الفصل السادس والعشرون: سر الافخارستيا أو القربان المقدس

الفصل السادس والعشرون
سر الافخارستيا أو القربان المقدس

سر الإفخارستيا هو في قلب الحياة المسيحية. تأسّس خلال العشاء الأخير، فاحتفلت به الكنيسة الأولى منذ البداية. وهو يتضمّن في شكل من الأشكال كل غنى الخلاص بواسطة المسيح. أما موضوعنا فيتوقف عند نصوص التأسيس، عبر الاطار الفصحي، وعند معنى الفصح المسيحيّ. ونتذكّر العشاء الأخير فنجعله في إطاره التاريخي لنفهم بُعد الأقوال التي تلفّظ بها يسوع والاعمال التي قام بها.

1- النصوص
هناك أربعة نصوص تتحدّث عن الافخارستيا: ثلاثة في الأناجيل الإزائية، ورابع في رسالة القديس بولس الأولى إلى أهل كورنتوس (11: 23- 25): "فأنا من الربّ تسلّمت ما سلّمته إليكم، وهو أن الربّ يسوع في الليلة التي أسلم فيها أخذ خبزاً وشكر وكسره وقال: هذا هو جسدي، إنه لأجلكم، إعملوا هذا لذكري. وكذلك أخذ الكأس بعد العشاء وقالت: هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي كلما شربتم. فاعملوا هذا لذكري".
ويَردُ خبر العشاء في مت 26: 26- 28: "أخذ يسوع خبزاً وباركه وكسره وناوله لتلاميذه وقال...". كما يَردُ في مر 14: 22- 25 في خطّ ما قرأنا في إنجيل متى. وفي لو 22: 19 نقرأ: "أخذ خبزاً وشكر وكسره وناولهم وقال: هذا هو جسدي الذي يبذل لأجلكم. إعملوا هذا لذكري".
وحدّثنا يوحنا أيضاً عن العشاء الأخير الذي أخذه يسوع مع أخصّائه ليلة آلامه (يو 13: 17). ولكنه لم يشُر إلى تأسيس الافخارستيا. أيكون قد اكتفى بما قاله سابقوه، فتوسّع بالاحرى بمواضيع أخرى تدلّ على حبّه المتسامي: غسل الأرجل والوداع الأخير. ونزيد أنه تكلّم عن الافخارستيا في نصّ يرد بعد تكثير الخبز (يو 53: 58): "من أكل جسدي وشرب دمي فله الحياة الأبديّة. جسدي هو طعام حقيقي، ودمي شراب حقيقي من كل جسدي وشرب دمي يثبت فيّ وأنا فيه".
إن الأخبار الأربعة (عن تأسيس الافخارستيا) كما نجدها عند الإزائيين والقديس بولس، لا تشكّل أربعة مراجع يستقل فيها الواحد عن الآخر. إن نصّ متى يرتبط بنصّ مرقس، ونصّ لوقا هو نتيجة بناء تدويني جمع فيه الانجيل الثالث تقليد مرقس وتقليد بولس (1 كور) ليصل إلى توازٍ رائع يقابل فيه الفصح اليهودي بالفصح المسيحي، ويُحلّ محل الحمل والكأس في الطقس القديم (لو 22: 15- 18) الخبز والخمر في الطقس الجديد. نحن هنا في جوّ العهد الجديد. وذبيحة يسوع (دمه) تدشّن زمن الخلاص.
ويبقى أمامنا شاهدان، مرقس وبولس. لا نجد ارتباطاً أدبياً مباشراً بين النصّ والآخر. بل نحن أمام تقليدين متوازيين يشاركان في سمات مشتركة، لأنهما يعودان إلى ينبوع مشترك. ومن يمثّل هذا الينبوع أفضل تمثيل؟ مرقس. فالرنة الآرامية تدل على أصل فلسطيني عتيق جداً. أما بولس فهو ينقل تقليد كنيسة هلنستية (تحضّرت بالحضارة اليونانية) مثل أنطاكية أو غيرها من المدن اليونانية.
ثم إن نصَّي مرقس وبولس يمثّلان تقليدين لتورجيين: فالخبران اللذان نجدهما يوردان الكلمات التي كانت تقال في جماعة أورشليم أو في جماعة انطاكية، حين يعيد المسيحيون ما عمله يسوع وقاله في الليلة التي أسلم فيها. حين نقرأ نصّ بولس نجد أننا أمام نصّ تقليدي وثابت: "أنا من الربّ تسلّمت ما سلّمته إليكم" (1 كور 11: 23؛ رج 15: 3). كما أن الشرّاح لاحظوا أن مر 14: 22- 25 لا يتكيّف تكيّفاً تاماً مع الإطار الآنيّ. فإن آ 22 تعيد ما قيل في آ 18. وغياب أي تلميح إلى الحمل الفصحي يدهشنا بعد الاستعدادات في آ 12- 16 (عيد الفطير، تذبح الحملان، عشاء الفصح).
نجد عند مرقس وبولس نصّاً مجرّداً من كل الصور، نصّاً اكتفى بجوهر الأمور وتحاشى التوسّعات، نصاً لم يتوخّ أن يورد تفاصيل العشاء الأخير. نحن لسنا أمام تحويل الأمور وتشويهها، بل أمام تبسيط وإيجاز. حين كرّر المسيحيون الأولون عشاء الرب، احتفظوا فقط بالفعلات الهامة، أي تلك التي حمّلها يسوع قيمة جديدة بعد أن أغفل كل ما تعدّاه الزمن على مستوى الطقس القديم. هذه الملاحظة الأدبيّة مهمّة على صعيدين: الأول نكتشف في نص لوقا أو بولس التعابير التي استعملتها الجماعات الأولى للاحتفال بالافخارستيا، وهكذا نتيقّن من صحّة هذه النصوص وسلطتها على مستوى الايمان. الثاني، حين نعتبر أن هذه التعابير لا تظنّ أنها تستطيع أن تقول لنا كل ما حدث في عشاء يسوع الأخير، نسمح لنفوسنا أن نبحث عن الإطار التاريخي الذي فيه تدخل هذه التعابير والذي منه تتّخذ كامل معناها. وبعبارة أخرى، نحن مدعوّون إلى الرجوع إلى ما وراء الاحتفال الليتورجي لنصل إلى الواقع الملموس لعشاء يسوع الأخير.

2- الإطار الفصحي
لا شكّ في أن عشاء يسوع الأخير جرى في مناخ العيد الفصحيّ. وقد استفاد المعلم من هذه المناسبة ليؤسّس هذا الطقس الجديد. فلا بدّ من وضع كلمات يسوع وفعلاته في إطار الفصح اليهوديّ لكي نفهم معناها كله.
تخبرنا الوثائق اليهوديّة القديمة كيف كان يتمّ هذا الطقس السنويّ الهامّ. كانوا يجدّدون بواسطة وليمة تذكريّة العشاء الذي أخذه العبرانيون حين كانوا في مصر، وخلال الليلة الشهيرة التي فيها خلّص الربّ شعبه من عبوديّته الطويلة. طعام أخذوه بسرعة، كانوا واقفين، أحقاؤهم مشدودة. نعالهم في أرجلهم، عصيّهم في أيديهم وهم يستعدّون للسفر (خر 12: 11). أما اليوم فهم أمام طعام احتفالي يأخذونه وهم متمدّدون على الأسّرة كأناسٍ أحرار لا كعبيد. تظهر فرحة النجاة بعظمة الوليمة وبمدلول مختلف المراحل التي تفسّرها كلماتٌ موافقة. في البداية يُباركُ العيد وتُبارك الخمرة الموضوعة في كأس أولى. ثم يغسلون اليد اليمنى ويأكلون (قبل الطعام) أعشاباً مرّة يغمسونها في صلصة مالحة ويمضغونها على مهل فيتذكّرون سنوات العبودية. بعد هذا يجيء القسم المهمّ في العشاء. ولكن قبل البداية، يذكر رب العائلة معنى العيد ورمزيّة الأطعمة المختلفة التي تؤكل فيه: الخبز الفطير يذكّرهم بالخبز الذي لم يختمر ليلة الخروج بسبب العجلة في الرحيل. والحمل يعود بهم إلى الفصح الأول حيث الدم الموضوع على أبواب البيوت حفظَ العبرانيين من الملاك المدمّر (خر 23: 12). والخمر ترمز إلى الفرح والشكر المقدّم لله بسبب إحساناته. وبعد هذا الارشاد الذي يتوسّع فيه رب البيت قدر ما يشاء، كانوا يتلون القسم الأول من مزامير الهلل، ثم يشربون كأس خمر ثانية وبغسلون أيديهم. حينئذٍ يبدأ العشاء الرئيسي الذي فيه يؤكل حمل الفصح والخبز الفطير. كان رب العيلة يُبارك الخبز ويكسره ويوزّعه على المدعوين. وفي النهاية يبارك كأساً ثالثة تمرّ على المدعوين. وهكذا ينتهي العشاء الفصحي بصلاة الهلل: "لا لنا يا رب لا لنا، لكن لاسمك أعطِ المجد من أجل رحمتك وأمانتك" (مز 115- 118).
نستطيع أن نضع تذكّرات الانجيل في هذا الاطار من الطقس اليهودي. فإعلان خيانة يهوذا يحدّد موقعُه في ما قبل العشاء (مت 20: 26- 25؛ مر 14: 17- 21). واللقمة التي غمسها يسوع لكي يعطيها للخائن (يو 13: 21- 23) تألّفت من الاعشاب المرة التي تغمّس في صلصة مالحة. ولكننا لم نصل بعد إلى الافخارستيا. فيهوذا خرج قبل "الحفلة" الأولى، أي قبل تأسيس الافخارستيا. كما نقرأ في يو 13: 30: "وتناول يهوذا اللقمة وخرج في الحال وكان ليلاً". وغسلُ الارجل الذي يرويه الانجيل الرابع، يوافق الغسل الذي يتمّ قبل الطعام: استفاد يسوع من طقس التطهير هذا ليعطي مثالاً عن تواضعه ومحبّته (يو 2: 13- 15؛ رج لو 22: 42- 72). والكلمات على الخبز والخمر اللذين وزّعهما يسوع على تلاميذه، قد أخذت من المباركتين (مبارك أنت يا الله) الاحتفاليتين اللتين تحيطان بالقسم الرئيسي من العشاء. أما أكل الحمل الفصحيّ فقد زال نهائياً من الخبر، لأنه زال من ممارسة المسيحيّين الأولين، فلم يبق في الافخارستيا إلاّ فعلتان حمّلهما يسوع معنىً جديداً كانتا منفصلتين (قال بولس: بعد العشاء)، فاجتمعتا الآن في إيجاز ليتورجي. وتبدّل موضع الكلمة الاسكاتولوجية، الكلمة التي تدلّ على نهاية الزمن فتقول: "لا أتناوله (هذا العشاء) حتى يتمّ في ملكوت الله" (لو 22: 16). فهذا القول الذي به يودّع يسوع خمور الأرض بانتظار الخمر الجديدة التي يشربها مع أخصّائه في ملكوت الله، قد جعله مت 26: 29 ومر 14: 25 بعد الكلمات الافخارستية حين جعله لوقا قبل هذه الكلمات وبشكل انفصال عن الطقس القديم، طقس الفصح اليهودي: لن يأكل يسوع بعد اليوم من هذا الفصح، أي من هذا الحمل (آ 15- 16)، ولن يشرب من هذه الخمرة (آ 17- 19). فهناك خبزٌ آخر وخمرةٌ أخرى ستشارك فيها الكنيسة حتى نهاية الأزمنة.

3- معنى الفصح المسيحي
كانت كلمات ربّ العائلة تعطي فعلات الطقس الفصحيّ كل معناها. وإن يسوع لعب خلال العشاء الأخير دور ربّ العائلة، فكشفت لنا كلماتُه نواياه حين استعاد الطقس القديم وحوّله.
أ- يسوع يعطي حياته ذبيحةً
أول تعليم نستنتجه من كلمات يسوع كما فهمها التلاميذ هو أنه سيموت باذلاً نفسه (حياته) من أجلهم. فمرّات عديدة وخلال أيامه الأخيرة، جعل تلاميذه يستشفّون بشكل يوضح يوماً بعد يوم الحدث القاسي الذي ينتظره في أورشحليم: سيسلّمه رؤساء اليهود ويموت بيد الوثنيّين. ولكن التلاميذ لم يستطيعوا أن يفهموا. وفي ليلة آلامه عاد إلى هذا الموضوع ملحّاً ومشدّداً. بدأ يقول لهم بأن هذا الطعام هو الأخير الذي يأخذه معهم: "لن أشرب من عصير الكرمة" (مر 14: 25). "كم اشتهيت أن أتناول عشاء هذا الفصح معكم قبل أن أتألّم" (لو 22: 15). والالم لا يعني فقط محنة عابرة، بل آلاماً ستنتهي بالموت. ثم جعل أمام عيونهم هذا الموت القريب، فدلّهم على جسده ودمه تحت أعراض الخبز والخمر. فهذان العنصران غنيّان بالرموز: يُكسر الخبز لكي يوزّع. والخمر هي دم العنقود (تك 49: 121) الذي تفجّر من عنب تدوسه الأرجل (أش 63: 1- 6). ولونه الأحمر (يفرضه كتاب الرتب) يدلّ على هذه الرمزيّة. و"الكأس" هي أيضاً التعبير التقليدي عن مصير مأساوي (مر 10: 38؛ 14: 36؛ رؤ 14: 10؛ 16: 19). ثم إن الفصل بين الخبز والخمر يشير إلى الفصل بين الجسد والدم، يشير إلى الموت.
وهذا التعليم الغني الذي نكتشفه عبر الفعلات، يظهر في غنى أكثر في الكلمات. فهذا الجسد "يُبذلُ لأجلكم". هذا ما نقرأه في لو 22: 19. ونقرأه في 1 كور 11: 24: "يُكسر لأجلكم". ويورد الإزائيون الثلاثة كلمة يسوع على الدم "الذي يسفك من أجلكم" (لو 22: 20)، "يُسفك من أجل الكثيرين" (مر 14: 24؛ مت 26: 28) أي من أجل جميع البشر. فيسوع لا يُعطي فقط الخبز والخمر بشكل طعام وشراب. فلكي يستطيع أن يهبهم، بدأ فأعطى جسده ودمه أي حياته. لقد أعطى حياته للآب كذبيحة تكفير ومصالحة. إنتقل من هذا العالم إلى الآب (يو 13: 1). هذا ما ستقوله لنا كلمات يسوع.
ب- دم يسوع يختم الميثاق الجديد
في أخبار التأسيس الأربعة، ربطت الكلمة على الخمر الدم مع الميثاق (أو: العهد) في شكلين رئيسيين. "هذا هو دمي، دم العهد الجديد" (مرقس، متى) "هذه الكأس هي العهد الجديد بدمي" (بولس، لوقا). العبارة الأولى تبدو قديمة وهي ملوّنة بلون آرامي. ولكن العبارتين تعنيان في النهاية الشيء عينه. فالعهد، حسب النظرة السامية، يُعقدُ في الدم أي في تقدمة الذبائح (تك 15: 17). هذا ما حدث مع إبراهيم. ومع موسى الذي رشّ نصف الدم على المذبح والنصف الثاني على الشعب فقال:، هذا هو دم العهد الذي عقده الله معكم" (خر 24: 5- 8). هذا العهد هو ما يتذكّره عيد الفصح، كما يتذكّر الخلاص من العبودية. ويسوع، حين قال ما قال، أفهمنا أن ذبيحة جديدة حلّت محل الذبيحة القديمة: ذبيحة موته. وهكذا تأسّس عهد جديد كما يقول لوقا وبولس. فالميثاق القديم صار لاغياً، لا لأن الله تراجع، بل لأن الشعب خان ربّه. تمرّد وعصى فكان له العقاب. ولكن حين كان الله الأمين والرحيم يُعاقب شعبه، فقد كان يعده بالغفران في المستقبل بإعادة أفضل العلاقات مع ربّه (إر 31: 31- 34).
سيعود الشعب إلى معرفة الله الحقيقية وإلى حبّه. وهذه العودة تدلّ على ملكوت الله، هذا الملكوت الذي أعلن يسوع مجيئه القريب، الذي أعلن أنه سيقيمه بشكل نهائي. وبما أن العهد يطلب الدم، فهو يعطي دمه، لا ليهدّىء إلهاً قاسياً غاضباً، بل ليقدّم برهاناً عن حبّ الله للبشرية. "هكذا أحبّ الله العالم حتى وهب ابنه الوحيد" (يو 3: 16). أجل، لقد أرسله الله كـ "عبد" يُضحّي بذاته عن إخوته. وهذا ما تعبّر عنه أيضاً أقوال يسوع خلال العشاء السرّي.
ج- يسوع هو "عبد الله" المتألّم عن الخطأة
طلب الله تكفيراً. ولكنه ظلّ محبّاً إلى درجة جعلته هو يقدّم الضحيّة. وهذه الضحيّة قد أخبر بها مسبقاً في أشعيا من خلال سمات "عبد يهوه" (خادم الربّ وعابده): هو "رجل الالام". بريء ولكنه مضروب من الله... طُعن بسبب خطايانا وسُحق بسبب آثامنا (أش 53: 2- 5). أفهمنا يسوع مرّات عديدة خلال حياته العلنية أنه ذاك "العبد" المتألم (مت 11: 4- 6؛ 20: 28). وهنا في وصيّته الأخيرة، نستشفّ كلمات أش 42: 6: "جعلتك عهداً للشعوب ونوراً للأمم". وأش 53: 12: "لذلك أعطيه نصيباً مع العظماء، وغنيمة مع الجبابرة. بذل للموت نفسه وأحصيَ مع العصاة، وهو الذي شفع فيهم وحمل خطايا كثيرين".
نستشفّ صدى هذه النبوءات على شفتَي يسوع: "هذا هو دم العهد الذي يُسفك من أجل الكثيرين". إذن، يسوع هو "عبد الله"، وموتُه القريب يتمّم المهمة التى عُيّنت له: أن يتألم عن الخطأة (يقول متى: "لمغفرة الخطايا"). أن يتألم عن اليهود والوثنيّين، عن جميع البشر. ولفظة "كثيرين" تدل على عدد كبير جداً، عدد لا يستثني أحداً.
قال أش 49: 5: "جعلتك نور الأمم وخلاصاً إلى أقاصي الأرض". ووُسع هذا الخلاص قد أخذ به يسوع، وحصر البشرية على مدّ الزمان والمكان في "الكثيرين" الذين لأجلهم يعطي حياته "فدية" (مت 20: 28؛ مر 10: 45).
د- يسوع يعطي حياته طعاماً
وهذه القيمة التي يرتديها موت المسيح كذبيحة تكفير وعهد، لم تظهر فقط في التعليم والكلمات. فيسوع قد جعلها أيضاً في الطعام والشراب. "خذوا فكلوا". "إشربوا كلكم". نحن هنا أمام شيء جديد يتجاوز التعليم الروحي ويقدّم شكلاً آخر من الاتصالي مع الذبيحة التي أعلن عنها. شكل حميم بالنسبة إلى الطبيعة البشريّة، وهو "هضم" الطعام الذي يصبح من جوهر الانسان. فمهما تكون صورة الخبز والخمر معبّرة، فهي لا تكفي لتفسّر دورهما هنا. فيسوع لا يتوقف عند الصور، بل يحدّثنا عن طعام. نحن في مأدبة دينيّة فيها ينال الطعام فاعليّة ليتورجيّة. فطقوس الذبائح في العالم القديم تضمّنت أكل قسم من الضحيّة المقدّمة. وهكذا يتّحد الانسان باللاهوت ويدرك ثمار البركة المرتبطة بالتقدمة.
ونقول الشيء عينه عن العشاء الفصحي: فالمشاركة في الاعشاب المرّة والخبز الفطير والحمل، تشكّل الطقس الأساسي: لسنا فقط أمام تذكّر بسيط يرافقه عيد عائلي، بل وسيلة بها يتّحد المؤمن بأحداث الخروج وبالخلاص العجيب الذي ما زال الله الحي يقدّمه لشعبه. فالكلمات التي يتلفّظ بها رب العائلة على الأطعمة المختلفة، يمنحها قوة جديدة. وحين يأكلها المدعوون، فهم يستفيدون بشكل شخصيّ من خيرات نَعِمَ بها آباؤهم في الماضي.
هذا ما ننتظره أيضاً من الطقس الجديد الذي جعله يسوع في إطار هذا الفصح القديم، بل ننتظر أكثر بسبب سرّي التجسّد والفداء، اللذين يحملان فاعليّة أين منها فاعليّة الخروج من مصر.

خاتمة
إذا كان يسوع قد أسّس الافخارستيا، فلكي يبقى مع البشر حتى نهاية العالم. لا بروحه فحسب، بل بجسده، بجسده الذي صُلِب وقام لأجلهم. هذا الجسد الذي منه تتفجّر كما من ينبوع كل حياهم الجديدة. هناك حضور في الزمن بين ماضي الصليب ومستقبل مجدنا السماوي. وهناك حضور في المكان، يلامس جسدنا بشكل حقيقي وواقعي، فيجعلنا نتقبّل جسد الرب نفسه. وبما أن هذا الجسد القائم من الموت هو موضع عالم جديد، فنحن نلتقي بالمسيح في جسده الكنسي حضوراً يصل بنا حتى المشاهدة في السماء.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM