الفصل الثاني عشر: خلق الكون والانسان

الفصل الثاني عشر
خلق الكون والانسان

نبدأ في بداية الكتاب المقدّس، ولاسيّما في العهد القديم. وأول ما نقرأه في سفر التكوين قد كُتب في الأخير. بعد أن تأمّل الكاتب في تاريخ شعبه وفي تاريخ الشعوب التي تحيط بفلسطين، عاد إلى الأصل الذي هو الله، عاد إلى سيّد الكون الذي هو الانسان شريك الله على الأرض. وهكذا قدّم لنا لوحتين عن خلق الانسان. في الأولى قال لنا إن الرب خلق الانسان على صورته ومثاله. خلقه رجلاً وامرأة يعطيان معاً أجمل صورة عن الله. وفي اللوحة الثاني نتعرّف إلى عناية الله الفائقة حين خلق الرجل من تراب الأرض، وحين خلق المرأة من قلب الرجل. وهذا كله فعله الله لأنه محبّة ويريد أن يشترك الانسان في هذه المحبة. يريد أن يعلّمه الحبّ الذي هو تضحية وعطاء.

1- نشيد الخلق (1: 1- 2: 4 أ)
أ- تحت قبّة الهيكل
أولاً: نشيد ليتورجي
الفصل الأول من سفر التكوين هو نشيد ليتورجيّ. يقف المؤمنون صفّين والكاهن بينهما. يعلن الكاهن: وقال الله: ليكن نور، فكان نور. فتجيب الجوقة الاولى: ورأى الله أن النور حسن. وجّيب الجوقة الثانية: وكان مساء وكان صباح: يوم أول.
يجتمع المؤمنون في الهيكل، والهيكل مبنيّ على صورة الكون. الهيكل يقوم على أربعة عواميد تعلوها قبّة، والكون ثابت على أربعة عواميد تنغرز في المياه، وفوقها القبة الزرقاء. الله حاضر في الكون كما هو حاضر في الهيكل، والمؤمن يمجّد الله في الهيكل مركز حضوره كما يمجّده في الكون على ما يقول المزمور 19: 2: "السماوات تحدّث بمجد الله والافلاك تخبر بعمل يديه".
ولكن الخلائق من جماد ونبات وحيوان لا فم لها يتكلّم ولا صوت لها يُفهم، لهذا سيكون لها فم الانسان وصوته: ورأى الله ذلك أنه حسن. وتتردّد العبارة سبع مرات (اذا اتبعنا النسخة اليونانية في آ 8) لتعبّر عن نظرة الله إلى الكون بل نظرة الانسان من خلال نظرة الله. وفي المرة السابعة يقول الكتاب: اذا هو حسن جداً. أكمل الكونُ يوم خُلق الانسان، ولولا الانسان لظل ناقصاً، لأنه وحده يرفع الكون إلى الله في صلاته وبالاخص يوم السبت، يوم عيد الرب وراحته. يتوقّف الانسان عن العمل وينفلت من عبوديّة الارض ليتطلّع إلى الله في فعل عبادة وشكر ومديح: المجد لك يا الله، المجد لك.
ثانياً: في ستة أيام (خر 20: 9)
نظّم الشاعر نشيده في ستّة مقاطع وجعل الخاتمة في المقطع السابع، فقسم الخلائق على ستة أيام. جعل الانسان يعمل أعماله في ستة أيام ويرتاح في السابع، ثم يعود إلى العمل من جديد.
في اليوم الاول خلق الله النور، وفي اليوم الثاني خلق الجلد أو الفلك، وفي اليوم الثالث خلق النبات، وفي اليوم الرابع جعل نيّرات في السماء. وفي اليوم الخامس خلق الطير والسمك، وفي اليوم السادس البهائم والناس. في الايام الثلاثة الأولى فصل بين عالمين، فصل بين النور والظلمة. بين المياه الفوقيّة والمياه التحتيّة، بين اليابسة والبحر. وفي الايام الثلاثة اللاحقة زيّن الفلك بالشمس والقمر والنجوم، وجعل السمك في المياه، والطير في الجو، والحيوان على الأرض. في اليوم الثالث يقوم الله بعملين وكذا يفعل في اليوم السادس، فالعمل يسبق الانسان، ولكن على الانسان أن ينظّم حياته ولا يقوم بعمل يوم السبت حتى في أيام الزراعة والحصاد. فالله يبارك أيام الاسبوع ويعطينا في اليوم السادس طعام يومين فلماذا لا نرتاح في اليوم السابع (خر 16: 29- 30)؟
ثالثاً: الانسان على صورة الله
خلق الله الكون وجعله هيكلاً يحكي عن مجده وعظمته. وحين هيّأ كل شيء، جعل في هذا "الهيكل" الانسان المخلوق على صورة الله ومثاله. لا يحقّ للمؤمن أن يصنع لنفسه صورة أو تمثالاً عن الله، لا يحقّ له أن يعبد أو يرهب أي شيء في السماء من فوق، في الأرض وتحت الأرض من أسفل (خر 20: 3- 5). المؤمن لا يسجد إلاّ لله الواحد. أما صورة الله الوحيدة على الأرض فهي صورة الانسان. الانسان قريب من الإله بعد أن كلّله الله بالمجد والكرامة وسلّطه على المخلوقات وجعل كل شيء تحت قدميه (مز 8: 6- 7). هذه الكلمات هي ترجيع لما نقرأه هنا: أخضعوا الأرض، تسلّطوا على أسماك البحر وطيور السماء وكل حيوان يدبّ على الأرض (تك 1: 28).
الانسان على صورة الله، وهو يعطي الله وجها بشرياً ليكون قريباً منه. الله كائن حيّ يتكلّم كما يتكلّم الانسان. قال الله، فتكونت الكائنات. والله يفعل: صنع الفلك والنيرين العظيمين ووحوش الأرض. ولكن وإن ارتفع الانسان إلى مستوى الالوهة، إلاّ أنه يبقى خليقة كسائر الخلائق وكل عظمته تقوم في أن ينظر إلى الخالق ومنه يأخذ ملامحه.
رابعاً: فعل إيمان بالله
هذا النشيد هو أولاً وآخراً فعل إيمان بالله.
لا الله الا الاله الواحد، الله ابراهيم واسحاق ويعقوب. وهذا الاله أزلي، وهو موجود قبل العالم وهو الذي خلق العالم بكلمة من فمه، بحركة من يده.
هذا الإله الازلي هو كلي القدرة. خلق السماء والأرض وكل ما فيهما، خلق الكائنات المنظورة والخفيّة، الكبيرة والصغيرة، حتى تلك التي يخاف منها الانسان كالتنانين العظام.
الخليقة صالحة وحسنة ولا سوء فيها، لأنها خرجت من يد الله الصالح. ولهذا الاله ننشد: إحمدوا الله لانه صالح، وإن إلى الأبد رحمته.
الخليقة حسنة وأحسن ما فيها الانسان. الكون عظيم والأرض هي في وسط الكون. الأرض واسعة ولكن سيّدها هو الانسان. المخلوقات متنوّعة ولكن الانسان المصنوع مثلها يتسلّط عليها لا باسمه بل باسم الله. أجل أعطى الله الانسان كل شيء فأعطاه الفرح والسعادة وأراد أن يشركه في عمل الخلق. سينمو الانسان ويكثر فيملأ الأرض، ولكنه سيعمل مع الله ليرفع الخليقة معه في تمجيد الله وتسبيحه.

ب- إيمان بالله الواحد
أولاً: لا للآلهة الكاذبة
فعل إيمان الانسان هذا له وجهة إيجابية تحدّثنا عنها فقلنا: لا الله الا الاله الواحد. وله وجهة سلبية، فيها يرفض الانسان كل ما يتعلّق من بعيد أو قريب بعبادة أي شيء ليس الله. الرب الله غيور (خر 2: 5) لا يرضى أن نعبد الاّه. ولا يرضى عنا حين نسجد أمام الخشب والحجر. أصنام الامم لا آذان لها لتسمع، لا عيون لها لترى، لا أنوف لها لتشّم.
في هذا النشيد يرى المؤمن نفسه محاطاً بثلاثة أنواع من الحيوانات يراها في السماوات والأرض. إن تطلّع إلى مصر رأى الناس يهابون الحيوانات الضخمة، رهب والتنين (أش 51: 9) لاويتان والحوت (أي 40: 21 ي). وإن تطلّع إلى بلاد الرافدين رأى الناس يعبدون الشمس والقمر والكواكب. وإن تطلّع إلى بلاد فينيقية أحسّ كم يهتم الناس لآلهة الخصب وللأشجار المقدّسة وليس آخرها الارز. اذًا لا بدّ من نزع الهالة "المقدّسة" عن هذه الخلائق المؤلّهة. لا بدّ من عملية تزيل جو السطرة والخرافة عن هذه المخلوقات التي يهابها الانسان ويحسبها تتحكّم في مصيره.
الحيوانات الداجنة والوحوش المفترسة هي خليقة الله وهي تأتمر بأمره، والحوت العظيم لا يفرق عن الحرذون في نظر الله، وبهيموت يأكل العشب مثل البقر (أي 40: 10)، ولاويتان يربطه الله بحبل أو يصطاده كما بشصّ. لهذا لا يهابها العبراني كما لا يهاب ما يشعّ في السماوات من نيّرات. الشمس المعبودة والقمر المعبود يسمّيهما الكاتب هنا النيرين اللذين خلقهما الله كما خلق غيرهما وحدّد لهما دورهما: يضيئان على الأرض، يفصلان بين الليل والنهار، يدلاّن على الأعياد والأيام والسنين. والكواكب ليست آلهة يعبدها الانسان، بل خلائق في خدمة الانسان. ليست هي ما يقرّر مصير الانسان كما في العلوم الاسترولوجية والتنجيميّة. بل الله هو الذي يوجّه كل شيء لخير الذين يحبّونه. أما النبات فلا يذكر مع الحيوان، إن هو إلاّ طعام للانسان والحيوان، فكيف نهاب "شجرة مقدّسة" ونحسب أن لها عيوناً تراقب حياتنا كما لا يزال يفعل الكثيرون اليوم في بعض مناطق أفريقيا؟
سجد الانسان للسماء، وعبد الأرض، واتحادُهما يخصب الأرض، خاف من المياه وحسب القمر إلهًا: تيامات عند البابليين وتهوم عند العبرانيين، ولكن الله خلق السماء والأرض والقمر فلا يمكن أن تكون هذه الخلائق آلهة. فالذين لم يعرفوا الله هم حمقى لأنهم لم يميّزوا بين "يهوه" الكائن والخيرات المنظورة، ولانهم لم يتأملوا ما صنعه الله فيتعرفوا اليه، لكنهم حسبوا النار والريح أو الهواء اللطيف أو مدار النجوم أو لجّة المياه (الغمر) أو نيّري السماء (الشمس والقمر) آلهة تسود العالم. هي كائنات جميلة، ولكن خالقها أجمل منها وهو مبدأ كل جمال. كائنات قوية، ولكن خالقها هو مبدأ قوة (حك 13: 1 ي).
ثانياً: فعل إيمان لا نظرية علمية
يُنشد الكاتب الخلق فيقول: الماء مصدر كل شيء. في البداية كان الغمر، كانت المياه الغزيرة، فبنى الرب قبّة فصل بها المياه الفوقيّة عن المياه التحتيّة. وثبّت الأرض وسط المياه على عواميد أربعة.
وينقل إلينا الكاتب أن الانسان كان يقتات من عشب الأرض، لا من لحم الحيوان، ولن يحق له ذلك إلاّ بعد الطوفان (9: 1 ي).
ويفهمنا الكاتب أن السنة تبدأ يوم الأربعاء، يوم خلق الله الشمس والقمر لتفصلا بين الليل والنهار.
وقسم الحيوانات والوحوش بحسب علم ذلك الزمان.
واستفاد من خرافات عالم بابل كما قرأها في مكتبات بابل في القرن 6 ق. م: يوم لم يكن ذكر للآلهة في العلاء، يوم لم يكن للأرض اسم (نشيد إنوما إليش).
غير أن كل هذه المعطيات جعلها الكاتب في خدمة إيمانه واستفاد منها ليرفع صلاته إلى الرب في إطار عمل ليتورجي. ولكن جاء من يقرأ هذه النصوص ليجد فيها تأكيداً لنظريات علميّة حديثة باسم نظرية توفيقية تحاول أن توفق بين ما يقدّمه لنا العلم وما يقدّمه لنا الكتاب المقدّس. قالوا إن الكون خُلق في ستة أيام، إذًا هذا يتوافق ومراحل تكوين الكون الست. ولكن هناك علماء يعتبرون أن مراحل تكوين الكون هي أربع. وقالوا بتطوّر الكون من المياه وقد أرادوا أن يجدوا سنداً لأرائهم. لا، ليست كلمة الله وسيلة بين يدي العلماء، بل هي تفرض نفسها على المؤمن وتطلب منه أن يسمع لها ويدخلها حياته. ولا ترتبط كلمة الله بنظريات علمية تبرز اليوم وتزول غداً، فكلمة الله ثابتة لا تتبدّل بتبدّل الظروف، وهي تدعونا إلى اعلان ايماننا بالله الذي خلق السماء والأرض. وهي تحثّنا على تقبل مخلوقاته الحسنة كعطية نتسلط عليها باسم الله ولخدمة الانسان. وتطلب منا أن نعمل يداً بيد مع الله ستة أيام. وأن نتوقف عن العمل، فيكون يوم السبت أو عيد السبت مناسبة نرفع فيها قلوبنا إلى الله ونرفع معنا الكون في صلاة شكر ونشيد لمن خلق منذ البدء السماء والأرض. قال فكان كل شيء، وأمر فكان كل موجود.

2- الانسان في الفردوس (2: 4 ب- 25)
بدأ الكتاب كلامه بفعل إيمان بالله الواحد. وها هو يعلن هذا الايمان حين يقول إن الانسان خُلق للسعادة، خُلق للنعيم، رغم كل الظواهر التي حولنا. بعد أن طرح السؤال وقدّم الجواب، حدّثنا عن الفردوس الذي ينتظره الانسان في النهاية، مع أنه وُضع في قلبنا منذ البداية. فالفردوس هو الله. وسيظلّ قلبنا قلقاً حتى نرتاح في الله. أما هذا الذي حدث للصّ اليمين ساعة قال له يسوع: "اليوم تكون معي في الفردوس"؟

أ- سؤال وجواب
أولاً: سؤال يعذّب المؤمن
تساءل المؤمن: كيف يملك الالم والشقاء والمرض والموت في عالم هو صنع الله الصالح؟ هل يمكن أن يكون الله الرحيم والقدير قد خلق كوناً ناقصاً يحمل في طيّاته الخلل والفساد؟ إذًا ما يقوله الملحدون عن إله قاس لا يشفق على البشر هو قول صدق! وإلاّ فكيف ندافع عن فكرة الله الحقيقية في قلوب البشر؟ من أجل كل هذا دوّن الكاتب الملهم مَثل جنة عدن واستعان بالصور القديمة التي ترسم أمام الانسان سعادة تامة هي عطية الرب لصديقه وخليله، للانسان الذي خلقه بعناية ومحبة.
أما الجواب فاكتشفه الكاتب انطلاقاً من تاريخ شعبه وكلام أنبيائه. قال الله بواسطة موسى (تث 30: 15): "جعلت اليوم أمامك الحياة والخير والموت والشر، جعلت أمامك السعادة والشقاء وأنت تختار بينهما". اذًا بركة الله نتيجة اختيارنا لوصاياه، والشقاء الذي حلّ بنا هو نتيجة عصياننا لأوامره. كوّن الله شعبه في مصر وجعله في أرض كنعان وأعطاه وصايا وفرائض. فإن حفظها عاش في أرضه بأمان وعرف السعادة، وإن تعدّاها سيحلّ به الشقاء ويُطرد من أرضه. تلك هي قصة الفردوس. خلق الله الانسان الاول في "صحراء"، وجعله في جنّة وأعطاه وصيّة. ولكن الانسان خالف الوصيّة فطُرد من الجنة وعاد إلى الصحراء حيث ينبت الشوك والقطرب.
تلك هي قصة شعب الله، ذاك هو تفكير المؤمن في عهد سليمان وملوك بني اسرائيل. وتلك هي قصتنا نحن وقصة الفردوس ليست بعيدة عنا نحن الذين نحلم بعالم يخيّم عليه السلام وتسود فيه المحبة فلا يقتل الاخ أخاه ولا يتعدّى القويّ على الضعيف.
كلنا نتساءل منذ بداية الكون إلى نهاية التاريخ: أين السعادة؟ جعلتها الميتولوجيات السومرية في مكان بعيد (دلمون) في بلد الاحياء او "بلد الحياة" الواقع إلى الشرق حيث الغراب لا ينعق والاسد لا يقتل والذئب لا يفترس الحمل، حيث لا يحسّ المريض بمرض، ولا الشيخ بعجز، حيث لا بكاء ولا تأوّه. وقال أشعيا في هذا المعنى: "يسكن الذئب مع الحمل، ويربض النمر مع الجدي... الاسد يأكل التبن كالثور، ويلعب المرضع على جحر الافعى"... لا سوء ولا فساد في كل جبل الله المقدّس (أش 11: 6 ي). تلك تكون البداية بحسب سفر التكوين. أما سفر الرؤيا فيقول: "تزول من عيون المخلّصين كل دمعة"، ولا يكون نوح ولا صراخ ولا وجع بعد (رؤ 21: 4). هل هذا عالم الاحلام؟ كلا، بل هو عالم الحقيقية كما يراه الايمان.
ثانياً: الفردوس الارضي
انطلق الكاتب الملهم من اختباره الايماني وتوسّل الصور والتشابيه وحدّثنا عن الفردوس الارضي. هناك صورتان مركّبتان وُضعت الواحدة فوق الاخرى، الصورة الاولى غامضة بمعنى أنها لا تقدّم لنا أيَّ تفصيل جغرافي. غرس الرب الاله جنة وجعل فيها الانسان الذي جبله. أما الصورة الثانية فتحدّد الموقع: في عدن شرقاً. وتعدّد الانهار التي تجري في هذا المكان. الصورة الاولى أعطتنا فكرة عن السعادة التي نحصل عليها برفقة الله، وهذا ما تعبّر عنه الجنة (والواحة في الصحراء) بالنسبة إلى البدو الذين يهمّهم أكثر ما يهمهم الماء والكلأ. اذا كان القفر علامة الموت لأن لا ماء فيه ولا كلأ، ففي الجنّة الحياة والسرور والفرح (أش 51: 3). والصورة الثانية تربط بين "الجنة الاولى" وسائر الأرض حيث يسير التاريخ مسيرته. هناك نهران معروفان دجلة والفرات، ونهران غير معروفان. وهكذا نكون على الحدود بين الواقع وما هو وراء الواقع. هل أراد الكاتب أن يبيّن لنا أن الشوق إلى "جنة عدن" ليس حلماً وسراباً بل هاجس وصوت خفيّ في أعماق قلوبنا يدعونا إلى سعادة خلقنا الله لها.
في هذا الفردوس نرى "كل شجرة حسنة المنظر وطيّبة المأكل" ولكننا نرى أيضاً "شجرة الحياة" التي تعطي الانسان الخلود وتمنع عنه الموت. إلى هذه الحياة سعى البطل الاسطوري غلغامش، وحسب أنها موجودة في عشبة خاصة موجودة في قعر البحار. وصل إليها، ولكن ما إن حصل عليها حتى سلبتها منه حية هناك، هي رمز إلى قوى الموت. ونرى أيضاً شجرة معرفة الخير والشر أو الشجرة التي تعطي السعادة والشقاء، وهي ترتبط بشجرة الحياة. ومعنى هذا أن الانسان إن ارتبط بالخير والسعادة عاملاً بوصايا الله حصل على الخلود ولم يصل إليه الموت (رج شخص أخنوخ في تك 5: 24). أما اذا أراد أن يعرف الشر ويتعلّق به رافضاً طريق الرب فهو يسير إلى الموت. أما هذا الذيَ حصل لشعب اسرائيل يوم لم يسمع لكلام الرب فكان له المنفى أي طريق الذل والموت؟ شجرة الحياة تشبه هيكل الله ولا يقترب منها إلاّ من عرف الخير دون الشرّ، والله يُدخله إلى مغناها (تك 3: 22). أما والانسان أخذ طريق الشرّ والشقاء فلن يكون له أن يمدّ يده إلى شجرة الحياة.

ب- الانسان في الفردوس، في النعيم
ينعم الانسان بالحياة في الفردوس لانه يرتبط بالله بعلاقة أين منها علاقة الصديق بصديقه والحبيب بحبيبه. ويصوّر لنا الكاتبُ الله بملامح بشريّة تجعله شبيهاً بالبشر. جبل الانسان من التراب كما يفعل الفخاري بابريقه، ونفخ فيه نسمة من روحه، أعطاه شيئاً منه. لأجله زرع الجنة وكوّن الحيوانات وجعلها في خدمة الانسان. وجاء الله بالانسان إلى الجنة وكان يتمشّى معه عندما يطلع النسيم البارد عند المساء (3: 8).
هذا الانسان مأخوذ من الارض فهل يستطيع أن يتكبّر على جابله. هو (آدم أي الاسمر) من التراب (أدمه: أي ظاهر الارض) والى التراب يعود (3: 19). وهو نفس حية أي كائن حيّ وشخص حرّ يستطيع أن يقيم علاقات بينه وبين الله. وهذا ما يميّزه عن الحيوان. وهو يشارك الله في عمله: يحرس الجنة ويفلحها (2: 15) بعد أن جعلها الله هديّة بين يديه. وهكذا لا يكون العمل قصاصاً من الله وعقاباً بسبب الخطيئة. العمل جزء من رسالة الانسان، وبالعمل تتكوّن شخصية الانسان وتنمو. آدم مسؤول عن الأرض وقد سُلمِّ إليه أمرُ حراستها كما سيكون قايين مسؤولاً عن أخيه. ولكنّه سيرفض أن يكون حارساً لأخيه (4: 9) فيصير له قاتلاً، وآدم سيحمل اللعنة إلى الأرض.
الفردوس مسكن الله وسط الخليقة ورمز حضوره وقدرته وحبّه الملموس للانسان. الفردوس وسط الكون كالهيكل وسط الأرض المقدّسة. في الهيكل يحسّ المؤمن كأنه أمام الله وكذلك في الفردوس. فاذا كان الفردوس مركز حضور الله فحيث يكن الله فهناك الفردوس. وإذا كان الله حاضراً في الكون فالكون كله يصير فردوساً. اذا لن نبحث عن مكان الفردوس لا في "دلمون" الذي يعني أرض الحياة كما تقول النصوص الاشورية ولا في عدن التي تعني الرغد والخصب ولين العيش كما تقول النصوص الكتابية. الفردوس حالة من السعادة يحسّ بها الانسان العائش مع الله الذي قال فيه القديس بولس (أع 17: 28) إن لنا فيه الحياة والحركة والكيان.
بعد هذا لا نطرح على نفوسنا أسئلة عن مكان الفردوس ولا عن ارتباط أنهاره بعضها ببعضها. فالمياه الكثيرة في هذا الشرق رمز للوفر والخير والسعادة. ولن نتساءل: هل كان الاسد يأكل التبن كالثور لكي لا يسيء إلى البقرة؟ وهل تأكل الافعى التراب (أش 65: 25) فلا تضرّ بالطفل الجالس فوق جحرها؟
بعد هذا لا يتساءل الانسان اذا كان الله هو أصل الشر والشقاء في العالم، بل ينطلق قلبه في نشيد شكر وصلاة إلى ذلك الذي اهتمّ بالانسان كل هذا الاهتمام وجعله سيّداً على الكون. ويتلفّظ لسانه بدعاء إلي الذي يستطيع اليوم أن يملأ قلبه سعادة ستكون صورة مسبقة لتلك السعادة التي نالها لص اليمين يوم موته: اليوم تكون معي في الفردوس. تلك كانت كلمات يسوع (لو 23: 43).
بعد هذا لا نتساءل نحن: من أين يأتي الانسان؟ هل هو حيوان تطوّر فصار انساناً، أم أنه جُبل من تراب الأرض؟ لا شكّ في أن الكاتب أخذ اسلوب القدماء (صورة الاله الخالق اشنوم في قصر الاقصر وهو يكّون أجساداً بشرية كما يفعل الفخاريّ) فتصوّر الله فخاريًا، ولكنه جعل النفس (نسمة الحياة) تخرج من الله وتدخل هذا المركّب الترابي الذي هو الانسان. أما اليوم فنتحدّث عن التطوّر. ولكن يجب أن لا ننسى أن الانسان يتمّيز كلياً عن الحيوان بحيث إنه يجب القول بتدخّل خاص من قبل الله حين نتحدّث عن الانسان وعن خلق النفس البشرية. الطريق طبيعية بين النبات والحيوان، ولكن بين الانسان والحيوان هوّة لا يردمها إلاّ الله، وهذا ظاهر من طريقة خلق الله للناس. يقول الكتاب: توقّف الله، تشاور مع نفسه، وقال باحتفال مهيب: لنخلق الانسان.
هذا هو فعل ايمان الكاتب الملهم. الله خلق الانسان وجعله في الفردوس، في النعيم، لتكون له السعادة في العيش مع الله. ولكن هل سيعرف الانسان أن يحافظ على هذه السعادة؟ هل سيختار طريق الخير فيحقّ له أن يتمتع بالحياة (بشجرة الحياة) مع الله؟ بل سيختار طريقُ الشر التي تصل به إلى الموت والرذل الابدي (دا 12: 2).

خاتمة
تلك هي صورة الانسان منذ بداية الكون والتاريخ. هو الذي خُلق على صورة الله، ولا شيء يمحو هذه الصورة التي ستجد كمالها في يسوع المسيح الذي هو صورة الله الذي لا يُرى. وقد جُعل الكون في خدمة الانسان فزرع الأرض وفلحها، وأعطى أسماء الحيوانات، وها هو يتابع عمله في الكون لكي يرفعه إلى المسيح. وفي النهاية يقدّمه المسيح لله. وهكذا، بعد أن انطلقت الخليقة من الله وسارت مسيرتها، تعود في النهاية إلى الله. ذاك هو العمل الذي يبدأه الانسان على الأرض، ويكمّله ابن الانسان الآتي من عند الله على سحاب السماء.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM