كتاب الملوك

كتاب الملوك

مقدمة:
كتاب الملوك جزءان في كتاب واحد، سفر الملوك الأول وسفر الملوك الثاني، وما يرويانه يرتبط بكتاب صموئيل. في كتاب صموئيل تبدأ قصة داود ولا تنتهي إلاَّ في الفصل الثاني من سفر اللوك الأول. أمَّا كتاب الملوك فهو امتداد لكتاب صموئيل وهو يحدّثنا عن ملوك يهوذا واسرائيل منذ سليمان بن داود حتى يوياكين آخر ملوك يهوذا والجلاء إلى بابل سنة 587 ق. م.
موضوع الكتاب:
يروي كتاب الملوك حقبةً من تاريخ بني اسرائيل تبدأ حوالي السنة 970، سنة موت داود، وتنتهي بعد سنة 587 يوم أفرج الملكُ البابلي عن يوياكين، وكلّمه بكلام طيب، وسمح له أن يأكل معه على مائدته.
أما أقسام الكتاب فثلاثة: القسم الأول (1 مل 1- 11) يحدثنا عن سليمان الذي صار ملكاً رغم الموآمرات التىِ حيكت حوله، وينشد مُلْكه المجيد في لوحات ثلاث: هو الحكيم الذي منحه الله الحكمة، هو العظيم الذي تدل على عظمته روعة الأبنية التي بناها، هو الغني الذي اغتنى بفضل علاقاته التجارية فملأ قلوب الملوك إعجاباً ولا سيما قلب ملكة سبأ. ولكن الظلال بدت في نهاية حكمه: أعداء من الخارج في شخص رزون بن الياداع الذي هرب من عند هدد عازر ملك صوبة قرب دمشق. أعداء من الداخل ولا سيما يربعام الذي سيصير ملك اسرائيل.
القسم الثاني (1 مل 12- 2 مل 17) يسرد خبر المملكتين، مملكة يهوذا في الجنوب التي حكمها أبناء داود، ومملكة اسرائيل في الشمال التي حكمتها سلالات متتالية وكان أعظمها سلالة عمري. في هذا القسم نتعرف إلى إيليا النبي والدور الذي لعبه خاصة مع الملك احاب، زنتعرف إلى أليشاع تلميذ ايليا الذي عمل مع ياهو من اجل تنقية مملكة الشمال من الآثار الوثنية. وينتهي هذا القسم بسقوط السامرة سنة 722- 731 ق. م... دمّرت بسبب شر الملوك الذين تعاقبوا على عرشها.
القسم الثالث والأخير (3 مل 18- 25) عدّثنا عن مملكة يهوذا منذ سقوط السامرة حتى الجلاء إلى بابل سنة 587. يتوقف الخبر عند حزقيا الذي عرف بأمانته لله فقام بإصلاح ديني في المملكة. وبعد أن يشير إلى تقدم الكفر على يد الملكين منسى وآمون، يعود الكتابُ ليخبرنا عن إصلاح قام به يوشيا على أساس كتاب الشريعة الذي اكتُشف في الهيكل سنة 622. ولكن ساعة الدمار دقّت ليهوذا، فاحتلَّ البابليون أورشليم مرّة أولى وسبوا قسماً من سكّانها سنة 597، ثم احتلّوها مرةً أخرى ودمّروها وأحرقوا الهيكل فيها وأخذوا من تبقَّى من النُخبة إلى السبي.
المعنى الديني لكتاب الملوك:
1- لاهوت التاريخ: يقدّم لنا كتابُ الملوك تفسيراً للتاريخ مبنياً على لاهوت يؤكد أن الرب يقود الأحداث ويوجّهها. ويقول لنا إن الله يُمارس سلطانه على تاريخ الشعوب. فهو يَحكم على الملوك ويعاقبهم، وهذا ما حصل لسليمان: حين كان أميناً لربه حصل على أفضل جزاء، ولكن حين ابتعد عن الطريق القويم عرف حكمُه الفشل. وهذا ما سيحصل للمملكتين اللتين ستزولان. والله يُلزم نفسَه بالعهد، يحفظ شعبه ويخلصه، رغم خياناته.
ويقول لنا كتاب الملوك أن الله يتكلم، يتكلم عبر الأحداث، يتكلم عبر أنبيائه، وهو حاضر وسط البشر بواسطة ملكه، بواسطة هيكله. ونزيد أن حضوره لا ينحصر فقط في شعب اسرائيل، بل يشمل سائر الشعوب. وهذه الحقيقة الأخرى نقرأها في صلاة الغرباء في الهيكل. يقول الكتاب بلسان سليمان: وكذلك الغريب الذي يأتي من أرض بعيدة ليصلي لك في هذا الهيكل، فاسمع أنت في السماء، من مكان سكناك، واصنع له بجميع ما يدعوك فيه ليعرف جميع أمم الأرض اسمك ويتقوك مثل شعبك اسرائيل (1 مل 8: 41- 43).
2- تاريخ الملوك: ينطلق كتاب الملوك من الوثائق الموجودة في البلاط الملكي ليحدّثنا عن ملوك يهوذا واسرائيل على ضوء كلام الله وتعليمه. فالملِك الحقيقي هو الذي يحفظ فرائضَ الله. الملِك الحقيقي هو الذي يسير في طرق الله ويَحفظ رسومه ووصاياه وأحكامه وفرائضه على ما هو مكتوب في شريعة موسى (1 مل 2: 3). والوظيفة المَلَكية تفرض على الملك أن يحكم شعبه بالحكمة والعدل، بل أن يخدمهم (1 مل 12: 7) لأن هذا الشعب يخص الله. هنا نقابل بين رحبعام الملك الجاهل الذي ترك حكمة الشيوخ واتبع حكمة الفتيان، فأدَّى تصرفُه إلى انقسام مملكة داود وسليمان إلى مملكتين (1 مل 12)، وبين سليمان الذي صلَّى إلى الرب وطلب منه الحكمة قال: فهبني يا سيدي قلباً فَهِما لأحكام شعبك وأميِّز بين الخير والشر، لأنه من يقدر أن يحكم شعبك هذا الكثير. فأجابه الرب: بما أنك سألت الفَهْم ولم تطلب لك الحياة الطويلة والغنى الكثير، بل طلبت الحكمة لتحكم الشعب بالعدل، فها أنا أعطيك الحكمة والفهم حتى إنه لم يكن قبلك مثلك ولا يقوم بعدك نظيرك (1 مل 3: 9- 12).
أجل سليمان وجه مثالي من وجوه الملوك، وسيبقى كذلك ما دام أميناً للرب، ولكنه سيتزوّج نساء غريبات ويبني لهن معابد لآلهتهن. أبان سليمان بذلك أنه ترك الرب فتركه الرب وقال له: بما أنك تصرفت هكذا، ولم تحفظ العهد بين وبينك، ولم تحفظ فرائضي التي أمرتك بها، فسأنزع قسماً من مُلْكك وأدفعه لأحد رجالك (1 مل 11: 11).
لا يُهم كتاب الملوك ما يفعله الملوك من حروب وما يقومون به من أعمال. فاحاب الملك العظيم شيَّد قصر العاج وبنى المدن (1 مل 22: 39). ولكن ما يهم الكاتب الملهم هو أن هذا الملك صنع الشر في عيني الرب أكثر من جيع من تقدمه. ما اكتفى أن يسير في خطايا يربعام بن ناباط (أول ملك على مملكة اسرائيل) بل زاد على ذلك بأن تزوج ملكة وثنية (ايزابيل) ستحمل معها عبادة البعل إلى مملكة اسرائيل.
كل ملوك اسرائيل كانوا أشراراً، ولم يسلم منهم أحد منذ يربعام، لأنهم فصلوا شعبهم عن أورشليم المعبد الوحيد لشعب الله. أما ملوك يهوذا، وكلُّهم من سلالة داود فبعضهم كان شريراً، والبعض الآخر سار في الطريق القويم، طريق الرب. وسيمتدح الكاتب اثنين: حزقيا ويوشيا. فهذان الملكان لم يمارسا العبادات الوثنية، ولم يبنيا معابد للآلهة الغريبة. أما الآخرون فطلبوا آلهة الوثنيين ومارسوا السحر والعرافة، وضيّقوا على الناس وعاملوهم بالعنف، واضطهدوا أنبياء الرب، وقاموا بحروب لا يريدها الرب. قال الكاتب عن حزقيا: صنع ما هو قويم في نظر الرب كجميع ما صنع داود جدّه. أزال المعابد المشرفة على المدينة وحطّم النّصب والأصنام... وثق بالرب إله اسرائيل أكثر من جميع ملوك يهوذا الذين جاؤوا قبله أو جاؤوا بعده. تعلَّق بالرب وما مال عنه، وحفظ وصاياه التي أمر بها الرب موسى. وكان الرب معه فنجح في كل ما قام به من أعمال (2 مل 18: 3- 7). وقال عن يوشيا الذي قام باصلاح ديني عميق: صنع ما هو قويم في عيني الرب، وسار في طريق داود جده ولم يعدل عنها يمنةً ولا يسرةً.
هذا الحكمُ على ملوك يهوذا واسرائيل باسم الرب، يدل على أهمية كتاب الملوك، وهو يدعو الكنيسة اليوم أن تقوم بعملها الانتقادي تجاه الحكام والرؤساء، أن لا تخاف أن تقول حقيقة الانجيل عندما يُهان الإنسان أو تُداس العدالة أو تمتهَن الحريات العامة. إختبر الكاتبُ الملهم في كتاب الملوك أن لا مملكة كاملة على الأرض، وأن الله وحده يستطيع أن يؤمّن السلام والخير للبشر بواسطة من يختاره من البشر أو بواسطة من يرسله من العلاء. وهذا ما نتحقق منه في شخص يسوع المسيح. إنه من عالم البشر وهو من تجسد من مريم العذراء وصار إنساناً. انه من عالم الله وهو إله من إله، نور من نور، إله حق من إله حق. جمع يسوع المسيح في شخصه الألوهة والناسوت، فكان العهدَ الجديد بين الله والبشر الذى جاء يقيم مملكة الله على أرض البشر.
3- أغمال الأنبياء وأقوالهم: كتاب الملوك كتاب تاريخ لأنه يورد في صفحاته بعض الأمور التاريخية، وهو أيضاً كتاب نبوءة لأنه يقدم حكماً لاهوتياً على مرحلة من تاريخ بني اسرائيل. ولكنه كتاب نبوءة أيضاً، لأنه يُفرد مكانة خاصةً للأنبياء، هؤلاء المتكلمين باسم الرب والعاملين بهشيئته. سيقشل الملوك، وسيقودون الشعب إلى الدمار، ولو سمعوا كلام الأنبياء لما حلّت الكارثة بالشعب.
من هم هؤلاء الأنبياء؟ هناك ناتان الذي وبَّخ داود على فعلته مع بتشابع والذي لعب دوراً ليوصل سليمان إلى العرش (1 مل 1: 32- 27). وهناك أحيا الشيلوني الذي تنبّأ ليربعام بالمُلك على قبائل اسرائيل: شقَّ رداءه وأعطى يربعام عشر قطع وقال له: هكذا قال الرب إله اسرائيل: ها أنا آخذ الملك من سليمان وأعطيك عشرة اسباط... فإن أنت سمعت كل ما آمرك به وسلكت في طرقي وعملت ما هو قويم في عيني، إن حفظت فرائضي ووصاياي مثل داود عبدي، أكون معك وأعدك أنَّ نسلَك سيملك إلى الأبد مثل نسل داود (1 مل 11: 30- 38).
أما شمعيا، رجل الله، فسوف يتدخل ليوقف حرباً أهلية بين يهوذا واسرائيل على أثر إنشقاق مملكة سليمان. كان كلام الله إليه ليوصله إلى شعب يهوذا: كذا قال الرب: لا تصعدوا ولا تقاتلوا اخوتكم بني اسرائيل. ليرجع كل رجل إلى بيته. فأذعنوا لكلام الرب، ورجعوا إلى بيوتهم (1 مل 12: 22- 24) بعد أن كانوا استعدوا لمحاربة اخوتهم الذين انفصلوا عنهم. ويَبرز شخصُ ميخا بن يملة ليساعدنا على التمييز بين المحسوبين أنبياء والمتكلمين باسمهم الخاص، وبين النبي الحقيقي، بين المتزلفين للملك والباحثين عن رضاه، وبين الذي لا يقول إلا ما يأمره به الرب. استعد ملك اسرائيل وملك يهوذا للحرب وأرادا أن يسألا الرب. كل الأنبياء قالوا لملك اسرائيل: إصعد إلى راموت جلعاد فتنجح فإنَّ الرب يدفعها إليك. وذهب الرسول إلى ميخا وقال له: إن الأنبياء تكلموا بفم واحد (اتفقوا) فأنبأوا الملك بالنَصر. فليكن كلامك ككلامهم وأعْلِن للملك النجاح. أجاب ميخا: سأعلن ما يقوله لي الرب... وسيكلفه اعلان الحقيقة غالياً: تقدم صدقيا، أحد الأنبياء، ولطمه على وجهه، وأرسله الملك إلى السجن وأمر باطعامه الخبز والماء (1 مل 32: 13- 27). هكذا كانوا يضطهدون الأنبياء الذين يعلنون كلمة الله ولا يخافون.
ويحدثنا كتاب الملوك عن اشعيا الذي كان بجانب الملك حزقيا (2 مل 19: 1- 7) ولكنه يقدم لنا شخصيتين غنيتين هما ايليا وأليشاع.
إيليا شخص سري يظهر فجأة ويختفي فجأة. له سلطان على عناصر الطبيعة وعلى نار السماء. إجترح المعجزات العديدة، فدلَّ على قدرة الله الفاعلة في عالم يعج بالعبادات الوثنية. كان إيليا متعبّداً ليرب فم يَخفْ الملوك ولا كهنة البعل العديدين، بل تحدَّاهم على جبل الكرمل. ولكن هذا البطل المدافع عن حقوق الله في شعبه سوف يضعف أمام امرأة هي إيزابيل زوجة الملك آحاب. يحكي الكتاب عنه أنه خاف ومضى على وجهه... ثم تقدَّم في البرية والتمس لنفسه الموت وقال: حسبي الآن يا رب، فخذ نفسي، فإني لست خيراً من آبائي. ثم اضطجع ونام ولكن الله أعطاه طعاماً وحضر عليه من خلال صوت نسيم لطيف فعادت إليه قواه (1 مل 19: 3- 13)، وشرع من جديد يعمل عمل الرب في شعبه: مسح حزائيل ملكاً على آرام (وعاصمتها دمشق)، ومسح ياهو ملكاً على إسرائيل، واختار اليشاع نبياً يسير على خطاه (1 مل 19: 15- 16). وسيدافع عن الضعفاء بوجه الملك، كما فعل مع نابوت اليزرعيلي الذي سلبه آحابُ أرضَه وحياته.
أما أليشاع فلم يكن عظيماً مثل إيليا، ولكنه كان أقرب إلى الناس وحاجاتهم من إيليا. صنع معجزات مثل معلمه، وتدخل في السياسة باسم الرب، فوصلت أعماله إلى آرام حين شفى نعمان السرياني من برصه (2 مل 5: 1- 14)، ودفع هذا الرجل الوثني إلى أن يُعلن: الآن علمت أن ليس في الأرض كلها إله إلاَّ في اسرائيل (2 مل 5: 15). كثّر أليشاع خبزات الشعير فأطعم مئة رجل فأكلوا منها وفضل عنهم (2 مل 4: 42- 44) فكانت معجزته مقدِّمة لمعجزة يسوع التي بها أطعم خمسة آلاف من خمسة أرغفة وسمكتين (يو 6: 9- 13). أما إيليا فكان بالنسبة إلى إنجيل لوقا صورة مسبقة عن يسوع. وكما ارتفع إيليا وأعطى تلميذه أليشاع حصة البكر من عطية النبوءة، كذلك ارتفع يسوع إلى السماء ورآه تلاميذه فأعطاهم روحه (اع 1: 9) قبل أن يعطيه بطريقة احتفالية يوم العنصرة.
هؤلاء هم الأنبياء. تكلَّموا باسم الرب، وأعلنوا نداءه، وطلبوا الطاعة لوصاياه، وذكّروا الشعب بمواعيده وحمايته. كان كل همهم أن يدافعوا عن الشريعة والعدالة في أرض اسرائيل. وضعوا نفوسهم في إطار الديانة والأخلاق والسياسة، وأعلنوا أن كل شيء يجب أن يخضع للرب الذي هو وحده ملك في اسرائيل. وهكذا هيأوا الطريق لكلام يسوع الذي يدعونا لأن نضحّي بكل شيء من أجل ملكوت الله. وكما نقول عن الأنبياء نقول عن الملوك الذين حاولوا أن يجسِّدوا عناية الله في شعبه. لم يتمكنوا من ذلك، لأنهم بشر ضعفاء وخطأة. لهذا سيرسل الله ابنه الوحيد فيقود البشرية في طريق من السلام والعدالة إلى ملكوت الاب.
الخوري
بولس الفغالي

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM