الفصل العشرون: أمومة مريم الروحية

الفصل العشرون
أمومة مريم الروحية

حين نقرأ يو 19: 25- 27: "وكانت واقفة عند صليب يسوع، أمه وأخت أمه..."، نكتشف معنى جديداً حول أمومة مريم. لقد فسّر الآباء مشهد مريم والتلميذ عند الصليب، في معنى أخلاقي. رأوا في هذا المشهد علامة تقوى بنويّة أظهرها يسوع تجاه أمه: قبل أن يموت، سلّمها إلى تلميذه الحبيب. ومن جهة ثانية، اعتبر الآباء أنّ مريم هي نموذج الكنيسة. وسننتظر بعض الوقت ليتحدّث الشرّاح عن أمومة مريم الروحيّة، في هذا المقطع الانجيلي.

1- الإطار المسيحاني والكنسي
إن الإطار المسيحاني والكنسيّ في يو 19: 25- 27 يعرّفنا بشكل أدق إلى طريقة التأليف في الإنجيل الرابع، وإلى فهمٍ أعمق للعلاقة الوثيقة بين الأحداث التي حصلت على الجلجلة وهو يبيّن لنا أن مشهد مريم والتلميذ عند الصليب يرتبط بما سبقه من آيات (القميص غير المخيّط) وبما تبعه (تمّ كل شيء). إنّ هناك إطاراً مسيحانياً وكنسياً يساعدنا على إدراك معنى هذه الآيات.
أ- مقارنة مع مشهد الأعراس المسيحانيّة
هناك علاقة بين عرس قانا (يو 2: 1- 13) ومشهد الصليب. في عرس قانا الجليل، توجّه يسوع إلى أمّه وسمّاها "امرأة". ونحن نقرأ هذا اللقب المسيحاني في خلفيّة نبوءات العهد القديم عن ابنة صهيون. وفي عرس قانا، قال يسوع: لم تأتِ ساعتي بعد، فدلّ بطريقة ضمنيّة، على ساعة موته وتمجيده على الصليب. فعلى الصليب سيعطي بوفرة الخمرة الجيّدة، خمرة خيرات الخلاص وملء الوحي.
هذان المشهدان (عرس قانا ومشهد الصليب) يضمّان كلّ حياة يسوع العلنيّة. ولقد قال أوغسطينس في هذا المجال: "هي الآن الساعة التي تكلّم عنها يسوع، حين قال لأمه، قبل أن يحوّل الماء خمراً: ما لي ولك، يا امرأة؟ لم تأتِ ساعتي بعد. هذه الساعة التي لم تكن بعدُ قد أتت. والساعة التي أعلنها، هي الساعة التي فيها سيتعرّف في ساعة موته إلى التي وُلد منها كمائت".
ب- مشهد القميص غير المخيط
هناك رباط بين مشهد مريم والتلميذ عند الصليب، وبين مشهد القميص الذي لم يشقّه الجنود. نقرأ في آ 24 ب: هذا من جهة ما فعله الجنود. وفي آ 25: ومن جهة ثانية، وقف عند صليب يسوع.
ولقد رأى التقليد دوماً، في مشهد القميص الذي لم يشقّ ولم يُقسّم، رمزاً كبيراً عن وحدة الكنيسة. ما لم يفعله الجنود: لم يقسموا، لم يشقّوا. لا يقول النصّ: لم يمزّقوا. ويرى الإنجيلي في النصّ إعلاناً لما سيتحقّق في المشهد اللاحق: تتكوّن الجماعة المسيحيّة في الوحدة، عند الصليب. ومريم والتلميذ هما الصورة المسبقة. فبعد انشقاق اسرائيل القديم، حقّقت ابنة صهيون الآن وحدتها في شعب الله الجديد. هذا لا يعني أن الكنيسة لن تعرف الانقسامات، بل أن شعب الله قد تجاوز، في وقت ولادته، الانقسامات الماضية وأعيد إلى الوحدة في المسيح، على الصليب. ولقد قال الشرّاح: إذا كنّا نرى في القميص غير المقسّم رمزاً عن وحدة الكنيسة التي يجمعها يسوع بموته، نستطيع أن نرى هنا صورة عن هذه الوحدة.
هنا نعود إلى التفسير الذي أورده يوحنا بعد نبوءة قيافا (يو 11: 47- 52) الذي قال: إن موت رجل واحد فدى الشعب... وزاد يوحنا: "لم يقل هذا من عنده، بل قاله لأنه عظيم الأحبار، فتنبّأ أن يسوع سيموت فدى الأمّة، وليس فدى الأمّة وحسب، بل ليجمع في الوحدة أبناء الله المشتّتين". ليجمعهم في واحد، أو في مكان واحد. ليجمعهم عند الصليب. إن الوحدة تتحقّق حول يسوع، للذين يؤمنون به وينظرون جنبه المطعون (يو 19: 37). ومن سيراه؟ مريم والتلميذ الحبيب. إنّهما يمثّلان مجمل شعب الله.
ج- علاقة مشهد الصليب بالمقطع اللاحق
إن العبارة "ليتمّ الكتاب" لا ترتبط بعبارة "قال يسوع"، بل بعبارة "تمّ كلّ شيء". هذا يعني أن تمام الكتب لا يتوقّف عند قول يسوع "أنا عطشان"، بل يتحقّق في الحدث السابق، أي في مشهد مريم والتلميذ عند الصليب. إذا كان الأمر هكذا، وجب أن نقرأ: بعد هذا (أي بعد المشهد السابق)، وإذ عرف أن كلّ شيء تمّ ليتمّ الكتاب، قال يسوع: "أنا عطشان" (يو 19: 28). إذن، قد تمّ الكتاب في ما قاله يسوع لأمّه وللتلميذ.
إن المدلول الرمزي لحدث القميص الذي لم يُشَقّ، تحقّق في مشهد مريم والتلميذ عند الصليب. ففي هذين الشخصين نبصر الشعب المسيحاني الذي أراد الله أن يكوّنه. هنا وُلدت الكنيسة. بهذه الطريقة، أتمّ يسوع حتى النهاية رسالته المسيحانيّة، كما صوّرتها الكتب المقدّسة. ومنذ الآن، يقدر أن يقول بحقّ: قد تمّ كلّ شيء.
وآخر عمل مسيحاني قام به يسوع، تصوّره آ: 25- 27. فهذا المشهد الذي هو في وسط خمسة أحداث تمتّ على الجلجلة، يشكّل تتمّة تاريخ الخلاص. هنا وصلت "ساعة" يسوع إلى ملئها وكمالها. وما يقوم به يسوع هنا، هو أكثر من عمل تقويّ يقوم به ابن تجاه أمه. ففي ملء ساعته، قام بعمل مسيحاني يتمّ فيه عمل الفداء ويُظهر، بطريقة نهائيّة، حبّه لنا.

2- تفسير 19: 25- 27
أ- أقوال يسوع
نتفحّص أولاً، وفي العمق، أقوال يسوع لأمه: يا امرأة، هذا ابنك وتلميذه: هذه أمك. وفي آ 27 ب ستتحقّق وصيّة يسوع الأخيرة. تكلّم يسوع فكان كلامه فعل خلق: جعل أمّه أمّ التلميذ، أمّ كلّ تلميذ وأمّ الكنيسة.
نحن في هذا المشهد، أمام رسمة وحي. فكما أن قول يوحنا المعمدان (يو 1: 36: "هوذا حمل الله"، رج 1: 21؛ 1: 47) قد كشف لتلاميذه أن هذا العابر هو مسيح اسرائيل، كلك كشف يسوع المائت على الصليب، أن أمّه (المرأة في المعنى الكتابي) هي أيضاً أمّ التلميذ، وأن هذا التلميذ سيكون ابن أمّه الخاصة كممثّل لكلّ التلاميذ. وهذا يعني بشكل آخر، أنّ يسوع يكشف بُعداً جديداً لأمومة مريم، بُعداً روحياً ووظيفة جديدة لأمّه في تدبير الخلاص. ويكشف بالمقابل، أنّ على التلاميذ أن يكونوا أبناء مريم.
يدلّ هذان اللقبان (الأم والابن) على علاقة جديدة بين أمّ يسوع والتلميذ. هذه العلاقة، أرادها يسوع نفسه في إطار الصليب المسيحاني والكنسي. هنا نتذكّر أن يوحنا يجعل الأشخاص يمثّلون الجماعات. كلّ شخص هو رمز ونموذج، إنّه يمثّل جماعة محدّدة: نيقوديمس، المرأة السامريّة، مريم ومرتا. وهكذا نقول عن مريم والتلميذ: إنّهما يمثّلان الكنيسة.
ب- التلميذ الحبيب
التلميذ الحبيب هو يوحنا، كما يقول التقليد. ولكنّ الانجيل الرابع لا يذكر اسم يوحنا، ليدلّ على أنه لا يتدخّل كشخص فرد بل كممثّل لجماعة، في علاقتها مع يسوع.
فعبارة "التلميذ الحبيب" (التلميذ الذي كان يحبّه)، تشير إلى موضوعين نجدهما عند يوحنا: وضع التلميذ، ومحبّة يسوع للتلميذ. لن نفهم هذه العبارة بمعنى حصريّ وكأنّنا أمام تلميذ واحد أحبّه يسوع وفضّله. لسنا أمام محبّة تفضيليّة لهذا التلميذ، بل أمام تفسير يجعل التلميذ في منطقة المحبّة.
إذا قرأنا الانجيل الرابع، نجد أن التلاميذ هم أصدقاء يسوع (يو 15: 13- 15). والتلميذ الحبيب يمثّل تلاميذ يسوع العائشين مع المسيح. التلميذ الحبيب، هو رجل الإيمان الذي لا يحتاج إلى براهين (يو 20: 8). إنه شاهد لسّر الصليب (يو 19: 35). ويصبح عند الصليب ابن أمّ يسوع، وممثّل التلاميذ الذين صاروا في علاقتهم بالله، إخوة يسوع (يو 20: 17). التلميذ الحبيب هو المؤمن الذي نال الروح، هو الشخص الأمين الذي يمثّل الأمانة للربّ.
ج- أمّ يسوع والجماعة المسيحاويّة الجديدة
أولاً: لقب "امرأة"
يتوجّه يسوع إلى مريم فيسميّها "امرأة" لا "أمّي". هنا نتذكّر أن "الامرأة" تشير إلى "بنت صهيون"، وهذا يدلّ بوضوح على البعد المسيحاني والكنسي لهذا اللقب. نقرأ مثلاً أش 60: 4 في السبعينيّة: "ارفعي عينيك حولك، وانظري ابناءك مجتمعين. ها إنّ ابناك يأتون من البعيد، وبناتك يُحمَلنَ على الأذرعْ". يطبّق يوحنا هذا الوضع على سّر الصليب، ويجسّده في شخص مريم والتلميذ الحبيب.
مريم هي "صهيون الأمّ" وفي شخصها الملموس والتمثيلي قد تحقّق ما أعلنه التقليد النبويّ العظيم (أش 31: 3- 14؛ با 4: 36- 37؛ 5: 5). والابن الذي صار ابنها، يجسّد بني اسرائيل الذين يكونون حولها، شعب الله الجديد، على جبل صهيون، على الصليب. ولقب "امرأة" الذي يستعمله يسوع لأمّه، أو صدى لهذا التقليد النبويّ عن صهيون الجديدة التي يرمز إليها الكتاب في شخص امرأة. كلّ هذا يجعلنا قريبين من الأمومة المسيحاويّة والاسكاتولوجيّة (في نهاية الزمن).
ونستطيع أن نقرأ هنا يو 16: 21: "إن المرأة، حين تأتي ساعتها لتلد، تحزن، لأن ساعة وضعها قد أتت. ولكن، بعد وضعها ولداً، تنسى عذابها، لفرحها أن إنساناً وُلد في العالم". في هذا النصّ، يتكلّم يسوع عن آلامه وموته، مستعيناً بصورة ألم الولادة. ونجد في هذا النصّ، كما في 19: 25- 27: المرأة، الولادة، الساعة. هذه المرأة التي تلد، هي الجماعة المسيحاويّة، هي صهيون المجسّدة في المرأة الواقفة عند الصليب. ساعة يسوع هي ساعة المرأة (صهيون) التي ستلد شعب الله الجديد الذي يمثّله التلاميذ.
ونقرأ أيضاً سفر الرؤيا (12: 1- 8) حيث نجد امرأة في ألم الولادة. يدلّ هذا النصّ على الجماعة المسيحانيّة، على الكنيسة، وهو يشير مرّتين (آ 2 و5) إلى أش 66: 7 الذي يتحدّث عن صهيون المسيحانيّة التي تلد. وتشير هذه المرأة أيضاً، إلى مريم أمّ المسيح وصورة الكنيسة. وبالموازاة مع يو 19: 25- 27، تتأكّد الوظيفة المسيحاويّة والكنسيّة التي تقوم بها مريم عند الصليب.
ثانياً: مدلول شخصّي ومدلول كنسيّ
ولكن، لا ننسى أن مريم والتلميذ الحبيب هما شخصان يحافظان على إرادتهما ووظيفتهما الشخصيّة ومدلولهما الخاصّ في سّر الخلاص. لا شكّ في أن الوجهة الكنسيّة تجعل السّر أوسع، ولكنّها لا تزيل الأشخاص وتجعلهم مجرّد رموز. فأمّ يسوع تحتفظ بوظيفة الأمومة، وعلى التلميذ الحبيب أن يصير تلميذاً حقيقياً وابناً لمريم.
لا بدّ من المحافظة على المدلول الشخصي والمدلول الكنسي لأمومة مريم. فحين صارت أمّ كلّ تلاميذ يسوع، صارت أمّ الكنيسة. ولا تناقض في كلامنا حين نقول: مريم هي صورة الكنيسة ومريم هي أمّ الكنيسة. بما أنها شخص فرد، فهي أمّ يسوع، وتصير أمنا كلّنا، تصير أمّ الكنيسة. ولكن أمومتها الجسديّة، بالنسبة إلى يسوع، تجد امتدادها في أمومة روحيّة تجاه المؤمنين وتجاه الكسيسة. وأمومة مريم الروحيّة هذه، تصبح صورة عن أمومة الكنيسة. فأمومة الكنيسة وأمومة مريم أمران مهمّان، من أجل حياة المؤمنين البنويّة.
إذا أردنا أن نصير أبناء الله، علينا أن نصير أبناء مريم وأبناء الكنيسة. إبنها الوحيد هو يسوع، ولكنّنا نصبح شبيهين به إن صرنا أبناء الله وأولاد مريم. ونتذكّر هنا نصّ مطلع يو 1: 12- 13 الذي يتكلّم عن الذي لم يولد من إرادة البشر، بل من الله. فبقدر ما نعمّق إيماننا بابن الله الوحيد، تنمو حياتنا كأبناء الله. وما قيل في المطلع، يجد تمامه في أمومة مريم الروحيّة، عند الصليب. فمريم التي حبلت بيسوع وولدته جسديّاً في سّر التجسّد، تحبل بتلاميذ يسوع وتلدهم روحياً.
ثالثاً: مريم أمّ الكنيسة ومثالها
انكشفت لنا في هذا المقطع عناصرُ عديدة: عند الصليب، دخلت مريم في مهمّة ابنها المسيحانيّة. وتمثّلت كأم لجميع التلاميذ. وهذه الوظيفة تجعلها في امتداد وظيفة ابنة صهيون، في العهد القديم. ووظيفة مريم هذه، لها طابع فردي وطابع جماعي: هي أمّ يسوع وأمّ التلاميذ. وهي أيضاً كمال الجماعة ومثال الكنيسة. والعلاقات الجديدة بين المرأة والتلميذ تتمّ قرب الصليب، بفضل كلمات يسوع، وهي الدليل على حبّ يسوع العظيم، حين جاءت ساعته (يو 13: 1). إن هذه العلاقات الجديدة تكون الأساس الحقيقي لوحدة الكنيسة.
وها نحن ننطلق من كلّ هذا لنقدّم تفسير يو 19: 25- 27. تمثّل مريم والتلميذ الحبيب الكنيسة. فأمّ الربّ والتلميذ الحبيب الذي أخذها منذ تلك الساعة إلى بيته، يمثّلان الكنيسة وأعضاء الكنيسة في "الخليقة الجديدة" التي نالت الروح القدس. كلاهما يمثّلان الكنيسة وكل بطريقة مختلفة. فالتلميذ الذي يحبّه يسوع، يرمز إلى تلاميذ يسوع، أي إلى كلّ المؤمنين، وبالتالي، إلى الكنيسة. ومريم، أمّ يسوع، ترمز إلى الكنيسة نفسها في وظيفتها كأم، وهي بهذا صورة الكنيسة وأمّ كلّ المؤصنين. نالت لقب أمّ الله وها هي تنال لقب صورة الكنيسة الأمّ. ونحن نفهم أمومة الكنيسة حين نتأمّل في أمومة مريم أمّ الربّ وأمّ التلميذ الحبيب.
ينتج عن كل هذا، أنّ تعليم يوحنا المريميّ دخل في تعليمه عن الكنيسة. قلنا سابقاً، إنّ لكلّ مشهد الصليب بُعداً كنسياً. إنه كنسيّ خاصة في القسم المركزيّ، في أقوال يسوع لمريم ولتلميذه. لهذا نستطيع أن نختتم كلامنا. نخطىء حين نقول إنّ يوحنا تحدّث عن أمومة مريم الروحيّة، كأمومة مستقلّة لا يربطها رابط بأمومة الكنيسة. لقد أبرز لوقا دور مريم العذراء كأمّ الله. أمّا يوحنا، فاهتمّ بإبراز دورها كمثالٍ للكنيسة.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM