الفصل الثاني والعشرون:الضربات العشر

الفصل الثاني والعشرون
الضربات العشر

وبدأ الصراع بين الله الحي والآلهة الكاذبة. موسى يعمل باسم الله وفرعون باسم الاصنام. أما ساحة الصراع فالشعب العبراني. نظر الله اليهم في ضيقهم فأراد أن يخلّصهم، لأنه يهتمّ بالضعفاء والمساكين، يحطّ المقتدرين عن الكراسي ويرفع المتواضعين. وعلى مثال العبرانيين يستطيع كل شعب ضعيف أن ينتظر العون من الله في صراعه ضد القوى الخارجية أو القوى الداخلية المتمثّلة بالاقطاع والاستغلال والظلم.
ولكن كيف سيحارب الله فرعون؟ بواسطة ما نسمّيها الضربات العشر. سيضرب الله مصر عشر ضربات، رمز الكمال. فالرقم عشرة جمع الاعداد الاربعة الاولى، والضربة العاشرة تكون الضربة القاضية ويخلي الفرعون سبيل العبرانيين. لا يذكر الكتاب اسم فرعون. فكل ملك في مصر يدافع عن الاوثان ويفرض عبادتها على شعبه والشعوب المجاورة (كما فعل سليمان يوم زوجه ابنته)، هو فرعون ولهذا يحاربه الله. ولا يحدّد العصر الذي حدثت فيه هذه الضربات التي هي بشكل آيات تدلّ على الله الحاضر هنا والعامل في تاريخ الخلاص. كل عصر يتلقّى التأديب من الله وكل شعب يصيبه العقاب من الرب إن هو حاد عن وصاياه.

1- الضربات العشر
أين دُوِّن خبر الضربات العشر الذي نقرأه في ف 7- 11 من سفر الخروج؟ دوّن في ظل المعابد وبمناسبة الاعياد. فالخروج من أرض مصر هو الحدث المؤسّس للشعب العبراني الذي آمن بالله مخلصاً. ولكن هذا الخلاص لم يتمّ بسهولة، بل رافقه صراع كانت نتيجته غير أكيدة في كل مرحلة. عاد العبرانيون إلى تقاليدهم يقرأونها، ينشدونها ويردّدونها، فيزيدون عليها ويبرزون يد الله القديرة التي تحدَّت أقوى دولة في ذلك الزمان لتخلّص حفنة من الناس وضعوا آمالهم في الرب.
الضربات عشر على عدد اصابع اليد، بعضها يرد في بضعة آيات (الثالثة) وبعضها يمتد إلى اثنتين وعشرين آية (السابعة). واليك لائحة بها:
1- المياه تتحول إلى دم (7: 14- 25)
2- الضفادع (7: 26- 8: 11)
3- البعوض (8: 12- 15)
4- الذباب السام (8: 1- 28)
5- الوباء الذي يضرب المواشي (9: 1- 7)
6- القروح التي تصيب البشر (9: 8- 12)
7- البَرد (9: 13- 35)
8- الجراد (10: 1- 20)
9- الظلمة التي تدوم ثلاثة أيام (10: 21- 29)
10- الاعلان عن موت أبكار المصريّين (11: 1- 10).
روى التقليد اليهوهي سبع ضربات هي: الاولى والثانية والرابعة والخامسة والسابعة والثامنة والعاشرة. وأورد التقليد الالوهيمي خمس ضربات: الاولى والسابعة والثامنة والتاسعة والعاشرة. والتقليد الكهنوتي خمس ضربات أيضاً هي الاولى والثانية والثالثة والسادسة والعاشرة. أما المزمور 78: 43- 51 فيورد سبع ضربات: الماء المحول دماً والبعوض والضفادع والجراد والبَرد والوباء وموت الابكار، والمزمور 105: 28- 36 يذكر ثماني ضربات: الظلمة، الماء المحوّل دماً، الضفادع، الذباب، البعوض، البَرد، الجراد، موت الابكار.
انطلق كاتب التوراة النهائي من هذه التقاليد المتعدّدة، وقدّم لنا عشر ضربات، فبيّن قدرة الله الحقيقية في صراع موسى وهارون وسط عالم السحر، بل في صراع الله مع فرعون الذي يحتفظ بالشعب العبراني ولا يتركه يقدّم عبادته للرب في الصحراء.
تحوّل الماء إلى دم. هكذا يتحوّل النيل كل سنة بفضل الوحول المتراكمة. انطلق الكاتب من هذا الواقع وجعل منه معجزة أمام فرعون الذاهب إلى النهر ليقوم بعبادته هناك (7: 15). فاض النهر فامتلأت أرض مصر بالضفادع. أمر الله فجاءت الضفادع، أمر الله (بناء لطلب موسى) فزالت الضفادع. اذاً أقر فرعون حين طلب من موسى وهارون أن الضربة جاءت من الله وأنه وحده يبطلها. ويأتي البعوض فيقرّ السحرة أن أصبح الله هنا. ولكن قلب الفرعون ظل قاسياً. ثم جاء الذباب المسمّم الذي يصيب المصريّين ولا يصيب العبرانيين. فالمصريون أشرار لأنهم يعبدون الاصنام، أما العبرانيون فأبرار لأنهم يعبدون الله الواحد. بعد هذه الضربة تبدأ المساومة والتراجع من قبل فرعون. وحلّ الوباء ببهائم المصريّين ولم يصب بهائم العبرانيين، وجاءت القروح فضربت الناس مباشرة في أجسادهم. ونزل البرد وهو مع البرق والرعد علامة حضور الله. يجب على فرعون أن يعرف أن لا إله مثل الله في جميع الأرض. عندما يضرب الله، فهو لا يريد أن يمحق الانسان بل أن يظهر مجده وقدرته. وخلال هذه الضربة نجد دعوة إلى عبيد فرعون ليخافوا الرب ويهربوا بماشيتهم. بعضهم سيخاف كلام الرب والبعض الآخر لا يوجّه قلبه إلى كلام الرب (9: 20- 21). وبدأ التبدل في موقف فرعون: أقرّ بخطيئته (9: 27) واعترف بعدالة الله وبره. وصلّى موسى فكفّت الضربة ليعرف الناس إن الأرض كلها للرب (9: 29).
وجاء الجراد وما زال قلب فرعون قاسياً. فليتعلّم العبرانيون عند رؤيتهم هذه المعجزات، ولا يقسّوا قلوبهم ويعلموا أن الله هو الرب الحقيقي (10: 1- 2). وحلّت الظلمة بسبب رياح الخمسين، بل بالاحرى لأن موسى مدّ يده بأمر من الرب. كانت الظلمة في أرض المصريّين والنور في أرض العبرانيين لأن الرب حاضر فيها.
ويعلن موسى الضربة العاشرة. هو لن يضرب، بل الرب بيده سيضرب، لأنه وحده يميت ويحيي. أما الصراخ الذي سيرتفع في أرض مصر (11: 6) فيشير إلى أحداث نهاية الازمنة، إلى دينونة الله.

2- نظرة تاريخية ولاهوتية إلى الضربات العشر
تتوالى الضربات بطريقة مرتّبة وكل واحدة تقابل رفيقتها. الاولى والثانية ترتبطان بمياه النيل، الثالثة والرابعة تنقلاننا إلى عالم الحشرات، الخامسة والسادسة تصيبان الانسان والحيوان. السابعة والثامنة تعودان بنا إلى عالم النبات، التاسعة والعاشرة تنقلاننا إلى عالم الظلمة والموت، والابكار ماتوا في نصف الليل. أجل، استعمل الله كل الوسائل ليتمّ عمله الخلاصي من أجل شعبه.
ونلاحظ تدرّجًا في الضربات. تبدأ صغيرة وتقوى إلى أن تصيب الفرعون نفسه في بكره. يبدأ موسى فيعلن عنها ببضع كلمات وينتهي بإعلان طويل يدل على يد الله وعلى متطلّباته من فرعون: اترك شعبي ليعبدوني في البرية. ويتدرّج موقف فرعون. في البداية لا يبالي بما يحدث، ثم يستدعي موسى وهارون ليطلبا إلى الرب أن تكفّ الضربة. وحين تكف يعود إلى تصلّب قلبه وعناده. بعدها يقدّم تنازلات ويضع شروطاً محدّدة: ليقدّم العبرانيون ذبائحهم في مصر دون أن يخرجوا إلى الصحراء. ليذهب الرجال وحدهم ولا يبتعدوا. ليذهب الشعب كله ويترك مواشيه في مصر. صمد موسى باسم الرب وتراجع فرعون أمام الضربة الاخيرة.
ونتساءل أية قيمة تاريخيّة لهذه الاخبار؟ أما اخترعها العبرانيون ورووها للاجيال اللاحقة؟ ثم ان المعجزات المروية هنا ليست عجائب تتنافى ونواميس الطبيعة. كل ما حدث في مصر يستند إلى ظواهر طبيعية: النيل يحمر، الضفادع والبعوض والذباب والجراد يهجم، الوباء والقروح والبرد والظلام الذي يحمله هواء الصحراء... كل هذا يحدث في مصر فيخلّف وراءه ذكريات مؤلمة. ونستطيع أيضاً أن نبيّن تسلسل هذه الضربات على أشهر السنة ونقدر الوقت الذي طالت فيه فاحلّت التعاسة والشقاء بأهل مصر. ولكن عندما نصنع هكذا نضيّع المعنى الحقيقي للتقليد الكتابي.
لاشكّ أننا نريد أن نفهم الامور من زاوية عقلية، ولكن لا بدّ من أن نعرف كيف يبدو النص الكتابي واضحاً أمامنا. فهو يحدّثنا عن معجزات اجترحها الله ليتمّ قصده الخلاصي لشعب اختاره له. والمعجزات لا تكمن في ما حدث، لأن ما حدث معروف وهو لايدهش فرعون ولا المصريّين. العمل العجائبي يكمن في حدوث هذه الظواهر في الوقت الذي يريده الله ليتغلّب على معارضات المضطهد. أجل إن الاحداث أقل أهمية من المضمون الذي ترتديه داخل تاريخ شعب الله. نحن أمام نصوص اخبارية، بل أمام تاريخ نبوي، تاريخ نقرأه على ضوء كلمة الله. نعود إلى الماضي ونكتشف فيه مكانة الاحداث في مخطط الله الذي ينفّذه من أجل شعبه ومن أجل جميع الشعوب. نعود إلى قراءة التاريخ ونترك الاسباب الطبيعية أو البشرية، فنتوقّف عند السبب الاول، عند الله الذي هو سيّد الأرض كلها والذي لا تقف قوة أمامه.
عندما يروي الكاتب الاخبار فهو لا يرويها لمجرّد روايتها، بل ليشهد شهادة إيمان بالرب، الاله القدير والطويل البال الذي يتمّم مواعيده ويقدّم في ما يعمله عربوناً لشعبه: يبقى هو هو في الماضي وفي الحاضر، يبقى الاله الذي يخلّص، الذي يقاتل ويضرب بقساوة، الذي يغفر وينقذ. بهذه الطريقة نقرأ خبر الضربات ولا نتوقّف عند الواقع المادي للاحداث. لا شك أن الخروج من مصر رافقته أحداث مأساوية اصابت المصريّين، فبقي ذكرها مطبوعاً في تقليد العبرانيين كصراع بين يهوه وفرعون، بين يهوه وآلهة مصر التي قهرها الاله الواحد بواسطة رسوليه موسى وهارون.
يوم أقام العبرانيون في أرض كنعان وعادوا إلى تاريخهم تذكّروا ما حدث لأجدادهم يوم خرجوا من مصر. كانت الصعوبات صغيرة ولكن الله تدخل بيد قديرة وذراع ممدودة، تدخّل بواسطة الطبيعة خادمته، فحمل شعبه إلى أرضه. وعاد الكتاب الملهم إلى هذه التقاليد وتوسّع فيها فصارت قراءة ليتورجية يردّدها بنو اسرائيل في أعيادهم. "أطلق شعبي ليخدمني" (7: 16، 26؛ 8: 16؛ 9: 1، 13). "وتقسّى قلب فرعون فلم يطلق الشعب" (7: 14؛ 8: 28). "وتصلّب قلب فرعون ولم يسمع لهما كما قال الرب" (7: 13، 22؛ 8: 11، 15؛ 9: 12). "وتعرف أني أنا الرب" (7: 17؛ 8: 6، 18؛ 9: 14؛ 10: 2). تتكرّر هذه العبارات فتعلق في ذاكرة السامعين. هكذا كان الشعب يستعدّ لعيد الفصح، هكذا كان الاولاد يتعلمون كيف خلّص الله شعبه، كيف خلّصهم هم، لأن الليتورجيا تجعل أحداث التاريخ وكأنها حاضرة لكل المشتركين فيها.

خاتمة
التاريخ في التوراة هو تعليم، والتوراة لا تروي الذكريات التاريخيّة الا من أجل مضمونها الديني الذي شدّد عليه الانبياء والكتّاب الملهمون. هذا التاريخ دوّنه الكاتب اليهوهي فاكتشف كلمة الله في الاحداث. أما الكاتب الكهنوتي فاهتمّ بتفسير الحدث ولاهوته على ضوء كلمة الله.
قبل ذهاب العبرانيين، حلّت في مصر بعض النكبات فاعتبرها العبرانيون كلمة الله متجسدة في عمله، وسبباً لقساوة قلب فرعون. أما حدث مثلها في أرض كنعان ليفهم بنو اسرائيل كلمات الله في أحداث هي آيات وتحذيرات وعبر؟ ويقول النص: ومع ذلك لم ترجعوا إليَّ (عا 4: 6). وكذا نقول عن النكبات الواردة في ف 7- 11 من سفر الخروج. أرادها الكاتب كلاماً من قبل الرب، ودعوةً لتبديل موقف، ونداءً إلى التوبة. فإن لم يسمع الانسان كلمة الله ستكون الضربة التالية أقسى ويكون العقاب أمر ولا بد من الوقوف أمام الرب الديان (عا 4: 12). هكذا يتعرف الشعب إلى الرب (7: 17) الذي لا مثيل له (8: 6، 9: 14) بقدرة يده التي لا تُقهر (7: 5؛ 9: 3).
أظهر الرب نفسه أمام المصريّين، فدخل بطريقة رسمية في التاريخ وفي العالم. قبل ذلك كشف عن نفسه للاباء، والان يتعرّف العالم إلى حضوره وقدرته. حضور الرب يكون خلاصاً للذين هم من الله وهلاكاً للذين يعارضون الله. هذا هو معنى خبر ضربات مصر، وهي لهذا تحمل بعدًا إسكاتولوجيًا فتعلن بداية دينونة العالم.
كانت ضربات مصر معجزات أرسلها الله ليحطّم عناد شعب وثني ومضطهد. وبما أن المملكة الرومانية المضطهدة كانت تلعب بالنسبة إلى الكنيسة الاولى دور مصر الوثنية، فإن سفر الرؤيا يعتبر أن الضربات ستصيب المملكة الرومانية. الله هو سيّد التاريخ ولا شيء يمنعه من العمل لمختاريه. غير أن الله في الضربة الاخيرة لن يقتل بكر ملك من الملوك، بل يسمح بموت بكره فيرتبط عيد الفصح بالحمل القائم كأنه ذبيح (رؤ 5: 6) ويغسل المؤمنون حللهم ويبيّضوها بدم الحمل (رؤ 7: 14) الذي يحمل خطايا العالم، الذي ما جاء ليهلك بل ليمنح الحياة الابدية لمن يؤمن به (يو 3: 16).

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM