الفصل الثالث الكتاب المقدّس والحضارات الشرقيّة

الفصل الثالث
الكتاب المقدّس والحضارات الشرقيّة

حين نقرأ بعض النصوص الكتابيّة، يلفت انتباهَنا أسماء وأخبار من عالم بلاد الرافدين، كما نلاحظ فلفسة واسعة غرفَ منها كلّ هذا العالم الشرقيّ ولاسيّما الكتاب المقدّس في عهده القديم.

1- أسماء من التاريخ
نقرأ خبر ابراهيم فنعرف أنه انطلق في ترحاله من أور (المقير) الواقعة في الجنوب العراقي والتي ارتبطت بعبادة الاله سين، إله القمر. قد تكون المياه قد شحّت والعشب نقص، فأجبر على الرحيل. ومن خلال هذا الظرف الخارجي، اكتشف نداء الرب له: اترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك (تك 12). وتقدّم ابراهيم إلى الشمال بمحاذاة الأرض المزروعة حتى وصل إلى حرّان. ومن هناك توجّه شطر سورية ولبنان وفلسطين وقد يكون نزل مصر على أثر مجاعة حلّت بالبلاد.
لا ننسى هنا أن الشعب العبراني الذي يرتبط بإبراهيم عبر أجداده وقبائله، ويرتبط به عبر إيمانه بالله الواحد، جاء إلى بلاد الرافدين على دفعتين. دفعة أولى سنة 721 واحتلال سرجون الثاني الأشوري بلاد السامرة ومملكة الشمال. ودفعة ثانية سنة 587 واحتلال نبوخذ نصّر البابلي أورشليم ومملكة الجنوب المسمّاة يهوذا والتي منها أخذ اسم اليهود. أقاموا في أرض العراق، فتحضّروا بحضارته وعرفوا نظرته إلى الحياة من خلال أخباره وأساطيره. وهكذا عبّر الشعب العبراني في توراته عن إيمانه بكلمات وصور وتعابير من عندنا. ولا عجب في ذلك. فالحضارة الرافدينيّة سبقت سائر حضارات الشرق بأجيال وأجيال فأثّرت في عدد منها، ولا سيّما تلك التي ارتبطت بنصوص العهد القديم.

2- أخبار وأساطير
يوري سفر التكوين في الفصل الثاني، خبر خلق الانسان من تراب الأرض. أخذ الله هذا التراب وجبله ونفخ فيه نسمة حيّة فكان الانسان. لا نستطيع إلا أن نتذكّر ما قاله نشيد انوما اليش، لما في العلاء. هنا تُذبح سبعة آلهة، ويُمزج دمها بالتراب فيتكوّن سبعة رجال وسبع نساء هم بداية البشرية على الأرض.
ويورد سفر التكوين خبر الطوفان، فيعود كتابه إلى ما سمعه من ملحمة غلغامش والأبطال الذين سيخلّدون بعد أن يتغلّبوا على الموت المهدّد. لا ننسى أن العراق عرف الفيضانات الكبيرة بنهريه دجلة والفرات. فاختبر الانسان في ذلك السهل الوسيع الذي تحيط به الجبال، الدمارَ والموت اللذين تحملهما المياه.
وهكذا صار الماء رمزاً إلى الشرّ، رمزاً إلى الموت. وستنتقل هذه الصورة حتى في العهد الجديد، فنعرف أن شياطين لجيون التي تنتمي إلى عالم الشرّ قد عادت إلى "البحر"، وهناك غرقت. فلم يعد العالم الوثني حكراً على الشيطان يسيطر عليه ويمنع يسوع من الولوج إليه: "ما لي ولك يا يسوع ابن الله العلي" (مر 5: 7). وفي سفر الرؤيا (21: 1)، حين يقول الكاتب: "لم يبق من وجود للبحر"، فهو يدلّ على أن الشرّ قد زال من العالم، فيمسح الله كلّ دمعة من عيون أحبّائه. لا يكون بعدُ موت ولا نوح ولا نحيب ولا وجع لأن الأشياء الأولى (أي العالم القديم) قد مضت".

3- فلسفة من بلاد الرافدين
لا شك في أن الكتاب الملهم فعل، مثله مثل سائر مؤلفّي الكتب المقدّسة في هذا الشرق الواسع. فقد نقّى الأفكار السابقة مما يشوب نظرته إلى الله وإلى العالم. فأزال كل حديث عن الآلهة المتعدّدة. فالله واحد هو. وقد خلق الانسان رجلاً وامرأة. والانسان أمام الله في فردوس يشبه إلى حدّ بعيد أرض العراق أن أرض مصر التي ترويها القنوات. أما أرض فلسطين فيرويها ماء المطر الذي يرسله "بعل" (أو بال في عالم العراق). ولهذا يقال حتى الآن في بلاد الشام "أرض بعل" فيدلّون على أرض لا تصل إليها ماء الريّ.
وحين نقرأ عن الطوفان، نجد أن الله واحد، وهو يتحاور مع الانسان، مع نوح البار، ويرسله في مهمّة تنبيه إلى الشعب الغارق في حياته اليوميّة، في دوّامة العنف والشرّ. يبدو نوح ذلك النبي الذي يسمع كلمة الله، ويفهم نداءه، وينفّذه في الواقع. الله هو الله، والانسان يبقى الانسان. لهذا سيبقى نوح مائتاً ولا يدخل إلى عالم الخلود مثل بطل الطوفان في غلغامش. وهذا الاله يتقبّل عطر بخور نوح كما في جميع الذبائح، ولا يهجم على "اللحوم" كـ "الذباب"، على ما فعلت الآلهة. إله نوح هو الإله المتسامي الذي يهتمّ بالأرض والزرع، ولا يتعب من البشر فيحاول إفناءهم. "ما دامت الأرض، يدوم الزرع والحصاد، والبرد والحرّ، والصيف والشتاء، والنهار والليل" (تك 8: 22). لا شيء يبطل من كل هذا فتدوم الحياة على الأرض، لأن الله لا يريد موت الخاطئ بل عودته عن ضلاله ليحيا.

4- عالم البشر
يقول العلماء: الانسان ابن بيئته. فإن كانت بيئته قاسية، كانت طباعه قاسية. وإذا عدنا إلى بلاد الرافدين التي عرفت الفياضانات المتكرّرة التي لا تبقي على الزرع ولا الضرع. وإذا تذكّرنا ان الغزوات كانت تأتيها من الجبال، فتُهلك ما نجا من الطوفان، نفهم أن تكون طبيعة سكان تلك المناطق متشائمة. هنا نستطيع أن نقابلها مع طبيعة مصر المتفائلة حيث النيل يفيض فيحمل معه الخصب والبركة، وحيث الحدود ممنوعة على الغزوات من الشمال بسبب سور بناه الفراعنة، ومن الجنوب بسبب الصحراء التي تشكّل سوراً طبيعياً.
ماذا نستنتج من كل ذلك؟ نظرة بلاد الرافدين إلى الآلهة وإلى عالم البشر. كان الآلهة قد خلقوا البشر لكي يعملوا عنهم. ولكنهم تعبوا من ضجيجهم فأرادوا افناءهم. وكان الطوفان آخر محاولة في هذا المجال. بل إذا أصاب الانسانَ شرّ أو مكروه، فالإله يعاقبه بسبب زلّة ارتكبها هو أو آباؤه أو أبناؤه. وهذه الفكرة انتقلت إلى التوراة، وما زالت حاضرة في حياتنا. يمرض انسان فيقول: ماذا أخطأت إلى الله؟ يموت الشاب فتتساءل والدته: ما الذي فعلت للرب من الشر ليأخذ لي ابني؟ وسوف يسأل التلاميذ يسوع عن الأعمى منذ مولده: "من أخطأ هو أم والداه ليولد أعمى" (يوحنا 9: 22)؟
لا شك في أن العهد الجديد سيحوّل هذه النظرة، فيجعلنا نرى تحويل الشرّ والألم والعذاب إلى عنصر من عناصر تكوين الانسان: بالنجاح أصلُ إلى الله. وكذلك بالفشل. بالصحة أصِل إلى الله وبالمرض أيضاً. لأن كلّ شيء يؤَول لخير الذين يحبّون الله، كما يقول القديس بولس.

خاتمة
ماذا نقول في كل هذا؟ في البدء كان روح الله يرفّ على الكون فيخرج منه كل حياة. ويرفّ على الكاتب الملهم فيعطيه تعليماً دينياً حول خلق الانسان على صورة الله ومثاله. حول خلق الرجل والمرأة متساويين متحابين. فالمرأة هي ضلع من أضلاع الرجل. هي قسم من قلبه، لا عظم من رجله (خادمة له). حول وجود الشرّ في الكون، وهو تمرّد على الله. وإذ أراد الكاتب أن يعبّر عن هذه الحقائق الالهيّة السامية، لجأ إلى حضارات الشرق ولا سيّما ما وجده في بلاد الرافدين. غير أنه احتاج إلى أن ينقّي الصور من كلّ شرك وتعدّد الآلهة. والتوراة بدورها ستحتاج أيضاً إلى تنقية في الانجيل. فهي ناقصة وقد جاء المسيخ يكمّلها ويصل بها إلى ذروة التعليم. وهكذا نستطيع القول إن التوراة هي خلاصة حضارة الشرق القديم كما أخذتها كلمة الله. وهي تجد كمالها في العهد الجديد مع المسيح الذي جاء يجمع في شخصه كل ما في السماوات وما على الأرض.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM