الفصل الحادي والعشرون: مريم المختارة من الله

الفصل الحادي والعشرون
مريم المختارة من الله

في إنجيل لوقا تعلن مريم مكانتها في قلب تاريخ الخلاص، فتقول: "نظر إلى خادمته الوضيعة، وها منذ الآن تطوّبني جميع الأجيال" (1: 48). وفي الوقت عينه تفسّر سبب كل هذا. ففي نشيد التعظيم (تعطم نفسي الربّ)، كل شيء يعود إلى مبادرة الله. والمشاركة الوحيدة التي نسبتها مريم لذاتها في عمل الخلاص هي أنها الخادمة الوضيعة لله: فبإمحّائها وطاعتها وإيمانها صارت مشاركة لابنها في الفداء وفي المجد.
ونستشفّ هذا الاختيار الالهي وهذه المشاركة البشريّة في خبر البشارة التي نحدّد موقفه في لو 1- 2 وفي تلميحات العهد القديم.
1- منذ إبراهيم
أ- استعداد بعيد
إذا دخلنا في مخطّط الله، نستطيع أن نقول إن اختيار مريم يبدأ مع دعوة إبراهيم، أو حتى مع خلق آدم وحواء. نقرأ في تك 1: 26- 27 أن الله خلق الانسان على صورته ومثاله. خلقه رجلاً وامرأة. وأي بشر أقرب إلى صورة الله من مريم وابنها الذي هو صورة الله الذي لا يُرى (كو 1: 15)؟ وحين دعا الربّ إبراهيم قال له: "أترك أرضك وعشيرتك وبيت أبيك، وتعال إلى المكان الذي أدلّك عليه" (تك 12: 1). إذا كان الوارث الحقيقي لإبراهيم هو يسوع المسيح، فمريم هي حاضرة هنا. امتُدح إبراهيم من أجل إيمانه. وقالت أليصابات لمريم: "طوبى لتلك التي آمنت بأن ما جاءها من عند الربّ سيتم". (لو 1: 45). وحين يورد متى (ف 1) نسب يسوع، فهو يعود إلى إبراهيم، أبي المؤمنين. "نسب يسوع المسيح، إبن داود، إبن إبراهيم". فمن إبراهيم خرج يوسف، رجل مريم، التي ولدت يسوع الذي يُدعى المسيح (مت 1: 16). أما لوقا ليعود بيسوع إلى آدم، إبن الله. وهكذا تعود مريم مع يوسف ويسوع إلى بداية البشريّة مع آدم، وإلى بداية الشعب العبراني مع إبراهيم.
منذ البداية أقام الله "عهداً" مع آدم، ودعاه إلى حياته وحبّه. فقابل آدم هذا النداء بالرفض. فاختار الله إبراهيم ليحمل تعليمه إلى الأمم التي تتبارك باسمه (تك 12: 3 بك تتبارك جميع عشائر الأرض). ولكن كانت الخيانات عديدة في تاريخ شعب، رفض مراراً أن يؤمن بربه ويلتزم بوصاياه، فاختار الله بقيّة مؤمنة هي النسل الروحي لفقراء الربّ والمؤمنين به. تركوا كل شيء وتعلّقوا بالربّ وحده، فكانوا زهرة إسرائيل التي استقبلت المخلص: زكريا، أليصابات، سمعان الشيخ، حنّة النبيّة. وخصوصاً مريم التي هي أجمل زهرة في هذه الحديقة التي فيها يلتقي الربّ (عريس شعبه) بعروسه، أي بشعبه الخاضع له. ولكن يبقى أن عظمة مريم هي أنها أم يسوع، ودعوتها هي أن تكون أم الله. لهذا فعظمتها من عظمة ابنها الذي هو ابن الله.
ب- الحبل بلا دنس
وتدخّل الله في حياة مريم الشخصيّة، تدخلاً يعني دعوتها كأمّ. من أين جاءتها هذه النقاوة في الإيمان وهذه الجهوزية في الحب اللتين نكتشفهما في جوابها إلى الملاك؟ من الله. فهو خلقها جميلة، وخلق فيها هذا الاستعداد لكي تدخل دخولاً تاماً في مخطّطه. هذا لا يعني أن مريم هي "آلة" تحرّكها يد الله. كلا، بل هي إمرأة حرّة دعاها الله فكان جوابها "نعم" من دون تردّد. هذا ما نسميّه عقيدة "الحبل بلا دنس". فمريم جميلة كل الجمال منذ حُبلَ بها في أحشاء أمّها حنّة. فمريم نقيّة كل النقاوة، وناعمة بكل قداسة من الدقيقة الأولى لوجودها على الأرض. كيف يسمح يسوع أن يغلب الشر أمّه ثانية واحدة في حياتها؟ فهي التي داست الحيّة الجهنميّة منذ بداية الكون، فكيف للشيطان أن يخدعها كما خدع حواء وكما يخدع كل واحد منا؟ قال الربّ في بداية تاريخ الانسان مع الله: أقيمُ (يا حيّة التى تمثّل الشيطان) عداوة بينك وبين المرأة (تك 3: 15). هذه المرأة هي مريم العذراء، وبقوة ابنها آدم الجديد، ستدوس الحيّة الجهنميّة.
حين رأى النبيّ أشعيا الربّ هتف: "ويلٌ لي، لقد هلكت. فأنا رجلٌ دنس الشفتين، والذي رأته عيناي هو الملك الربّ القدير". ولكن طار إليه أحد السارافيم وأخذ جمرةً مسّ بها فمه وقال له: "أزيل إثمك وكفّرت خطيئتك" (6: 1- 7). وخاف زكريا حين ظهر له الملاك وأحسّ أنه مائت لا محالة، وأن ما "رآه" لا يصدّق (لو 1: 12). أما دانيال فسقط على الأرض بدون حراك وما عاد يستطيع أن يتكلّم حين حضر عليه الملاك جبرائيل (دا 10: 4- 19). أما مريم فبدت من "أبناء الملكوت" الذين يشاهدون كل حين وجه الآب الذي في السماوات (مت 10: 18). تلك هي إشارة أولى إلى تلك التي حبل بها بلا دنس كما قال عنها قداسة البابا بيوس التاسع سنة 1854.
أرادها الربّ له، أرادت نفسها للربّ. وتكرّست في البتوليّة. متى كان ذلك؟ هذا هو سّرها مع الله. فحين حدّثها الملاك عن أمومة تعطى لها، أجابت: "كيف يكون هذا وأنا لا أعرف رجلاً" (لو 1: 34)؟ هذا يعني أنني عذراء. وأريد أن أكون عذراء. وحين نعرف أن إنجيل لوقا دوّن سنة 85 ب. م.، أي بعد أن رقدت مريم وانتقلت إلى السماء، نفهم أن مريم استبقت كلام يسوع في الإنجيل حين تحدّث عن أولئك الذين لا يتزوّجون "من أجل ملكوت الله" (مت 19: 11- 12). ملكوت الله هو يسوع. ومريم أرادت أن تكون بكليتها في خدمة ابنها وإلهها كما عروس نشيد الأناشيد: "حبيبي لي وأنا له" (6: 3).

2- الملاك جبرائيل
وأرسل الله إلى مريم الملاك جبرائيل. أرسله ليعدّ الطريق في قلب مريم لكي تسمع نداء الربّ وتردّ على هذا النداء بكلام يدلّ على طواعيتها وتواضعها: "ها أنا خادمة للربّ فليكن لي بحسب قولك" (لو 1: 38).
أ- بلاغ حمله الملاك
وكان الذي أرسله الله، هو جبرائيل، ذاك الذي يحمل النبوءات المسيحانيّة في سفر دانيال، ويشير إلى المهلة التي تدلّ على تتمّة الاص. وحمل الملاك إلى مريم بشارة الفرح المسيحاني. "إفرحي يا بنت صهيون، ها ملكك يأتيك عادلاً ومخلصاً" (زك 9: 9- 10). "لا تخافي، يا أرض، بل افرحي، فالربّ يصنع فيك عظائم" (يوء 2: 21). "إفرحي يا بنت صهيون، لا تخافي، لأن الربّ الاله هو في وسطك، هو معك" (صف 2: 14- 17). لقد تحققت المواعيد، وحلّت البركة التي أعدّها الرب لجميع شعوب الأرض. فالعالم قد تحرّر وتصالح، فصار عالم أخوّة يشّع فيه حضور الربّ الحميم. هذا هو الجوّ الذي فيه قبلت مريم البشارة. هذه هي النصوص التي تأمّل فيها لوقا حين دوّن خبر البشارة الذي لا يدركه عقل بشريّ. فكلام الله وحده يساعدنا على الدخول في سّر الله، وأي سّر أعظم وأعمق من سّر الله.
كان قلب مريم كبيراً، فتقبّلت هذا الفرح وأنشدته باسمها وباسم شعبها، كما أنشدته باسم شعوب الأرض كلّها، وما زالت تنشده باسمنا. هي بنت صهيون، أي مدينة صهيون. هي ابنة أورشليم، أي شعب أورشليم الروحيّة، شعب الله الجديد الذي ملكه يسوع المسيح. هذه هي المرأة الملتحفة بالشمس وتحت قدميها القمر وعلى رأسها اثنا عشر إكليلاً (رؤ 12: 1). شمس البرّ هو يسوع المسيح وهو يملأها بنوره. القمر يدلّ على النقص والخطيئة، ولهذا فهي تدوسه. أما الكواكب الاثنا عشر فهي كنائس الرسل التي تنسج لها إكليلاً يجعلها سلطانة على السماوات والأرض.
ب- أمّ المسيح والمعبد الجديد
حيّاها الملاك وقال لها: "الربّ معك". هكذا كان الله مع أصفيائه في العهد القديم. قال لإبراهيم: "لا تخف، أنا أكون معك، أكون ترساً لك يحميك" (تك 15: 1). ولموسى حين حضر عليه قرب العليّة الملتهبة وأرسله في مهمّة: "أنا أكون معك، وهذه علامة على أني أرسلتك" (خر 3: 12). ولجدعون الذاهب لخلاص شعبه: "الربّ معك أيها الجبار. أنا الذي أرسلتك. أنا أكون معك" (قض 6: 12- 17).
سيكون الربّ مع مريم، لا كحضور خارجي وبعيد. سيكون في حشاها ويسندها من الداخل. الروح يحلّ عليك وقوّة العلي تظلّلك. سيكون الربّ مع مريم، لانها ستكون أمّه. عاد الملاك إلى النبوءات القديمة يحدّث مريم من ذاك الذي سيكون ابنها. "ستحبلين وتلدين ابناً تسمّينه يسوع" (لو 1: 31). هذا ما قاله ملاك الربّ لهاجر خادمة إبراهيم: "ها أنت تحبلين وتلدين ابناً تسمّينه إسماعيل" (تك 16: 1). وقال لأم شمشون: "أنت عاقر، لكنك ستحبلين وتلدين ابناً... به يبدأ خلاص شعبه" (قض 13: 3- 5). ولكن الموازاة الأهم هي مع أش 7: 14 كما أورده مت 1: 21- 23: "ها إن العذراء تحبل وتلد ابناً ويدعى اسمه عمّانوئيل" أي: إلهنا معنا. لسنا فقط أمام عاقر تأخّرت معها الأيام، ولكنها حبلت في النهاية. هذا ما حدث لسارة، زوجة إبراهيم ولإليصابات أمّ يوحنا المعمدان.
أما مريم فقد حبلت وهي بتول. كانت بتول قبل الولادة، وفي الولادة، وبعد الولادة، كما يقول التعليم العاديّ في الكنيسة. لا شكّ في أن بعض الشيع ترفض الحديث عن بتوليّة مريم. فهي كانت كسائر النساء. يفعلون هذا لكي يعظّموا ابنها يسوع، وكأنه إذا كانت مريم عظيمة أخذت من أمام ابنها بعض العظمة.
قال إفرام السرياني: أنت وحدك (يا ربّ) وأمك. فمريم تبقى فريدة بين جميع البشر. وحين قال لها الروح بلسان أليصابات: "مباركة أنت بين النساء"، فهذا يعني أنها كانت مباركة كما لم تبارك إمرأة على الأرض. كما لم يبارك إنسان، بل الملائكة في السماء. وقد قال لها الملاك: أنت مملوءة نعمة. لا شكّ في أن الله يعطي نعمته. ولكن مريم تقبّلت هذه النعمة كما لم يتقبّلها كائن بشري. كانت كلها انفتاح على عطيّة الله، فاقتبلت في حشاها ابن الله وكلمة الله.
وهكذا صارت مريم المعبد الجديد. كان معبد سليمان يدلّ على حضور الله في وسط شعبه. في هذا نقرأ أولاً عن خيمة الاجتماع التي هي صورة مصغرّة عن الهيكل: "غطّى السحاب (الغمام) خيمة الاجتماع، وملأ مجد الرب المسكن. فلم يقدر موسى أن يدخل إليه" (خر 40: 34- 35). وهذا ما حدث يوم تدشين هيكل سليمان: "ملأ السحاب هيكل بيت الربّ، فلم يقدر الكهنة أن يؤدّوا الخدمة، لأن مجد الربّ ملأ الهيكل" (1 مل 8: 10- 11). ومريم قد حلّ عليها الغمام، بل حلّ عليها الروح القدس وقوّة العلي ظلّلتها. لم تكن فقط رمزاً إلى حضور الله، بل كانت حقاً حضور الله ومن تحمله في أحشائها هو ابن الله بالذات.

3- أليصابات
كان كلامنا هذا تأمّلاً في مشهد البشارة. وها هو مشهد الزيارة يبدو امتداداً له.
أ- تكريم أليصابات لمريم
أول ما نكتشفه في مشهد الزيارة هو أن موضوع المعبد الجديد يتواصل في بداية هذا الخبر. فصعود مريم بما فيه من بهجة إلى نسيبتها أليصابات يُروى في ألفاظ تذكّرنا بصعود تابوت العهد إلى أورشليم. كان تابوت العهد يرمز إلى حضور الله وسط شعبه، كما كان يدلّ على العون الذي يحمله الله ساعة الخلاص. حمل داود "تابوت العهد" هذا وقال: "كيف أتجرّأ أن أنزل تابوت العهد عندي" (2 صم 6: 9). وهذا ما قالته أليصابات لمريم: "من أين لي أن تأتي إليّ أمّ ربيّ". وكما بارك الربّ المكان الذي جعل فيه رمز حضوره، كذلك تباركت أليصابات بحضور مريم وبمن تحمله في حشاها. فهتفت: "مباركة أنت بين النساء ومبارك ثمرة بطنك" (لو 1: 42).
هذا هو الكلام الذي وجّهه عزيا إلى يهوديت التي خلّصت شعبها: "مباركة أنت بين نساء الأرض، ومبارك الربّ الذي خلق السماء والأرض" (يه 13: 18). أما يكون هذا الابن الذي باركته أليصابات هو خالق السماء والأرض؟ قال يوحنا في إنجيله: "به خُلق كل شيء، وبغيره لم يكن شيء مما كان" (1: 3). وسيقول القديس بولس في هذا المعنى: "به (أي: بالمسيح) خُلق كل شيء، وفيه يتكوّن كل شيء" (كو 1: 16- 17).
وستكون مدائح عديدة تظهر عظمة مريم. هناك على مستوى الجسد، وهناك عظمة أخرى على مستوى الحياة مع يسوع وسماع كلمته والعمل بها. جاء الناس يقولون ليسوع: "أمّك وإخوتك يريدون أن يروك". أجابهم: "أمي وإخوتي هم الذين يسمعون كلام الله ويعملون به" (لو 8: 21). أجل، هكذا يصوّر لوقا مريم في مشهد ميلاد يسوع. جاء الرعاة وأخبروا بما حدّثهم الملاك، أما مريم فحفظت هذا كله وتأمّلته في قلبها (لو 2: 19). وامتدحت امرأة يسوع في يوم من الأيام قائلة له: "طوبى للبطن الذي حملك وللثديين اللذين أرضعاك". وكان جواب يسوع امتداحاً لأمّه يُزاد على امتداح تلك المرأة لها: "بل طوبى لمن يسمع كلام الله ويعمل به" (لو 11: 27- 28). إن مريم هي تلك الأرض الطيّبة التي نبت فيها الحب وأثمر مئة ضعف (لو 8: 8). وأي ثمرة كانت أعظم من الثمرة التي كانت في حشاها.
ب- نشيد التعظيم
إذا كانت مريم قد وصلت إلى هذه القمة من العظمة، فكيف لا نتخيّلها منشدةً نشيد التعظيم، نشيد الفرح والبهجة، نشيد المساكين الذين رفعهم الربّ إلى أعلى مراتب الرفعة: تُعظّم نفسي الربّ وتبتهج روحي بالله مخلّصي.
فمبادرة الله السامية استندت إلى هذه الخليثقة المميّزة، إلى هذه المستعدّة بتواضعها، من أجل تحقيق مخطّط الخلاص. فمشاركة مريم في عمل الخلاص هي مشاركة حقيقيّة. هنا نبتعد عن بعضى المسيحيّين الذين يعتبرون أن المسيح هو الوسيط الوحيد. لا شكّ في ذلك والقديس بولس يقول في 1 تم 2: 5: "الوسيط بين الله والناس واحد هو يسوع المسيح الذي ضحّى بنفسه فدىً لجميع الناس". ولكن الانسان يشارك الله في عمل الخلق، كما يشارك المسيح في عمل الوساطة. وإلاّ كيف نفهم ولادة كل واحد منّا في حشا أمّه. لقد شارك والدانا الله في خلق إنسان جديد. وإلاّ كيف نفهم كلام القديس بولس الذي قال: "وأنا الآن أفرح بالآلام التي أعانيها لأجلكم، فأكمّل في جسدي ما نقص من آلام المسيح في سبيل جسده الذي هو الكنيسة" (كو 1: 24)؟ وإلاّ كيف نكون نحن أبناء الله، ولا ابن وحيد إلاّ يسوع المسيح؟ وإلاّ كيف يكون هناك كهنة، وليس من كاهن إلاّ يسوع المسيح (عب 10: 21)؟ ومع ذلك يسمّينا رؤ 6: 1 "ملوكاً وكهنة الله". أجل، نحن كهنة لأننا نشارك المسيح في كهنوته، ومعه نقدّم العالم إلى الله أبيه. نحن أبناء لأننا بالنعمة نشارك في بنوّة يسوع الذي هو ابن في الطبيعة. نحن نتألّم مثل بولس ونكمّل آلام المسيح من أجل الكنيسة. هكذا أرادنا الربّ معاونين ومساعدين له، رغم ضعفنا وخطيئتنا. بعد هذا، نعجب إن كانت مريم قد شاركت ابنها في عمل الفداء حين كانت واقفة عند الصليب (يو 19: 27). وحين توسّلت من أجل أهل العرس، ففاض الخمر من أجلهم ومن أجل الكنيسة أنهاراً حتى انتهاء العالم (يو 2: 1 ي). وهنا نودّ أن نفهم معنى هذا السيف الذي جاز في قلب مريم حين حدّثها سمعان الشيخ (لو 2: 25). إن هذا السيف يرتبط بخلاص الشعب العبراني الذي رفض يسوع فسقط في أكثريته.
ومريم أحسّت بهذا السيف "ينفذ في قلبها" فيدلّنا على اهتمامها بخلاص شعبها، بل بخلاص جميع شعوب العالم. لا شكّ في أنها خاضعة لابنها وإرادته، ولكن ابنها لا يرفض لها صلاة وهو الذي قال: "اطلبوا تجدوا، إقرعوا يُفتح لكم". ومن يعرف أن يطلب مثل مريم، ومن هو أقرب إلى يسوع من مريم؟
أجل، صنع الله في مريم العظائم، صنع فيها أموراً عظيمة. هيّأها أفضل تهيئة فكانت أمّ الله وحاملة الخلاص إلى العالم. قالت الناس لرفقة، زوجة اسحق: "كوني أماً لألوف مؤلّفة" (تك 24: 60). وقال الربّ لإبراهيم: "بك تتبارى جميع أمم الأرض" (تك 12: 3). وقال له أيضاً: "أباركك وأكثر نسلك كنجوم السماء والرمل الذي على شاطىء البحر" (تك 22: 17). فما تراه يكون نسل مريم التي خرجت من شعب هو الشعب العبراني، ولكنها صارت أمّ جميع شعوب الأرض، أمّ جميع المؤمنين. في البداية، كانت حواء أمّ كل حيّ (تك 3: 20). وعلى الصليب، ساعة وُلدت الكنيسة من جنب المصلوب في سريّ العماد والافخارستيا، كانت مريم حاضرة هناك. وكان يوحنا، التلميذ الحبيب ممثلاً لجميع أبنائها، لإخوة يسوع، ولكل واحد منا. فهي أيضاً ولدتنا في الأوجاع على ما تنبّأ يسوع قبل آلامه فقال: "المرأة تحزن حين تلد، لأن ساعتها جاءت. فإذا ولدت تنسى أوجاعها لفرحها بولادة إنسان في العالم" (يو 16: 21). أجل، عايشت يسوع في آلامه، وتألّمت معه، فكان لها أن تلد معه الابناء العديدين على ما قيل في الكتاب المقدّس: "ها أنا والبنون الذين أعطيتني".

خاتمة
هذا هو وجه مريم تلك "الجميلة بين النساء" (نش 1: 8) تلك التي اختارها الربّ أماً لإبنه. تلك التي قال فيها عريس نشيد الأناشيد: "كالسوسنة بين الشوك رفيقتي بين البنات" (2: 2). وقالت هي عن نفسها: "أنا نرجسة السهول وسوسنة الأودية" (آ 1). وقد قال عنها ابن سيراخ متكلّماً باسمها: "هناك شمختُ كأرزة لبنان، أو كسروة في جبال حرمون، كنخلة في عين جدي، وكشجرة الورد في أريحا. كالكرمة أخرجتُ فروعاً جميلة، وبراعمي أعطت أشهى ثمار. من سمع لي فلا يخيب، ومن عمل بما أقول فلا يخطأ". هذا ما قيل عن الحكمة في العهد القديم. عن "المرأة الحكيمة". ونحن نطبّقه على مريم التي قال فيها الروح: "أنا أمّ المحبة البهيّة والمخافة والعلم والرجاء الطاهر. ولأنني خالدة أعطيت عطايا لكل أبنائي الذين اختارهم الله". لقد أعطتنا مريم يسوع، فأيّة عطيّة تضاهي هذه العطيّة، وأيّة نعمة توازي هذه النعمة. بواسطة مريم صار الله عمّانوئيل، صار الله بيننا، صار معنا.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM