الفصل السابع عشر: الثالوث

الفصل السابع عشر
الثالوث

1- مقدمة
قبل الدخول في الموضوع سنوضح مفهوم الكنيسة لكلمة "سرّ"، ولمفهوم "الثالوث":
- الكنيسة تطلق على الله كلمة "سرّ"، أي "سرّ الثالوث"، و"سرّ الفداء"... وكثيراً ما يُساء فهم معنى الكلمة فتصبح كاللّغز. لكن الكنيسة تفصل بين كلمة سر وبين اللغز. فاللغز هو شيء غامض لا يُفهم أبداً مهما حاولنا كشفه. أما السرّ في مفهومنا المسيحي فمختلف تماماً، فإنه حقيقة إيمانيّة نستطيع فَهمَها شيئاً فيشئاً دون الوصول إلى نهايتها. فالسر ليس حائطاً نصطدم به بل محيطاً نغوص فيه ونتعمّق لنكتشف أبعاداً وأبعاداً جديدة لهذه الحقيقة.. هذا هو معنى السرّ في مفهومنا المسيحي.
- ان عقيدة أو مفهوم الثالوث ليس حصيلة أدمغة في نظرتها إلى الله، بل تعبيراً لاهوتيّاً صاغته الكنيسة لتجسيد الاعلان والحقيقة التي كشفها الله لنا من خلال ابنه. لذلك نحن ننطلق من الاعلان، فنرى ان الله كامل، وإلاّ لا يعود الله. ومعنى الكمال أنه يجمع كل الصفات والأمور الحسنة بالمطلق. وهنا لا أحد يخالفنا في هذا المفهوم. كما نرى في إعلان الله، انه محبّة (1 يو 4: 8). وهنا نأتي إلى مسلّمات لا يمكن تجاوزها أو إغفالها، الا وهي معنى المحبّة، وكيفيّة وجود المحبّة في الله.. والمسلّمات هي: "الحبّ هو الحياة في سبيل الآخر (للعطاء)، والحياة بالآخر (القبول). الحبّ هو الكفّ عن الحياة في النفس وبالنفس وفي سبيل النفس". من هنا تبرز حقيقتان جوهريّتان في المحبّة، وهما: القبول والعطاء. فالحبّ المتوجّه نحو النفس هو أنانية لا محبّة، ولا يفيض منه شيء. أما الحبّ المتوجّه نحو الآخر فهو خروج من النفس وعطاء. عطاء ماذا؟ لا اشياء بل الجوهر. "هذا هو جوهر سرّ الثالوث. ان كان الحبّ عطاءً وقبولاً، فلا بد أن يكون هناك عدّة أشخاص في الله. لا يعطي الانسان نفسه لنفسه، ولا يقبل الانسان نفسه بنفسه. وحياة الله هي حياة القبول والعطاء هذه".. وهنا نرى أن المحبّة تُعطي لا الأشياء بل الجوهر، أي النفس والذات، لأنها أغلى شيء. ولاكتمال المحبّة ينبغي على المستَقبِل أن يستوعب هذا الجوهر ويحتويه، وبالتالي يكون هو من الجوهر نفسه لا خارجاً عنه. وهكذا نرى أنه لا يمكن أن يحبّ الله مخلوقا ما خلقه لهذه الغاية وذلك للاعتبارات التالية: إن المخلوق محدود في الاستيعاب والقبول. فإن صبّ الله محبّته (أي جوهره) في المخلوق (ملاكاً كان أو إنساناً) لا يتألّه، بل يتفجّر متلاشياً لأنه لا يستوعب المحبّة (الجوهر) بل هي تستوعبه. كما وأنه محدود زمنيّاً (لأن المخلوق له بداية ونهاية) وليس أزلياً. وبالتالي لا يكون الله قبل خلقه محبّاً بل أنانيّاً. كما ويكون الله بذلك مرتبطاً كيانيّاً بالمخلوق لأنه يكمّله في المحبّة.
وهكذا عندما نقول إن الله محبّة، نقول إنه عطاء وقبول، وبالتالي لا يكون هذا القبول خارجاً عنه، أو من جوهر آخر. وهنا يقتضي الأمر وجود ثنائيّة ما في الله لا خارجه. وهذه الثنائيّة عبّر الاعلان عنها بـ "الآب" و"الابن" كعلاقة غيرويّة (أي الواحد مع الآخر) و"الروح القدس" كعلاقة باطنية، أي المحبّة (الجوهر) المتبدلة. فإن الآب والابن والروح القدس ثلاثة أشخاص يمتاز كل واحد عن الآخر امتيازاً حقيقياً يمنع الاختلاط بينهما. فلا يذوب أحدهم في الآخر، لذلك هم متمايزرن ولكنهم غير منفصلين في الجوهر وطبيعة الألوهة بل واحد.
"ليس الثالوث الأقدس ثلاثة أقانيم متجانبين، بل هي ثلاث كرامات تهب أنفسها الواحدة للأخرى على وجه كامل. ليس كل من الأقانيم الثلاثة لنفسه الا لأنه للاثنين الآخرين. فلا وجود للآب كآب يمتاز عن الابن، إلاّ بهبة نفسه كلّها للابن. ولا وجود للابن كابن يمتاز عن الآب إلاّ بكونه كلّيّاً اندفاع محبّة للآب. فلا وجود للآب، أوّلاً كأقنوم يقوم على نفسه ولنفسه، بل لا يكون نفسه ما لم يكن خارجاً عن نفسه. فهو قائم في الكيان بقيامته في الآخر. في الآب وفي الابن وفي الروح القدس يستحيل على الاطلاق أي انطواء على النفس".
وبهذا نرى أنه لا أسبقيّة زمنيّة، أو حتى تراتبيّة جوهريّة في الثالوث، بل المحبّة الكاملة المبتادلة.. وإن سُئلنا لماذا ثلاثة أقانيم وليس اثنين أو أربعة؟! لأجبنا بالتالي، هناك سببان. أوّلهما: أن الآب يهب نفسه وجوهره لشخص واحد ودفعة واحدة. وذلك لأن محبّة الله ليست جزئيّة، بل كاملة، وتُمنح كاملة. بعكسنا نحن البشر، فإننا ننجب عدّة أولاد ونحبّهم كلّهم معاً، ولا نستطيع توجيه حبّنا إلى واحد. فإن فعلنا نحرم لآخر. لذلك نحن نحبّهم جزئياً معاً. أما الله فيمنح محبّته كاملة للابن الذي بدوره يعكس المحبّة ذاتها نحو الآب، وهذه العلاقة المتبادلة تُسمّى "الغيريّة". ويطلق يوحنا (1: 18؛ 3: 16) كلمة "الوحيد" على الابن للإشارة إلى عدم وجود ابن آخر، كما ويدلّ على أن الآب يحبه كامل المحبّة مما جعله وحيداً ولا أحد غيره (رج يو 3: 35؛ 10: 17؛ 15: 9...). ويستخدم اللاهوت تعبيراً يبرز ارتباط الابن بطبيعة وجوهر الآب، وهو "الألادة". فكما الشمس تلد النور دائماً دونما تواجد أيّ من القرص أو النور أحدهما قبل الآخر أو دونه، كذلك في مفهومنا عن الالادة التي لا ينبغي أن تفهم بالمعنى الجسدي، بل بالمعنى الروحي. فالابن مولود من الآب قبل الأزمنة (رج يو 1: 1- 2؛ 1 يو 1: 1). أي لم يكن هناك الآب بلا الابن وإلاّ لما كان اسمه "الآب". وهذه الألادة هي روحيّة لا جسديّة. فالله روح (يو 3: 24) ومولود الروح هو روح (يو 3: 6)، وبقيّة البشر هم أبناء بمعنى التبنّي بيسوع (رج كو 1: 16؛ أف 2: 10؛ ويو 1: 4). ولكنا على صورة الابن مخلوقين (رو 8: 29)، وبذلك نكون مختلفين جوهرياً عن الابن بصيغة التبنّي كما قلنا (أف 1: 5). لذلك عبّر يوحنا بكلمة الابن الوحيد تميّزاً له عن البشر. ومحبّة الله تتوجه إلينا من خلال ابنه. "اختارنا فيه قبل إنشاء العالم... في المحبّة" (أف 1: 4؛ راجع 2: 4). وعندما نحبّ بعضنا البعض فإننا نولد من الله، لأن الله محبّة (رج 1 يو 4: 7). وعندما خلقنا الله خلقنا به وله (للابن) (عب 2: 10؛ كو 1: 16) ووهبنا له (للابن) (يو 17: 2 و6 و9 و24). وهكذا "ندخل نحن في صميم علاقة هبة ذاته [الآب] لابنه الوحيد الحبيب" وبذلك تكون علاقة الآب بالابن الوحيد علاقة غيريّة تمنع وجود ابن آخر... أما الابن فانه يتقبّل من الآب المحبّة الكاملة وبالتالي ذاته ويعبّر عنها بأنه من الآب خرج (رج يو 8: 42؛ 16: 27 و28؛ 17: 8)، وهو في حضن الآب (يو 1: 18) بمعنى أنه من طبيعته. والابن يتقبل البشر من الآب (رج يو 6: 44؛ 17: 6 و9 و16)، كما يبادل الآب المحبّة: "اني أحب الآب" (يو 14: 31؛ رج يو 15: 10)... أما عن الروح القدس (ونذكّر هنا اننا ما زلنا في السبب الأول لعدم وجود شخصين فقط أو أكثر من ثلاثة أشخاص) فنحن أمام العلاقة "الباطنيّة" بين الآب والابن، فهو (الروح) من الآب والابن معاً. فالروح القدس هو "روح الله" و"روح الآب" (أف 3: 16) وهو (أي الروح) يفحص أعماق الله (1 كور 2: 10 و11). وهو كذلك "روح الابن" (غلا 4: 6؛ 2 كور 3: 17؛ فيلبي 1: 19؛ رو 8: 9)؛ وهكذا يبرز الروح القدس كأقنوم قائم بذاته ويمناز عن الآب والابن فلا يذوب فيهما، بل هو الذي يقيم الشركة بينهما (2 كو 13: 13)، كما وأن لديه كل الصفات الشخصيّة في تكلم، وحزن، وإرشاد، وإدارة، وتعليم...
والسبب الثاني: هو أن الله محبّة تنتفي فيها كل أنانيّة وكل تملّك كياني. فالمحبّة لا تتملّك بل تهب دائماً. فلو لم يكن هناك أقنوم ثالث (الروح القدس) لكان وجود الآب في الابن هو تملّكاً له، وبالتالي تملّكاً للنفس، فالأنانيّة. أمّا إذا تفتّحت محبّة الآب والابن على الروح الاقدس (الأقنوم الثالث) لأنتفت الأنانيّة وكل أشكال التملّك. وهكذا نفهم قول المسيح في (يو 17: 10) "كل ما لي فهو لك (للآب) وكلّ ما هو لك هو لي".
ونختم مفهومنا حول الثالوث، بأننا انطلقنا من أن الله محبّة في الكيان، وكل صفاته ما هي إلاّ أوجه عديدة وتعابير عن المحبّة التي هي منبع كل شيء، وبذلك نفهم بالعمق مدى المحبّة في الله على صورة حقيقة الثالوث، ونفهم كيف أن الله أحبّ العالم حتى وهب ابنه الأوحد (يو 3: 16)، ومعنى قول الابن ليس حبّ أعظم من هذا أن يضحّي أحد بذاته في سبيل أحبائه (يو 15: 13). وما أروع تعبير قاريون عن هذه الحقيقة بقوله: "الحرية في يد قائد المئة نفذت إلى أبعد من قلب المسيح، فقد شَّرعت قلب الله واجتازت حتى صميم أعماق الثالوث".
من هنا كل انطلاقة للحوار في موضوع الثالوث مع شهود يهوه، ينبغي عليها أن تركّز فيه على نقطتين: الأولى، ان الله محبّة، وظهرت هذه المحبّة في المسيح. فإن كان الله محبّة فمن كان يحبّ قبل خلق أيّ شيء؟! أما النقطة الثانية، وهي ان نُوضّح مفهوم الثالوث بأنه ثلاثة أشخاص (أقانيم)، والتشديد جداً على التمايز بينهم، أي ان الابن هو الذي تجسّد وليس الآب، كما وان الابن حين يصلّي فهو يتخاطب مع الآب... وطبعاً مع الحرص على عدم الانفصال وإلاّ لأصبحوا ثلاثة آلهة، أي القول بأنهم من الجوهر والطبيعة الإلهيّة نفسها.

2- مفهوم هيئة شهود يهوه حول موضوع الثالوث
تصرّح هيئة شهود يهوه بعدم إيمانها في الثالوث الأقدس، وذلك بسبب عدم ورود كلمة "ثالوث" في الكتب المقدسة. وسنستعرض عدّة اقتباسات تصرّح بذلك:
- ورد في كتابهم (المعرفة التي تؤدي إلى الحياة الأبديّة/ 1995- ص 30 و31): "كان المصريون القدماء يعبدون آلهة عديدة، لكن يهوه "إله يتطلب التعبّد المطلق" (خر 20: 5، ع ج) وذكّر موسى الاسرائيليين بأن "يهوه إلهنا يهوه واحد" (تث 6: 4، ع ج) وكرّر يسوع المسيح هذه الكلمات (مر 12: 28 و29). لذلك فإن الذين يقبلون الكتاب المقدّس ككلمة الله لا يعبدون ثالوثاً مؤلّفاً من ثلاثة أقانيم (أشخاص) أو آلهة في واحد. وفي الواقع، ان كلمة "ثالوث" لا تظهر أيضاً في الكتاب المقدّس. فالاله الحقيقي هو شخص واحد. منفصل عن يسوع المسيح. (يو 14: 28؛ 1 كور 15: 28) وروح الله القدوس ليس شخصاً. انه قوّة يهوه الفعّالة، التي يستخدمها الكليّ القدرة لإنجاز مقاصده- تك 1: 2 ع ج؛ أعمال 2: 1- 4، 32، 33؛ 2 بط 1: 20، 21).
- ورد في كتاب (يمكنكم أن تحيوا إلى الابد في الفردوس على الأرض/ 1985 - 90- ص 39 و40): "... في إحدى المناسبات، صلّى يسوع إلى الله قائلاً: "لتكن لا إرادتي بل إرادتك". (لو 22: 42) فلو كان يسوع الله الكليّ القدرة لما صلّى إلى نفسه. وفي الواقع، بعد موت يسوع، تقول الأسفار المقدسة: "يسوع هذا أقامه الله" (أع 2: 32). وهكذا يتّضح ان الله الكليّ القدرة ويسوع شخصان منفصلان. وحتى بعد موته وقيامته وصعوده إلى السماء كان يسوع لا يزال غير مساوٍ لأبيه- 1 كور 11: 3، 15: 28".
- ورد في كراسة أو مجلة (هل يجب أن تؤمنوا بالثالوث/ 1989- ص 11): "في كل مكان من العالم القديم، رجوعاً إلى بابل، كانت عبادة الآلهة الوثنيّة المجموعة في فِرق من ثلاثة، أو ثواليث، شائعة. وهذا التأثير كان أيضاً سائداً في مصر واليونان ورومية في القرون التي قبل، وفي أيام، وبعد المسيح. وبعد موت الرسل ابتدأت مثل هذه المعتقدات الوثنيّة تجتاح المسيحيّة". وفي (ص 29) تضيف النشرة: "يلزمنا أيضاً أن نتذكر أنه حتى ولا "آية برهان" واحدة تقول ان الله ويسوع والروح القدس هو واحد في ذات إلهيّة غامضة...".

3- معالجة سوء التفاهم
قبل الدخول في المعالجة، يجدر بنا أن نسجّل بعض الملاحظات حول ما ورد من تصاريح عن إيمان ومفاهيم هيئة شهود يهوه، ومن ثم نعالج بضعة أمور:
- انطلاقتهم من العهد القديم لنفي أو لتأكيد، أي موضوع أو فكرة. فيصبح العهد الجديد كملحق أو كامتداد للعهد القديم، مثل قولهم عن عبادة يهوه.
- اللجوء إلى الفكر الوثني، وتصوير الثالوث على انه امتداد له، دون دراسة هذه الأمور لدى المسيحيين أنفسهم. كما وعدم تميّزهم للاختلاف الجوهري العميق الجذور بين إيماننا المسيحي والوثنيين، خاصة في موضوع الثالوث.
- المغالطات الكبيرة والواضحة التي تشير إلى سوء تفاهم واضح لفكر الكنيسة، وهنا نشير إلى دمجهم للآب والابن والروح القدس في شخصيّة واحدة أو إله واحد. وهذا خطأ. فليس هذا فكر الكنيسة وإيمانها. وهنا بدلاً من أن يتعمّقوا بدراستهم لفكر الكنيسة، نجدهم يؤوّلون كلام وأقوال الكنيسة ليرّدوا عليها. وهم أنفسهم غير فاهمين هذا الإيمان.
- الحرفيّة التي يتبعونها. فإنه ان لم يكن من كلمة ثالوث، فليس له وجود. وهنا نطرح سؤالاً. لم يذكر الكتاب المقدس كلمة "حكومة" أو "قوّة الله الفعّالة" عن الروح القدس. أو حتّى "الهيئة الحاكمة" ليس لها جذور، فمن أين جاؤوا بها. ونشير إلى ان إيماننا المسيحي لا يُبنى على وجود كلمة أو عدمها، بل على دراسات للنصوص وخلفيّاتها، وعلى اختبار الكنيسة كجماعة للربّ.
- إستخدام وتفسير الآيات بغير وجه حقّ، مثل آية (1 كور 15: 28) التي يقولون انها تشير إلى أن المسيح من غير طبيعة الآب، وأنه أدنى منه. وهذا التفسير خطأ إذا قرأنا الفصل وفسّرناه بشكله الصحيح فالموضوع يتكلّم عن القيامة، وشتّان ما بين معنى النصّ وبين ما قالوا.
- التهجّم والانتقادات اللاذعة المتوجّهة إلينا الواردة في نشرة (هل يجب أن تؤمنوا بالثالوث؟ ص 30 و31)، وهذا غير مقبول لا على الصعيد المسيحيّ الذي يحترم ضمير الغير، ولا على الصعيد الأكاديمي والمنهجي للعلم... فمثل هذه الأقوال تظهر لنا نوعاً من العداء والبغض المستحكم، والذي نسعى لإزالته بإظهار إيماننا على حقيقته، لا بصور مشوّهة ومغلوطة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM