. يتذكّر العبراني الحدث ويُدخل ذاته فيه. فكأنه كان حاضراً يوم أخرج الله شعبه. وهذا ما يقوله رب البيت لأصغر أبنائه ليستوضح ما تفعله الجماعة: ضرب الشعب المضطهد وخلّص بيوتنا.

1- عيد الفصح
عيد الفصح عادة قديمة عند البدو أكانوا من العبرانيين أم من العرب. كانوا يجتمعون في الربيع ويذبحون حيواناً صغيراً من القطيع ليعربوا عن شكرهم للاله الذي أنمى القطيع، وليطلبوا حمايته من الشياطين والشرور التي يمكنها أن تضرّ بالقطيع. وكانوا يمسحون بدم الحيوان الابوابَ وفتحة الخيمة ليُبعدوا الشياطين ويؤمّنوا الحماية للبشر والمواشي. أما المشاركة في العشاء الفصحي وأكل الأعشاب المرَّة والاستعداد للانطلاق، فهي ترتبط بعادات البدو الذين يتهيّأون للرحيل وقيادة قطعانهم إلى المراعي.
بموازاة هذا العيد، كان عيد الخبز الفطير الذي لا خميرة فيه. يعيّده الحضرُ المقيمون في المدن والقرى في بداية الربيع، ساعة حصاد الشعير. كانوا يأكلون خبزاً من الشعير لا خمير فيه ليشيروا إلى بداية سنة جديدة ستعطيهم غلال الأرض. وكانوا يقربون تقدمة من الحبوب لا عتيق فيها، بينما كان البدو يقدمون في عيد الفصح ذبيحة حيوان.
واجتمع العيدان في عيد واحد يوم ترك العبرانيون حياة البدو وأخذوا بحياة الحضر. صاروا يقدّمون في بداية الربيع خروفاً من قطيعهم وبعضاً من حبوبهم، ثم ربطوا العيد الجديد بحدث تاريخي هو الخروج من مصر بعد الضربة القاضية التي أصابت فرعون وشعبه. كان عليهم أن يرحلوا بغتة فما بقي لهم متّسع من الوقت ليتركوا عجينهم يختمر. ودم الذبيحة كان إشارة إلى حماية الله لشعبه خلال الضربة العاشرة. والوليمة العائلية في ليلة الفصح ذكّرتهم بالساعة الخطيرة التي انتظر فيها الشعب وقت الرحيل. وهكذا صار الاحتفال بالفصح وبالخبز الفطرِ مناسبة مهمة في حياة المؤمن، تذكّره كيف خلّص الله شعبه، وتعقمه أن يعتبر هذا الحدث حاضرًا اليوم في حياته (12: 26- 27).
خسر العيد طابعه الرعائي والزراعي، وارتبط بالتاريخ، لأن هذا التاريخ صار أساس الايمان بالله الذي خلّص شعبه من مصر. وإن أخذ العيد معنى تاريخياً فلأنه تضمّن أيضاً معنى دينياً ولاهوتياً. وارتبط المعنى التاريخي والمعنى اللاهوتي بهذه الطقوس نفسها فوجب علينا أن نعود اليها كما تبرز في ف 12- 13 من سفر الخروج.

2- تأسيس الفصح اليهودي (12: 1- 14)
قدّم لنا التقليد الكهنوتي المقطع الرئيسي الذي يحدّثنا عن أصل الفصح ويعطينا الفرائض التي يجب على العبرانيين أن يمارسوها. كلّم الرب موسى وهارون عن الفصح في أرض مصر (12: 1). ولكن لا يُعقل أن ينتظر الشعب سبعة أيام والوقت يدهمه. هذا يعني أن التقليد الكهنوتي يقدّم لنا تشريعاً لاحقاً نمَله إلى يوم الخروج من مصر ليربطه بهذا الحدث.
كانت السنة عند العبرانيين تبدأ في الخريف، ولكن في زمن البابليين (القرن 8 أو 7 ق. م) صارت بدايتها في الربيع في شهر أبيب أو نيسان كما يقول البابليون. إذاً نقل التقليد الكهنوتي إلى زمن الخروج ما تأسّس فيما بعد في الروزنامة السنوية.
وتوجَّه موسى وهارون إلى جماعة بني اسرائيل. الكلمة العبرية (عده راجع في السريانية عدتو التي تعني البيعة) تشير إلى أن الشعب جماعة منظّمة بترتيب في شعائر عبادتها. فهل كان العبرانيون كذلك يوم خرجوا من مصر؟ أما كانوا مجموعة من الفارين لا شيء يربطهم إلاّ شخص موسى؟
أين يحتفلون بالعيد؟ كل واحد في بيته. فإذا كان عدد أهل البيت قليلاً يدعون جيرانهم ليكون العدد كافياً. نحن إذاً أمام وليمة عائليّة يلعب فيه الأب دور الكاهن. وستتطوّر شعائر العبادة فيما بعد، وينتقل العيد إلى الهيكل ولكن يبقى الدور الأهم للأب حتى اليوم.
يكون الحيوان ذكراً ابن سنة من الخراف أو المعز. يشوونه في النار ولا يسلقونه. حين كان العبرانيون بدواً لا ماء عندهم، هكذا كانوا يفعلون. ولكن حين تحضّروا أخذوا يسلقونه في الماء (تث 16: 7). لا يأكلونه نيئاً، لا يأكلونه بدمه، ويجب أن تنتهي الوليمة خلال الليلة، قبل طلوع النهار، وإن بقي شيء من الذبيحة يُحرق.
وهناك طقس يشدّدون عليه: يمسحون قائمتي الباب وعتبته العليا بالدم. العادة قديمة وهدفها تأمين الحماية الالهية ضد الارواح الشريرة التي يمكنها أن تسيء إلى السكان. فمدخل البيت وبابه مكانان مقدّسان (تث 6: 9؛ 11: 20؛ عز 57: 8) لهذا يُمسحان بالدم علامة العهد بين الجماعة والاله، وبين أفراد الجماعة. وأخذ التقليد الكهنوتي هذه العادة القديمة وأعطاها مدلولاً جديداً: لم يُسفك الدم على المذبح ليكون مكرساً للرب، بل على الباب ليكون علامة للرب. بهذه العلامة تتأمّن حماية العبرانيين فلا تصيبهم الضربة. هذا هو معنى الفصح. سيقفز الرب فوق بيوت العبرانيين ولا يضربها. في ذلك اليوم مّيز الله بين شعبه وبين مضايقي شعبه، فأتمّ وعد الخلاص لأبناء ابراهيم.
ويقدّم لنا التقليد اليهوهي المطعّم بالتقليد الاشتراعي تعليمات للاحتفال بالعيد (12: 21- 28). دعا موسى شيوخ بني اسرائيل، لا الجماعة، ودعا كل عشيرة، لا كل بيت، وطلب من كل فرد أن لا يخرج من البيت قبل الصباح لئلا يضربه الملاك المدمّر. ويشدّد النص فيقول: احفظوا هذه التعليمات أنتم وابناؤكم مدى الدهر. وحين تدخلون الأرض التي يعطيكم الرب تتمّون شعائر هذه العبادة. واذا قال لكم بنوكم: ما هذه العبادة؟ قولوا لهم: هي ذبيحة فصح الرب.
ويعود التقليد الكهنوتي (12: 43- 51) فيقدّم لنا تحديدات عن طقوس الاحتفال بالفصح للذين سيعيشون في أرض كنعان. من هو من شعب الله؟ من ارتبط بالختانة بشعب الله تحقّ له المشاركة في الفصح.

3- الخبز الفطير
ترتبط طقوس الفصح (12: 1- 14) بطقوس الخبز الفطير (12: 15- 20) التي تفرض أن ينزع الخمير من كل بيت، والخمير علامة الفساد، وأن يأكل الناس خبزاً فطيراً على سبعة أيام. ومن تعدّى هذه الشريعة أكان من الشعب أو غريباً يحرم من العيش مع الجماعة، وهذا الانقطاع عن الجماعة يوازي في الزمن القديم الحكم بالاعدام.
الخمير نجاسة لا بدّ من نزعها من البيوت، والغلّة القديمة لن تفسد الغلّة الجديدة. هذا ما عرفه العبرانيون قبل أن يعطوا لعيد الخبز الفطير معنى تاريخياً ويربطوه بالخروج من مصر. ولما فعلوا ذلك عيّدوا عيد الفصح وعيد الخبز الفطير في الوقت ذاته. تذكّروا خلاصهم، وعبّروا عن هذا الخلاص في ليتورجيتهم.
قدّم لنا التقليد الكهنوتي تعليمات عن عيد الخبز الفطير (12: 15- 20)، وأعطانا التقليد اليهوهي المطعم بالتقليد الاشتراعي (13: 3- 10) تعليمات أخرى عن هذا العيد. يحتفل العبرانيون بهذا العيد في أرض كنعان. يدوم الاحتفال سبعة أيام وينتهي بالحج في معبد الرب (13: 6). سيتذكّر الشعب عيد الخبز الفطير (13: 3) كما سيتذكّرون يوم السبت ليقدّسوه (20: 8)، والتذكّر يجعل العيد حاضراً فيجد المؤمن نفسه كل سنة وكأنه يعايش الحدث يوم حصل. حين يسأل الابن عن معنى العيد يجيبه الاب: لأجل ما صنع الرب لي حين أخرجني من مصر (13: 8) فيحسب نفسه أنه هو أيضاً خرج من مصر مع موسى.
ويكون هذا الخلاص علامة لك على يدك وذكراً بين عينيك (13: 9). أي إن الخلاص مطبوع في التذكار كما لو أنه ترك آثاراً على اليدين وعلى الجبهة بين العينين. أجل إن ممارسة العيد تذكار حيّ وحاضر لشريعة الله وكلمته الفاعلة ويده القديرة التي خلّصت شعبه من العبودية لهذا يحتفل بنو اسرائيل بهذا العيد مرة كل سنة.
وترتبط بعيد الفصح وعيد الخبز الفطير، تعليماتٌ بشأن تقدمه الابكار (13: 1- 2، 11- 16). كانت الشعوب القديمة تعتبر أن بواكير الغلال ملك الاله وكذلك الابكار، فيجب أن تكرَّس له لتستجلب بركته. هذا التشريع موجود في العهد القديم ولكنه يرتبط هنا بالخروج من مصر والضربة العاشرة التي سبّبت موت الابكار فيها. حين يسألك ابنك: لماذا تقوم بهذه الممارسة؟ تجيب: لأن الرب أخرجنا بيد قديرة من مصر، من دار العبودية. ولما تصلّب فرعون ورفض أن يطلقنا، قتل الرب كل بكر في أرض مصر. ولذلك أنا أذبح أبكار البهائم وأفدي كل بكر من بنيّ (13: 14- 15). كانت هناك عادة قديمة عند البدو والحضر على السواء، فربطها العبرانيون بالتاريخ وأعطوها معنى لاهوتياً.

4- الضربة العاشرة والخروج من مصر (12: 29- 42)
وسط التعليمات بشعائر العبادة نعود إلى الخبر الذي تركناه في ف 11 والذي سنتابعه في 13: 17- 22. هذا المقطع (12: 29- 42) يروي ما حدث في ليلة الضربة العاشرة، وكيف رحل العبرانيون. هذا الحدث الذي هو قمة الخبر تحيط به التعليمات الطقسية التي تساعد على الاحتفال بذكرى الخلاص مدى الاجيال. الاستعدادات وتفاصيل الحدث ستبقى علامات تنطبع في عبادة العبرانيين وليتورجيتهم. حلّت الضربة بمصر فدبَّ الذعر في السكان وطلب فرعون من موسى وهارون أن يتركا البلاد مع كل الشعب والبهائم كما طلبا.
أي طريق أخذ بنو اسرائيل؟ تركوا رعمسيس وذهبوا إلى سكوت أو أقاموا في الخيام، وسكوت تعني أيضاً الخيام. كم كان عددهم؟ قال النص: ست مئة الف مقاتل. هذا رقم رمزيّ أكثر منه حقيقي، ومصر في كل عظمتها كانت تجنّد فقط خمسة وعشرين الف مقاتل. قالوا: أراد الكاتب أن يبين عظمة الخلاص الذي لم يتم لبعض القبائل، بل لشعب كبير جداً. وقالو: كلمة ألف تعني عشيرة. وهكذا يكون عدد الخارجين خمسة آلاف وخمسمئة شخص. ولكن يبقى المعنى الرمزي حاضرًا إذ ينظر الكاتب إلى المستقبل حين يأتي المسيح في نهاية الازمنة ويكون معه شعبه كله، والخارجون من مصر مهما قلّ عددهم هم علامة خلاص لشعب كبير بل لشعوب الارض كلها. هل نستطيع أن نحسب كل قبيلة جماعة كاملة؟ فالرقم 50000 (الذي هو ضرب 10 × 5 × 10) نضربه بالرقم 12 فيكون العدد ستمئة ألف مقاتل.

خاتمة
هذا هو معنى عيد الفصح. هو عيد الربيع وعيد تجديد الخليقة. وهو يحتفل بتحرير قوى الحياة في الكون بعد أن عاشت سباتاً عميقاً طوال فصل الشتاء. ولكن مع الشعب العبراني تحوّل العيد فما عاد يرتبط بتعاقب الفصول كما عند الكنعانيين، بل بحدث تاريخي هو تدخّل الله من أجل خلاص شعبه.
الفصح هو عبور الله الذي خلّص والذي يخلّص دوماً دون تمييز. هو يخلّص الضعيف والفقير والمظلوم، يخلّصنا من كل ضيق وعبودية وكل قوى الشر، يخلّصنا من كل ما يستعبد حريتنا، يخلّصنا من الموت والخطيئة وكل سوء. هذا هو المعنى الاساسي والعميق لعيد الفصح.
هذا الفصح عاشه يسوع مع تلاميذه فاحتفل به عهداً جديداً في دمه (لو 22: 20؛ 1 كور 11: 25). حلَّ يسوع محل الحمل الفصحي وصار فصحَنا (1 كور 5: 7). ونحن حين نجتمع للاحتفال بسر الافخارستيا نتذكّر موت يسوع (لو 22: 19؛ 1 كور 11: 25)، ولكن تذكّرنا يدخلنا في سر موت المسيح وقيامته، في سر فصحه وعبوره من هذا العالم إلى الآب، وفصحه تتمة لذلك الفصح الذي عاشه العبرانيون يوم خرجوا من مصر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM