سفر راعوت

سفر راعوت

كيف تبقى كلمة الله حية تحكينا اليوم وتغيّر حياتنا وتلتقينا في منعطفات ايامنا المليئة تساؤلا؟ هذا مصير هذه الكلمة الأبداً فعالة لأنها مكتوبة بروح الله الخلاّق. كلمةٌ جديدة بروحها رغم مبناها المقرون بصبغة الماضي وطرقه التعبيرية.
قراءتنا لسفر راعوت هذه، قراءة جدّ متواضعة. طموحها متواضع وبسيط ألا وهو أن نستجلي كيف تطالنا اليوم كلمة الله وهي المكتوبة في الماضي. وبالتالي ما الجديد القديم الذي يريد روح الرب ايصاله الينا اليوم ليكون لنا حياة "وتكون الحياة وافرة" فينا؟
تندرج قراءتنا فى لوحتين:
1) سفر راعوت في بعده الكتابي.
2) سفر راعوت ووجه المرأة اليوم.
1) سفر راعوت في بعده الكتابي:
سفر راعوت ينتمي إلى "الكتابات"، وفرادته مزدوجة المعنى: فهو يلقي الضوء على دور الأجنبية من جهة، ويفتح آفاقاً واسعة على قيمة المرأة ودورها في تدبير الله من جهة أخرى. وهو على قصره مليء بالرموز والصور الكتابية التي تربط ما بين عقلية العهد القديم وجدّة العهد الجديد التي تشرِّع الأبواب أمام امرأة ممتلئة نعمة تدعوها السماء لتصير أول بيت قربان لابن الله المتجسد.
سفر راعوت يعتبر بحق نقطة تحول، نقطة تهريب في نموّ البشرية نحو مطلقها.
السفر بحد ذاته مؤلَّف بسيط وقصير، هو قصة امرأة اسمها راعوت أبت أن تترك حماتها بعد موت زوجها، وبقيت أمينة لشعب زوجها وإيمانه. وهذه اللوحة الموزعة في فصول أربعة هي قصة ايمان وتعليم تقرأ في الأعياد اليهودية المهمة كالحصاد، والفصح وعيد الأسابيع أو العنصرة، وعيد المظال والفوريم.
يستمد سفر راعوت اسمه من بطلة الرواية، وهو يروي قصة أسرة هاجرت من بيت لحم إلى أرض موآب. وسبب الهجرة هو الجوع. ولم يلبث اليملك، زوج نعمي، ان مات هناك، هو وابناه محلون وكليون اللذان كانا قد تزوجا امرأتين وثنيتين من موآب، راعوت وعرفة. وبعد عشر سنين، عادت نعمي إلى بيت لحم ترافقها راعوت، في حين ان عرفة عادت إلى شعبها. ذهبت راعوت تلتقط السنابل في حقل بوعز، فاستقبلها بوعز بعطف. كانت نعمي تعم بأن لبوعز على راعوت حقّ القرابة، فأشارت على راعوت ان تحثّ بوعز على الزواج منها. فلبّى بوعز طلبها، وبعد ان تخلّى عنها قريب أقرب منه، اتخذ راعوت زوجة له. فولدت له ابناً، وهو عوبيد، أبو يسَّى، أبي داود.
سفر راعوت وحدة أدبية تعتبر رائعة من روائع الأدب تنساق الرواية في انسجام كامل: هناك أربعة مشاهد (1/6- 18 و2/1- 17 و3/1- 15 و4/1- 12) يسبقها مدخل (1/1- 5) وتليها خاتمة (4/13- 17).
وهو مليء بالصور الكتابية والتوازي والسجع والمجانسات الصوتية في اسماء العلم: اليملك (الهي ملك)، نعمي (جميلتي) ومحلون (مرض) وكليون (زوال) وعرفة (قفا العنق الذي يديره الإنسان عند الانصراف وترمز إلى الارتداد) وراعوت (المشدّدة وتنبئ بالتعلق والتأييد). اسم بوعز (فيه قوة) يبعث الأمل واسم مرة (يعبر عن الشدة). أما عوبيد فيعني العبد، أي عبد الله.
2) سفر راعوت ووجه المرأة اليوم:
السؤال المطروح علينا يبقى محور قراءتنا لكلمة الله: كيف وبم تطال هذه الكلمة حياتي أنا وكيف تترجم؟ هذا هو المحور في قراءتنا للكتاب، وخاصة في كتب العهد القديم التي يصعب على فكرنا تخطي ظاهرها المليء بالتقاليد القديمة والبعيدة عن عقلية عالمنا اليوم.
سفر راعوت كلمة حياة لحياتي أنا اليوم، هذا ما تصبو إليه هذه اللوحة الثانية من هذه القراءة، وراعوت تقفز حواجز اللغة ومحدودية الشعب والشريعة لتصبح نوزجاً لإنسان المؤمن من خلال شخصية امرأة.
أ- راعوت امرأة أجنبية:
نحن نعلم ان تقليد تثنية الاشتراع (تث 23/2- 9) يحرّم على الشعب اتخاذ امرأة غريبة ويحرم قبول الغرباء وخاصة الموآبيين في شعب الله. ومع سفر راعوت نحن وجهاً لوجه أمام امرأة متزوجة على رجل يهودي، إذن مقبولة مبدئياً ومعترف بها. وليس فقط مقبولة بل في تتابع الأحداث ونهايتها نراها تدخل في سلالة داود الملك وبالتالي سلالة المسيح المنتظر. وهذا شرف عظيم يرفع من قيمة هذه المرأة الغريبة التي تشبَّه "براحيل وليئة اللتين بنتا كلتاهما بيت اسرائيل" (4/11). ولعلّ هذا المحور هو من الأهداف المهمة التي ركز عليها متى الانجيلي عندما أورد ذكر راعوت الغريبة في سلالة المسيح يسوع.
ب- واعوت المرأة المستسلمة لعناية الرب:
الأحداث التي عاشتها راعوت كافية ومبررة لردة فعل يأس وكفر واستسلام لتيار السهولة. امرأة تترك أهلها وشعبها وتلحقْ برجل يموت ويتركها وحيدة بلا نسل وبرفقة حماة أرملة. واقع تعيس يوحي بالافلاس. وأبسط ردة فعل ممكنة تجاه الإله هي نعته بالقساوة واللامبالاة أو على الأقل تجاهله لأنه عقيم وغير قادر.
ومع راعوت نرى صورة أخرى، نرى امرأة مستسلمة ببساطة الاتقياء. والمقربين من الرب لعنايته.
نراها تقبل بواقعها الجديد، تحاوره، تحاول استكشاف أبعاد بعيدة لمعيوش جد بسيط. تبقى مع حماتها وتعيش حياة كل يوم برتابتها لكنها ترى أبعد منها وكأنها تقول بمواقفها: الرب هو إله شعب زوجي. لا بد أنه اله قدير وخالق ومتن بخلقه، فلماذا لا يعتني بي أنا أيضأ؟ فهل جفت رحمته أم شاخت عنايته؟ ونرى من خلال الأحداث كيف أن العناية لم تترك أي تفصيل إلا وصيّرته حلقة من سلسلة أحداث تؤدي "إلى خير الذين يحبونه".
ج- راعوت المرأة الأمينة والكاشفة لأمانة الرب:
الأمانة نفس الروح القديس. سهل علينا ان نبدأ وكلّنا حماس، لكن من الصعب أن نبقى امينين لما بدأنا به. سرّ الإيمان هو الأمانة لأننا لا نؤمن مرة واحدة ونبرئ ذمتنا، بل ندفع ثمن إيماننا كل يوم باعصابنا وعلاقاتنا، وكا يقول الرسول بولس: "نحن نمات كل يوم".
صفة الأمانة هي ربما الأولى في حياة راعوت، بقيت أمينة يوم تغيرت الحال وتبدلت وكأن كل أحلامها صارت حطاماً. بقيت أمينة وعنيدة، ولا يمكن للأمانة أن تعاش من غير صلابة المبدأ والإيمان. هي المرأة الصلبة رغم التحولات الجذرية التي تعيشها. يبقى في أعماقها يقين ان الأحداث من نوعية "الآن"، والإيمان يتخطى "الآن" ليطال الشمولية.
وأمانة راعوت تكشف ولو بخفر عن أمانة الأمين القدوس وحده، الذي لا ينسى دمعة ولا كأس ماء أعطي لأجل اسمه وكرامة لحبّه. وعنايته تظهر امانته. يبقى على الإنسان أن يرى علاماته ويفهمها ويترجمها وتزهر حياته نشيداً لا ينتهي.
د- راعوت امرأة تبني علاقات:
علاقاتنا تصنعنا وتعطينا وجهاً نجرؤ به ان نواجه الآخر، هذا العالم العميق الأغوار والذي لا ننتهي من اكتشافه. وسر نجاحنا، ولو بشرياً، هو سر قدرتنا على بناء علاقات هي بمثابة جسور تقينا من الغرق أيام الغربة والوحدة وتراخي القوى العلائقية المتبعة. علاقاتنا هي نسيج المحاولات الغالي ثمنها نلبسها أيام العري، وهي خبز سنين الخير لأيام الجوع. راعوت امرأة العلاقات المبنية على أسس ثابتة، لا كمن يغيّر ثوبه بحسب الأيام والمناسبات. علاقتها بحماتها وزوجها الذي رحل علاقة الوفاء والثبات مهما تغيرت الأيام. علاقتها ببوعز علاقة الحب الشريف والكريم. وعلاقتها الأجمل هي علاقة بهذا الإله الذي تتعرف إليه وتتلمس حضوره وعمله من خلال تفاصيل بسيطة ورتيبة.
راعوت المرأة التي تعرف ان العلاقات تبنى على الصدق والبساطة. وقبول الحب الآتي اليها من الآخر، هي من فقراء يهوه المنتظرين الحب كما الأرض المشققة تنتظر ماء السماء. تقبل ان تحب وهذا سر العلاقة التي تدوم وتتحدى مستجدات الأيام، وتؤمن أن من يحب لا يموت.
هـ- راعوت وقيمة المرأة:
على عكس ما نظن، العهد القديم يقيّم المرأة ويعطيها حقوقاًَ لم يعطها للرجل فهي التي تعطي حق الانتماء للشعب اليهودي. وقبلها الشعب معلمة وقاضية له في صورة دبورة مثلا...
لكن العهد القديم، على تقييمه للمرأة، لم يتخطَّ كونها حواء، أم الأحياء، وعاملها على هذا الأساس. فمرذولةٌ المرأة التي لا تنجب، وقِسمة الأرملة أن تنتقل من أخ زوجها إلى اخوته بغية إقامة نسل للمرحوم، وهي تُشترى تماماً كالحقل أو قل هي تلحق به. وإذا مات زوجها يُطلَق سراحها وتُعتَق، وتترك البيت وكأنها ما كانت. راعوت امرأة آتية من العهد القديم لكنها ترى ظلال عهد مبهم بالنسبة إليها وكأنه صدى لصوت سوف تسمعه مريم ويصير فيها تجسداً. راعوت تتخطى واقع شراء. وتخلق واقعاً آخر هو واقع النوعية يعترف به بوعز حين يقول لها: "باركك الرب يا ابنتي، لأن امانتك الأخيرة خير من الأولى، إذ لم تسعي وراء الشبان، فقراء كانوا أو أغنياء. والآن لا تخافي يا ابنتي ومهما قلت فأنا افعله لك" (را 3: 10- 11).
ومن واقع حواء التي تلد وتقيم النسل تدخل راعوت في جوّ آخر هو الانتماء إلى سلالة المسيح الآتي.
الاخت جهاد الأشقر
راهبة انطونية علما- لبنان

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM