سفر يهوديت


سفر يهوديت

1) سفر يهوديت في بعده الكتابي:
كتاب يهوديت سفر صغير من العهد القديم غريب ومشوّق. يعيننا على تذوّق جال كلمة الرب وغناها من خلال علاقته التاريخية بشعبه، وردات فعل، وخيارات من كان له الرب سيدا ومعلّما قديرا. من يقرأ الكتاب كرواية وكقصة من القصص، يتفاجأ ربما ويستهجن الأحداث، ويشمئز من فظاعة العمل الذي يتم: إمرأة تقتل قائداً عظيما لتخلّص شعبها. تقطع رأسه وتضعه في جعبتها.
المطلوب إذن أن نضع نفسنا أمام السفر بتجرّد، وأن ندع كلمة الله تنساب حتى اعماق قلبنا دون أن نقاومها ودون أن نفقد صبرنا حتى النهاية.
سفر يهوديت من الأسفار القانونية الثانية ونجده في الترجمات البروتستانتية في الملحق الخاص بالكتب المنحولة (اي غير القانونية). مؤلف الكتاب الأصلي مجهول، ومن المرجَّح انه كتب بلغة سامية قد تكون العبرية. لم يدرج الربانيون اليهود سفر يهوديت في المجموعة الرسمية للاسفار المقدسة، مما أدى الى تردد الكنيسة القديمة في شأنه. لكن استعماله كان شائعاً وقُبل في لائحة الكتب القانونية في المجامع الفلورنسي (1142) والتريدنتيني (1546) والفاتيكاني الاول (1870).
فن سفر يهوديت الادبي غريب: انه رواية كُتبت على طريقة المدراش. نسج الكاتب، حول نواة تاريخية، صوراً أخذها من الأسفار المقدسة وغايتها التعليم. في الرواية مشاكل تاريخية. نبوكد نصر مثلا، وهو ملك بابل بحسب التاريخ، يظهر هنا كأنه ملك نينوى. وبينما هو المنتصر تاريخياً ومدمِّر أورشليم نراه في سفر يهوديت ينهزم ويُقتل. كما يتعذر علينا معرفة الهوية الجغرافية لأسماء بعض المدن. هذه المشاكل تحمل على القول بأن الرواية هي مؤلَّف تصرّف بمعطيات التاريخ وكان غرضه التعليم.
ترد رواية يهوديت في نصوص يهودية تتصل بعيد "حنوكة" الذي يحصي ذكرى تدشين الهيكل. أما العهد الجديد فلم يستشهد بالسفر بطريقة واضحة، لكن تبقى آثار منه في مقاربات في التفكير والتعبير مما يجعلنا نفترض انه كان معروفا في الجيل المسيحي الاول: يه 1/11 ولو 20/11، يه 8/24- 25 و1 كور 10/9- 10، يه 13/18 ولو 1/43، يه 13/19 ومتى 26/13.
اما من ناحية محتوى السفر وابعاده الدينية واللاهوتية فهو قصة درامية رائعة تقسم قسمين:
- في القسم الاول (1- 7) نرى القوة الوثنية تصل الى أوج مجدها: نبوكد نصر أصبح سيد الارض كلِّها ولم يبقَ له سوى أورشليم والأرض التي تتبعها. ومنفذ الوصول إلى أورشليم هو بيت فلوى التي تحميها قلعة متواضعة يسكنها شعب يهوديت.
- في القسم الثاني (8- 16) تظهر امرأة، أرملة متواضعة وتقية تقف لترفع معنويات الشعب وتشدده بشجاعتها وتخلصه يايمانها وإتكالها على الرب. أضف إلى ذلك صورة ارتداد الوثني احيور بعد أن رأى الحدث. "رأى وآمن".
من المشوق أن نرى باختصار كيف تجري الاحداث وما هي المعاني اللاهوتية العميقة للقصة:
في الفصول الأولى (1- 4)نرى القوة الوثنية تحتل الأرض كلها ماعدا أرض اسرائيل التي يسكنها شعب الاله القدير، رب الأكوان. والقائد الوثني يضع نفسه بمصاف الالوهة. وبعد أن انتصر على ارفكشاد قرر الانتقام من الارض التي لم تخضع له، "فخاف الجميع وأرسلوا إليه رسلاً يحملون كلام سلام" (13/1). أما بنو اسرائيل "فخافوا على أورشليم وهيكل الرب، وأعلنت حال الطوارئ وصرخ رجال اسرائيل إلى الرب" (4/9). وكتب يواكيم عظيم الكهنة إلى سكان بيت فلوى... طالباً إليهم أن يضبطوا مسالك الجبل لأنهم اذا فعلوا ذلك صدّوا المتقدمين (4/6- 8). وأخبر اليفانا، رئيس قواد جيش أشور، بأن بني اسرائيل يستعدون للحرب فغضب وتساءل: من هو هذا الشعب وعلى أي شيء تقوم قوته وقدرته؟ ومن هو قائدهم وملكهم؟ فأجابه احيور العمّوني متذكرا قصة الشعب مع الرب (5/5- 31).
قوة هذا الشعب تقوم على ابتعاده عن الخطيئة وامانته لالهه الذي يبغض الاثم. لذلك بدا من الصعب مقاومتهم والا "نكون عرضة لتعيير الارض كلها" (5/21)، لم يخَف اليفانا، بل على العكس قرر مقاتلة الشعب ورمى بأحيور بين ايدي بني اسرائيل وبدأ حصار بيت فلوى.
ومع الوقت خارت عزيمة الشعب فاجتمعوا واتفقوا على تحديد مهلة للرب (5 ايام). فان لم تأتهم الاغاثة يستسلموا.
ينقلنا الكتاب شيئاً فشيئاً من وَساعة مساحة التحدي (شعوب الارض كلها) الى مدينة (أورشليم) إلى قرية صغيرة (بيت فلوى) إلى علِّية منسية حيث تقيم امرأة ارملة تمضي وقتها في الصوم والصلاة.
ويبدأ القسم الثاني من الرواية. في الفصول 8- 14 يحقق الرب خلاص شعبه الضارع إليه، على يد امرأة. يهوديت أي اليهودية، هي مثال الابنة الاسرائيلية: أرملة غنية، تقية، تضع المسح وتصوم وتصلي في علية على سطح بيتها مكرِّسة حياتها لخدمة الرب. بعد أن سمعت بكلام الشعب الذي خارت قواه استدعت شيوخ مدينتها ولامتهم لأنهم جرّبوا الرب وامتحنوه وفرضوا عليه ارادتهم بدل أن يطيعوا تدبيره. ودعتهم إلى الاستسلام بين يديه. فامتحانهم شرف لهم لأنهم يبرهنون من خلاله عن تمسكهم بايمانهم، وهو فرصة لشكره على هذه المحنة التي تسبر قلوبهم. وقررت يهوديت العمل بوسائلها الخاصة للمساهمة في الخلاص. وقبل تنفيذ قرارها، صلّت وصرخت إلى الرب، إله شمعون ابيها (يه 9/1- 2). ومضت إلى معسكر الوثنيين متظاهرة أنها تريد مساعدتهم. وفي اليوم الرابع لوجودها في المعسكر أقام القائد مأدبة ودعاها إليها، فلبّت الدعوة، ومن فرحه بحضورها أكثرَ من الخمر وثَمل ونام. فانسحب الضباط وبقي وحده مع يهوديت. فصلّت يهوديت إلى الرب وقطعت رأس اليفانا وعادت إلى ضيعتها حاملة النصر في جعبتها. ففرح الجميع وتهيأوا للقتال. وقام الوثنيون للرد على القتال فإذا هم بلا "رأس" فتبلبلوا وضاعوا.
وينتهي السفر بصلاة بركة ليهوديت على عملها تسمعنا صدى "المباركة في النساء". وتشكر يهوديت الرب الأمين والقدير والمستجيب للمتواضعين.
2- سفر يهوديت ووجه المرأة اليوم:
سر كلمة الله أننا نقرأها فتقرأنا وبالتالي نقرأ حياتنا على ضوئها. فهي ليست قصة تبوخ كلما طوتها السنين. هي تبقى وعجيبتها دائمة فينا لأنها تفعل فينا وتضعنا ولا ترجع فارغة. سفر يهوديت يحمل الينا رسالة من القدوس، يحمل الينا قوة معنى تطالنا اليوم وكل يوم وتواجهنا فنطرح السؤال في سرية ذاتيتنا: ما معنى هذا الكلام؟ وهدف كلمة الله أن نصل إلى هذه المواجهة، إلى هذا التساؤل، هدفها هو ان تفجّر فينا سؤالا لا يني يَكبر إلى أن يلد فينا موقفا وقرارا.
امام سفر يهوديت نحن وجهاً لوجه مع صورة امرأة تختصر الأمة وتُجسدها وتختصر بالتالي مراد السفر بكامله.
أ- يهوديت امرأة على موجة القدوس:
أيام محنة يعيشها شعب الله، أيام افتقاد وعتمة وامتحان. فهو لم ينسَ بعدُ طعمَ الهوان والتدنيس الذي تعرّض له الهيكل والمذبح، ولم يُنهِ بعد مهمّة التطهير، ولم يكدَ يرجع من الجلاء ويبدأ حياة مستقّرة مسيجّة محمية. وها هو يتعرض من جديد لامتحان في صبره وإيمانه، ويقلق على المصير. ومع هذا الواقع الجديد فهو مجاور بلغة البشر: يخاف، يقلق، يتخذ التدابير ويعود إلى الرب، يصلّي ويصوم ويصرخ صراخاً شديداً بكل قوته طالباً من الرب ان يفتقد بيت اسرائيل. (4/15). وفي هذا الاطار بالذات نجد امرأة تعيش في عليّة بيتها بالصوم والصلاة والتشفع بحياة مكرّسة وموقوفة لله. وهي، على عكس موقف شعبها، لا تخاف ولا تقلق، بل ترى في هذا المعيوش نفسه إمتحاناً للإيمان وحظاً في البرهان للقدوس عن مدى تعلق الشعب به.
وبينما رؤساء الشعب يتراخون أمام ضيق الحصار ويحدّدون موعداً لله، هو الحد الاقصى الذي يمكنه أن يصل إليه في امتحان صبرهم، تقوم يهوديت وتترك عليّتها وتُعلي الصوتَ لتقول: ومن نحن حتى نمتحن الله، ومن نحن لنضع الموعد لعمل القدّوس؟ هو الرب، وله الحق بامتحاننا وافتقادنا، وأما نحن فحصتنا هي أن نصبر ونصمد ونقول له بمواقفنا: إنه السيد، ليفعل ما يشاء. لأن مقاصده بعيدة الغور، ولأن تدبيره رحمة وفداء حتى ولو لم نفهم.
يهوديت ترفع معنويّات شعبها، وتذكّره بكل ما صنع الرب معه في الماضي، وتلومه على قلة إيمانه بأمانة الرب، وتبكّته على عدم أمانته وذعره. مفارقة عظيمة: شعب يذعر ويقلق ويفقد صوابه، وامرأة تعيد التوازن ولا تذعر وتبقى في شلام.
وسر سلامها أنها على موجة القدوس، سر سلامها انها تلقاه وجهاً لوجه في العلية، وتحيا بحضوره المالئ الكل، وبحضوره الذي هو دواء لعدم الموت. وهذا الوجه لوجه يقيها من الخوف والتيه، ويدرّبها لتقرأ سر علاماته الصعبة الفهم، وتكنه مكنونات مقاصده من خلال أحداث الأيام ومواقف البشر.
ب- يهوديت امرأة تشارك في الفداء:
تبارك الرب الذي يُشرك من يشاء في فعل الخلاص، تبارك الذي لا يحتاج إلى شيء ولكنه جعل من نفسه محتاجاً إلى خليقته. هو يحتاج إلى فكرنا وقلبنا وجسدنا، وإلى كل موهبة اعطانا مجانا من سخائه. هو يعطي ويجعل من نفسه محتاجاً إلى عطاياه. تبارك سخاؤه الذي لا يسأل الآخر ماذا يصنع بهذا السخاء ويبقى في انتظار متواضع. يلج بطلبه بقوة روحه القدوس حتى يستفيق قلب إنساننا السريع العطب. تلك قصته معنا منذ جاذف وأوجدنا، وقصة قداستنا هي جواب حرّ لعطاياه.
وجه امرأة بادلت الرب وسخرّت كل عطاياه لمجده ولقضيته. ارملة غنية وجميلة وذات مهابة. لم تسمح لقلبها أن يميل لحظة الى العطية وينسى العاطي، بل اتخذت لها من كل غناها الجسدي والمادي جسراً في علية يَصِلُها بالذي أحبها كل هذا الحب مجاناً، ووهبها ما لم تسأل. نحن نتساءل اليوم، ونحن نرى شعبنا نصفه تحول إلى أرامل، نتساءل كيف لنا أن تكون يهوديت منا وفينا. لأن كلمة، الله ليست مثلاً ولا قصةً بل انموذجاً في الايمان. كيف نكون يهوديت في ظرف كل واحد فينا، في واقعه، فيما يضغط نبوكد نصر اليوم؟
يهوديت شاركت شعبها ضيقه وألمه وخوفه، لكن بطريقتها. وربما هنا يكمن سر هذه المرأة المشاركة في الفداء، عرفت كيف تُترجم المعاناه بلغة اللاهوت. شعبها خاف، وكاد أن ييأس ويفقد شجاعته. هي مرت بالمعاناة نفسها، ولكنّها ترجمتها صلابة في الإيمان ورجاء في القادر أن يغيث ساعة يشاء وبالطريقة التي يشاء وأن يستعمل من يشاء.
وقدمّت نفسها لتكون أداة للفداء، لتكون همزة وصل بين الله وبين شعبه.
جـ- يهوديت، امرأة سلاحها "من نوع آخر" تستعمله لتداوي:
السلاح "من نوع آخر" هو الذي يكون على حسب قلب الرب. فالقضية إذن ليست قضية سلاح، بل هي كيفية استعمال هذا السلاح. لأن الرب لم يخلق خلقاً ناقصاً، بل أعطى لكل حيّ وسيلة للدفاع عن نفسه حتى لأصغر المخلوقات. كل شيء فينا وعندنا، في كياننا أو في ملكيتنا، هو سلاحنا. غريزتنا، جسدنا، فكرنا، علاقتنا، سلاح بيدنا، فكيف نستعمله وكيف نجيّره لئلا ينقلب علينا؟
منطق العالم يعلمنا أن نسخّر كلَّ شيء لخدمتنا، لمصلحتنا، لراحتنا، وان قاوَمَنا نحطِّمه لأننا محور كل شيء. ومنطق القدوس، منذ القدم وحتى مع صفحات العهد القديم، يقلب هذا المنطق ويطرح بديلا يُدفع ثمنه غالياً ولكنه يفعم القلب سلاماً من طعم السماء.
والبديل الذي يطرحه هو منطق الحب الذي لا يقبل بأية وسيلة للبلوغ إلى الهدف. لا يقبل بالجرح الا لأنه يداوى، وان جَرح الحبيبُ واوجع فهو كما يد الطبيب.
يهوديت امرأة جميلة دخلت معسكر نبوكد نصر، وواجهت اليفانا. دخلت المستنقع وغامرت. انها ستتركه نظيفة. وهذا الجمال هو سلاح ذو حدّين، كما كل نعمة. وآية الكتاب انها استعملت سلاحها، نعمتها وجمالها، بفطنة وحكمة مَن تحمله قضية ويعطي من اجلها الغالي.
س تصرّف يهوديت ليس انها قتلت رجلا، وربما هذا التصرف يزعجنا ويشككنا، ويجعلنا نتساءل: كيف حافظ الكتاب المقدس على مثل هذه القصة؟ سر تصرّفها، هو أنها لم تأت أية قباحة لتصل الى هذا النصر على الشر. كان من السهل عليها ان تستعمل جمالها وجسدها واغراءها وتمر بالزنى لتصل الى مأربها، أو على الأقل أن تكذب على أليفانا وتوهمه أنه سيد الارض كلها. ومن خلال تعظيمها له تختلس انتصارها اختلاساً. لكنّها لم تفعل.
جمالُها لم يُرمَ حتى بنظرة، وكلامُها لم يتدنَّس بالمراوغة. سرُّ هذه المرأة الجبارة، أنها عرفت كيف تحاور مع الواقع وتبقى صافية، عرفت كيف تفهم علامات الرب من خلال علامات البشر: اليفانا ثمل، تلك علامة فهمتها يهوديت وجيَّرتها لتحقيق الخلاص بدل أن تلهو بها او تفقد صوابها وتسكر معه.
يهوديت وجه امرأة يحكينا، يدعونا للتساؤل: ونحن اليوم كيف نستعمل سلاحنا أيا كان هذا السلاح؟ وكيف يأتي قرارنا؟ وعلى أية أسس؟
يهوديت صلَّت ورفعت الدعاء، وصامت ولبست المسح قبل أن تنفِّذ قراراها، ونحن نتساءل معها ومن خلال قراءتنا لسفرها: هل علاقتنا بالقدوس هي القيمة الاولى في حياتنا، هل القدوس هو السيد الذي يُستشار قبل كل قرار وفيه وبعده؟
يطيب لنا أن نصلي بكلمات يهوديت للرب الفادي والقوي والمحتاج إلينا وإلى ضعفنا ليكّمل خلاصه:
"أيها الرب، إله شمعون ابي،...
اللهم يا إلهي، إستجبني أنا الأرملة.
فأنت صنعت أحداث الماضى
وقدرت الحاضر والمستقبل
وما قدرته كان، وما أردته كان فقال: "ها انذا"...
... انك إله الوضعاء ومغيث الصغار
ونصير الضعفاء وحامي المهملين
ومخلص اليائسين.
نعم يا إله ابي، رب السماوات والارض وخالق المياه
وملك خليقتك كلها،
استجب لصلاتي وهب لكلامي الخادع
ان يجرح ويؤلم
وهب لكل أمة وكل عشيرة أن تعرف أنك أنت الإله...
(9/2...)
الاخت جهاد الأشقر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM