الفصل التاسع: قراءة ثالثة: مفهوم العهد

الفصل التاسع
قراءة ثالثة: مفهوم العهد

خلال مسيرتنا في البحث عن إيمان شعب اسرائيل كما نجد عنه تفسيراً في البنتاتوكس أو أسفار الخمسة، نتوقّف هنا عند مفهوم العهد. هناك عهد بين ملك كبير وملك صغير. الكبير يحمي الصغير ويدافع عنه. والصغير يطيع الكبير ويخضع له. وهناك أيضاً عهد الحبّ بين العريس وعروسه، وهو يفرض الأمانة في الحياة اليوميّة. مثل هذا العهد لا تكون لغته شريعة ناشفة، بل كلمة تصدر من القلب فتصل إلى القلب.
كان عهد الله مع آدم في بداية الخليقة. وعهد الله مع نوح بعد الطوفان. وعهد الله مع ابراهيم وتأسيس الختان الذي يدخل الانسان في شعب الله. وعهد الله مع موسى وتأسيس شعب جديد ينطلق من العبوديّة ليصل إلى الحرّية. هذا ما تعبّر عنه الشرعة الاشتراعيّة التي هي جزء من سفر التثنية.

1- الشرعة الاشتراعيّة (تث 12- 26)
تبدأ الشرعة الاشتراعيّة (نسبة إلى تثنية الاشتراع)، شأنها شأن شرعة العهد، بفرائض عباديّة (12: 1- 16- 17) وتنتهي كذلك (26: 1- 5): هناك موضع لعبادة الله. هو الموضع الذي اختاره الله (12: 5). لاشكّ في أن المدوّن الأخير يفكّر بهيكل أورشليم. وإزاء هذا تُحرّم كلُّ الطقوس الوثنيّة (12: 1- 31).
في هذه الشرعة، نجد الوجهة القانونيّة ومنها الاعفاء مرّة كل سبع سنوات (15: 1). الذهاب إلى الحج في الاعياد الكبرى (16: 11، 14). شرائع الحرب (ف 20). أمور يصعب العمل بها، ولاسيّما تلك التي تتعلّق بالحرب. عاد الكاتب إلى أمور قديمة جداً ليكتشف ما كان يجب أن يفعله الشعب ليدلّ على أمانته لله. كانت نهاية تاريخ الشعب ذهاباً إلى المنفى وضياعاً. تركوا الربّ وتعبّدوا للأصنام. وانقسمت الجماعة فقراء وأغنياء، فضاع المثال الاعلى لحياة أخوّية. ذاك المثال أطلقه اللاويون الذين ظلّوا "قريبين" في قلوبهم من الحياة في البرّية حيث كانت المساواة. وتأثّر المدوّن الأخير بالعالم الحكميّ حيث المعلّم يكلّم التلميذ لغة القلب. أما المحيط فهو الليتورجيا حيث تُعلن كلمة يعتبر المؤمنُ أنها تتوجّه إليه كفرد في الجماعة. ولهذا كان الكلام في صيغة المخاطب المفرد. "إذا رأيت (انت) ثور أخيك أو شاته ضالاً، فلا تتغاضَ عنه، بل ردّه على أخيك" (22: 1).
ومع الوجهة القانونيّة، هناك الوجهة الاجتماعيّة. لقد حاولت الشرعة أن تكيّف فرائض "الصحراء" على مجتمع حضري يعرف الزراعة والتجارة، يعرف قرض المال والربى، يميّز بين الأخ الذي من الشعب والغريب. هنا نشير إلى الطابع الوطنيّ الضيّق الذي يميّز الشرعة الاشتراعيّة. فكأني بالمؤمن يخاف من المجتمع الذي يعيش فيه بسبب عباداته. يخاف من الناس المحيطين به ويتمنّى لو أنهم ماتوا، لو أنه قتلهم. فلو فعل لما كانوا جرّوه إلى عبادة الأصنام التي قادت أورشليم إلى الكارثة. ويخاف من الغريب فيعامله كأنه عدوّ يجب أن يُطرد، أو عامل يجب أن يُستغلّ.

2- بنية سفر التثنية
كانت الشرعة الاشتراعيّة نواة سفر التثنية، وقد وُجدت كما يقول 2 مل 22- 23 في الهيكل فسمّي "كتاب الشريعة" (22: 8، 11)، أو "كتاب العهد" (23: 2). هنا نتذكّر أن سفر التثنية هو الشريعة الثانية. ولكننا نتوقّف بالاحرى عند "العهد" (بريت) الذي نقرأ لفظته 27 مرّة في سفر التثنية، وهي تدلّ على العلاقة بين الله وشعبه. إن تث يتحدّث عن حدث حوريب وكأنه "عهد". نقرأ في 5: 2: "الرب إلهك عقد معنا عهداً في حوريب" (هو موسى يكلّم الشعب. هكذا تخيّله الكاتب). وتشدّد آ 3 على الجديد في هذا الكلام: "ما عقد الرب هذا العهد مع آبائنا، بل معنا". هذا العهد الذي يعود إلى حوريب، يُعقد الآن في أرض موآب (28: 69). نحن أمام قراءة جديدة وتأوين لعهد حوريب. عقده موسى في موآب قبل الدخول إلى الأرض المقدّسة.
الله هو الذي يحفظ العهد والرحمة للذين يحبّونه (7: 9، 12). إنه الاله الأمين الذي يخبر بعهده (4: 13)، يقيم عهده (8: 18). وجّاه هذا الاله الأمين، نجد الانسان بضعفه: فقد يتعدّى على العهد (17: 2). قد ينقض العهد (13: 16، 20). قد يتخلّى عن العهد (29: 24). قد ينسى العهد (5: 21). وهكذا يُبرز تث حرّية الشعب تجاه الله كما يُبرز التزامَه السريع العطب. لهذا كان هذا السفر تحريضاً متواصلاً يدعو فيه المؤمن، رغم ضعفه، أن يخضع للشريعة رغم جميع الظروف التي تأتي من داخل الفرد والجماعة، أو من الخارج. ورغم ضعف الشعب وعصيان الأفراد لشريعة الله التي هي التعبير عن عهده، فالله يريد أن يحافظ على هذه العلاقة بينه وبين شعبه. الله الذي اتّخذ المبادرة تجاه قبائل ستؤلّف شعبه. الله الذي انطلق مع موسى في البرية في "جماعة من الاوباش" فجمعهم عند سفح جبل سيناء. وهذه العلاقة تفترض اثنين: هناك الله. وهناك الشعب. فالشعب اختبر الله كذاك الذي يقوده ويوجّهه، قبل أن يعترف به إلهاً وحيداً دون سائر الآلهة. والتزم بأن يكون شعبه. وبأن يجعل كلمات الله كلمات تتوجّه إليه، فتكون نتيجة وعلامة لهذا القبول. وهكذا فالعهد المقطوع مع الله يفرض على الشعب واجبات وفرائض.
فما هو هذا العهد؟ لسنا أمام اتفاقية بين اثنين متساويين: فالمسافة بعيدة بين الله والانسان. وهذا ما عرفه شعب اسرائيل في العمق، بحيث خاف في نهاية مسيرته بأن يتلفّظ حتى باسم بهوه، فاستعمل عبارات مثل السيد والسماء. أو لجأ إلى صيغة المجهول الالهي لئلا يذكر اسم الرب بفمه. إذن، العهد هو عمل كانت فيه المبادرة كلها من الله. لهذا فهو حين يتكلم يقول "عهدي" أنا.
في هذا العهد، الله يتّخذ المبادرة. هو يتنازل. بل يخضع لحرّية الشعب ولحرّية كل انسان. هو يطلب منا أن نختار، أن نقبل بالعلاقة التي نلتزم بها ويُلزم هو نفسه بها. وليس الالتزام أمراً موقتاً. بل نحن نكرّره لنعيشه يوماً بعد يوم. فالشعب (وكل فرد) يقف أمام طريقين: طريق الحياة والموت، طريق الخير والشر، طريق السعادة والشقاء (30: 15- 20). في النهاية، وصل شعب اسرائيل إلى مأساة دراماتيكيّة، ففهم أنه اختار لنفسه طريق الشرّ والموت. وسيفهم بعد الرجوع من المنفى أهميّة الأمانة والثبات على العهد. ولكن هل يستطيع الانسان ذلك؟ هل يستطيع أن يعطي جواباً لله؟ هنا نفهم ضعفنا أمام نداء الله. ونفهم قول بولس الرسول الذي اعتبر أن الشريعة تضع أمامنا الوصيّة دون أن تعطينا القوّة لكي نمارسها. أما المسيح فجاء وبدّل قلوبنا، وهكذا نستطيع أن نعيش كأبناء الله مع الابن. أجل، قمّة العهد الذي عقده الله مع البشريّة هي يسوع المسيح. فيه ومعه نستطيع أن نقف بثقة أمام الله الآب.

2- اعتبارات لاهوتيّة
إذا أردنا أن نفهم غنى تث، لا يكفي أن نرى فيه كتاب العهد. بل يجب أن نفهم ما يجعل الخطب والشرائع التي فيه بهذه القوّة. فأمام قوى التفكّك التي تهدّد الشعب بأن يخسر هوّيته، حاول الكتّاب أن يضعوا شعب اسرائيل أمام الجوهر: إله واحد. أرض، شعب، شريعة، هيكل.
في البداية هناك خبرة الله وكلمته كما نقلها موسى. فإله حوريب هو إله اسرائيل، وعبر كل الكتاب تتردّد عبارة "الرب الهك" أو "الهكم". هي عبارة تدلّ على روح وطنيّة متطرّفة. ولكنها تقدّم للشعب رسالة يقوم بها. فالله اختار شعبه وسط الأمم (7: 6- 8؛ 32: 8- 9). وهذا الشعب المختار هو جماعة لها بنيتها وهي تعيش على أرض. فعلى كل جيل أن يعترف أن هذه الأرض التي يقيم عليها ويأكل من ثمارها، هي عطيّة من الله، وعلامة حسّية عن حبّه لشعبه (7: 13- 15).
وهذه الجماعة هي مجموعة من الناس يدعوهم الرب كل يوم إلى حوريب (5: 22؛ 9: 10؛ 10: 4) ليحقّقوا الأخوّة مع بُنى يعمل فيها القاضي والملك والكاهن اللاوي والنبيّ (16: 18- 18: 22). ومبدأ حياة هذه الجماعة هو الشريعة التي يخضع لها الجميع بمن فيهم الملك. وهذا المبدأ الحياتي يجب أن ينتقل من جيل إلى جيل (6: 20- 35). هذه الشريعة هي تعليم يوجّه إيمانَ المؤمن ويقوده في سلوكه. ونحن نعيشها من الداخل لا بشكل خارجي وسطحيّ. هي قريبة منا، هي في قلبنا وفمنا، فلماذا لا تكون في حياتنا وأعمالنا (30: 11- 14)؟
وإذ أراد صاحب تث أن يلامس قلب سامعيه، دعاهم إلى التأمّل في عمل الله ساعة ولادة الشعب. هنا تأتي وظيفة "التذكّر" (15 مرة). لا شك في أنّ الله يذكر "عبيده ابراهيم واسحاق ويعقوب" (9: 27). ولكن الشعب هو الذي يتذكّر ولا ينسى أفضال الله. يتذكّر ما فعله الله لفرعون ولكل مصر (7: 8). يتذكّر الخروج من مصر (5: 15؛ 15: 15؛ 16: 3، 12)، يتذكّر عمل الله في البرّية (8: 2؛ 9: 7) وساعة الدخول إلى الأرض (8: 18). وما يجب على الشعب أن يتذكّره هو تدخّل الله، لا في الماضي فقط، بل في الحاضر. أن يتذكّر أنه كان في العبودية، وأنه يستطيع أن يعود إلى العبوديّة. في هذا الاطار قرأ المؤمنون سفر التثنية في زمن المنفى فقابلوا عبوديّة بابل مع عبوديّة مصر.
في ستّة نصوص تعود إلى الشرعة الاشتراعيّة (15: 15؛ 16: 3، 12؛ 24: 9، 18، 22)، وفي نصّ سابع يتحدّث عن السبت في الوصايا العشر (5: 15)، يرتبط التذكّر بوصيّة من الوصايا ويُعتبر باعثاً على ممارسة هذه الوصيّة. ونلاحظ بشكل خاص أن التذكّر يرتبط بالليتورجيا، ولاسيّما ليتورجيّة الفصح (16: 3) وعيد الاسابيع (16: 12). ففي الليتورجيا يتذكّر الشعب، أي يصبح حاضراً الآن لدى عمل الله، وهذا ما يجعله يلتزم في حياته الحاضرة، كما يفتح أمامه بابَ الرجاء. فالتذكّر هنا ليس عاطفة خارجيّة، بل اعترافاً بأن ما فعله الله يبقى حاضراً (ليس من الماضي)، ويفتح المؤمن على المستقبل. ليس التذكّر عودة إلى الماضي كماضٍ، بل إلى ماضي يبقى حاضراً لأنه مؤسَّس على قدرة الله. إذن، التذكّر هو فعل إيمان ورجاء. وإن كان في قلب الليتورجيا فهو في قلب الحياة الأخلاقيّة، في قلب الوصايا. نتذكّر أعمال الله تذكّرًا يطلب عمل الانسان لكي يكمّل اليوم ما بدأه الله.
ونجد كلمة "اليوم". اليوم الحاضر. الذي نعيشه. ترد هذه اللفظة 70 مرة في تث، فتدلّ على إدراك حيّ بأن عمل الله يتحدّد موقعُه في وجود الشعب الملموس. وهكذا نكون أمام نظرة جديدة إلى الزمن. في اسرائيل، كل جيل اسرائيل مدعوّ ليكون شاهداً لعمل الله وكلمته: "إسمع الشرائع والاحكام التي أتلوها اليوم على مسامعكم" (5: 1). وهكذا صار كل جيل مشاركاً في عمل الله، فأقام في اليوم الحاضر الذي يرتبط كله بالله. وحين يقف كل واحد أمام كلمة الله، يسمع دعوة إلى الطاعة وممارسة الوصيّة وحفظ الكلمة في قلبه (6: 6) لكي توجّهه إلى السعادة.
والنسيان هو ما يقابل التذكّر وعمل الله الحاضر اليوم والفاعل اليوم: "إحذر أن تنسى الرب إلهك الذي أخرجك من أرض مصر، من بيت العبوديّة" (6: 12؛ رج 8: 19). فمن نسي الله الذي عمل كل هذه الأعمال من أجل شعبه، أخطأ ضدّ الايمان والرجاء.
وهكذا ساعدنا سفرُ التثنية أن نفهم عهد الله مع شعبه ومع كل فرد من أفراد هذا الشعب. الله عريس لعروسه وأب لأبنائه. ليتذكّروا أعماله ولا ينسوها. والويل لهم إن نسوها. وهذا التذكّر يتمّ في الليتورجيا، في احتفال يجعل المؤمن وكأنه شاهد لأعمال الله الأولى حين أخرج شعبه من أرض مصر. في الليتورجيا، يتعلّم المؤمن أهمية الجماعة التي تسنده فيشارك في حياتها الأخويّة وفي أعمالها. في الليتورجيا يسمع المؤمن صوت الله يتوجّه إليه بشكل خاص. يبقى عليه أن يفتح اذنه وقلبه. يبقى عليه أن لا يقسّي قلبه كما فعل آباؤه في البرّية.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM