الفصل العاشر: قراءة رابعة: كلمة الله

الفصل العاشر
قراءة رابعة: كلمة الله

بعد موضوع البركة ومخافة الله، يأتي موضوع كلمة الله. وبعد هذا التيّار الذي حمل لواءه اللاويّون فشدّدوا على العهد بين الله وشعبه، جاء تيّار الكهنة يشدّد على قداسة الله ويجعلنا في إطار عهود كثيرة وصلت بنا إلى سيناء.
أساس هذه القراءة تك 1 الذي يذكّرنا أن الله خلق الكون والانسان. خلق بعشر كلمات فرأى جميع ما خلقه فإذا هو حسن جداً. وبعشر كلمات سوف يخلق شعبه، هي الوصايا العشر. وقف "الكاهن" في الهيكل بسراجيه المضاءين في الليل وفي النهار، فتطلّع إلى هيكل آخر هو الكون وأخذ يُنشد جمالات الله المجملة في هذه العبارة: في البدء خلق الله السماء والأرض. أي خلق كل شيء. خلق بكلمته وخلق بيده. قال: ليكن نور، فكان نور. وقال الكتاب عن الله: صنع وحوش الأرض...
في هذا الاطار الذي يُعتبر مقدّمة للتوارة كلها، بل للكتاب المقدّس بعهديه القديم والجديد، نتوقّف عند ثلاثة أمور: شريعة القداسة. التاريخ الكهنوتي. مواعيد الله وعهوده التي هي في الواقع وعد واحد وعهد واحد، ولكنه يتجدّد بالنسبة إلى الانسان الذي يخون الله.

1- شريعة القداسة (لا 17- 26)
إن بنية شريعة القداسة قريبة جداً من بنية الشرعة الاشتراعيّة. فهي تبدأ وتنتهي مثلها بفرائض عباديّة (لا 17: 1- 6؛ 26: 1- 2). ومثلها تبدو خطبة يلقيها موسى في الشعب (17: 1- 2). ويلي هذه الخطبة سيل من البركات واللعنات (26: 3- 45). أخيراً هذه الشريعة هي تجميع لفرائض متنوعة على مثال ما في الشرعة الاشتراعيّة.
حين نتوقّف عند مضمون شريعة القداسة، يلفت نظرنا المكانة التي تمثّلها العبادة وممارستها. كما يلفت انتباهَنا عبارةٌ تتكرّر في النصوص التشريعيّة فتدل على كافل كل فريضة من هذه الفرائض: "أنا الرب". "أنا الرب إلهك". "أنا الرب الذي أخرجك من أرض مصر". أما المحيط الذي وُلدت فيه هذه الفرائض فمعبد اورشليم مع شعائر العبادة والمؤسّسة الكهنوتيّة. شدّد سفر التثنية على الاختيار. أما شريعة القداسة فتشدّد على قداسة الله وتساميه. بما أن الله قدّوس، يجب على الشعب أن يتحلّى بالقداسة. "كونوا قديسين لأني أنا قدوس" (19: 20). تلك هي العبارة المفتاح في كل هذه المجموعة. ونجد عن قداسة الله في معبد أورشليم، شهادةً هامة في رؤية أشعيا حيث سمع النبيّ النشيد الليتورجيّ: "قدوس، قدوس، قدوس" (أش 6: 3).
ولكن إن نظرت الشريعةُ أولاً إلى الشعب كجماعة ليتورجيّة تعرف التراتبيّة، فالهمّ الطقسيّ ليس الهمَّ كله. فالعبادة تفرض ممارسة الوصايا العشر كما نقرأها في لا 19: "لا تسرقوا، لا تكذبوا... لا تحلف باسمي كذباً... لا تبغض أخاك في قلبك" (آ 11- 17). فقداسة الله هي قداسة أخلاقيّة، وهي تفرض نفسها على الشعب الذي يوصف بالقداسة. الذي هو مدعو إلى قداسة السيرة.

2- التاريخ الكهنوتي
لا نستطيع أن نفهم تدوين التاريخ الكهنوتي إلا في إطار سقوط أورشليم والعيش في المنفى بعيداً عن الهيكل. أترى مردوك، إله البابليين، أقوى من يهوه؟ كيف نفهم صمت الله في هذه الظروف المأساويّة؟ يئسَ بعضُ المنفيين، وراحوا مع الغالبين، مع الأكثريّة الحاكمة. ولكن حاول آخرون أن يستقوا من ماضي اسرائيل ما به يسندون إيمانهم ورجاءهم لكي يواجهوا الوضع الجديد. لا شكّ في أن أهل الجلاء صاروا كالموتى، صاروا عظاماً يابسة كما قال حز 37. ولكن الله الذي خلق الكون من الشواش والفراغ، يستطيع أن يعيد خلق شعبه حين يرسل إليه روحه.
هناك سؤال وجيه يحتاج إلى جواب: إلى ماذا يستندون لكي يعيشوا وسط الامم؟ هم ينتمون إلى شعب واحد. وهناك تواصل على مستوى القرابة والدم. لهذا عاد الكاتب إلى الانساب: فلا بدّ من المحافظة على هويّة الشعب لكي نتيح للرب أن يحقّق مواعيده. ثم لا يستطيع الناس بعد أن يذهبوا إلى الهيكل: لقد صار بعيداً. وفي أي حال، أحرق وخرب سنة 587. لهذا، شدّد المؤمنون على السبت كزمن مكرّس لله: فيه يكونون معاً، يصلّون معاً، يقرأون الكتب المقدّسة. والختان يدلّ على الانتماء إلى هذا الشعب الذي كرّسه الله لنفسه ليشهد له وسط الأمم. اذن، ما زالت الحياة الدينيّة ممكنة: نخلق جماعة يوجّهها الكهنة. وتتخّذ كلمةُ الله المكانة التي احتلّها الهيكل: هي رمز إلى حضور الله وسط شعبه.
والشعب يعيش في أرض غريبة رغم المواعيد التي أعطيت للآباء. لهذا حاول الكهنة أن يفهموا قصد الله، فأدخلوا تاريخ اسرائيل في تاريخ البشريّة. فالله ليس حاضراً فقط في شعب من الشعوب. بل في جميع الشعوب. وليس حاضراً في أرض محدّدة هي أرض فلسطين، بل إن مجده يملأ الأرض كلها. وأعادوا قراءة التاريخ الماضي للشعب، فرأوا أن الله لا يسود بعدُ الأرض كلها. فلا بدّ من احتلالها. وهكذا لم تدمر كارثة 587 الوعد، بل هي فتحته ليتّسع وسع العالم. وعادوا إلى قراءة خبر الآباء. كانت البدايات بسيطة، ولكن وعد الله تحقّق. فما الذي يمنعه من أن يحقّق للمنفيّين ما حقّقه في الماضي. كان الشعب في عبوديّة مصر فحرّره الله. وهو الآن في عبوديّة بابل. أما يستطيع الربّ أن يفعل ويسيّر شعبه في خروج ثانٍ شبيه بالخروج الأول.
وهكذا امتلأ التاريخ الكهنوتي بالايمان والرجاء. تشتّت بنو اسرائيل وسط الأمم، ولكن عليهم أن يظلّوا شعب الله، أن يبقوا أمناء لدعوتهم. هكذا يستطيع الله أن يعمل العظائم لدى شعب استعدّ لتقبّل عطاياه والإجابة إلى ندائه. فسيأتي يوم يعيد الرب شعبه إلى الأرض المقدّسة ويقيمه حول الهيكل الذي أعيد بناؤه. عند ذاك يحتفل بنو اسرائيل بليتورجيا مهيبة كما في أيام سليمان. وبانتظار ساعة العودة، حاول المنفيون أن يحفظوا في قلوبهم الايمان بالله وبشريعته.

3- عهود الرب في التاريخ الكهنوتي
رأى الشرّاح منذ عهد بعيد أن التاريخ الكهنوتي يتوزّعه عدد من العهود. ونحن نتوقّف هنا عند ثلاثة عهود رئيسية: العهد مع نوح وكانت علامته الحسيّة قوس قزح. العهد مع ابراهيم وعلامته الحسيّة الختان. والعهد مع موسى، وعلامته المعبد ونظام الكهنة هي الأساس.

أ- العهد مع نوح (تك 9)
ارتبط عهد الله مع نوح بحدث الطوفان، فقدّم للانسان وعدَ الله بعد هذه الضربة التي قضت على البشريّة. وتعود لفظة "عهد" ثماني مرات في الخبر (تك 6: 18؛ 9: 9، 11- 12، 13، 15، 16، 17)، فتدلّ على وعد الله. الله هو الذي يقيم العهد مع نوح (6: 8)، كما مع نسله (9: 10). بل مع الأرض كلها (9: 13). وهكذا نكون أمام تدرج صاعد يدلّ على الطابع المسكونيّ لهذا العهد. وما يشدّد عليه هو العلامة التي اختيرت للحديث عن هذا العهد الذي هو وعد: قوس قزح، ظاهرة كونيّة تعلن نهاية العاصفة والمطر، فتصبح ذكرانة العهد الأبدي (9: 15- 16).
وماذا يطلب الله من نوح وسائر سكّان الأرض الذين لم تصل إليهم بعد شرائع موسى؟ احترام الحياة والدم. احترام الدم حين ينحر الحيوان للطعام لا للذبيحة (9: 4). الامتناع عن سفك دم الانسان، لأن الانسان أيّاً كان قد صُنع على صورة الله (9: 6). وهكذا نكون أمام عهد خلاص يتوجّه إلى جميع أجيال البشر. في سفر التثنية كان العهد مع شعب من الشعوب. أما هنا فشعب الله شعب وسط الشعوب. والخلاص الذي يناله يصل إلى جميع شعوب الأرض.

ب- العهد مع ابراهيم (تك 17)
نقرأ في هذا النصّ خبراً يتضمّن نظاماً دينياً أسّسه الرب. هو الختان الذي سيكون العلامة الخارجيّة لعهد الله مع ابراهيم. وهذا الخبر يبدو بشكل ظهور إلهيّ (آ 1) لابراهيم الذي قارب عمره "المئة" سنة. بعد مقدّمة (آ 1)، يذكر الله اسمه (الاله القدير) ويعلن ما سوف يفعله (آ 2). أما ردّة فعل ابراهيم فهي السجود إلى الأرض (آ 3). وتفوّه الله بكلمة ثانية (آ 4- 8) بدت بشكل خطبة توسّعت في الوعد: وعدَ الله ابراهيم بنسل كبير، ووعده بأرض. وفي النهاية بدّل له اسمه ليدلّ على أن أبا الآباء صار مُلكاً له. كان اسمه ابرام فصار ابراهيم أي أب شعوب كثيرة.
وتكلّم الله ثالثة (آ 9- 14) فبدا كلامه خطبة قصيرة طلب فيها الله طلباً بالنسبة إلى العهد: يُختن كل ذكر فيكم (آ 10). لقد صار الختان العلامة التي تميّز بني اسرائيل في المنفى. وسيُختن أيضاً العبد والغريب اللذين يعيشان مع بني اسرائيل. وفي خطبة رابعة (آ 15- 22) كلّم الله ابراهيم بالنسبة إلى سارة، فبدلّ لها اسمها هي أيضاً وأعلن لها أنها ستلد ابناً. سيكون اسحاق. وفي آ 23- 27 نفّذ ابراهيم ما أمره به الربّ. ختن كل ذكر من أهل بيته. وهكذا صار الختان الذي يُمارس بناء على أمر الله، علامة لهذا العهد الثاني.
في قلب عهد نوح الذي يشمل البشر، هناك عهد خاص مع نسل ابراهيم. وهذا العهد يؤمّن لهم مستقبل حياة في أرض الموعد إن هم حفظوا السبت والختان. هذان العهدان يعنيان أن الأمم وشعب اسرائيل فئتان تتميّزان. فئة تقيم بجانب الأخرى. هناك البعيدون أي الشعوب الوثنية. وهناك القريبون أي شعب اسرائيل. هل سوف تجتمع الفئتان؟ كلا على مستوى العهد القديم. ولكن في العهد الجديد، صار الوثنيون قريبين بعد أن كانوا بعيدين، والحاجز الذي كان يفصل الشعب عن الشعوب قد هدمه يسوع، فما عاد من مكان للعداوة. أحلّ يسوع السلام بين الجماعتين، فصارت جماعة واحدة، صارت جسد المسيح (أف 2: 13- 17).

ج- العهد مع موسى
التقى موسى الله على الجبل فأعطاه فرائض لا تتوخّى أن تشكّل للشعب تشريعًا جديداً، بل تطلب بناء المعبد (خر 25: 8) وتسليم هارون الكهنوت (خر 28: 1- 29: 35). وروى خر 35- 40 كيف نفّذ موسى أوامر الربّ. ما هي علامة هذا العهد؟ هل هو السبت (خر 31: 16- 17)؟ يبدو أن الجواب هو كلاّ. فالسبت أعطي منذ البدء (تك 2: 3) والكلام عنه الآن هو تذكير بوصيّة قديمة. أما العلامة فقد تكون الهيكل نفسه الذي يملأه مجد الله (40: 34- 35) والكهنوت. نشير إلى أن النصّ لا يقول شيئاً واضحاً في هذا الاطار. ومهما يكن من أمر، فموسى يبدو بالنسبة إلى ابراهيم، وسيط النظم العباديّة.
هنا نقرأ خر 19: 6: إذا حفظتم عهدي "تكونون لي مملكة كهنة وشعباً مقدّسًا". هم كلهم مُلك الله. والملك بينهم يكون "الكاهن". وهكذا نرى نفوسنا في إطار تيوقراطيّة حيث يحكم الله بواسطة الكهنة. وهذا ما حدث في حقبة ما بعد المنفى حيث زالت الملكيّة من اسرائيل.
كيف تمّ هذا الانتقال من عهد موسى إلى النظام العباديّ؟ بواسطة الختان. فمع عهد موسى أشرفت الشريعة على حياة الشعب. غير أن سقوط أورشليم سنة 587 دلّ على إفلاس عمل موسى. دلّ على أن العهد الموسويّ لم يكن ناجحاً، لأن اسرائيل لم يتجاوب مع متطلّبات الله، فكانت نتيجة عصيانه للشريعة عقاباً مريعاً لم يترك في البلاد شيئاً قائماً.
فبعد سنة 587، اعتبرت الأوساط الكهنوتيّة أن العهد الموسويّ لا يستطيع بعدُ أن يؤمّن مستقبل الجماعة العائشة في المنفى. عند ذاك صار العهد مع ابراهيم الأساس الوحيد الذي عليه يستطيع اسرائيل أن يبني حياة عاديّة. فالعهد مع ابراهيم قد تأسّس على قرار حرّ اتخذه الله تجاه أبي الآباء. وإن تك 17 (المرتكز على تك 15) يجد أساس خبرة اسرائيل في وعد بالحياة وعد الله به ابراهيم. ذاك كان جواب الكهنة الأول تجاه الظروف التاريخيّة الحاضرة.
ولكن هذا لا يكفي. فالمشكلة التي يعانيها اسرائيل، هي خطيئته وتمرّده على الله. فما عاد ينفع سوى كهنوت هارون الذي وحده يستطيع أن يكفّر عن خطايا الشعب. وهكذا تصبح علامة العهد مع موسى "عصا هارون" (عد 17: 25) التي أورقت. وهكذا اعتُبر اختيار الكهنة عهداً يؤمّن لهارون كهنوتاً دائماً (عد 25: 13).
غير أن هذا العهد يفرض أمانة الكهنة. إلاّ أننا نعرف أنهم هم أيضاً قد خانوا، كما قال ملا 2: 8. فما العمل في هذه الظروف، وكيف نتطلّع إلى علاقة الله بالانسان؟ الجواب لا نجده في العهد القديم، بل في الرسالة إلى العبرانيين حيث يسوع هو الكاهن الأوحد الذي ما احتاج إلى ذبائح عن نفسه ثم عن الشعب. بل قدّم ذاته مرّة واحدة فكانت ذبيحتُه فداء عن الكثيرين، فداء عن البشريّة.
في الختام نعود إلى تك 1، وإلى نشيد الخلق من داخل الهيكل الذي هو عالم مصغّر يملأه الله بمجده. فإطار الخلق يحمل وعداً ويعلن بركة تتجدّد يوماً بعد يوم. ولهذا، فالشرائع أعطيت من أجل خلق جديد على مثال الأول حين قال الله: "انموا وأكثروا واملأوا الأرض وأخضعوها". أما الأنساب فهي الرباط بين زمن الوعد وزمن تتمّة هذا الوعد. والتاريخ الكهنوتي يدلُّ على التواصل بين الآباء الذيم عاشوا في البرّية مع موسى ودخلوا إلى أرض الميعاد، والجيل الحاضر الذي يعيش في المنفى. وهكذا يبدو التاريخ الكهنوتي المؤسّس على كلمة الله، انشداداً بين تقليد سابق ووضع حاضر. إنه يحاول أن يقدّم جواباً على حاجات معاصريه: لهذا عاد إلى فعل إيمان أوّل بذلك الذي خلق السماوات والأرض فوجد القوّة لمواصلة العيش كشعب الله، وارتبط برجاء يعتبر أن بركة الله تكتمل في اختبار يعيشه البشر في التاريخ.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM