الفصل الثلاثون: مسحة المرضى، سر من أجل الحياة

الفصل الثلاثون
مسحة المرضى، سر من أجل الحياة

إذا أردنا أن نتحدّث عن مسحة المرضى، لا بدّ من أن نشدّد على أن المرض ليس كل الألم البشري. فهناك الألم المعنوي حين يتخلّى رجل عن امرأته، أو العكس بالعكس، حين تثكل أم إبنها... ومع ذلك، يتسجّل المرض في تضاعيف الخبرة البشرية بما فيها من سلبيات، يتغلغل في الانسان فيمزّقه ويصلبه في ملء كيانه. من يرافق المرضى والشيوخ يعرف كل هذا التشوّه البشري الذي يصل بنا إلى الموت قبل الموت.
تتوسّع الأخبار الانجيليّة في لقاءات يسوع مع المرضى. وشهادتها تدلّ على أن هذه العلاقة طبعت التلاميذ بطابعها. فالشفاءات هي أكثر من نشاط عجائبيّ. هي تعليم وكشف لوجه الله. وهي تأخذ كامل معناها في فصح المسيح، في آلامه وموته وقيامته.
وحين رأت الكنيسة في مسحة المرضى سراً من أسرارها السبعة، شدّدت على أن الذي يتقبّل هذا السّر، يمرّ فيه موت الربّ وقيامته فيجعله كائناً جديداً يحييه الروح. ولكنّنا نلاحظ أن الناس لا يحبّون هذا السّر. يحسبونه سّر الموت لا سّر الحياة. ينسون أن الكاهن يطلب صحّة الجسد للمريض وصحّة النفس للخاطىء من أجل حياة جديدة ومتجدّدة في المسيح. فهل نترك "مسحة المرض" جانباً فنترك مرضانا في عزلتهم وعلى هامش الحياة، أو نستقبلهم باسم الكنيسة وتقليدها البشري والروحي؟ إذن نحاول التجاوب مع حاجاتهم الخاصّة، ونكون بقربهم في صمت وصلاة كما حاول أن يفعل أصدقاء أيوب أول ما وصلوا إليه، "جلسوا على الأرض سبعة أيام وسبع ليال من غير أن يكلّمه أحد بكلمة" ليعظه فيها. هو لا يحتاج إلى وعظ، "لأنهم رأوا كم كانت كآبته شديدة" (أي 2: 13).
ننطلق من ممارسة يسوع وتعليمه، فنرسم "تاريخ" مسحة المرضى حتى فاتيكان الثاني، فنصل إلى الزمن الحاضر حيث يرى الإنسان في المرض والموت أمراً محتوماً (كتب له). لا يستطيع أن يرضخ أو ييأس ويصرخ، ويرى فيه إخوتُه شخصاً يجب أن يسكت لكي لا يزعجهم بصراخه على مثال أعمى أريحا (مر 10: 48).
1- ينابيع التقليد
أ- في العهد الجديد
قال يسوع في بداية حياته العلنيّة: "روح الربّ عليّ لأنه مسحني... وأرسلني لأنادي للأسرى بالحريّة، للعميان بعودة البصر إليهم، لأحرّر المظلومين" (لو 4: 18). في المجتمع اليهوديّ ارتبط المرض بالنجاسة والخطيئة، فصار المريض على هامش المجتمع، لا يحقّ له أن يتّصل بالآخرين ولا أن يصليّ معهم. ذاك كان وضع الأبرص: يعيش بعيداً عن الناس. لا يحقّ له أن يدخل إلى الهيكل. مدّ يسوع يده ولمسه لمسة الحنان. أرسله إلى الكهنة، إلى الهيكل، لكي يستعيد مكانته وسط شعبه (مر 1: 40- 45). ذاك كان وضع النازفة: لم تتجاسر أن تلتقي معه بسبب الجموع. ولكننا نسينا الجموع ولم ننس هذه "النجسة" في نظر العالم اليهودي. قال لها يسوع: "يا ابنتي (للتحبّب) إيمانك شفاك. فاذهبي بسلام وتعافي من دائك" (مر 5: 34).
فالحوار بين يسوع والذين يشفيهم يذهب دوماً أبعد من طلب شفاء بسيط يتيح للمريض أن يعود إلى المجتمع. ففي كل مرّة يشدّد يسوع على انتقال من الشفاء إلى الخلاص (والحياة، كما نقرأ في النصّ السرياني: إيمانك أحياك) بواسطة التوبة والإيمان. فالصحة المستعادة لا تعني عودة إلى الحالة السابقة، بل تفترض ولادة جديدة وتحرّراً من قيود الخطيئة وتقبّلاً لعطية الله في المسيح. والخاتمة التي تكون قد روت أخبار الشفاء هي الوصول إلى مديح الله وتمجيده. فالأبرص "أخذ يذيع الخبر وينشره في كل مكان" (مر 1: 45). وبعد شفاء المخلّع "تعجّب الآخرون ومجّدوا الله" (مر 2: 12). ولجيون، صاحب الشياطين العديدين، "أخذ ينادي في المدن العشر (بين الوثنيين) بما عمل يسوع له، وكان جميع الناس يتعجّبون" (مر 5: 20). وبعد شفاء الأصمّ المنعقد اللسان، "كانوا يقولون بإعجاب شديد: ما أروع أعماله كلها! جعل الصمّ يسمعون والخرس ينطقون" (مر 7: 37).
حين يقول يسوع كلمة حول الأشفية التي يجترحها، فهو لا يشدّد على هذه الأشفية، بل على البشرى التي تكشفها وتحرّكها. فأخبار الأشفية هي في خدمة رسالة يسوع وشهادة التلاميذ، وهي تأخذ كامل مدلولها في فصح المسيح فتكشف كشفاً كاملاً عمل التحرير الذي تمّ ويتمّ كل يوم، الذي يدشّن ملكوت الله. نحن لسنا أمام شبه تحرير أو نصف تحرير. فالأشفية، وإن كانت محدّدة، فهي تدلّ على أن هذا التحرير وهذا الخلاص اللذين قدّمهما يسوع يعنيان الإنسان بكليته، يعنيانه نفساً وجسداً.
ونلاحظ أن الأناجيل قدّمت لنا عدداً من أخبار الأشفية وصمتت سائر نصوص العهد الجديد، ما عدا أعمال الرسل. هذا ما يسند قراءتنا. أما رسالة يعقوب فهي شهادة عن عمل يُمارس باسم الربّ من أجل المرضى في الجماعة. هي ممارسة تكشف تنظيمها الروحي والطقوسي. قال يع 5: 13- 14: "هل فيكم محزون؟ فليصلّ! هل فيكم مسرور؟ فليسبّح بحمد الله! هل فيكم مريض؟ فليستدع شيوخ (كهنة) الكنيسة ليصلّوا عليه ويدهنوه بالزيت باسم الربّ". هناك أولاً صلاة فرديّة يقوم بها المحزون. ثم هناك صلاة الكنيسة من أجل مرضاها. أما الدهن فيتجذّر في عمل طبيّ (لو 10: 34، صحة الجسد) ودينيّ. ذكر مر 6: 13 هذا الدهن فتجذّر مع شفاءات اجترحها الاثنا عشر.
وبما أن هذا الدهن يُصنع باسم الربّ، كالمعموديّة مثلاً، فهو يدلّ على إيمان الكنيسة بقدرة الربّ القائم من الموت. من هنا انطلقت الكنيسة لتتحدّث عن مسحة المرضى التي تمارسها أيضاً على المقعدين دون أن يكونوا مهدّدين تهديداً مباشراً بالموت. كما تمارسها بشكل جماعيّ من أجل طلب نعمة في مرحلة صعبة من مراحل الحياة فيها المقعد والمتألّم والمهمّش بسبب عاهة في جسده.
ب- على مرّ التاريخ
نتوقّف هنا عند المحطات المهمّة في تاريخ سّر مسحة المرضى وما فيه من عناصر تساعدنا اليوم على فهمه.
- إذا كان مر 6: 13 يبرّر التجذّر الانجيلي لهذا السّر، فإن يع 5: 13- 14 يدلّ على الممارسة الرعائيّة. وكل الذين كتبوا فيما بعد عادوا إلى هذين النصّين المؤسسين. نحن أمام شهادة فريدة لممارسة الصلاة والدهن بالزيت المقدّس من أجل المرضى. ولن نجد لها آثاراً قبل القرن الثالث حيث ينتظم الطقس ويتكوّن. أما الصمت بين النصّ الكتابي والقرن الثالث فلا يعني تجاهلاً لممارسة، بل يعني أن هذه الممارسة لم تطرح سؤالاً خاصاً يتطلّب جواباً في الكنيسة. فالكنيسة تعيش الأسرار بسلام. ولا تتكلّم عنها إلاّ إذا طُرح سؤال، أو برز تعليم ضالّ.
- في القرن الثالث، جاء تقليد هيبوليتس وشدّد على مباركة الزيت بيد الأسقف. إنه العنصر المركزي والحاسم. فالمرضى يستعملون الزيت بأشكال متعدّدة: يُمسحون به، يشربونه... كل مؤمن يستطيع أن يمسح مؤمناً آخر، بل أن يمسح نفسه إذا شاء. لا خادم خاصاً لهذه المسحة. وعمل الزيت يشفي ويخلّص. يدخل في ذاك الذي يلجأ بإيمان إلى قوة المسيح الذي يشفي كل مرض ويمنح مواهب الخلاص الروحانيّة.
- وتمّ إصلاح في القرن العاشر، فشدّد على بعفى المعاني على حساب الأخرى: المهم ليس البركة، بل المسحة بالزيت. وهذه المسحة لا يقوم بها المؤمنون، بل تحفظ للكهنة. وشدّد الاصلاح أيضاً على الخيرات الروحيّة وغفران الخطايا. ما زال يتحدّث عن نتائج شفائيّة على مستوى الجسد، ولكنها صارت ثانويّة وعابرة. ونلاحظ في خاتمة القرون الوسطى بأن مسحة المرضى صارت المسحة الأخيرة، مسحة الموتى. وسيعود المجمع التريدنتيني بشدّة إلى التوبة وغفران الخطايا. ويبيّن الحقّ القانوني واللاهوت الأدبي أن مسحة المرضى تفعل ما يفعله سرّ التوبة إذا غاب المؤمن عن الوعي ولم يعد يستطيع أن يقرّ بخطاياه نادماً عليها.
- سنة 1972، كان تنظيم روماني في خطّ المجمع الفاتيكاني الثاني، فشدّد لا على المسحة في حدّ ذاتها، بل على عمل رعائي من أجل المرضى يكون فيه للمسحة المكان المركزي. يقول: "ما إن يتعرّض المؤمن لخطر الموت من جرّاء المرض أو الشيخوخة، فهذا يعني أن الميقات المناسب لمسحة المرضى قد حلّ" (في الليتورجيا رقم 73).
سنتوسّع في الوجهات اللاهوتيّة والروحيّة والليتورجيّة والرعائيّة. ولكن قبل ذلك نتوقّف عند نظرة الإنسان المعاصر إلى الصحة والمرض والموت.

2- نظرة الإنسان إلى المرض والموت
من المعلوم أن تطوّر الطبّ قد حوّل تحويلاً أساسياً علاقة الإنسان بالصحّة والمرض والموت. وهذا التحوّل بدا جذرياً بسبب توسّع المدن التي بدّلت في العمق العلاقات بين البشر.
توسّع الطب الذي "يشفي"، وتحسّنت ظروف الصحة والتغذية، فكاد موت الأطفال يختفي من البلدان المتطوّرة، ولم يعد معدّل العمر 30 سنة كما كان في الماضي. وفي الوقت عينه قدّم لنا المجتمع صورة عن الانسان تقابل رغبته بالخلود: شاب، جميل، رياضي، مرتاح في حياته، معدّ للنجاح. مثل هذه الصورة تمحو من عالمنا الانسان المعاق على المستوى الجسدي والنفسي، والمريض والعجوز، لأنهم يشوّهون صورة الانسان التي في أذهاننا.
كان الانسان يعرف نفسه مائتاً (أنت من التراب وإلى التراب تعود). ونحن نتركه يموت، وهو يعي بوادر الموت الحاضرة في كل مرض. أما الآن فجاء تطوّر الطبّ وتزايدُ الأدوية، فنسينا الحقيقة المرتبطة بالمرض والشيخوخة. نسينا الموت، وإن كنا ما زلنا نخاف منه بسبب حوادث السير أو أمراض السرطان والقلب والسيدا التي "تفرض" نفسها.
كانت العائلة في القرية هي الموضع الذي يُود فيه الإنسان ويحيا ويموت. فحلّ محلّها المستشفى والمأوى، فتولّد انفصام بين الانسان الواقف "على رجليه" المتنعّم بالصحة والمشارك في الحياة العائلية والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وبين ذاك الإنسان عينه الذي مرض وشاخ، فأحسّ أنّه على هامش المجتمع، أنه لا ينفع في شيء، أنه لا شيء.
الإنسان هو مائت، تلك حقيقة أساسيّة تعيد الإنسان إلى السؤال الأول حول معنى الحياة. فالعلاقة بين الموت والحياة تُطرح في منطق التواصل وفي منطق الانقطاع. كانت المجتمعات القديمة تُدخل الموت في الحياة فتُبرز فكرة التواصل. أما المجتمعات الحديثة فتخفي الموت وتحاول أن تقوده بحسب طريقتها: إنها تدمج وجه الانقطاع والعبثية فيه فتعتبره "عادياً".
إن مجتمعاتنا تعيش المفارفة تجاه الموت. فحين يسبّب الموت حروباً وزلازل وحوادث، تمتلىء محطات الإذاعة والتلفزة والصحف من هذه الصور. وفي الوقت نفسه ننسى الآلاف الذين يموتون في المستشفيات. نتوقّف عند "الموت العنيف"، وكأننا نريد أن نسيطر عليه بواسطة "التلفزيون" مثلاً. في الواقع، إن مواجهة المرض اليوم يفرض على الإنسان أن يتساءل عن الحياة. ولا يمكنه أن يتعافى وإن كان السؤال صعباً وخطراً. نحن أمام صراع نعيش فيه وحدنا. ويكون صراعاً بنّاء حين يفتحنا على كلمة يستطيع الآخر أن يدركها، وصراعاً مدمّراً حين يغيب كل اتصال ويغلقنا في صمت قاتل.
في هذا الخيار، كيف نحطّم "منطق السجن" لكي يتفجّر من هذه الخبرة الجذريّة للمرض، كلمة حياة أقوى من الصمت، وإن كان المرض يقود إلى الموت؟
حاولت الديانات والفلسفات أن تقدّم جواباً. أما المسيحيّة فانطلقت من موت يسوع وقيامته، فشهدت بشكل فريد ومستمرّ على أن كلمة المسيح الحيّ هى أقوى من صمت الموت. فحين مرّ المسيح في الموت، كشف لنا أن لا معنى حقيقياً للحياة من دون عبور في الموت. وأننا عبر الموت، نجد التعبير عن الحياة ككلّ، كعطيّة الله للانسان. فالموت هو للانسان الفعل الذي به يتخلّى عن حياته لكي يتسلّم الحياة التي تأتيه من الله.

3- سّر من أجل الحياة
ما قيمة تقليد ينغلق على الحداثة؟ وما قيمة حداثة تنغلق على علم ما زال في مهده معتبرة أن التقليد هو قديم وقد زال وبلي؟ إذن، هناك تزاوج بين التقليد والحداثة طلبه المجمع الفاتيكاني والثاني، ونحاول نحن أن نأخذه في لاهوتنا ورعائياتنا.
هناك في المرض صراع بين أدوية تتطوّر وتتطوّر، وبين ضعف يصل بنا إلى الانحلال. هناك كلمة تستطيع الكنيسة أن تقولها فلا تجعل المريض ييأس من محاولات الطب. وفي الوقت عينه هي ترافقه في المحنة والألم حتى العبور الأخير، حتى الموت.
إن مسحة المرضى تدخل في رعاية المرضى، وهي العنصر الأسراري الأول. فإن غابت هذه الرعاية لا سيما في المستشفيات (وربما في الرعايا)، ظلت مسحة المرضى غير مطلوبة وغير معروفة لدى المؤمن. وهذا يعني بالنسبة إلينا ملاحظات رعائيّة ولاهوتيّة وليتورجيّة.
أ- على مستوى الرعاية
إن نموّ رعاية المريض يسير في التقليد الكنسي الذي يدعونا لكي نكون قريبين من المرضى. كما يدعونا إلى الأخذ بعين الإعتبار التحوّلات الاجتماعيّة الحاليّة. هنا نشير إلى ان احتفالات (في أوروبا) جماعيّة بهذا السّر قد تمّت في الرعية أو مأوى العجّز، فشارك فيها عدد كبير من الرجال والنساء. وفي خبرة المرافقة التي يقوم بها الكاهن (أو غيره)، قد نستطيع أن نفتح باباً لا يكون فقط حواراً بين أنا (الكاهن) وأنت (المريض) فيتعلّق المريض بالكاهن. بل حواراً مع الآخر، مع الله الذي وحده يخرجنا من ذاتنا ويفتحنا على المستقبل. غير أن عرض مسحة المرضى يفترض مرافقة روحيّة بشريّة وتعليميّة. كما يفترض كنيسة متطوّرة. وإذا مارسنا هذا السّر في غرفة المريض، حيث يمكن أن ينغلق الإنسان على ذاته، فهذا يعني أن السّر الذي يتمّ، هو أبعد من المحتفل به (وإن كان لباسه الأسود مخيف أحياناً)، وإنه يفتحنا على المسيح الذي خرج منتصراً من القبر والموت.
ب- على المستوى اللاهوتي والروحي
إن أساس مسحة المرضى هو سّر فصح المسيح (عبور). فالمريض الذي ينغمس في ألم المسيح وموته، يكتشف انه ليس فقط كتلة مفكّكة من لحم ودمّ. بعد أن صار عضواً في قيامة الربّ، يوم عماده، جاءت المسحة وأوّنت (أي فعلت الآن) له في وضعه الحاضر معنى حياته كإنسان. يسمع في عزلته صرخة يسوع على الصليب (إلهي إلهي لماذا تركتني)، فيكتشف أنه يستطيع أن يتصل بالله وبالذين يجاورهم. هو الذي بعماده اتصل بالثالوث الأقدس وبالجماعة الكنسيّة، قد أدركه المسيح خلال عبوره في الموت، فدعاه إلى أن يتخلّى عن حلم الخلود لكي يتصالح مع القيامة في وضعه كحيّ مائت منفتح على المستقبل.
وهكذا يمتدّ معنى مسحة المرضى في رموز ثلاثة: هي تعمل بالكلمة، هي تجمع، هي تجعلنا نستشفّ صورة المسيح الحيّة. وهكذا تبدّلُ أفقَ المريض وتدعوه للدخول في سّر الإيمان. إن الخبرة التي يُدعى إليها قابل السّر هي خبرة روحيّة. ففي محنة المرض يكشف الله عن نفسه أنه الحنون. هو ما جاء لكي يحلّ محلّ الإنسان، أو يكون ضد الإنسان. (ماذا فعلت بالله لكي يرسل إلي هذا المرض) جاء لكي يحمل عنه آلامه. جاء لكي يقاسمنا آلامنا. نقول: مع آلامك يا يسوع. ويقول يسوع: آلامي مع آلامك أيها المؤمن.
هي خبرة روحيّة تُنسج في قلب الإنسان؟ فالله يجيب على صراخ الإنسان كما يقول مز 22. وهو جواب يحوّل الحياة، ويجعل الإنسان يتكلّم من أعماق محنته. تلك هي مسيرة مسحة المرضى: يُدعى الإنسان لكي يكون مسؤولاً عن حياته ساعة يتخلّى عنها لكي يتسلّمها من الله الآب.
ج- على المستوى الليتورجي
بالليتورجيا (التي هي "عمل علني" في الكنيسة) تعبرّ الكنيسة المجتمعة عن كل الغنى الرمزي لهذا السّر. فالاحتفال بسّر مسحة المرضى يتسجّل في حركة تحرّر البشريّة بواسطة المسيح. حركة تدرك ذاك الذي يقيّده المرض، وتحرّره ربما بالشفاء، وتدخله في ميثاق مجدّد يستعيد منه الكائن الممزّق والمعزول والمهشّم، جسده البشري المصنوع على صورة الله ومثاله. وفي هذا الوضع الجديد يكتشف نفسه أخاً أو أختاً، إبناً أو إبنة. عضواً كاملاً في الكنيسة والمجتمع. إن هذا الحدث "الأسراري" يُدخل الإنسان من جديد في كل هذه البشريّة المخلصة، دون أن يمحو المرض، وذلك حتى النفس الأخير.
وفي هذا الرمز الذي نعبرّ عنه في إطار ليتورجي، نتوقّف عند زمنين: الكلمة والمسحة بالزيت.
إن الكلمة تحتلّ مكاناً رئيسياً في القسم الأول من الاحتفال. هي عطيّة الله تتوجّه إلى قلب كل إنسان ولا سيما المريض فتهيّئه للسّر. تعمل باسم المسيح فتجمع في كتلة واحدة رجالاً واناساً مشتّتين ليكونوا جسداً واحداً هي الكنيسة. والمسيح بالزيت الذي هو قلب الاحتفال، يبقى مادة السّر (كما نقول في اللاهوت. فننميّز المادة والصورة). هذا الزيت المحفوظ للمرضى يباركه الأسقف، ويوضع على جبهة المريض ويديه ورجليه... كدواء يُلبسه حياة المسيح ويقيمه مع المسيح. إن زيت المرضى يفتح الإنسان على الآخرين: يخرجه من نفسه، فيعيده إلى دعوته البشريّة والمسيحيّة.

خاتمة
يجب على كل رعاية للمرضى أن تكون نبويّة، أن تحمل كلمة الله إلى الانسان، أن ترتدي حنان الله، فتدعى في تمتماتها لكي تتابع عمل المسيح في البشريّة. فالمريض يعيش بشريّة مشلّعة ممزّقة. في سّر مسحة المرضى، يعيده المسيح بواسطة كنيسته إلى وحدة بشريّته المخلصة، ويجدّده ويعيد له هويته كابن (بالنسبة إلى الله). عُزل المريض، همِّش، جُعل خارج حياته الاجتماعيّة العاديّة، فعاش محطّماً وتُرك وحده. في سّر المسحة تعيده الكنيسة إلى التضامن مع البشريّة وتثبّته في هويته كأخ مع سائر البشر.
نعمة مسحة المرضى هي أكثر من شفاء جسدي (الذي هو ثانوي). إنها تساعد المريض أن يتقبّل نفسه في بشريّته المائتة ولكنها مخلّصة. هي بشريّة يقاسمها مع إخوته. بشريّة لبسها الربّ في يسوع المسيح حتى النزاع في بستان الزيتون والموت على الصليب، لكي نولد في قيامته من حياة مائتة إلى حياة أبديّة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM