الفصل الحادي والثلاثون: أنتم شعب كهنوتي

الفصل الحادي والثلاثون
أنتم شعب كهنوتي

حين كتب القديس بطرس رسالته الأولى إلى المؤمنين المشتّتين في البنطس وغلاطية ليهيّئتم لتقبل المحن التي تنتظرهم، قال لهم: "فاقتربوا من الربّ، فهو الحجر الحيّ المرفوض عند الناس، المختار الكريم عند الله. أنتم أيضاً حجارة حيّة في مسكن روحاني، فكونوا كهنوتاً مقدّساً وقدّموا ذبائح روحيّة يقبلها الله بيسوع المسيح" (2: 4- 5). وكتب القديس يوحنا في المنطقة عينها تقريباً يشجع المؤمنين الذين يضطهدهم حكم دوميسيان الروماني: إن المسيح "هو الذي أحبنا وغسلنا بدمه من خطايانا وجعك منا ملكوتاً وكهنة لله أبيه" (رؤ 1: 6).
ما معنى أن يكون المسيحيون ملكوتاً وكهنة أو مملكة كهنة؟ نحن هنا أمام تفكير طويل في سر المسيح. تأملت فيه الكنيسة وحاولت أن تبحث عن نتائجه بالنسبة إلى المسيحيّين الذي يريدون أن يتبعوا المسيح. ونبدأ طريقنا بالعهد القديم.

1- الكهنة والذبائح في العهد القديم
أ- الكهنة
في ديانة التوراة كما في كل ديانات الشرق، الكاهن هو الوسيط بين الله والبشر. هو يخدم المعبد ويمارس شعائر العبادة فيه. هكذا مارس كل من موسى وهارون دوره كوسيط. يقول سفر العدد (3: 38): "يقيم موسى وهارون وبنوه أمام المسكن (أو المعبد) المقدس. ومن اقترب منه سواهم يُقتل". ولهذا، فحين يُبنى معبد، يكون من الضروري أن يكرّس له كهنة يهتمون بأمور العبادة فيه. يروي سفر القضاة أنه كان لرجل إسمه ميخا معبد في جبل إفرائيم، فصنع له إحتياجات العبادة وأقام أحد بنيه كاهناً له (17: 5). ويقول الراوي في سفر صموئيل الأول (7: 1) إن "أهل قرية يعاريم أصعدوا تابوت العهد (صندوق قدسي يحمل لوحي الوصايا ويرمز إلى حضور الله وسط شعبه)، وأدخلوه بيت ابيناداب على التلة، وكرّسوا العازر إبنه لحراسته". وهكذا فعل يربعام الملك: أقام كهنة من الشعب لبيوت العبادة (1 مل 12: 32).
كان لوظيفة الكاهن كوسيط وجهان إثنان. الأول: يتوسط من أجل الناس أمام الله. الثاني: يحمل إلى الناس كلام الله ووصاياه وأوامره. فالكاهن من جهة هو الذي يقدّم الذبائح، يحمل تقدمات الناس ويرفعها إلى الله. وهو من جهة ثانية يتقبّل "أقوال" الله، يحملها من الله إلى البشر. لهذا كان يستعمل وسائل بشريّة منها الأفود الذي سيصير لباساً كهنوتياً يحمل أسماء الأسباط الاثني عشر بعد أن كان يمثّل في تقليد أوغاريت (رأس شمرا، شمالي مدينة اللاذقية في شمال سورية) الأرض التي تسند عواميد السماء.
كان ملكيصادق أول وجه كهنوتي نتعرّف إليه في التوراة. كان كاهناً لله العلي، وكانت تقدمته الخبز والخمر (تك 14: 18). كان في الوقت عينه الكاهن والملك في شاليم، في تلك التي ستصبح أورشليم (مز 76: 2).
في الأصل لم تكن تقدمة الذبائح محفوظة للكهنة. فربّ العائلة أو ربّ العشيرة كان يقوم بهذا العمل. فإبراهيم أخذ الكبش وقدّمه محرقة (تك 22: 13). وكذلك فعل يعقوب (تك 28: 18). وقدم الملوك الذبائح. صعد سليمان على تلة جبعون ليقدم الذبائح هناك فأصعد ألف محرقة. وتجلى له الربّ في الحلم، فدل على أنه رضي بذبائحه (1 مل (3: 4- 5).
ولكن سيأتي وقت يُمنع فيه الملوك من تقدمة الذبيحة، فيحتفظ الكهنة بهذه المهمّة. أراد عزيا الملك أن يحرق البخور. قاومه الكهنة وقالوا له: "لا يحقّ لك، يا عزيا، أن تحرق البخور للربّ، فهذا من حق الكهنة". وأظهر الربّ موافقته على ما قاله الكهنة، فأصيب عزيا بالبرص، فأسرعوا في إخراجه من الهيكل (2 أخ 2: 16- 21).
ب- الذبائح
ومارس الكهنة هذا الدور كوسطاء بين الشعب والله، فقدّموا مختلف أنواع الذبائح، فاستطاع المؤمن بواسطة الكهنة أن يعبرّ عن اعترافه بالله الذي هو سيّد الخلائق كلها، أن يقدّم له السجود من خلال محرقة، أو ذبيحة تحرق فتعود إلى الربّ معبّرة عن أن الإنسان وكل ما يملك هو للربّ. وعبر وساطة الكهنة استطاع الانسان أن يتّصل بالله بطريقة إلهيّة وذلك عبر ذبيحة السلامة أو ذبيحة العهد. وفي ذبيحة التكفير عن الخطيئة، كان الشعب يتصالح مع الله وينال منه المغفرة عن خطاياه. بدأت ممارسة ذبائح التكفير مع أيام المنفى في بابل (بعد سنة 587 ق. م.)، واتسعت شيئاً فشيئاً فسيطرت على سائر الذبائح. وهكذا تنظم عيد التكفير (أو كيبور) الذي فيه يدخل رئيس الكهنة وحده قدس الأقداس (أي المكان الأكثر قداسة) مرّة في السنة، فيقدّم محرقة عن خطايا الشعب كلّه وعن خطاياه. ورافقت الذبائح صلوات عبرّت عن معنى هذه الذبائح: صلوات الطلب والتوسّل، صلوات المديح والحمد، صلوات الشكر وعرفان الجميل. ولم تكن هذه الصلوات خاصة بهيكل أورشليم، بل عرفتها كل شعوب الشرق الأدنى.
ج- حمل كلام الله
لم يمارس الكهنة فقط دور الوساطة هذا بتقريب الإنسان من الله، خصوصاً في تقديم الذبيحة، بل جعلوا الألوهة قريبة من الإنسان. فالله أظهر نفسه للبشر بواسطة الكهنة. بواسطة الكهنة نقل كلمته وعلّمهم ماذا يعملون. هذا ما يسمّى عالم الكهانة الذي يجعل الكاهن يردّد "قولات" الله. وكان يحصل الكاهن على قولات وحي من الله بواسطة "أدوات" إلهية: كالافود الذي تحدّثنا عنه. فقد لجأ إليه داود مرّة أولى ليعرف مصيره في مدينة قعيلة (1 صم 23: 9)، ومرة ثانية ليعرف هل سيلحق بالذين سرقوا المخيم وسبوا النساء والأولاد (1 صم 30: 7).
في وقت من الأوقات، سيطرت القولة على وظيفة الكاهن في شعب إسرائيل، ثم خسرت مكانتها وحلّت محلها كلمات أخرى ترتبط بشريعة موسى. وهكذا اتخذ الدور التعليمي أهميّة كبرى خلال الإصلاح الإشتراعي (حسب تثنية الإشتراع) الذي قام به الملك يوشيا سنة 622 ق. م. توزّع كهنة المعابد في فلسطين وحملوا التعليم إلى الشعب: "حفظوا كلام الربّ، سهروا على عهده، علّم بني يعقوب أحكامه وبني إسرائيل شرائعه" (تث 33: 9- 10). وقال ملاخي النبي (2: 7): "شفتا الكاهن تحفظان المعرفة، ومن فمه تُطلب الشريعة، لأنه رسول الرب القدير". وسفر يشوع بن سيراخ الذي جُمع في القرن الثاني ق. م. يضم تعاليم ذاك الكاهن في هيكل أورشليم. جمعها تلاميذه وترجمها حفيده إلى اليونانية.
ولعب الكاهن دوراً أخيراً في أرض إسرائيل هو دور القاضي والحكم. هذا ما نجده في فصول عديدة من سفر اللاويين. مثلاً شريعة الطهارة والنجاسة. ولكن الكهنة لا يستطيعون أن يلعبوا دورهم هذا إلاّ إذا كانوا هم أنفسهم أطهاراً بحسب شريعة موسى.

2- يسوع المسيح
ما علاقة يسوع المسيح بالكهنوت؟ هل كان كاهناً بحسب أسفار العهد الجديد؟
أ- يسوع والكهنوت
يسوع الناصري كان من الشعب، من العوام، من العلمانيين. هو لم ينتمِ إلى أسرة كهنوتية. وارتبطت أعماله بالعالم النبويّ لا بالعالم الكهنوتي. ويخبرنا العهد الجديد أن معاصري يسوع سمّوه النبي والمعلم والحكيم. قالوا إنه إيليا الذي عاد. وقالوا أيضاً: دخل فيه بعل زبول، رئيس الشياطين. كان الناس يزحمونه ويضايقونه ولم ينجّسه أحد منهم، لا الأبرص (مر 1: 4- 42)، ولا نازفة الدم (مر 5: 25- 3)، ولا الخطأة والعشارون والزناة (لو 15: 1- 2).
لم يفكّر أحد في يسوع على أنه كاهن. بل كانت كرازته معارضة ومنتقدة لبنى العالم الذبائحي في اسرائيل. فكلمة محرقة التي تدل على ذبيحة طاقسية نجدها 400 مرة في التوراة. أما يسوع فلا يستعملها إلاّ مرتين، وذلك في إنجيل متّى. قال في المرة الأولى: "أريد رحمة لا ذبيحة. وما جئت لأدعو الصالحين إلى التوبة، بل الخاطئين" (9: 13). وقال في المرة الثانية: "لو فهمتم معنى هذه الآية أريد رحمة لا ذبيحة لما حكمتم على من لا لوم عليه" (12: 7). فيسوع يورد في الموضعين نص هوشع النبي (6: 6)، ويدلّ على أنه لا يوافق أولئك الذين يجعلوذ الذبيحة قبل الرحمة، ويضحّون بالخاطىء من أجل شريعة محجّرة، ويفضّلون السبت على الإنسان.
ووعظ يسوع على دمار الهيكل وعارض نظام العبادة فيه. فطرد الباعة منه وسمّاهم لصوصاً، كما استغنى عن الغنم والبقر (يو 2: 14- 15) لأنها ما عادت تنفع بعد أن صار الشعب يكرم الله بشفيته وقلوبهم بعيدة عنه. وبسبب هذه المعاملة للهيكل، بدأت المؤامرة على يسوع. وكان للكهنة الدور الكبير في هذا الصراع الذي أوصله إلى الموت (مت 26: 57- 59؛ 27: 71- 73).
وموت يسوع لم يكن ذبيحة في نظر اليهود. بل كان عقوبة استحقها كمجدِّف. ثم إن كل شعائر العبادة التي عرفتها التوراة كجزء من الذبيحة كانت غائبة. وهكذا لم يكن من الممكن ليهودي أن يجعل من أعمال يسوع ومن موته عملاً كهنوتياً.
ثم إن يسوع نفسه سمّى موته عمل استسلام لله من أجل أخوته. قال قبل إنطلاقه إلى الآلام: "يجب أن يعرف العالم أني أحبّ الآب. قوموا نذهب من هنا" (يو 14: 31). وقال عنه بولس الرسول: "إن ابن الله أحبّني وبذل نفسه عني" (غل 2: 20).
ب- يسوع الكاهن
ومع ذلك تقول الرسالة إلى العبرانيين: "جاء المسيح كاهناً أعلى... فدخل قدس الأقداس مرة واحدة بدمه، فكسب لنا الخلاص الأبدي" (9: 11- 12). ما معنى هذا؟
إن حياة يسوع وموته طُبعا بالطابع الكهنوتي. فهما يدلاّن أفضل دلالة على وساطته بين الله والبشر. فيسوع هو الوسيط الحقيقيّ والوسيط الوحيد. وهكذا يتجاوز العهد الجديد تدريجياً الصعوبات التي ذكرناها في المقطع السابق إلى أن يعبِّر أفضل تعبير عن الطابع الكهنوتي لوساطة يسوع.
حين صوّر لوقا العلامات التي رافقت موت يسوع قال: "انشق حجاب الهيكل من الوسط" (23: 45). نجد هنا إشارة إلى وساطة يسوع الكهنوتية. كان هذا الستار يفصل بين المؤمنين وقدس الأقداس (حيث يقيم الله)، بين البشر والله. ولكن يسوع ألغى بموته الحاجز وصار الإنسان قريباً من الله.
وقابل يوحنا في إنجيله بين جسد يسوع والهيكل. صار يسوع الهيكل الجديد ومركز حضور الله، وحلَّ محل هيكل الحجر (2: 19). وحين تحدّث يوحنا عن الصلب، أبرز وجهات عديدة تصوِّر موت يسوع كأنه ذبيحة، وعمله كأنه كهنوتي (19: 16- 37). مثلاً، كان قميص يسوع قطعة واحدة لا خياطة بها منسوجة كلها من أعلى إلى أسفل. هكذا كان لباس رئيس الكهنة. على الصليب أطفىء عطش يسوع بخلّ وضع على غصن زوفى، وهي النبتة المستعملة لرش دم الذبائح. وحين طُعن جنبه خرج منه دم وماء. هذا ما يذكّرنا بتفسير صخر موسى الذي ضُرب مرتين فخرج منه دم وماء كما يقول المدراش (أو الدرس والتأمل في نص الكتاب المقدس). هذا ما يرمز إلى التكفير وإعطاء الحياة.
وتتوسّع الرسالة إلى العبرانيين في حياة يسوع وموته من الوجهة الكهنوتيّة. فيبدو يسوع المسيح من خلال مز 110 (قال الربّ لسيدي الملك: اجلس عن يميني) على أنه الكاهن الأوحد الحقيقي. فحسب هذه الرسالة، ذلك الذي قيل له: اجلس عن يميني (مر 16: 19، جلس عن يمين الله؛ مت 22: 44؛ 26: 64؛ أع 2: 24؛ أف 1: 20؛ كو 3: 1)، هو ذلك الذي يتوجّه إليه كلام مز 110: 4: "أنت كاهن إلى الأبد على رتبة ملكيصداق" (عب 5: 5- 6).
وتصوّر الرسالة إلى العبرانيين كهنوت المسيح، فتتذكّر بعض الأحداث التاريخيّة في حياة يسوع الناصري. من جهة يتميّز كهنوت يسوع المسيح عن كهنوت العهد القديم. ومن جهة أخرى فيسوع يسمّى في الحقيقة كاهناً. فبشريّته هي ما يجعله وسيطاً بين الله والبشر. بما أنه يشبهنا في كل شيء ما عدا الخطيئة، فهو يستطيع أن يشفق على ضعفنا (4: 15). ولهذا يقدر أن يكون الوسيط الذي يعاملنا بالرحمة.
وتقابل هذه الرسالة بين كهنوت العهد القديم وكهنوت يسوع بالنظر إلى ذبائح التكفير. عبر الذبائح القديمة كانت تتمّ المصالحة مع الله. وبحسب الرسالة إلى العبرانيين حين بذل يسوع حياته، قدّم ذبيحة التكفير: "كان عليه أن يشابه اخوته في كل شيء، حتى يكون كاهناً أعظم، رحيماً أميناً في خدمة الله فيكفّر عن خطايا الشعب" (2: 17).
ولكن هناك ميزة أساسية تجعل ذبيحة يسوع المسيح التكفيريّة بعيدة عن ذبائح العهد القديم. كان كهنة العهد القديم ينحرون عدداً من الحيوانات كذبائح تكفير. أما يسوع فقدّم ذبيحة نفسه مرة واحدة. "دخل المسيح قدس الأقداس مرة واحدة، لا بدم التيوس والعجول بل بدمه، فكسب لنا الخلاص الأبديّ. فإذا كان رشّ دم التيوس ودماء العجول يقدّس المنجسّين ويطهر جسدهم، فما أولى دم المسيح الذي قدّم نفسه إلى الله بالروح الأزلي قرباناً لا عيب فيه، أن يطهّر ضمائرنا من الأعمال الميتة لنعبد الله الحي" (9: 12- 14).
فالفارق الأساسي بين ذبائح العهد القديم وذبيحة المسيح هو أننا نجد في ذبيحة المسيح أن يسوع الكاهن يقدّم نفسه. أما كهنة العهد القديم فكانوا يقدّمون الذبائح. كان رئيس الكهنة في العهد القديم يدخل إلى قدس الأقداس في هيكل أورشليم حيث يلتقي بحضور الله الخفي (في مسكنه). ويسوع يدخل الآن إلى مسكن السماء، ويجلس عن يمين الآب. يدخل إلى الحضور الحقيقي. لهذا، بعد أن قدّم حياته لا يمكن أن تتكرّر الذبيحة. فذبيحة التكفير تمت مرة واحدة إلى الآبد. فعبر ذبيحته قد نال هنا أكثر من غفران نالته الذبائح القديمة. نال لنا الخلاص الأبدي (9: 12).
وكما رافقت الصلاة ذبائح العهد القديم، كذلك رافقت الصلاة ذبيحة يسوع. فعلى جبل الزيتون صلى يسوع قبل آلامه. أخضع إرادته بكل بساطة لإرادة الآب: "يا أبي، إن شئت فأبعد عني هذه الكأس. ولكن لتكن إرادتك لا إرادتي" (لو 22: 42). وأشارت الرسالة إلى العبرانيين (10: 7) إلى الفكرة نفسها حين أوردت مز 40: 8: "ما أردت ذبيحة ولا قرباناً، لكنك هيّأت لي جسداً. لا بالمحرقات سررت ولا بالذبائح كفارة للخطايا، فقلت: ها أنا أجيء يا الله لأعمل بمشيئتك". إن خضوع إرادة يسوع لإرادة أبيه هو ما جعل ذبيحته مرضية لدى الله.
ولهذا نقرأ في 5: 7- 8: "فيسوع في أيام حياته البشريّة رفع الصلوات والتضرّعات بصراخ شديد ودموع إلى الله القادر أن يخلصه من الموت، فاستجاب له لتقواه. وتعلم الطاعة، وهو الابن، بما عاناه من الألم". صارت ذبيحة يسوع مقبولة لدى الله، لا لأنه أتم فرائض الطهارة التي تفرضها الشريعة في شعائر العبادة، بل لأنه جعل إرادته في إرادة والده، صارت إرادته إرادة والده. وهكذا صار مصدر خلاص أبديّ لجميع الذين يطيعونه (5: 9) لنا نحن المؤمنين.

3- والمسيحيون
المسيحيون هم كهنة، المسيحيون هم مملكة كهنوتيّة، لأنهم امتداد لعمل يسوع الكاهن، لأنهم يشكّلون جسد المسيح السري الذي يتابع عمله كوسيط حتى نهاية العالم.
أ- المسيحيون كهنة
المسيحي هو من يتبع يسوع. ودعوة المسيحي هي نداء لكي يشارك المسيح في آلامه لكي ينتقل معه إلى الآب (يو 13: 1). فحين يشارك المسيحيون يسوع في آلامه يصبحون أبناء الله بواسطة الابن الوحيد. قال بولس إن المسيحيين ينالون روح يسوع. لذلك فإنهم يستطيعون أن يهتفوا: أبّا، أيها الآب (غل 6: 6؛ روم 8: 15).
إذن المسيحيون هم كهنة يشاركون المسيح في حياته. وبالتالي يستطيعون أن يقدموا ذبيحة حياتهم ويضموها إلى آلام يسوع. إن بولس يصور في روم 12: 1 ممارسة المسيحيين لكهنوتهم كما يلي: "فأناشدكم أيها الاخوة، برأفة الله أن تجعلوا من أنفسكم ذبيحة حية مقدسة مرضية عند الله، فهذه هي عبادتكم الروحية".
ليس هدفنا الآن أن نتحدث عن الكهنة المرسومين لخدمة المذبح، ولا أن نقابل بين كهنوت الكهنة وكهنوت المؤمنين، ولكن يبقى أن لهذين "الكهنوتين" بعداً واحداً هو التجرّد عن الذات وتقدمة الذات مع المسيح من أجل العالم. والكهنة المرسومون يستطيعون بحياة الخدمة الكهنوتية التي يقومون بها أن يشاركوا الكاهن الواحد والحقيقي في خضوعه لله الآب (لو 22: 27).
ثم إن ذبيحة المسيحيين ترافقها الصلاة لتكون هذه الذبيحة مقبولة لدى الله. وهذه الصلاة هي تقدمة إرادتنا في المحبة لإرادة الله. وحين يسلم المسيحي حياته لله في المحبة، تصبح مقبولة لدى الله. ونتذكر هنا الصلاة التي علمنا إياها يسوع: "لتكن مشيئتك على الأرض (أي بيننا) كما في السماء".
ب- مملكة كهنوتية
ونعود الآن إلى نصّ رسالة بطرس الأولى (2: 5) وسفر الرؤيا (1: 6؛ 5: 10؛ 20: 6)، فنتوقف عند تفصيلين يلفتان النظر.
الأول: إن لفظة "كهنوت" تؤخذ في معنى جماعي لا في معنى فردي، فتدل على "مجموعة المؤمنين" أو على الكهنة بشكل إجمالي. هذا يبرز الوجهة الجماعية في الكهنوت المسيحي فيجعلنا نتكلم عن شعب كهنوتي. يتحدث بطرس عن هذا "الكهـنوت المقدس" على أنه بناء روحي مبني بحجارة حية. وتتحقق ذبيحة حياتنا عبر جسد المسيح بكليته، وحين نتحد بالمسيح الرأس.
المسيحيون هم كهنة بقدر ما يؤلفون جسد المسيح. ودلنا القديس بولس أيضاً على أن ذبيحة المسيحيين الروحية لا تكون مقبولة لدى الله إلاّ عبر يسوع المسيح.
الثاني: هناك علاقة بين الكهنوت والملكوت. هذا ما نجده في نصوص سفر الرؤيا. ذكرنا 1: 6. وفي 5: 10 نقرأ: "أيها المسيح الحمل جعلت منا ملكوتاً وكهنة لإلهنا". وفي 20: 6: "يكون المؤمنون كهنة لله والمسيح ويملكون معه".
في رسالة بطرس، إرتبط الكهنوت بالملكوت بواسطة التقليد الكتابي. فالعبارة "كهنوت مقدس" تعود ثلاث مرات في التوراة اليونانية (خر 19: 6؛ 23: 22؛ 2 مك 2: 17 (أعطى الشعب الأرض والملك والكهنوت).
نقرأ: "الآن إن سمعتم كلامي وحفظتم عهدي، فأنتم تكونون شعبي الخاص بين جميع الشعوب. فالارض كلها لي. وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة".
تشير رسالة بطرس الأولى (2: 5) إلى أن نبوءة العهد القديم هذه قد تمّت في العهد الجديد. ونصوص العهد الجديد الأربعة التي ذكرنا ترتبط بالملكوت. فالمسيحيون هم كهنة وفي الوقت ذاته ملكوت. ومن المستحيل أن نفهم هذا الملكوت إذا حرمناه من طابعه الحقيقي. أي إذا لم نرجعه إلى البناء الذي يؤلفه المسيحيون، هؤلاء الحجارة الحيّة. وهذا البناء هو تاريخ الكون نعمل فيه، هو العالم نزرع فيه كلمة الله، هو أورشليم الجديدة والملكوت الآتي. وهكذا يحمل المسيحيون كهنوتهم حين يكرسون العالم كله لله.

خاتمة
كيف يكون المسيحيون شعباً كهنوتياً وحجارة حية في بناء جسد المسيح؟ بنشاطاتهم وصلواتهم وأعمالهم الرسولية، بحياتهم الزوجية وتعبهم اليومي وراحتهم الروحية الجسدية. إن احتملوا كل هذا بالصبر يصبحوا قرابين روحية مرضية لله في يسوع المسميح. وهكذا نكون كهنة مع المسيح الكاهن الأعظم الذي قدم نفسه مرة واحدة ليزيل خطايانا ويمنح الخلاص للذين ينتظرونه.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM