الفصل الثامن عشر: هوية يسوع

الفصل الثامن عشر
هوية يسوع

1- مفهوم هيئة شهود يهوه حول هويّة يسوع
ورد في نشرة (هل يجب أن تؤمنوا بالثالوث- ص 14): "... كان يسوع كائناً روحياً مخلوقاً. تماماً كما كانت الملائكة كائنات روحانيّة مخلوقة من الله... كان يسوع، في وجوده السابق لبشريّته، "بكر كل خليقة" (كولوسي 1: 15) لقد كان "بداءة خليقة الله". (رؤيا 3: 14)... وورد في كتاب (المعرفة التي تؤدي إلى الحياة الأبدية- ص 39): "دُعي يسوع (ابن الله الوحيد) لأن يهوه خلقه مباشرة. (يو 3: 16) واذ كان يسوع "بكر كل خليقة"، استخدمه الله بعدئذ لخلق كل الأشياء الأخرى (كولوسي 1: 15؛ رؤ 3: 14) تقول (يو 1: 1) ان الكلمة (يسوع في جوده السابق لبشريّته) كان عند الله "في البدء". ولذلك فإن الكلمة كان عند يهوه حين خُلقت "السماوات والأرض". وكان الله يخاطب الكلمة عندما قال: "نعمل الانسان على صورتنا" (تك 1: 1، 26) وبشكل مماثل، كان الكلمة دون شك (الصانع) المحبوب عند الله، الموصوف في الأمثال 8: 22- 31 بأنه مجسّم الحكمة، عاملاً إلى جانب يهوه في صنع كل الأشياء. وبعدما أوجده يهوه قضى الكلمة دهوراً عند الله في السماء قبل أن يصير إنساناً على الأرض... لا عجب ان كو 1: 15 تدعو يسوع "صورة الله غير المنظور" فطوال سنوات لا تحصى من المعاشرة اللصيقة صار الابن الطائع تماماً كأبيه، يهوه. وهذا سبب آخر لكون يسوع المفتاح إلى معرفة الله المانحة الحياة".
ونلاحظ هنا جملة أمور، أهمها:
* ان يسوع هو مخلوق روحاني كالملائكة، وذلك استناداً إلى كو 1: 15؛ رؤ 3: 14.
* ان يسوع دُعي ابن الله الوحيد لأنّ يهوه خلقه مباشرة.
* ان الله استخدم يسوع في خلق الأشياء الأخرى (السماوات والأرض...).
* ان الحكمة في أمثال 8، هي تجسيم ليسوع، وبالتالي هي مخلوقة وصانعة.
* ان يسوع يُدعى "صورة الله" بسبب معاشرته الطويلة ليهوه أبيه.

2- التفسير السليم
سنبدأ أولاً بشكل حرفي لنثبّت أن التفسير الحرفي لا يوصلنا إلى تفاسير سليمة. ففي موضوع أن يسوع يُدعى ابن الله الوحيد، نرجو مراجعة معنى كلمة وحيد في مقدمتنا وتوضيحنا حول الثالوث.. أما في موضوع كلمتي "بكر" و"بداءة" فتفسر هيئة شهود يهوه كلمة "بكر" بمعنى المخلوق الأوّل. ولكن في بحثنا في الكتاب المقدس نرى انها تستخدم لمفهوم آخر تفيد معنى السلطة والميراث. فعندما يقول الربّ ليعقوب "إسرائيل ابني البكر" (خر 4: 22)، ونعرف أن عيسو هو البكر وليس يعقوب (رج تك 27: 19). وحين يقول مز 89: 27 "أنا أيضاً أجعله بكراً أعلى من ملوك الأرض" عن داود، ونعرف ان داود ليس البكر، بل الأخير (رج 1 صم 16: 11)، وعى أفرايم (ار 31: 9) "لأني صرت لإسرائيل أباً، وافرايم هو بكري" ونعرف ان افرايم ليس البكر بل أخوه منسى (رج تك 48: 14). وهكذا يتضح مفهوم السلطة والميراث المضاعف للبكر (رج تث 21: 17؛ 1 أخ 5: 1 و2). أما عن كلمة "بداءة" فإن كانت تعني (وهذا غير صحيح) في اليونانية الخلق الأول، فهي مستخدمة أيضاً لله في رؤ 21: 6. أما في موضوع استخدام الله ليسوع والخلق فنقرأ في أش 44: 24: "هكذا يقول الربّ فاديك وجابلك من البطن. أنا الرب صانع كل شيء ناشر السماوات وحدي باسط الأرض من معي"، وفي 45: 12 "أنا صنعت الأرض وخلقت الإنسان عليها، يداي أنا نشرتا السماوات وكل جندها أنا أمرتُ. فكيف نفسّر هنا التناقض؟ فالله خلق كل شيء وحده، وبيديه. فأين دور المسيح؟!... أما في موضوع الحكمة المخلوقة والصانعة في أم 8، فنرى أن الله صانع أيضاً (رج أش 44: 24). فهل هناك صانعان؟ كما أن النص لا يقول إن يسوع هو الحكمة، فكيف نقول إنها يسوع؟.. أما موضوع صورة الله، فنقرأ في عب 1: 3 انه بهاء مجد الله ورسم جوهره..
وهنا نتوقّف عن سرد التفاسير الحرفيّة، مثبّتين أنه يمكننا أن نرى أي شيء نريده نحن، ما عدا كلام الله، الذي وحده يختفي بسبب هذا الأسلوب. لذلك سننطلق الآن في التفسير السليم للآيات الكتابيّة (كو 1: 15 مع رؤ 3: 14؛ يو 1: 1؛ أم 8: 22- 31).
أ- "الذي هو صورة الله غير المنظور، بكر كل خليقة" (كو 1: 15)
وردت الآية في رسالة بولس الرسول إلى أهل كولوسي، وفيها يعالج بولس تعاليم مغلوطة تسّربت إلى الكنيسة عن طريق "معلّمين كذبة" دخلوا الكنيسة. ونتعرّف إلى هويّة هؤلاء المبتدعين من خلال الفصل الثاني الذي ترد في كلمات مثل "الفلسفة- غرور باطل- تقليد الناس- أكل- شرب- عيد- هلال- سبت- عبادة الملائكة... ونرى من خلال هذه العبارات وجهين للمبتدعين، وجه يهوديّ، وآخر هليني (يوناني). ونرى أيضاً من خلال النشيد الوارد في الفصل الأوّل (آ 15- 20)- الذي يركّز على تفوّق المسيح مقاماً في كل شيء وعلى كل شيء- ان شخصيّة المسيح مستهدفة من قبل هؤلاء المبتدعين المتأثرين بالفلسفة اليونانيّة، والذين مهّدت أفكارهم لما سُمّي فيما بعد بالغنصويّة (خلال القرن الثاني الميلادي)، وهذه الفلسفة، التي تبلورت في ما بعد، تجعل الخلاص في المعرفة فقط، وترفض كل ما هو مادي. فتفصل بين الروح والجسد، لأن الجسد سجن ومقبرة الروح، وهو شّر. والأهم هو أنها تعتقد بانبثاقات عن الألوهة بدرجات أدنى لتصل إلى البشر فتشكل حلقة وصل بين الله والناس. وهذه بدورها (المخلوقات) تدير الكون، وهي بالتالي أسمى من يسوع المسيح. وهكذا يعالج بولس هذه الفلسفة عبر إبراز سموّ المسيح على كل الخليقة التي به وله وفيه خلقت (قارن أيضاً 1 كور 8: 6)، فينطلق من كون المسيح صورة الله، أي من جوهره، ليصل إلى بكر الحليقة، أي الأوّلية والرأس والسلطة. فترى فكرة "صورة الله" في فكر بولس أوّلاً (2 كور 4: 4) ثم في فل 2: 6 و7، فيكون المسيح صورة الله من حيث الألوهة، أي من حيث الجوهر والطبيعة نفسها، لا انبثاقاً أدنى منه، وينيرها تماماً في رسالة فيليبي "إذ كان في صورة الله... آخذاً صورة عبد.." وكونه أخذ صورة عبد لم يصبح أدنى من الملائكة جوهريّاً (الطبيعة البشريّة طبعاً أدنى ماديّاً، أما الطبيعة الإلهيّة في المسيح فهي ما زالت من جوهر وطبيعة الآب نفسها) ويصوّره رأساً للجسد (أي الكنيسة وبالتالي البشريّة (1 كور 15) ويسمو رأساً على كل الخليقة وهذا ما يبرز في فكر بولس، المسيح رأس كل الخليقة (1 كور 11: 12- 31؛ 15: 23 و28؛ 2 كور 4: 4؛ أف 1: 20- 23؛ في 2: 6- 11) إذا انطلقنا خارج فكر بولس نجدها عند يو 1: 1؛ 5/ عب 2. وسنكتفي بمقارنة النصوص المتركّزة حول فكرة بولس (أف 1؛ فل 2؛ كو 1).
أف 1
".. وأي قوّة عظيمة فائقة تعمل لأجلنا نحن المؤمنين وهي قدرة الله الجبارة التي أظهرها في المسيح حين أقامه من بين الاموات وأجلسه إلى يمينه في السماوات، فوق كلّ رئاسة وسلطان وقوّة وسيادة، وفوق كلّ اسم يُسمّى، لا في هذا الدهر فقط، وجعل كل شيء تحت قدميه ورفعه فوق كل شيء رأساً للكنيسة التي هي جسده وملؤه، وهو الذي يملأ كل شيء في كل شيء. فل 2
هو في صورة الله، ما اعتبر مساواته لله غنيمة له، بل أخلى ذاته واتخذ صورة العبد صار شبيهاً بالبشر وظهر في صورة الانسان تواضع، أطاع حتى الموت، الموت على الصليب، فرفعه الله أعطاه اسماً فوق كل اسم لتنحني لاسم يسوع كل ركبة في السماء وفي الأرض وتحت الأرض ويشهد كل لسان أن يسوع المسيح هو الرب تمجيداً لله الآب. كو 1
هو صورة الله الذي لا يُرى وبكر الخلائق كلّها. وبه خلق الله كل شيء في السماوات وفي الأرض ما يُرى وما لا يُرى: أأصحاب عرش كانوا أم سيادة أم رئاسة أم سلطان. به وله خلق الله كل شيء. كان قبل كل شيء وفيه يتكوّن كل شيء هو رأس الجسد، أي رأس الكنيسة، وهو البدء وبكر من قام من بين الأموات لتكون له الأوّليّة في كل شيء، لأن الله شاء أن يحلّ قيه الملء كله وأن يصالح به كل شيء في الأرض كما في السماوات، فبدمه على الصليب حقق السلام.

وهكذا نرى أن لاستخدام كلمة "رأس" عن المسيح وقعين، عند اليهود أوّلاً، ثم عند اليونانيين. فاليهود متأثرون بالعقليّة الساميّة (بلاد ما بين النهرين) حيث الرأس يغذي الجسد، وبه يلتحم الجسد كله وهو مصدر حياته وحيويّته ووجوده. أما عند اليونانيين وكذلك الرومان فالرأس يعني القائد المتقدّم وله تخضع كل الجيوش وتتبعه. وهكذا يكون المسيح رأس الكنيسة بمعنى انه يحييها، يقودها. وعندما يعلن بولس في 1 كور 15 المسيح كونه رأس البشريّة (رج روم 14: 9)، فيسمو بالمسيح عالياً حتى يرتبط بالله، فيكون عندئذ صورته، ومن طبيعته، (ويوضّح كاتب العبرانيين في الفصل 1، عن جوهر الله ورسمه في المسيح) وهذا يبدو واضحا في 2 كور 4: 6. وأيضاً كلمة "الجسد" عند اليهود هو الظهور الخارجي للشحص، وهو انعكاسه الداخلي في عمله وقوله. أما عند اليونانيين فالجسد هو موحّد الأعضاء ورابطها ومنسقها، مثل الدولة، والجيش، والكون... وعندما يستخدم بولس هذا التعبير فهو يعبّر لليهود أن الكنيسة هي حضور المسيح كونها جسده، ولليونانيين ان الكنيسة جسد مترابط ومنظم له رأس حيّ وقائد وهكذا يكون المسيح رأساً أعلى يسمو فوق كل شيء، وليس أوّل مخلوق أو بكر أو ما شابه. فالمسيح رأس كل الملائكة والمخلوقات الروحيّة والبشريّة معاً.
ب- "وأكتب إلى ملاك كنيسة اللاودكيين. هذا يقوله الأمين الشاهد الأمين الصادق بداءة خليقة الله" (رؤيا 3: 14)
إن رسالة الرؤيا، هي رسالة متأخّرة، كتبها يوحنا لجماعته ليشدّدها وليزرع فيها الرجاء والأمل بأن الله الذي انتصر في الماضي بواسطة شعبه على كل الصعوبات، كذلك سينتصر حاليّاً، وأيضاً في المستقبل. فرغم كل الاضطهادات وموت الرسل، ما زالت الكنيسة مستمرّة قائمة لأن الله يرعاها. وينطلق الكاتب في صور رؤيويّة يصف بها رسالته، ومن ضمنها رسالة باطنيّة في صور رؤيويّة متوجّهة إلى كنيسة اللاودكيين، ويعالج فيها مشاكل تبدو مستفحلة. ومن يطّلع على جغرافيّة لاودكيّة يعلم ان نهراً يمرّ فيها مصدره هيرابوليس غنيّاً بالمعادن، وكانت تصل للمدينة مياه فاترة الحرارة تقريباً، كما واشتهرت المدينة بمدرستها الطبيّة لكحل العيون، لذلك يقول لها يوحنا بأنها ليست باردة ولا حارّة، فالرب يكاد يتقيّأها من فمه بمعنى يرفضها. كما ويشير أيضاً إليها بوضع كحل للعيون لتبصر، أما عن الذهب فلأن التجارة مزدهرة فيها.
ولكن أهم ما نجده هو أن هذه الكنيسة اكتفت بغناها، واستقلّت بنفسها عن الجسد (الكنيسة)، فيقول لها يوحنا (آ 20) ان المسيح في الخارج يقرع للدخول، وإذا كانت الجماعة هناك خارج الرأس فستموت حتماً، كمثل الأغصان التي بانفصالها عن الكرمة تجف وتموت (يو 15). وموت كنيسة لاودكيّة أكيد إذا انفصلت عن الرأس (المسيح).
وإذا عدنا إلى جذور المشكلة نجدها متصلة بالمبتدعين الذين اجتاحوا آسيا الصغرى كلها. ونجد أيضاً أن مشكلتها متصلة بمشكلة كنيسة كولوسي. وهذا ما عالجه بولس سابقاً برسالة وجّهها لهم، فتابع يوحنا هذا المسعى برسائله. فنقرأ في كو 4: 15 و16 "سلموا على الاخوة الذين في لاودكيّة وعلى نمفا والكنيسة التي في بيتها. وبعد قراءة هذه الرسالة عندكم، أرسلوها إلى كنيسة لاودكيّة لتقرأها، واطلبوا رسالتي إلى لاودكيّة لتقرأوها أنتم أيضاً". وهكذا يتضح تناسق فكر بولس مع يوحنا حول معالجتهما للمشكلة نفسها فنجد أن فكرة المسيح الرأس متجذّرة أيضاً عند يوحنا (رج يو 1: 1- 5؛ 15: 1- 10). كما نجد أيضاً مشاكل الفلسفات اليونانية (رج 1 يو 2: 18- 23؛ 4: 1- 210؛ 2 يو 7). ونرى في رؤ 22: 8 و9 أن يوحنا حاول السجود للملاك فمُنع لأن السجود هو للجوهر الإلهي فقط... ونرى أن كاتب (العبرانيين) الذي يعالج بدوره موضوع مقام المسيح، قد رافع يسوع إياه فوق موسى وهارون والكهنوت والذبائح، وحتى فوق الملائكة، فقال: "لتسجد له كل ملائكة الله" (1: 6). إلى أن وصل الكاتب إلى صورة جوهر الله وبهاء مجده، رافعاً إياه (المسيح) إلى الطبيعة والجوهر الإلهي. كما ويشير يهوذا في رسالته إلى مشكلة مماثلة (آ 4 و8) رج أيضاً 2 بط 1: 1...).. وهكذا نرى صوراً متعدّدة لمشكلة واحدة جذورها فلسفات يونانيّة تأثّر بها يهود جوّالون أصبحوا مبتدعين يزرعون القوميّة اليهوديّة في محاولة للتحرر من الرومان، فيدخلون "بثياب دينيّة" أي بتعاليم دينيّة. وجوهر تعاليمهم على أنواعهم هو النيل من مقام ومكانة المسيح، وهذا بالتمام ما تصدّت له الرسائل في العهد الجديد، على مختلف بيئاتها وخلفياتها وحقباتها.
ج- "في البدء كان الكلمة، والكلمة كان عند الله، وكان الكلمة الله. هذا كان في البد عند الله. كل شيء به كان وبغيره لم يكن شيء مما كان. فيه كانت الحياة، والحياة كانت نور الناس، والنور يضيء في الظلمة، والظلمة لم تدركه" (يوحنا 1: 1- 5)
كتب يوحنا إنجيله في فترة متأخرة من القرن الأوّل، فتوخّى من خلاله تشديد وتثبيت المسيحيين في إيمانهم وارتباطهم بالمسيح، ليصمدوا ضد الاضطهادات والصعوبات، كما وليعالج بدعاً وهرطقات واجهتها الكنيسة، وإليك مختصراً عن هذه البدع:
* المعمدانيون: وهم تلاميذ يوحنا المعمدان الذين لم يعترفوا بمعموديّة الروح القدس، ويظنون أن يوحنا ومعموديّته هما الأساس للمسيحيّة. فينطلق يوحنا الرسول باتجاههم بقوله ان يسوع هو نور العالم وليس يوحنا (1: 6- 9)، وان يسوع هو قبل يوحنا، بل وأعظم منه (1: 3)، وتشدّد (1: 20 و3: 28) على ان يوحنا ليس المسيح، وانه لم يعمل آية واحدة (10: 41).. وطبعاً يكنّ يوحنا الرسول الاحترام ليوحنا المعمدان (1: 6 و31؛ 5: 35...)
* اليهود الفريسيين: وهم الذين ظلّوا بعد دمار أورشليم والهيكل، وكانوا قد اتخذوا اتجاهات عنيفة ضد اليهود الذين صاروا المسيحيين. فابتدأوا بفصلهم عن مجامعهم، واضطهادهم، والوشي بهم لدى الرومان. فتحرّك يوحنا باتجاههم مشيراً إلى أن المسيح هو الحمل الذي سيذبح عن الشعب، كما أنه العبد المتألم، والملك، والقدوس (1: 29 و34 و49؛ 6: 69). كما أبرز تخلي يسوع عن طقوس وتقاليد الهيكل والعبادة (ف 2- 10). وتحرك أيضاً باتجاه اليهود الذين صاروا مسيحيين والذين عاشوا في الشتات (منطلقاً من 7: 35) وذلك بهدف عودتهم إلى الايمان. وفصل يوحنا الرسول من أجل هذا الأمر بين كلمة "يهود" وكلمة "إسرائيل". فاليهود هم أبناء إبليس والشيطان وهم أضداد للمسيح ولا يؤمنون به (8: 44؛ رؤ 2: 9؛ 3: 9). أما "إسرائيل" فهو حسن النيّة لأنه يتوقّع مجيء المسيّا ويؤمن به (رج 1: 31 و47).
* الهراطقة: وهما نوعان، الغنوصيّون، والظاهريّون. أما الغنوصيّون فيقالون بأن عنصراً سماويّاً نزل على يسوع ابن يوسف في العماد، فأصبح ابناً لله، ثم تركه بعد موته. وان الخلق تمّ بواسطة قوّة خلاّقة لا من الله. عالج يوحنا هذه النظرة في مقدّمته (1: 1- 5) فقال ان المسيح يسوع كان عند الله، وفيه كان كل شيء، وهو النور الآتي إلى الظلمة. أما النوع الآخر، أي الظاهريون، فهم القائلون بأن المسيح يسوع لم يتجسّد بل كان شبحاً أو خيالاً، منطلقين من مبدأ يقول إن الجسد والمادّة شّر. يعالج يوحنا مشكلتهم يوحنا ان الكلمة التي كانت عند الله تجسّدت واتخذت لحماً (1: 1 و14). كما أشار إلى حقيقة سيلان الدم والماء من جنب يسوع المطعون (19: 34)، والقيامة (20: 19- 29).
أما إذا عدنا إلى فهم نص يو 1، لأدركنا من بعد هذا العرض حيثيّات إنطلاقاته. ولكن الذي يميّز يوحنا، ويُبرز خطاً أو اتجاهاً لاهوتيّاً متصاعداً في التعبير البشري عن هويّة المسيح، هو استخدامه لكلمة "لوغوس- الكلمة"، فيحمّلها أكثر من طاقتها المتعارف عليها آنذاك في العالمين اليهودي واليوناني، وبذلك يفجّرها معطياً إياها معنى جديداً هذا ما حدث لكلمة "قام" المستعملة عن قيامة المسيح من الأموات. تفجّرت الكلمة وأخذت منحىً جديداً مختلفاً جوهرياً وصوريّاً. وكذلك كلمة "لوغوس- الكلمة".. وسنبرهن أولاً على ان "الكلمة" لم تخلق، وذلك بمقارنة بسيطة بين تك 1: 1 مع يو 1: 1) "في البدء خلق الله.../ في البدء كان الكلمة..." إن يوحنا (1: 1) عاد إلى الماضي السحيق ليعلن أن الكلمة أزلي وسرمدي، وعاد إلى الحاضر ليعلن ان الكلمة في علاقة حميمة مع الآب، وفي اتحاد وثيق به جوهريّاً، وهو في الوقت نفسه متميّز عنه. وتابع إظهار هذا التميّز في آ 1. ولهدا يستخدم يوحنا مع الآب أداة تعريف في اللغة اليونانيّة مميّزاً أقنوم الآب عن أقنوم الابن. قال: قبل كل شيء كان الكلمة مع الله (الآب) فميّز الابن عن الآب. وقال انه بالكلمة كان كل شيء من خلق وإبداع. وليس قصده أبداً الخلق الأوّل. وإذا عدنا إلى خلفيّة "الكلمة" تاريخيّاً وأدبيّاً لوجدنا ان الكلمة عند اليهود تعني الوجود الذاتي المستقل والذي يعمل عمله، ونرى تأثيرها ومفهومها الشرقي في العهد القديم، عندما لم يسحب اسحاق بركته عن يعقوب ليعيدها إلى عيسو (تك 27). وفي تك 1 نرى كيف أن الكلمة لديها قوّة خلق جبارة. فحين يقول الله كلمة، يخلق شاء ما. ويقول مز 33: 6: "بكلمة الربّ صنعت السماوات" ومز 107: 20: "أرسل كلمته فشفاهم". وكلمة الربّ ينبوع لا ترجع فارغة (أش 55: 11)، وكلمة الربّ كنار وكمطرقة (إر 33: 29). وحين قدّم اليهود "الترجوم" استخدموا "الكلمة" لتشير إلى الذات الإلهيّة، فأصبحت كلمة الله تعني الله نفسه... أما عند اليونانيين، فتُعرف فكرة "الكلمة" عندهم من العام 560 ق. م. ومن الغريب أن نعرف ان يوحنا كتب رسالته من أفسس، حيث عُرف في ذلك الحين فيلسوف يوناني شهير هو هيراكلتوس، وكانت فلسفته تدور حول محور يقول ان كل ما في الوجود هو في حالة فيضان وتغيّر مستمر، وان هذا التغيرّ والحركة المستمرّة ليست فوضويّة وبلا هدف بل هي منضبطة وثابتة وتسير وفق نظام مترابط ينطلق من العقل الإلهي، وهو "اللوغوس" الكلمة. وهو أيضاً يوجه الانسان ويساعده للتمييز بين النور والظلام، بين الحق والباطل. ونرى أيضاً هذا التأثير عند "فيلون" ابن الاسكندريّة، الذي تشبّع من دراسة العالمين اليهودي واليوناني، فنادى بأن "اللوغوس" هو كائن منذ الأزل، وهو فكر الله، وبواسطته خُلق كل شيء.. وبذلك نعرف ان الكلمة في الفكر اليوناني، هي قوة الله الخالقة، والمسيطرة والحافظة...
وهكذا ينطلق يوحنا فيحمّل "اللوغوس- الكلمة" معنى عميقاً ربطه بالمسيح يسوع، فيقول انه الكلمة عند الله، والمتجسد في عالمنا. وبذلك ينزل "صدمة" في عالمين لم يلتقيا إلاّ عند هذه الفكرة، فيقول يوحنا لليهود ان يسوع هو كلمة الله أي من ذات طبيعته وجوهره. ولليونانيين ان يسوع هو "اللوغوس" الذي تجسّد متحداً بالعالم البشري ليلتقيه في مأساته، وليفيض النعم عليه (1: 16 و18) "من فيض نعمه نلنا جميعاً نعمة على نعمة... أما يسوع فوهبنا النعمة والحق".
د- "الرب قناني أوّل طريقه، من قبل أعماله منذ القديم. منذ الأزل مسحت نذ البدء، منذ أوائل الأرض. إذ لم يكن غمر أُبدئتُ.. لما ثبت السماوات كنت هناك... كنت عنده صانعاً، وكنت كل يوم لذّته فرحة دائماً قدامه" (أمثال 8: 22- 31)
إن هذا النص وارد في سفر الأمثال، وهو سفر يُصنّف ضمن الآداب الحكميّة، أو التيّار الحكمي لدى شعب العهد القديم. وهو لا يظهر (التيار) فقط في الأسفار الحكميّة (مثل أيوب، جامعة، الحكمة...) بل يتجلّى في تاريخ الشعب وخاصة ما بعد الجلاء وجذوره (التيار) يعود إلى الشرق الأوسط. أخذه الحكماء وأوّنوه وصاغوه في ثقافة الشعب اليهودي، وأدخلوه حكماً وأسفاراً جمعت ما بعد الجلاء، ومنها سفر الامثال. والحكمة هي تيار يميّز الحق من الباطل، والشريعة والتعليم من الهزء والضياع، وتربط الإنسان بعمق إيماني بالشريعة، وبالتالي بالله... وسفر الأمثال هو أقدم تراث حكمي معروف، يعود إلى سليمان، ويمرّ بمرحلة جمع أولى عند حزقيا الملك حتى عصر الجلاء. وتصدّت الحكمة وتيّارها لمواضيع جوهريّة تطال الإنسان من ألم، وموت، وظلم، وصعوبات... مبرّرة الله من ناحية، وملهمة الشعب على الثبات بالإيمان من ناحية أخرى. فبقدر تعمّق الانسان في هذا التيّار يصبح حكيماً، وبقدر ابتعاده يصبح جاهلاً... ومن روائع الأدب الحكمي في التشخيص، ما نراه يشخّص الحكمة ويجعلها تتكلم وتصيح في الشوارع (8: 1- 4)، وهدف هذا التشخيص مزدوج، أوّلاً ليقول إن الحكمة التي رفضها الناس هي التي أدَّت بهم إلى الجهل وبالتالي إلى عقاب الله بالجلاء. والخلاص يكون بالعودة إليها والتعقل بتعاليمها وشريعتها، فيحرّرهم الله آنذاك. والهدف الثاني، ليصوّر الحكمة بـ "صورة الله قرب الانسان". ولذلك لا بدّ ان تُشخّص وتصبح قريبة لتحدّث الانسان وترشده إلى النور والحق. فصوّرت كأم (14: 26 و27)، وكعروس (15: 2 و3)، ومضيفة كريمة (9: 1- 6)... وهنا نرى ان ما يطرحه نص أم 8 ليس عن موضوع خلق الحكمة. ولا موضوع المسيح! فالكاتب، وكل العهد القديم لا يعرف يسوع قبل تجسّده، وبالتالي لا يجوز فرض مفاهيم لا تنسجم مع موضوع النص. لذلك فالنص لا يتحدّث عن الخلق، بل عن مصدر إلهي للحكمة: "منذ الأزل مسحتُ منذ البدء". وهذه الحكمة هي قريبة من الانسان. فالله لم يخلق حكمته، بل هو حكيم منذ الأزل. فالحكمة ملازمة لله ومرتبطة به. وهي تقرّبت للإنسان لتردّه إلى الله وترشده للحياة... أما ان الحكمة هي يسوع، فهذا ليس فكر الأمثال، بل تأويناً قدّمه بولس الرسول لنا في كتاباته، ومن بعده آباء الكنيسة.. واستخدام بولس للحكمة يُعدّ "عبقريّة لاهوتيّة" فيصبح هذا التشحيص حقيقة لاهوتيّة جوهريّة متجلّية في يسوع المرسل من الله للقاء الإنساد في تعاسته، ولارشاده إلى طريق الحياة، فيصبح المسيح، حكمة الله (رج 1 كور 1: 24 و30؛ كو 1: 15- 17)... وهنا نختم سلسلة التفاسير السليمة لهده النصوص بمقابلة موضوعيّة تُبرز خطاً لاهوتيّاً انطلق من العهد القديم وتجلّى في العهد الجديد.
هـ- مقابلة للنصوص (أمثال 8؛ كولوسي 1؛ يوحنا 1)
في دراستنا لنص أمثال 8 وغيره من نصوص الأسفار الحكميّة، نجد تشخيصاً يطال الحكمة، ويعود بمصدرها إلى الله، وتكون هي صورته وكلمته الممثلِّتين له عند البشر. فمن هناك ينطلق بولس الرسول فيربط الحكمة بيسوع، وبالتالي بـ "صورة الله"، وذلك ليميّز "صورة الله" التي أطلقها على الانسان منطلقاً من سفر التكوين (رج 1 كور 11: 7 مع تك 1: 27). وهو يعني في صورة الله المطلقة على الانسان، الفكر، الحريّة، الارادة... أما "صورة الله" المطلقة على المسيح فيعني بها من جوهر وطبيعة الله، لذلك ربطها بالحكمة وذلك في معالجته لموضوع مقام المسيح تجاه البدع والمبتدعين، فنراه يعكس هذا الفكر في رسالته (رج 1: 9 و28؟ 2: 3). كما نجد الفكر نفسه وكتاباته (رج 1 كور 1: 30؛ 2: 6- 16) فيقول إن الحكمة الإلهيّة سرّ مخفى ظهر في يسوع في العهد الجديد فنقرأ (1 كور 2: 6- 8): "ولكن هناك حكمة نتكلم عليها بين الناضجين في الروح، وهي غير حكمة هذا العالم.. بل هي حكمة الله السريّة الخفيّة التي أعدّها الله قبل الدهور في سبيل مجدنا. وما عرفها أحد من رؤساء هذا العالم، ولو عرفوها لما صلبوا ربّ المجد". وفي نص آخر يعود إلى الحقبة نفسها. نقرأ (أف 3: 3- 11): "... كيف كشف لي (الله) سرّ تدبيره بوحي... سرّ المسيح، هذا السرّ الذي ما كشفه الله لأحد من البشر في العصور الماضية وكشفه الآن في الروح لرسله وأنييائه القديسين، وهو أن غير اليهود هم المسيح يسوع شركاء اليهود وميراث الله، وأعضاء في جسد واحد...". وهكذا نرى الترابط الفكري والموضوعي الرائع لبولس الرسول في إطلاقه "صورة الله" على يسوع وربطه بالحكمة الإلهيّة التي تجسّدت في الكنيسة التي هي جسد المسيح الرأس. ومن هذه الانطلاقات يربط بولس بين صورة الله- حكمة الله- جسد المسيح (الكنيسة)، والرأس... فنقرأ في روم 8: 29: "... فالذين سبق فاختارهم، سبق فعيّنهم ليكونوا على مثال صورة ابنه حتى يكون الابن بكراً لإخوة كثيرين...". وهذا النص يتحدث عن الجسد (الكنيسة) وترابطه بالرأس، وتوقع الخليقة الفداء... وهنا بيّنا فكر بولس الرسول فقط. وإذا عدنا إلى باقي كتابات الرسل لافتتحنا أبعاداً لا تُحصر بكتاب.. لذا اكتفينا ببولس الرسول كمثال...
أما عند يوحنا الرسول، فهو كما في سفر الرؤيا، يعود إلى الماضي، ويستخلص العبر، ثم يرجع إلى الحاضر فيحمّله معنى المستقبل. هكذا أيضاً في موضوع "الكلمة اللوغوس"، فقد عاد إلى الحكمة، ورآها مُشخّصة في الأدب الحكمي، ولا بدّ أنه اطلع على كتابات زميله بولس، فرآها مجسّمة عنده في يسوع، حكمة الله، و"صورة الله" و"الرأس" للجسد (الكنيسة). وبعد خبرة عميقة في الإيمان انطلق يوحنا الرسول بوحي إلهي معبرّاً عن هويّة المسيح أجمل وأعمق تعبير اختبرته وعرفته الكنيسة: "اللوغوس" الكلمة. ولأن اللوغوس يحمل أبعاداً للعالمين اليهودي واليوناني، أطلقها على يسوع، فأصبح يسوع عند يوحنا الكلمة صورة الله وتعبيره المتجسّد، وهو أيضاً الكلمة الخالقة والمبُدئة لكل الوجود، فهو بالتالي متساوٍ مع الآب في الطبيعة والجوهر. هذا ما يطلقه لنا فكر يوحنا اللاهوتي. وسنرى ذلك من خلال مقابلة للنصوص تظهر أن هناك "بُرعماً" انطلق من العهد القديم، وترعرع على يدي بولس، لينضج وينمو عند يوحنا. وهكذا نراه قد تجلّى واكتمل معناه على ضوء المسيح والعهد الجديد. وبالخصوص في الأناجيل الإزائيّة (رج مت 12: 38- 42؛ مر 6: 2؛ لو 2: 40 و52؛ 21: 15).
أمثال 8 (الحكمة)

- الحكمة وُجدت قبل الخلق وهي البكر منذ البدء.
وبالتالي الرأس (8: 22- 26)
- الحكمة كانت عند الله وأمامه في كل حين (8: 30)
- الحكمة تخلق وتساهم في أعمال الله (8: 28- 30)

- الحكمة تلتذ مع البشر (8: 31)
- الحكمة تمتلك الغنى والكرامة والثروة والسعادة (8: 12- 14)
- الحكمة تعطي عطايا
لمجيئها ولتابعيها
(8- 21 و32- 35) كولوسي (المسيح حكمة الله) وصورته
- المسيح بكر الخلائق كلها، وهو سابق لها وهو
رأسها (1: 15 و18).

- المسيح قبل كل الخليقة (1: 17)
- كل شيء فيه وبه وله وقد خلق في السماء وعلى الارض (1: 16)
- الله نقلنا من سلطان الظلمة الى ملكوت ابنه (1: 13)
- في المسيح تكمن جميع كنوز الحكمة والمعرفة (2: 3)
- الله يعطينا الفداء بواسطة جسد بشرية يسوع، لنكون قديسين في شركة دائمة معه (1: 20 و22) يوحنا 1 (المسيح الكلمة)

- في البدء كان الكلمة (1: 1)


- والكلمة كان عند (لدى) الله (1: 1)
- كل شيء به كان، وبغيره لم يكن شيء مما كان
(1: 3).
- والحكمة صار بشراً وحل بيننا (1: 14).
- فرأينا مجده، مجداً يفيض بالنعمة والحق (1: 14)

- من ملئه نحن جميعاً أخذنا نعمة تلو نعمة
(1: 16)

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM