الفصل الرابع: المنافقون والعقاب الذي ينتظرهم

الفصل الرابع
المنافقون والعقاب الذي ينتظرهم
آ 8- 16

أراد الكاتب أن يساعد قرّاءه على اكتشاف الكافرين الذين يقاسمونهم حياتهم الجماعيّة ويسيئون إلى التعليم التقليديّ، فتوسّع في شرّ هؤلاء المعلّمين الكذبة وكرّر العقاب الأخير المحفوظ لشرّهم، لكي لا تنتقل العدوى إلى المسيحيّين الطيّبين. وسيترك إلى آ 20- 23 عرض الموقف الواجب اتخاذه تجاه هؤلاء المنافقين.
بعد قراءة آ 8 التي تشكّل خاتمة لما سبق وفاتحة لما يلي، نتوقّف عند ثلاثة أقسام في هذه الحرب ضد المعلّمين الكذبة: مثال ميخائيل (آ 9- 10). المعلّمون الكذبة والخطايا السابقة (آ 11- 13). نبوءة أخنوخ (آ 14- 16).

1- هم ينجسون الجسد (آ 8)
أ- أحلام ورؤى (آ 8 أ)
رغم دروس الماضي (آ 5- 7) التي تؤكّد على عقاب ينتظر الخطأة، فالكافرون الذين يتحدّث عنهم يهوذا (آ 4 ب) يتصرّفون تصرّفاً رديئاً من ثلاثة وجوه. نلاحظ بشكل عابر اهتمام الكاتب بالرقم ثلاثة. في آ 2: "المحبوبين، المحفوظين، المدعوين". في آ 5- 7: العبرانيون، الملائكة، المدن. في آ 11: سلكوا. استسلموا للضلال. هلكوا. في آ 16 أ: يتذمّرون، يشتكون، يسلكون. وفي آ 8 نجد أيضاً المثلّث: ينجّسون الجسد، يحتقرون السيادة، يجدّفون على الامجاد.
هناك رباط قويّ بين هذه الآية والآيات السابقة. فالأداة "منتوي" (ومع هذا) تعود إلى الأمثلة الواردة وتشدّد على أن هذه الدروس كانت بدون جدوى على المستوى العملي. وتعود الأداة "هومويوس" (كذلك) إلى الخطايا الثلاث التي ذُكرت في آ 5- 7: خطيئة إسرائيل، خطيئة عالم الملائكة، خطيئة سدوم (لا خطيئة واحدة)، لأن هذه الثلاث موجودة عند الكافرين: مساس بالأخلاق الجنسيّة، مساس بسيادة الله، مساس بكرامة الملائكة. ويدلّ حرف العطف على التماهي الأساسيّ بين الخطايا المقترفة. ولفظة "هوتوي" (أولئك) تدلّ ببعض احتقار على بعض الناس الكافرين (آ 4) الذين ما زالوا يعيشون داخل الجماعة.
قبل أن نتوقّف عند الخطايا الثلاث التي يقترفها الكافرون، نلاحظ اسم فاعل يعني المحتلمين، أو أصحاب الأحلام، أو الأنبياء الكذبة، أو الجهّال (انيبازومانوي). رج تث 13: 1- 5؛ إر 34: 7- 9؛ 36: 8؛ أش 56: 10- 11؛ أع 2: 7= يوء 2: 28. المعنى الزريّ واضح. فالكافرون يستسلمون للأحلام أو يقولون إنهم قد استولت عليهم رؤى وأحلام. لو كانت اللفظة تتعلّق فقط بالخطيئة الأولى المذكورة (ينجّسون الجسد)، لقلنا إن الكافرين يستسلمون إلى الأحلام وإلى التخيّلات الفاجرة. أما إذا تعلّقت بالخطايا الثلاث (بسبب الأدوات اليونانية: من... دي... دي، من جهة، من جهة، من أخرى)، يجب أن نفهم أن الكافرين يستندون إلى تعاليم ترتبط بالخيال أو إلى وحي مزعوم لكي يشرّعوا الخطايا التي يقترفون (كو 2: 18). نذكر هنا 2 بط 2: 1 التي تسمّي هؤلاء الكافرين "أنبياء كذبة".
ب- الخطايا الثلاث (آ 8 ب)
وبّخ يهوذا أولاً هؤلاء الكافرين لأنهم "ينجّسون الجسد". أي يتبعون النزوات الجنسيّة (رج 2 بط 2: 14- 18) التي تترك نجاسة لدى الذين يستسلمون لها (حك 14: 26؛ 1 مك 4: 43). وهكذا نفهم فهماً أفضل ما أراد أن يقوله الكاتب في آ 4 ب: "يحوّلون نعمة إلهنا إلى عهارة".
والخطيئة الثانية تكمن في "احتقار السيادة". احتقار السيّد والرب، عدم الاهتمام به (2 بط 2: 10 ب؛ رج مت 6: 24)، إنكاره (2 بط 2: 1). نترك جانباً تفاسير تقول إن السيادة تدل على الملائكة (كو 1: 16؛ أف 1: 21). وإلاّ لكنّا في صيغة الجمع كما مع "الأمجاد". أو تقول إنها تدلّ على السلطات الكنسيّة، لأن الكافرين لا يعرفون حقاً ما يحتقرون (آ 10 أ). هم يحتقرون الله الآب كما تقول الديداكيه (4: 1: كيروتيس: سيادة) أو المسيح الربّ كما يقول راعي هرماس (التشابهات 5/ 6: 1). يبدو أنه من المفضّل أن ننظر إلى سيادة المسيح حسب 2 بط 2: 1 (ينكرون السيّد الذي افتداهم) وحسب يهو 4 ب: "ينكرون السيّد وربنا الوحيد يسوع المسيح". ولكن سواء قلنا الله الآب أو الربّ المسيح فالخطيئة تبقى هي هي.
ولكن ما هو هذا الاحتقار، وكيف تُنكر السيادة؟ لا نتوقّف فقط عند العصيان الاخلاقي ورفض الطاعة. فإنكار سيادة المسيح (أو الله) يكون أيضاً على المستوى العقائديّ كما تقول الرسالة إلى كولسي.
والخطيئة الثالثة: هؤلاء الكافرون "يجدّفون على الأمجاد"، أي الكائنات التي تشارك الله في مجده. هذه الأمجاد (دوكسا) لا تدلّ على رؤساء الكنائس لأن آ 10 أ تقول إن التجديف يصيب ما يجهله الكافرون. لهذا، فالسياق يدعونا أن نرى في الامجاد الملائكة الأخيار والأشرار (عب 9: 5؛ وصية لاوي 18: 5؛ وصيّة يهوذا 25: 2). وفي آ 9 سوف نرى ميخائيل رئيس الملائكة يخاصم إبليس. أما في 2 بط 2: 10 ب فالأمجاد تدلّ على الملائكة الأشرار وحدهم (2 بط 2: 11). ويقوم التجديف بنظر يهوذا (آ 10) بأن نحطّ من الكرامة الملائكية، بأن نتعامل معهم معاملة الندّ للندّ، أو كالأعلى بالنسبة إلى الأدنى.
ولكن يبقى ممكناً أن نقول إن التجديف يكمن في رفض الشريعة (آ 4)، في التحرّر من الشرائع التي أعلنها الملائكة (أع 7: 38، 53؛ غل 3: 19؛ عب 2: 2).

2- مثال ميخائيل (آ 9- 10)
أ- ميخائيل وإبليس (آ 9)
إن الموقف المجدّف الذي يقفه هؤلاء الكافرون ضد "الأمجاد" يتعارض مع المثل الذي أعطاه ميخائيل في الاعتدال. فهم يتجرّأون، رغم حالتهم الوضيعة والمائتة وجهلهم للطبيعة الملائكية (آ 10)، أن يّجدفوا على الكائنات المجيدة. "إنّ ميخائيل، رئيس الملائكة، لما خاصم إبليس، ونازعه في جثة موسى، لم يجسر أن يتلفّظ (ضده) بدينونة مجدّفة، بل قال (فقط): ليزجرك الربّ" (آ 9).
ميخائيل أي من مثل الله. يبدو ميخائيل في التوراة ذاك المحامي عن إسرائيل (دا 10: 13، 21؛ 12: 1) وخصم إبليس (رؤ 12: 7). أما لقب رئيس الملائكة الذي أعطي له، فلا نجده إلاّ هنا وفي 1 تس 4: 5. لا شكّ في أن هذا اللقب يأتي من دانيال الذي يسمّيه "أحد الرؤساء السبعة" (10: 13) ومن طوبيا الذي يتحدّث عن الملائكة السبعة الذين يشاهدون وجه الله (12: 15؛ رج رؤ 8: 2). كما يأتي من الأدب اليهودي المكتوم الذي يعظّم ميخائيل ويخلق تراتبيّة لدى الملائكة. وكان بولس صدى لهذه التراتبيّة (أف 1: 20- 21؛ كو 1: 16).
أخذ يهوذا الكلام حول خصومة ميخائيل مع إبليس حول جسد موسى، من اكلمنضوس الاسكندراني وأوريجانس وصعود موسى وهو كتاب منحول يتضمّن قسمين: وصيّة موسى وصعوده. ضاع القسم الثاني فلم يبقَ منه إلاّ جمل متفرّقة، وقد روى كيف أن ميخائيل كلّف في موت موسى أن يأخذ جسده ليحمله إلى السماء أو ليدفنه (رج تث 34: 6). ولكن إبليس حاول أن يعارضه متذرّعاً بسلطته على العالم الماديّ الذي كان جسد موسى جزءاً منه، أو بدوره كمتّهم للبشر أمام منبر الله (أي 1: 6 ي؛ زك 3: 1- 2؛ 1 بط 5: 8؛ يع 4: 7)، وقد لعب هذا الدور حين ذكر مقتل المصري بيد موسى (خر 2: 11- 12). أما ميخائيل "المولج بأفضل البشر" (أخنوخ 20: 5) والمحامي المكلّف بإسرائيل أمام منبر الله، فما استطاع إلاّ أن يقاوم إبليس، لأن موسى، رئيس إسرائيل، هو في الواقع أكبر القديسين. ومع ذلك تصرّف بنحافة (يهو 9) لأن إبليس وإن ساقطاً يبقى في نظره كائناً روحياً. وبدلاً من أن يتّهمه بكلام تجديف (هو لم يتجرّأ على ذلك) توسّل إلى الله لكي يزجره. إن الدعوة التي ينسبها يهوذا إلى ميخائيل قد أخذت من زك 3: 2 حيث "ملاك الربّ" يتصّرف بالطريقة عينها مع إبليس من أجل إعادة اعتبار أشارت 2 بط 2: 11 بشكل غامض إلى هذا الحدث، واستغلّته في الخط عينه.
وهكذا أشار يهوذا إلى اعتبارات المعلّمين الكذبة الذين يحكمون بصلف على النظام الذي خلقه الله، ويسمحون لنفوسهم أن يحكموا على الكائنات السماويّة وكأنهم الله. هكذا الكاتب بدّد وقاحتهم. ميخائيل نفسه لم يتجرّأ، أما هم فيتجرّأون.
ب- أما هؤلاء فيجدفون (آ 10)
لم يجسر موسى، "أما هؤلاء فيجدّفون على ما يجهلون" (آ 10). لقد اختلف الكافرون عن ميخائيل. فرغم أحلامهم تراهم يجهلون كل شيء عن العالم الروحي (السيادة، الأمجاد)، وجهلهم يدفعهم إلى التجديف. كان بولس قد قال إن الروحيّين وحدهم، إن الذين نالوا روح الله، يستطيعون أن يفهموا ما هو روحيّ ويتكلّموا عنه. أما "النفسانيون" (أو: الحيوانيون) أي الناس المتروكون في طبيعتهم البشرية، فلا يقدرون (1 كور 2: 10- 16). ومع ذلك فالكافرون يجدّفون على ما لا يعرفون (يع 10 أ).
إذا كان العلم الروحيّ المزعوم لدى الكافرين يؤذيهم، فالمعرفة التي يشاركون فيها الحيوانات تؤذيهم أيضاً. فهذه المعرفة تنحصر في الخبرة الشهوانيّة، في الفجور، في نجاسة الجسد، فتقودهم إلى الهلاك. "وأما ما يعرفون طبيعياً كالبهائم العجم، فبه يهلكون" (آ 10 ب).
نجد هنا بشكل معكوس الاتهامين المذكورين في آ 8: إتهام روحي، التجديف. إتهام أخلاقي، عيش مثل البهائم.
الاتهام الأول: "يجدّفون على ما يجهلون". هم يختلفون عن ميخائيل الذي عرف أمام من هو ومع ذلك لم يجدّف. أما المعلّمون الكذبة فيجدّفون باسم معرفة كاذبة تسمح لهم بأن يظنّوا أنهم أرفع من الكائنات السماويّة التي يحتقرونها. والاتهام الثاني: لا يكتفون بأن يجهلوا أمور الله التي يتكلّمون عليها بالاساءة والتجديف، ولكنهم يهلكون. فمعرفتهم الحقيقيّة تجعلهم على مستوى البهائم التي لا عقل لها. يعتقدون بأن لهم إيحاءات سامية تجعلهم فوق الممكنات الأرضيّة والطبيعيّة، ويعتبرون أنهم تخلّصوا من ثقل الانسان الأرضي، الحيوانيّ، ولكنهم في الواقع نزلوا إلى مستوى الحيوان فما عرفوا إلاّ غرائزهم الجنسيّة التي لها يخضعون. وبما أنهم رفضوا روح الله، فهم سيهلكون بهذه الأمور التي تسيطر عليهم.

3- المعلّمون الكذبة والخطايا السابقة (آ 11- 13)
أ- ويل لهم (آ 11)
إن هؤلاء المعلّمين الكذبة يجدون من يحكم عليهم في مثال ميخائيل. وهم يعيدون في الجماعة الخطايا التي ندّد بها الكتاب المقدّس. لهذا دعا عليهم يهوذا دعوة قاسية بعد أن عرض شرّهم وتحدّث عن هلاكهم. دعوة نجدها لدى الأنبياء (عا 6: 1؛ هو 7: 13: أش 3: 9 ي؛ 5: 11 ي) وبولس الرسول (1 كور 9: 26) وفي الأناجيل (26 مرة). هذه الدعوة التي تعلن الشقاوات الكبرى، تجد ثلاثة تبريرات لها: سلكوا طريق قايين. إستسلموا إلى ضلال بلعام. هلكوا في تمرّد قورح. أما الفكرة العامة فواضحة: سيُعاقب الكافرون لأن سلوكهم يشبه سلوك هؤلاء الثلاثة.
* طريق قايين (تك 4: 8). قد اتبعوا (أبوروتيسان، رج آ 16، 18). يؤخذ هذا الفعل في معنى زري: اتبع طريقاً رديئاً. ما الذي يعنيه الكاتب بسلوك قايين؟ هناك مدلولات أربعة. الأول: صار المعلّمون الكذبة قاتلين على مستوى الروح مثل قايين قاتل أخيه (استُعمل المثل في معنى واقعيّ في 1 يو 3: 12). الثاني: سعى هؤلاء المعلمون إلى إهلاك المؤمنين كما فعل قايين بهابيل. الثالث: يستسلم هؤلاء إلى ميولهم الشريرة ولا يطيعون الله. لهذا رفض الله تقدمة قايين (عب 11: 4). الرابع: طردهم الله كما طرد قايين، فصاروا بلا جذور، وما عادوا يعرفون راحة أو سلاماً.
استخدم العالم اليهودي مثلَ قايين ليندّد بالذين يتمرّدون على الله: فصوّر فيلون الاسكندرانيّ قايين كذاك الذي "لم يستطع أن يسيطر على طبيعته فتجرّأ وفال إنه يملك كل شيء" (وبالتالي لا يحتاج إلى الله). وجعل منه يوسيفوس مثال الكافر والفاجر والبخيل. وفي ترجوم يوناتان (تك 4: 7) قايين هو مثال الفكر القويّ الوقح. ويبدو أنه وُجدت شيعة منفلتة هي شيعة القينيّين، التي اعتبرت قايين فكراً سامياً يستطيع أن يتحدّى إله الشر في العهد القديم (كما قال إيريناوس، ضد الهراطقة 1/ 31، وأبيفانيوس في الهرطقات 38/ 1: 1- 3).
إذن، من اتّبع طريق قايين، دلّ على الكفر وعلى روح التمرّد (تتحدّث رسالة اكلمنضوس الأولى 4: 1- 7 ووصيّة بنيامين 7 عن نتائج الحسد المأساويّة).
* ضلال بلعام (عد 22- 24). هو مثال الجشع والحيلة. وفي النهاية، رمز إلى الشرير وإلى عدوّ إسرائيل. اكتفى يهوذا هنا بأن يذكر جشع (مستوس) بلعام. ونجد فعل "انخينستاي" الذي يعني: انصب، استسلم، انحدر (وصية رأوبين 1: 6).
* تمرّد قورح (عد 16). خبر قورح معروف. تمرّد مع صديقيه داتان وابيرام على موسى وعلى النظام الكهنوتيّ كما أسّسه موسى. التلميح واضح: فالمعلّمون الكذبة يرفضون، شأنهم شأن قورح، النظام في الجماعة، ويعتبرون نفوسهم فوق رؤساء هذه الجماعة. نقرأ "انتيلوغيا" تمرّد. رج عب 12: 3؛ أم 17: 11.
وبمختصر الكلام، قايين هو نموذج الشخص القوي الوقح، والمحتقر الآخرين، والذي يتحدّى الله. وبلعام هو نموذج ذاك الذي يخون الله والآخرين لقاء حفنة من المال. وقورح هو الذي يدلّ على كبريائه بتمرّده. بهؤلاء الثلاثة يشبَّه المعلمون الكذبة.
ب- هؤلاء أدناس (آ 12)
بعد أن تحدّث عن قايين نموذج القاتلين، وعن بلعام النبيّ الوثنيّ الذي اجتذب بني إسرائيل إلى الفجور، وعن قورح المتمرّد، وتحدّث عن ثورة هؤلاء المعلّمين على الايمان والخلق التقليديّ، على الله وعلى المسيح، عن ثورتهم ضد السلطات الدينيّة في الكنائس، وعن شقّ الصفوف، ها هو يترك المقابلات البيبليّة ليصف شرّ الكافرين بصور مأخوذة من الطبيعة. الأولى والرابعة تشدّدان على خسّة ودناءة الكافرين. والثانية والثالثة تبرزان خيبة الأمل التي سيسبّبونها عاجلاً أم آجلاً. قال يهوذا: هؤلاء (الكافرون) هم وصمة في مآدبكم (مآدب المحبّة، أغابي)، حيث يرغدون في وقاحة، ويعلفون أنفسهم" (آ 12).
إن لفظة "هوتوي" (هؤلاء الناس) قد استعملت في آ 8، 10، فدلّت بوضوح على المعلّمين الكذبة. وسيتكلّم عنهم يهوذا الآن بشكل مباشر، لا بواسطة أمثلة مأخوذة من الكتاب المقدّس. هنا نلاحظ أن آ 4- 16 مؤلّفة من تناوب بين شجب مباشر (آ 4، 8، 10، 12- 13، 16) وشجب غير مباشر بواسطة أمثلة تقليديّة (آ 5- 7، 9، 11، 14- 15).
اتهّم الكاتب الخصوم بأنهم يفسدون معنى "الاغابي" الجماعية وممارستها. إن "أغابي" تدلّ هنا على الطعام الأخوي. هذا هو النصّ الوحيد في العهد الجديد حيث تأخذ "أغابي" هذا المعنى الخاص (رج 2 بط 2: 13 والاختلافة بين "أغابي" و"أباتي" الغشّ). أرادت الكنيسة الأولى أن تتذكّر عشاء الربّ مع تلاميذه، واحتفاله بالافخارستيا (مت 26: 20- 29)، فنظّمت ممارسة المآدب الجماعيّة (أع 2: 46؛ 1 كور 11: 17- 34). هذه الغداوات رمزت إلى المشاركة والمقاسمة والوحدة والفرح الاسكاتولوجيّ، فكانت الإطار الطبيعيّ للاحتفال بالافخارستيا بحصر المعنى. بعد ذلك تمّ الفصل بين "الغداوين" تجنّباً لفوضى عرفها بولس (1 كور 11: 21- 22) وبطرس (2 بط 2: 13). وإن استعمال لفظة "أغابي" للدلالة على هذه الغداوات، تدلّ على أن المسيحيّين الأولين فهموا عشاء الربّ الأخير كأعظم عمل قام به حبّ المسيح (يو 13: 1، 34)، وكنداء ليجتمعوا ويحتفلوا بحضور الربّ. واستفادت الجماعة من الظرف فجسّدت بمقاسمة الخيرات الماديّة هذا الاهتمام بالوحدة الأخويّة. نشير هنا إلى أن اغناطيوس الانطاكي في الرسالة إلى سميرنة (8: 2) تحدّث عن عشاء المحبّة. وكذلك فعل اكلمنضوس الاسكندراني في المربيّ (2/ 1: 4) وفى الموشيّات (3/ 2: 10). وربط يوستينوس (الدفاع الأول 65- 67) وترتليانس في دفاعه عن الدين 39: 16 بين العشاء الأخويّ ومقاسمة الخيرات.
فمن جعل من هذه "الأغابي"، من هذه المآدب الأخويّة، مناسبة للأكل والشرب وعلف النفس، شكّك الآخرين وعرّضهم للهلاك. نجد هنا فعل "سينووخايستاي" (تنعّم). أما "افوبوس" (لو 1: 74؛ 1 كور 16: 10؛ فل 1: 14) فتعني بلا خوف، بلا حياء، بوقاحة. لا يتساءل صاحب هذا العمل إن كان موقفه يشكّك سائر أعضاء الجماعة. قد نربط "افوبوس" مع "تنعّم" أو مع "علف" (بويماينو). الأمران ممكنان. فمن يعلف نفسه ساعة يجوع الآخرون، يدلّ على أن هؤلاء الناس بلا حياء. أما فعل "بويماينو" الذي يستعمله العهد الجديد في معنى إيجابي (يو 21: 16؛ أع 20: 28؛ 1 بط 5: 2)، فهو يتخذ هنا المعنى الزري فيشبّه الانسان بالحيوان الذي لا همّ له إلاّ الأكل، فينسى الآخرين (حز 34: 8- 9).
من يقوم بهذه الأعمال هو "سبيلاس" (مراحدة، ترد مرة واحدة)، هو صخر لا تراه السفن فترتطم به وتتحطّم. ولكن الترجمة الشعبيّة وجّهت أنظارنا إلى "وصمة" كما فعلت 2 بط 2: 13 مع "سبيلوس". هنا نستطيع القول: إن هؤلاء هم "صخور، حجر عثرة وشكّ". أو هم "وصمة في مآدبكم". يعتبرون نفوسهم سامين على المستوى الروحي، وهم صخرة يتحطّم عندها الايمان ومحبّة المؤمنين. أرسلهم الربّ رعاة، فرعوا أنفسهم واستغلّوا القطيع.
وتأتي نهاية الآية فتشعل الحرب على هؤلاء المعلّمين. فالاستعارتان اللتان استعملهما الكاتب، استعارة السُحُب واستعارة الأشجار، لهما المعنى نفسه: فالسُحُب بلا مطر هي كالشجر بدون ثمر. تعد ولكنها لا تفي. والسحب التي تحملها الريح هي كالأشجار التي تقتلعها الريح. نجد فعل اقتلع (اكريزون)، رج مت 13: 29؛ 15: 13؛ لو 17: 6. هذا يعني أن الأشجار ليست ثابتة، ولا جذور لها. ويقول يهوذا عن الاشجار إنها "ميتة مرتين". ميتة لأن لاثمار فيها. وميتة لأنها قد اقتلعت. أما المؤمنون فيحملون ثمراً لأنهم تجذّروا في الايمان الذي تسلّمه القديسون (آ 3).
ج- أمواج بحر عاتية (آ 13)
وحين أراد يهوذا أن يشدّد على الفساد الأخلاقيّ عند هؤلاء الكافرين، شبّههم بأمواج البحر العتيّة التي تُخرج كالزبد عارهم. ثم عاد إلى خيبة الأمل التي يحملونها إلى الذين يتبعونهم. إنهم نجوم (أو: كواكب) تائهة حُفظ لها ديجورُ الظلام إلى الأبد.
ونتوقّف عند الصورتين اللتين استعملهما الكاتب هنا. صورة الأمواج (كيماتا) العاتية. تخرج الزبد (ابافريزاين، لفظة مراحدة، ترد مرة واحدة). عند ذاك تترك وراءها الأوحال والأوساخ التي تحطّ على الرمال. ذاك هو وضع الخصوم الذين يشبهون موج البحر. لا يتركون وراءهم إلاّ أعمالاً محمل العار إلى أصحابها (أش 57: 20).
وصورة الكواكب التائهة تعود هي أيضاً إلى عالم الطبيعة. قد أخذها يهوذا من أخنوخ حيث نعرف أن الملائكة المتمرّدين انضموا إلى الكواكب الخاطئة، وحكم على الفئتين بأن تُسجنا في الهاوية (18: 11- 16؛ 19: 1- 2: 21: 1- 10). هذه الكواكب التائهة تشير إلى هؤلاء الملائكة الذين تركوا مرتبتهم، بدلاً من أن يثبتوا في المكان الذي حدّده الله لهم. نجد بعض هذه الفكرة في تلميح أخنوخ إلى الكواكب السبعة التي حلّ بها العقاب لأنها تجاوزت وصيّة الربّ منذ شروقها، فلم تأتِ في وقتها.
لا ضوء في هذه الكواكب، بل هي تعكس ضوء كواكب أخرى. ولهذا، هي مظلمة. في هذا المعنى نفهم الصورة التي يقدّمها يهوذا. "إذا كان المعلّمون يشعون بهاء كالكواكب، والذين علّموا البرّ لعدد كبير من الناس، يكونون كالنجوم إلى الأبد" (دا 12: 13)، فالمعلّمون الكذبة يشبهون الكواكب التائهة، ويُحكم عليهم منذ الآن أن يكونوا في الديجور والظلمة الأبديّة. وهكذا لا نستطيع أن نثق بالكافرين وكأنهم موجّهون لنا صادقون. إنهم لا مؤمنون، ونهايتهم هلاك في الظلمة. والعقاب النهائيّ ينتظرهم.

3- نبوءة أخنوخ (آ 14- 16)
أ- على هؤلاء تنبأ أخنوخ (آ 14 أ)
وأسند يهوذا كلامه حول العقاب الذي يصيب الكافرين حقاً ببرهان ثقة، بإعلان نبويّ لهذا العقاب. وهكذا ينمو الحوف الخلاصّي الذي يدفع القرّاء وربّما الكافرين إلى الاحتفاظ من كل ما يضرّ بالايمان التقليديّ. فقال: "وعلى هؤلاء أيضاً تنبّأ أخنوخ (الأب) السابع منذ آدم" (آ 14 أ).
تبرز أهمية أخنوخ ونبوءته بالاشارة إلى أنه سابع الآباء قبل الطوفان (تك 5: 18- 21؛ 1 أخ 1: 1- 3). الرقم 7 هو رقم البركة الالهية التي أغدقت على أخنوخ (تك 5: 24؛ سي 44: 16؛ حك 4: 10؛ رؤ 11: 1- 14؛ عب 5: 1 ي؛ اليوبيلات 4: 23؛ 10: 17). كان لكتاب أخنوخ أهميّة كبيرة في العالم اليهوديّ. وسنجد في العالم المسيحيّ عدداً من الكتّاب الكنسيّين الذين اعتبروا هذا الكتاب كل اعتبار. فلماذا نعجب من يهوذا الذي استفاد من هذا الكتاب المشهور ليسند تعليمه؟ وما أورده يهوذا (أخنوخ 1: 9) في آ 14 ب- 15 يرد بشكل إنباء دون أن يكون على مستوى النبوءات التوراتيّة. وكلام يهوذا يستند فقط إلى التهديد الذي عبّر عنه أخنوخ، وإلى الطريقة التي بها عبّر عن هذا التهديد.
ب- ها قد أتى الرب (آ 14 ب- 15)
قال سفر أخنوخ: "ها قد أتى الربّ في ربواته القدّيسة، ليجري الدينونة على الجميع...". هذا الإيراد من أخنوخ يعود إلى النصّ اليوناني. ونحن نستطيع أن نقابل يهو 14 ب- 15 مع أخنوخ 1: 9 (حسب نص أخميم). بنية النصّين واحدة: سيكون لمجيء الرب هدفان مماثلان: يحكم على الجميع (ولا سيّما الكافرين). يفحم هؤلاء الكافرين بخطأين: اقترفوا خطايا الكفر. وقالوا وقاحة ضد الله. ويضاعف نص أخنوخ الهدف الثاني: الهلاك يتبع الحكم. والخطأ يصبح خطأ في الكلام.
إن عالم الملائكة (أي بلاط الله السماوي) يحتلّ مكانة هامة في كتاب أخنوخ، وكذلك عقاب الكافرين الاسكاتولوجيّ. والربوات المذكورة هنا هي ملائكة هذا البلاط السماويّ (عب 12: 22؛ تث 33: 2) التي ترافق الله الآتي ليمارس الدينونة الاسكاتولوجيّة. وهذه الدينونة أكيدة جداً، بحيث إن يهوذا اعتبرها قد تحقّقت، فاستعمل الماضي النبويّ. وما يوبّخ عليه هؤلاء الكافرون من أعمال هو تجاوزات على المستوى الاجتماعيّ والشرعيّ والدينيّ (أخنوخ 5: 4؛ 94: 6- 7؛ 96: 4 ي؛ 99: 7- 9). أما في يهو 4، 8- 13، 16، 18- 19، فالفجور والتمرّد والبحث عن المكسب. جاء كلامهم ضد عدالة الله وعنايته في أخنوخ (27: 2؛ 101: 3). وفي يهو 4 ب، 8، 10، 16 ب، 18: نكران، احتقار، تجديف، ادّعاء، استهزاء.
ج- أناس يتذّمرون، يشتكون (آ 16)
بعد أن أورد يهوذا كتاب أخنوخ، عاد بشكل مباشر إلى هؤلاء الخصوم، وأعطاهم خمسة أوصاف.
أولاً: هم متدّمّرون (غوغستس). لفظة مراحدة. لا نجدها لا في العهد الجديد ولا في السبعينية. إنما نجدها في ترجمة سيماك، أم 26: 22؛ أش 29: 24. ولكننا نجد الفعل والصفة دلالة على تذمّر شعب الله في البرّية ضد الله (خر 16: 7- 12؛ عد 14: 27- 2؛ 17: 5، 10. في العهد الجديد نجد الفعل والصفة في معنى دنيويّ (اعترض، احتجّ، مت 20: 11؛ لو 5: 30؛ 15: 2؛ 19: 7؛ أع 6: 1؛ 1 بط 4: 9) وفي معنى لاهوتي (يو 6: 41، 43، 61؛ 7: 12، 32) للدلالة على اللاإيمان ضد يسوع. وفي 1 كور 10: 10 وفل 2: 14 يُستعمل الفعل والصفة بشكل تنبيه يربط موقف المؤمنين بموقف الشعب في البريّة.
وهكذا لمّح يهوذا إلى موقف الشعب في البرية، الذي فيه نكران الجميل والاحتجاج وعدم الايمان.
ثانياً: هم مشتكون (ممبسيمويوروي). هذه الصفة تعني: من لعن حظّه. استعمل فيلون الاسم ليدلّ على تذمّرات بني إسرائيل في البرّية. والمعلمون الكذبة يشتكون على الله. يشتكون منه ويئنّون. هكذا يصف يهوذا "كفرهم ضد الله". نحن أمام احتجاج على الله في تدبيره للعالم ومصير كل واحد منا. نحن هنا أمام اتهّام بشكل غنوصّي ضد الله الخالق الذي أخطأ حين حكم على النفس البشريّة بمصير مأساوي، بأن تُسجن هنا في جسد ماديّ (رج آ 9).
ثالثاً: يسلكون بحسب رغباتهم، في شهواتهم. هو يتّهمهم بالفجور والجشع (آ 11، 16). رج آ 4، 8، 10. هل يسيرون بحسب رغباتهم لأنهم يريدون أن يحتجّوا على قدَر يرونه جائراً ويائساً؟ أم لأنهم لم يتوصّلوا إلى السيطرة على رغباتهم التي تحكم عليهم أن يهاجموا خلق الله ونظامه، لكي يبرّروا ضعفهم؟ الأمران ممكنان. غبر أننا نلاحظ العلاقة بين اعتبارات الخصوم الذين يجرأون أن يهاجموا الله، وبين أعمالهم التي تشهد في رأي يهوذا على أنهم مستعبدون للاأخلاقيّتهم.
رابعاً: أفواههم تنطق بالكلام الطنّان. نجد "هيبارونكوس" التي تعني في اليونانيّة الكلاسيكية: فظيع، مفرط، فوق القياس. حرفيا: منفوخ أكثر ممّا يجب. في السبعينية (تث 30: 11) تعني: ما وراء الممكن. في تيودوسيون (دا 11: 36) تصف كلمات مفرطة تلفظ بها ضدّ الله انطيوخس أبيفانيوس. ونجد المعنى عينه في أخنوخ 5: 4: "أهنتم عظمته بأقوال مترفّعة وجارحة من فمكم النجس". وفي 101: 3: "تلفّظتم ضد عدالته بكلام الكبرياء والوقاحة". رج صعود موسى 7: 9. واتهّم يهوذا المعلّمين الكذبة بأنهم قالوا ضد الله كلمات تجديف وطيش (آ 8- 10) بإفراطهم واعتدادهم. ظنّوا أنهم أرفع من الله، ويستطيعون أن يحكموا على عمله من عليائهم.
خامساً: يحابون الناس من أجل مصلحتهم الخاصة. يكرّمون الناس، يمالقونهم. ولكن الله يتقبّل كل إنسان مهما كان. هو لا يحابي الوجوه. والعهد القديم يندّد بالذين يحابون في القضاء مثلاً من أجل الرشوة، أو ممالقة للعظماء (لا 19: 15؛ تث 10: 17؛ عا 5: 12؛ أم 24: 23). ونجد التنبيه نفسه في يع 2: 1- 9. وهكذا يعتبر المعلّمون الكذبة سائر أعضاء الجماعة بالنظر إلى مصالحهم. وهذا يعني أمرين. الأول: يميّزون في الجماعة بين الذين يتبعونهم والآخرين، ويمالقون الفئة الأولى. فبعد الجشع، هناك الشقاق: يمتدحون البعض ويحتقرون الآخرين. الثاني: يمالقون أولئك الذين يمنحونهم مالاً أي الأغنياء. قد يتوافق هذا المعنى الأخير بشكل أفضل مع الجشع الذي يُذكر في آ 11.

خاتمة
مواضيع عديدة اكتشفناها في هذا المقطع: حول سيادة الله أو المسيح. حول الأمجاد التي تدلّ على فئة من الملائكة تشارك الله في مجده. حول خصومة ميخائيل مع إبليس كما في أسفار الرؤى اليهودية وصعود موسى. حول ما يخصّ جثّة موسى. حول قايين القاتل، وبلعام المعلّم الكذّاب بحسب التقاليد اليهوديّة المتأخّرة، وقورح المتمرّد. حول أخنوخ، سابع الآباء بعد آدم. أورد يهوذا كل هذا ليدلّ على العقاب الذي سيصيب المعلّمين الكذبة الذين تبعوا خط قايين وبلعام وقورح، لا خطّ ميخائيل رئيس الملائكة، فصاروا سحاباً بلا ماء، وشجراً بلا ثمر لا يعتّم أن يُقلع.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM