الفصل الثاني: الكتاب المقدس وطرق دراسته

الفصل الثاني
الكتاب المقدس وطرق دراسته

كان وزير ملكة الحبشة يسير في الطريق من أورشليم إلى غزة، وكان يقرأ في أشعيا النبي "كحمل سيق إلى الذبح". اقترب منه فيلبّس المبشّر وسأله: "هل تفهم ما تقرأ"؟ فأجاب: "كيف أستطيع إن لم يرشدني أحد"؟ هذا ما رواه لوقا في سفر الأعمال فذكّرنا بأهميّة الحاجة إلى تعليم لكي نفهم الكتاب المقدّس، وإلى طرق بها ندرس الكتاب فيصبح حاضراً في حياتنا وفي صلاتنا.

1- نقرأ الكتاب
اعتاد المؤمنون في قداس الأحد وفي سائر الطقوس أن يسمعوا بعض نصوص الكتاب المقدّس، سواء من العهد القديم أم من العهد الجديد. فالإطار الذي يوضح فيه هذا النصّ، والشرح الذي قد يحمله إليهم المحتفل، يجعلانهم يفهمون بعض الشيء من نصّ كُتب منذ ألفي سنة ونيّف. وإذ يعود المؤمن إلى البيت يُعيد قراءة ما سمع. وأفضل ما يستطيع أن يبدأ بقراءته هو العهد الجديد، ولاسيما الانجيل. ولكنّه في تلك الحالة، كما في قراءة العهد القديم، يحتاج إلى مرشد يقوده في معارج نصوص قديمة، ما عاد يفهمها قارئ اليوم.
هنا نشير إلى أهمية المقدّمات في الكتاب المقدّس، وإلى أهمية الشروح التي تدخلنا في الإطار الذي كُتبتْ فيه هذه الأسفار المقدّسة. والتفاسير التي بدأت تظهر، تقدّم لنا مساعدة جلّى في هذا المضمار. وهكذا يصبح النصّ الكتابيّ قريباً منا.
عمليّاً، كيف نقرأ الكتاب؟ بعد أن نستحضر الله، أو ندعو الروح القدس لكي يرسل إلينا أنواره، نقرأ مقطعاً من المقاطع. إما يكون ذاك الذي تختاره الليتورجيا لهذا اليوم من السنة. وإما يكون في سفر من الأسفار نقرأه مقطعاً بعد آخر. هذه الطريقة الثانيّة مهمّة جدّاً، لأنها تساعدنا على التعرّف إلى فكرٍ واحد يرافقنا عدداً من الأيام. فالكتاب المقدّس ليس كتاباً واحداً، بل هو عدّة كتب. هو مكتبة مؤلّفة من 73 كتاباً. لهذا نقرأها واحداً واحداً، وهكذا نستطيع أن نلّم بعض الالمام بمجمل كلمة الله كما ترد في العهد القديم وفي العهد الجديد. على ما يقول المجمع الفاتيكاني الثاني: القديم يستنير بالجديد، والجديد يغرز جذوره في القديم.
بعد هذه القراءة الأولى نتوقّف عند الكلمات المهمّة، التي تتكرّر أو هي في بداية المقطع ونهايته. ثم نعود إلى القراءة مرّة أخرى مستعينين بالشروح التي نجدها هنا أو هناك. ونتعرّف إلى الفن الأدبي الذي دوّن فيه هذا المقطع. قد نكون في الانجيل تجاه مثل من الأمثال، أو معجزة يرويها الانجيليّ لا ليدّل على قدرة يسوع وحسب، بل ليقدّم لنا فيها تعليماً لاهوتيّاً. مثلاً، إن قدّم لنا معجزة شفاء كفرناحوم كما في مت 9: 1- 8 فهو ينهيها: "ومجدّوا الله لأنه أعطى البشر مثل هذا السلطان". ما أراد الانجيلي أن يقوله لنا هو أن الكنيسة كانت تمارس حوالي سنة 85 (زمن كتابة الانجيل الأول) سرّ التوبة والاعتراف بالخطايا مع الحلّ منها بواسطة "الكهنة" أو من تنتدبهم الكنيسة. وإن حدّثنا مرقس (5: 1- 20) عن شفاء الرجل الوثني، فلكي ينهي كلامه بأنه انطلق يذيع في المدن العشر جميع ما صنع إليه يسوع. وهكذا كان أول المبشّرين بيسوع في العالم الوثني. طلب الناس في تلك المنطقة من يسوع أن يتحوّل عن تخومهم، ولكن يسوع جعل مكانه ذلك الذي شفاه فبدا جالساً عند قدمي المعلّم يستمع إليه.

2- نفهم الكتاب
هناك قراءة شبه حرفية للكتاب المقدّس، وهي لا تصل بنا بعيداً. نكرّر الكلمات غيباً. نستعملها في الدفاع عن عقيدة من عقائدنا لكي نفحم بها الآخرين. أو نحن نعتبر أن كلمة الله منحدر خطر، فلا يجب أن نخاطر. وهكذا ننسى ما قاله يسوع للرسل: "انتزحوا إلى العمق وارموا الشبكة للصيد". أجل، يجب أن ننزل إلى أعماق كلمة الله. فلا نتوقّف عند المعنى الأول والمباشر، بل نصل إلى المعنى العميق. مثلاً، حين نقرأ خبر تسكين العاصفة في متى (8: 23- 27)، لا نتوقّف فقط عند قدرة يسوع التي تهدئ البحر والرياح. بل نتذكّر أن الله وحده له السلطان على البحر والعاصفة. وحين يزجر يسوع البحر والرياح فيحصل هدوء عظيم، هذا يعني أنه ربّ البحر والريح، أنه الله بالذات. لهذا هتف له التلاميذ: "يا رب نجنّا".
أما فهمُ الكتاب فيبدأ بالإحاطة بالإطار الذي فيه دوّنت نصوصه. مثلاً، نأخذ عظة الجبل في مت 5- 7: هي تتوجّه بالدرجة الأولى إلى مسيحيّين جاؤوا من أصل يهودي، فعرفوا التوراة وسبل تفسيرها. وها هو متى ينطلق منها في إنجيله لكي يصل بأقوال العهد القديم إلى كمالها. قيل لكم: لا تقتل. أما أنا فأقول لكم: من غضب على أخيه. قيل لكم: لا تزن. أما أنا فأقول لكم: من نظر إلى امرأة... أما لوقا الذي يتحدّث إلى العالم الوثني، فوجّه كلامه بشكل مطلق دون العودة إلى أسفار العهد القديم. "وأما أنتم أيها السامعون، فإني أقول لكم: أحبّوا أعداءكم، أحسنوا إلى مبغضيكم" (6: 27).
وما نقوله عن العهد الجديد نقوله بأولى حجة عن العهد القديم. مثلاً، طلب الرب من ابراهيم أن يذبح له ابنه اسحاق. حين نعرف أن بعض الشعوب الكنعانيّة كانت تقدّم أولادها ذبيحة لله طلباً لبركة، نفهم هذا النص الذي يدلّ بالأحرى أن الله لا يريد مثل هذه الذبائح. قال ملاك الرب (الذي يمثّل الرب): "لا تمدّ يدك إلى الفتى. الآن علمت أنك تخاف الله". وإن قرأنا سفر راعوت، نتذكّر أن الكاهن عزرا اعتبر كل امرأة أجنبيّة سيّئة ويجب أن تُطرد من شعب الله هي وأولادها، مع ما في هذا القرار من ظلم على امرأة مستفردة وأولادها العزّل.
وبعد أن ندخل في جوّ الكتاب، نحاول أن نفهم معناه الروحي: بناء برج بابل حيث الانسان يحاول أن يرتفع على مستوى الله، هو عكس ما فعله ابراهيم الذي ترك الله يدخل إلى حياته، الذي سلّم إلى الله مسيرة حياته. آمن فكان له إيمانه براً. وكذا نقول عن سفر يونان الذي هو خبر تقويّ يبيّن لنا أن الله يرأف بالأمم الوثنيّة كما يرأف بشعبه الخاص. كل الشعوب شعبه، وكلّ الأمم هي أمّته. فلو آمنت نينوى وتابت لما كانت دُمرّت كما دمرّت على يد البابليين سنة 612. ولو تابت أختها أورشليم لما هُدمت سنة 587.

خاتمة
وهكذا وبعد أن نحيط بمعنى الكتاب بشكل عام، بالإطار الذي فيه كُتبت كلّ مقطوعة، ندخل إلى المعنى الروحي ونحاول أن نطبّقه على حياتنا. عند ذاك تصبح الكلمة قريبة منا. هي في فمنا وفي قلبنا لنعمل بها. لا هي في السماء فنقول من يصعد إلى السماء فيتناولها ويُسمعنا إياها. ولا هي في عبر هذه البحار (في الجهة الثانية من البحر) فنقول من يقطع لنا هذا البحر فيتناولها (وكأنها شيء) ويُسمعنا إياها فنعمل بها. كلا، فهي وصايا تعلّمناها. وهي حضور يملأ حياتنا. وكما عاشها آباؤنا نعيشها نحن بعد أن صارت لنا في يسوع نوراً وحياة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM