الفصل الحادي عشر: سفر التكوين كما قرأه العلماء والأنبياء والكهنة

الفصل الحادي عشر
سفر التكوين كما قرأه العلماء والأنبياء والكهنة

1- ثلاثة كتبوا سفر التكوين
تعوّدنا أن نقرأ سفر التكوين كما نقرأ قصة من القصص تتوالى أحداثها وتتتابع، فلا نجد فيها ما يلفت انتباهنا وما يغذّي إيماننا. ولكن اذا حاولنا أن نقرأ نصوص هذا السفر متمهّلين، وسعينا على خطى الشرّاح الذين تأمّلوا فيه وغاصوا على معانيه، لاكتشفنا كنوزاً قديمة وجديدة ما كنا لنحلم بها. هذا لا يعني ان الكتاب المقدّس لا يُفهم من دون عون الشرَّاح، ولكن فهم النصوص من الوجهة الادبيّة والتاريخيّة والجغرافيّة يساعدنا على الولوج في أعماق كلام الله بطريقة أفضل.
قرأ الشرَّاح سفر التكوين فوجدوا أنه تأليف يستند إلى ثلاثة مصادر، إلى تقاليد ثلاثة، تضمّها بعضها إلى بعض وحدةٌ محكمة لا تطمس معالم كلٍّ من هذه التقاليد. فهناك تقليد مدينة أورشليم الذي كتبه الحكماء في ظلّ الملك سليمان، فشدّدوا فيه على أن الوعد المعطى لابراهيم قد تحقّق في بيت داود ومملكته. اسمه التقليد اليهوهي، لأنه يدعو الرب باسم يهوه، أي الكائن الذي هو. وهناك تقليد مدينة السامرة، عاصمة قبائل الشمال. دوّنه كتّاب في ظل الانبياء فشدّدوا على دور ابراهيم النبي الداعي المؤمنين إلى العيش بمخافة الله والطاعة لوصاياه. اسمه التقليد الالوهيمي، لانه يدعو الربّ باسم الوهيم، أي إله الآلهة، أي الإله القوي والقدير (في العربيّة: اللهمّ). وهناك تقليد ثالث دوَّنه الكهنة في ظل هيكل اورشليم، فشدّدوا فيه على عهد الله القدوس مع شعبه. اسمه التقليد الكهنوتي، لأنه نتاج تأمل الكهنة في كلام الله وحصيلة ارشاداتهم للشعب. إلى هذه التقاليد أو المصادر الثلاثة يضاف تقليد رابع هو التقليد الاشتراعي الذي نكتشفه في سفر تثنية الاشتراع وهو ملتقى ما دوّنه الكهنة والحكماء وتلاميذ الانبياء.
ولكن يسأل سائل: لماذا التطرّق إلى هذه التقاليد وأيّة فائدة من تجزئة الكتب المقدّسة وتفتيت نصوصها؟ للجواب عن هذا السؤال نأخذ مثلاً من الأناجيل. نحن نعرف ان الانجيليين الاربعة دوّنوا لنا ما فعله يسوع من أعمال وقاله من كلام، ولكننا نعرف أيضاً أن كل انجيلي شدّد على ناحية خاصة من حياة يسوع، فأبان متى مثلاً أن الكتب تمت في شخص المسيح، وأظهر مرقس أن يسوع هو ابن الله... وحصل في تاريخ الكنيسة أن حاول بعض الكتّاب (وما زالوا) أن يجمعوا الاناجيل الاربعة في انجيل واحد، ويكمّلوا ما قاله الاول بما أهمله الآخر. فلو نجح سعي طاطيانوس، ذلك الكاتب السوري العائش في القرن الثاني ب. م، فجعل انجيله الواحد المسمّى دياطسارون يحل محل الاناجيل الاربعة، لوجب علينا اليوم أن نميّز تقليد كل من متى ومرقس ولوقا ويوحنا، مع ما في هذا العمل من مغامرة، لنكتشف غنى كل انجيلي، وإلاّ كانت لنا صورة مشوّهة عن يسوع. ولكن ما لم يتمّ بالنسبة إلى الاناجيل الاربعة تمَّ بالنسبة إلى التقاليد الكتابيّة التي ذكرنا. فكل من التقليد اليهوهي والالوهيمي والكهنوتي يحدّثنا عن بداية الكون، عن علاقة الله بالانسان، عن عهد الرب مع شعب اختاره ليحمِّله رسالة اعلان عظائمه. ولكن كل تقليد ينظر إلى هذه الأمور من منحاه الخاص. وهذا ما سنحاول أن نكتشفه على خطى الحكماء في أورشليم، والأنبياء في السامرة، والكهنة في الهيكل.

2- تقليد الحكماء أو المصدر اليهوهي
وقال الرب لابرام: "إرحل من أرضك وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أريك، فأجعلك أمّة كبيرة وأباركك وأعزّز اسمك، وتكون بركة، وأبارك مباركيك وألعن لاعنيك، ويتبارك بك جميع عشائر الأرض" (تك 12: 1- 3).
هذا المقطع من التقليد اليهوهي يُلقي ضوءاً على ما أراد الحكماء أن يقولوه في أورشليم، وهو أن البركة ترافق شعب الله منذ دعوة ابراهيم حتى أيام داود ونسله. فالربّ الذي قال لابراهيم: "أجعلك أمّة كبيرة، وأباركك، وأعزز اسمك"، هو ذاته الذي قال لداود: "أقمت لم اسماً كاسماء العظماء الذين في الأرض" (2 صم 7: 9).
هذه البركة ضرورية بعد أن حلّت اللعنة في تاريخ البشريّة. بعد الخطيئة الاولى حلّت اللعنة بالحيّة (تك 3: 14) ثم بالأرض (تك 3: 17). وبعد مقتل هابيل حلّت اللعنة بقايين قاتله (تك 4: 11)، وبعد أعمال لامك الانتقاميّة (تك 4: 22- 23) حلّت اللعنة بالقبائل التي ستتناحر وتتقاتل إلى أن تفنى، وبعد خطيئة حام بن نوح (تك 9: 5) حلّت اللعنة بنسله بني كنعان. خمس لعنات في الماضي تقابلها خمس بركات أعطاها الله لابراهيم ونسله، ومن خلاله إلى جميع عشائر الأرض وشعوبها.
هذه البركة سترافق ابراهيم (تك 18: 17- 18) وتصل إلى ابن أخيه لوط، وعبر لوط إلى بني عمون وبني موآب سكان شرقي الاردن اليوم (تك 19). ولكنها تنقلب لعنة على فرعون (تك 12: 7) لأن أب الآباء تخلّف عن القيام برسالته ونسي موعد الله له. وينعم اسحاق بن ابراهيم ببركة الله له، فتكثر غلاله وتنمو مواشيه فيصير عظيماً جداً، وذلك لأن الرب معه (تك 26: 13، 28). ويقيم يعقوب بن اسحاق عند خاله فيتبارك خاله بسببه (تك 30: 27)، كما يتبارك فوطيفار المصري بسبب يوسف بن يعقوب (تك 39: 5)، بل تتبارك مصر كلها وتنجو من الفناء جوعاً بفضل من ارتبط اسمه بالحياة (تك 41: 45).
وعد الرب ابراهيم ببركة تصل إلى كل الشعوب، فتجعل تاريخ الكون مشمولاً برحمة الله رغم الخطيئة، وحياة الناس مغمورة ببركة تمرّ عبر شعبه إن هو حافظ على العهد، والتي تنقلب لعنة إن هو خان عهد الرب. ولكننا نعرف نحن المسيحيين أن نسل ابراهيم الحقيقي هو المسيح (غل 3: 5) الذي لنا فيه عهد أبدي مع الله (1 كور 11: 25).
هذا هو المعنى الرئيسي الذي نستنتجه من قراءتنا للفصول الراجعة إلى التقليد اليهوهي وهي 2: 4- 4: 26؛ 6: 1- 8؛ 11: 1- 9؛ 12: 1- 20؛ 16: 1- 14؛ 18: 1- 19؛ 24: 1 – 67؛ 26: 1- 27؛ 29: 1- 35؛ 33: 1- 31.

3- تقليد الانبياء أو المصدر الالوهيمي
بعد هذه الامور كانت كلمة الله إلى ابرام في الرؤيا. قال له: "لا تخف يا ابراهيم. أنا ترس لك واجرك عندي عظيم جداً" (تك 15: 1).
يدعو الله ابراهيم كما يدعو إرميا (34: 1- 8) أو حزقيال أو أحد الانبياء، ويرسل إليه وحياً، ويقبل تشفّعه ودعاءه كما قبل دعاء موسى (عد 11: 2؛ 12: 6) وإرميا وعبد يهوه (أش 53: 11- 12). قال الرب لابيمالك في الحلم: "ردّ إلى ابراهيم امرأته فهو نبيّ وهو يدعو لك" (تك 20: 7). هذا النبيّ يعيش في مخافة الله وينشر هذه المخافة حيث حلَّ. هذه المخافة تملأ قلب ابيمالك الوثني الذي صار مثالاً للرجل المتقي الله، المستقيم في تصرفاته، البار في أعماله، السليم في قلبه (تك 20: 6). هذه المخافة تمنع القوي من الاستبداد بالضعيف، تمنع ابيمالك من الاساءة إلى ابراهيم، ولابان من الاساءة إلى ابن أخيه (تك 31: 24)، ويوسف من أن يصنع شراً باخوته (تك 42: 17) الذين صنعوا به ما صنعوا.
في هذا الاطار يهتمّ الله بالضعيف ويمنع الضرر عنه، يدافع عنه وينميه. طرد ابراهيم هاجر واسماعيل. ولكن الله سمع صوت الغلام ووعد الوالدة بأن يكون ابنُها أمّة كبيرة (تك 21: 17- 18). استبد ابيمالك باسحاق فانمى الرب اسحاق، فخافه أبيمالك وطلب أن يقيم معه عهداً (تك 26: 28). ظلم ابراهيم ابيمالك حين كذب عليه، فحفظه الله من الخطيئة وأرسل الشفاء له ولشعبه (تك 20: 6، 17).
ومخافة الله هذه ترتبط بالايمان. يعد الرب ابراهيم بنسل كثير كالكواكب، ولكن ابراهيم لم يُرزق بعد ولد. ومع ذلك آمن ابراهيم بالرب فحسب له إيمانه برًا (تك 15: 6). فعُدَّ إيمانه ذبيحة مقبولة لدى الرب. آمن ابراهيم بما خطّطه الله له، فألزم نفسه العمل بحسب هذا المخطّط، فرضي الله بطاعته. ويبدو إيمان ابراهيم خاصة عندما يعقد العزم على تقدمة ابنه اسحق ذبيحة لله على عادة أهل كنعان من أجل إلههم. أحسّ وكأن الله يطلب منه ذلك، ولكن الله قال له: "لا تمدّ يدك إلى الصبي ولا تفعل به شيئاً. فالآن عرفت أنك تخاف الله، فما بخلت بابنك وحيدك" (تك 22: 12). طاعة ابراهيم دلّت على مخافته وصدق ايمانه، فلم تعد الذبيحة ضرورية، لان الطاعة الكاملة أفضل منها (1 صم 15: 22؛ مي 6: 6- 8)، فكان بذلك صورة بعيدة للمسيح الذي قال: "لا بالمحرقات سررت ولا بالذبائح، فقلت: ها أنا آت لأعمل بمشيئتك يا الله" (عب 10: 6- 7).
إذا كان التقليد اليهوهي يتأمل في بركة الله ورحمته، فالتقليد الالوهيمي يحدّثنا عن خلاص الله وفدائه. نقرأ التقليد الالوهيمي في تك 20: 1- 8؛ 21: 9- 14؛ 22: 19. هذا عدا عن مقاطع عديدة ضمّت إلى التقليد اليهوهي فشكلت مصدراً أدبياً جديداً جاء مزيجاً من حكمة الحكماء وأقوال الانبياء.

4- تقليد الكهنة في الهيكل
دوّن الكهنة ما دوّنوه من سفر التكوين في زمن المنفى (587- 538) وبعد دمار أورشليم وحرق هيكلها. دوّنوا ما دوّنوه واستندوا إلى معارف ومعلومات قديمة، فبدأوا كتابهم بنشيد ليتورجي (تك 1: 1- 2: 3) يعتبر الكون هيكل الله بعد دمار هيكل أورشليم، ويعتبر الكواكب والحيوان والنبات عبّاد الله بعد أن فرغت المدينة المقدّسة من عبادها الذين سباهم الكلدانيون إلى بابل.
زال هيكل الحجر، فبقي هيكل آخر هو جماعة شعب الله المرتبطين برباط العرق الواحد والدم الواحد. تشتّت بنو اسرائيل في كل بلاد الأرض، فاحتاجوا إلى علامة خارجيّة تدلّ على انتمائهم إلى شعب واحد، فكان الختان، وإلى رمز يجمعهم في وحدة متكاتفة، فكان السبت، وإلى صوت يدعوهم من أعماق شقائهم، فكانت كلمة الله يحفرونها في قلوبهم، يردّدونها في آذان أولادهم، يكتبونها على قوائم الابواب ومداخل المدن (تث 6: 6- 9).
كل هذا يضعنا في إطار العهد الذي قطعه الله مع ابراهيم. قال له: "أقيم عهداً أبدياً بيني وبينك وبين نسلك من بعدك" (تك 17: 7). كان عهد أول مع الانسان الأول علامته شريعة السبت (تك 2: 2- 3)، وكان عهد ثان مع نوح أقرَّ شرائع تمنع القتل وإراقة الدماء (تك 9: 4- 9)، وكان عهد ثالث مع ابراهيم علامته شريعة الختان. وعندما يقيم الله عهدا مع موسى، فلن يزيد على عهده مع ابراهيم إلاّ بعض الاحكام والفرائض التي تنظّم شعائر العبادة.
وكيف السبيل للتعرّف إلى من هو شعب الله لولا لائحة الانساب التي تربط آدم بنوح (تك 5: 28)، ونوح عبر سام، بابراهيم واسحاق ويعقوب (تك 10: 32؛ 11: 10- 32)، ويعقوب عبر الاسباط الاثني عشر، بشعب اسرائيل المشتّت في كل الأرض؟ وما الذي يضمن للعائشين في المنفى أنهم ما زالوا شعب الله؟ الوعد الذي أعطي لابراهيم بطريقة مجانيّة ما زال يُعطى لأبنائه. يقولون: "الرب يرجع ويرحمنا ويستر لنا ذنوبنا، وفي أعماق البحر يطرح جميع خطايانا. أظهر ليعقوب أمانتك، ورحمتك لابراهيم، يا رب، كما أقسمت لآبائنا منذ أيام القدم" (مي 7: 19- 20).
يربط التقليد الكهنوتي العهد بالوعد والشريعة بالخبر، فيدعو الشعب إلى الثقة بالرب مهما قست الظروف، وإلى التعلّق بوصاياه وأحكامه رغم بعدهم عن الهيكل وتشتّتهم في بلدان العالم. إن هي إلاّ عبرة لنا نحن المؤمنين المشتتين في كل مكان طلباً للعمل والرزق، أن لا ننسى أن الله الآب اختارنا وقدّسنا بروحه (1 بط 1: 11- 12)، ودعانا لنعيش غربتنا في مخافته (1 بط 1: 17)، وان نستعد للردّ على كل من يطلب منا دليلاً على الرجاء الذي فينا (1 بط 3: 15).
هذا ما نتعلمه من التقليد الكهنوتي الذي نقرأه في تك 1: 1- 2: 3؛ 5: 1- 32؛ 9: 1- 17؛ 17: 1- 27 وفي مقاطع مشتركة مع التقليد اليهوهي وخاصة في خبر الطوفان. فنفهم أن الكون مقدّس وهو يدلنا إلى يد الله التي تطلب منا أن نكون قديسين على مثال القدوس الذي دعانا إلى ملكوته ومجده (1 تس 2: 12).
كلمة الله الواحدة وصلت إلينا عبر قنوات ثلاث، نداء الله الواحد يتوجّه إلينا عبر رحمته التي تحمل البركة، ومخافته التي تدعونا إلى الايمان، وعبادته التي تساعدنا على أن نمجّد الله الواحد ونجعل الكون كله هيكلاً يتقدّس فيه الرب على الأرض كما في السماء. لو قرأنا الكتاب المقدّس بهذه الروح لاكتشفنا غناه، وما تعلّقنا بالقشور دون اللب. لو تتبّعنا أثر الاختبار الديني الذي عاشه كل من التقليد اليهوهي والالوهيمي والكهنوتي لانفتحت أمامنا مجالات من التأمّل تدفعنا إلى الدهشة والقول: ما أعظم أعمالك يا رب، صنعتها كلها بالحكمة!

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM