القسم الثالث: الرّوح القُدس وَالكنيسَة

الفصل التاسع عشر
مريم نموذج الكنيسة

"وظهرت آية عجيبة في السماء: امرأة تلبس الشمس، والقمر تحت قدميها، على رأسها اكليل من اثني عشر كوكباً، حبلى تصرخ من وجع الولادة.
"وظهرت في السماء آية أخرى: تيّين عظيم أحمر كالنار له سبعة رؤوس وعشرة قرون، على كلّ رأس تاج. فجّر بذنبه ثلث نجوم السماء وألقاها على الأرض. ووقف التنّين أمام المرأة وهي تتوجّع ليبتلع طفلها حين تلده. فولدت ولداً ذكراً وهو الذي سيحكم الأمم كلها بعصا من حديد، ولكنّ ولدها اختُطف إلى الله وإلى عرشه، وهربت المرأة إلى الصحراء حيث هيّأ الله لها ملجأ يعولها مدّة ألف يوم ومئتين وستّين يوماً" (رؤ 12: 1- 6).
هدا النصّ المأخوذ من سفر الرؤيا يدخلنا في سرّ الآخرة، عالم الاسكاتولوجيا، ولكنّه ينطلق من السّر الفصحيّ الذي فيه نرافق المسيح في موته وقيامته وصعوده ليكون قرب الله وعلى عرشه. هذا النصّ يدخلنا في سرّ الكنيسة، إسرائيل الجديد وشعب الله الجديد، ولكنّه يقدّم لنا أيضاً صورة مريم التي هي صهيون الجديدة ونموذج الكنيسة التي ولدت يسوع بالجسد، وولدت ليسوع اخوة كثيرين يوم كانت عند الصليب.
لقد قرأ التقليد هذا النصّ من سفر الرؤيا وحاول أن يتعرّف إلى هذه الصورة السّرية، صورة المرأة. رأوا فيه سرّ الكنيسة ورأوا فيه سرّ مريم. ونحن سنحاول أن نكتشف هذين الوجهين بعد أن نضع الفصل الثاني عشر من سفر الرؤيا في إطار الكتاب كلّه.

1- إطار رؤ 12
كيف بُني سفر الرؤيا؟ إنّ الفصول الثلاثة الأولى مع ظهور ابن الله المجيد لرائي بطمس (الذي هو يوحنا) والرسائل السبع إلى الكنائس، تشكّل مقدّمة الكتاب وتنفصل عن سائر الكتاب.
ويمتدّ القسم الأوّل من ف 4 إلى ف 11. يستعين بالرؤى النبويّة فيصوّر مسيرة تاريخ العالم ومواجهة الشهود الأوّلين مع هذا العالم. يرينا أوّلاً البلاط السماويّ والليتورجيا التي تتمّ فيه. والكتاب المختوم الذي يتضمّن مقرّرات الله التي لا تزال خفيّة على الانسان، هذا الكتاب ستفضّ ختومه فتنكشف أسرار الله ويتحقّق مخطّطه الخلاصي للبشر. وهذا العمل لا يقوم به إلاّ المسيح القائم من الموت والممجّد، الحمل الذي يقف أمام عرش الله. وحلّت الضربات بالأرض، غير أنّ المختارين ظلّوا بمنأى عنها وكانوا يحتفلون بانتصار الحمل حول عرش الله. وانّ صلوات القدّيسين جعلت اليوم العظيم يأتي عاجلاً، والنفخ في الأبواق كان علامة الدينونة الأخيرة (1 كور 15: 52). وحلّت الكوارث العديدة ولكن الكلمة الأخيرة لم تُقل. وستأتي رؤية مسيحية تتصوّر مجيء ابن الانسان للدينونة الأخيرة.
ويخصّص القسم الثاني (ف 12- 22) للحديث عن مصير الكنيسة: اضطّهاد خلال الزمن الذي يمتدّ منذ ولادتها على الصليب إلى الأحداث الاسكاتولوجية والانتصار النهائي في أورشليم السماوية. وتصوّر الكنيسة المضطّهدة في رمز صراع بين المرأة والتنّين. وفي النهاية يظهر الحمل مع أخصّائه. ويخرج منتصراً من المعركة وتبدأ الدينونة الأخيرة: "حينئذ رأيت سماء جديدة وأرضاً جديدة... رأيت المدينة المقدّسة، أورشليم الجديدة، نازلة من السماء من عند الله" (21: 1- 2). "عرش الله والحمل يقوم في المدينة فيسجد له عباده... لا ليل هناك... لأنّ الربّ الاله يكون نورهم وهم سيملكون إلى أبد الدهور" (22: 3- 5).
هذا هو الاطار العامّ للفصل الثاني عشر الذي سنتأمّل فيه لنكتشف لا صورة الكنيسة وحسب، بل صورة مريم نموذج الكنيسة. نبدأ أوّلاً فنفسّر رسم المرأة وابنها الذكر في إطار كنسي، كما نتوقّف عند مواجهتها للتنّين. ثم نبيّن في هذا الاطار العامّ التفسير المريمي.

2- التفسير في إطار كنسي
أ- المرأة
المرأة هي رمز إلى اسرائيل، إلى شعب الله الذي ولد المسيح. هذا ما نقرأه في يو 4: 22: "الخلاص يأتي من اليهود". أي المخلّص جاء من العالم اليهودي. إنّه ابن الشعب اليهودي، ابن المرأة صهيون، والمرأة رمز إلى المدينة. ولكن المرأة صهيون (ابنه صهيون) تصبح في العهد الجديد الكنيسة. وهي ستمرّ عبر عدد من الآلام والاضطّهادات. ولكنّها ستبقى ثابتة وستنتصر في النهاية لأنّها عروس الحمل. ونلاحظ بعض الأمور: لا تقف هذه "المرأة" على الأرض. انّها صورة سماوية "تلبس الشمس والقمر تحت قدميها، على رأسها اكليل من اثني عشر كوكبا". إذا أردنا أن نفسّر هذه الصور نعود إلى أش 60: 1، 19- 20: "قومي أضيئي لأنّ نورك قد وافى، ومجد الربّ يكون لك نوراً أبدياً وإلهك يكون جمالك. لا تغرب شمسك من بعد، وقمرك لا ينقص، لأن الربّ يكون لك نوراًَ أبدياً". وفي نش 6: 10 نقرأ: "مَنْ هذه المشرقة كالصبح، الجميلة كالقمر، المشعّة كالشمس، المرهوبة كالجيوش".
القمر يتبدّل، يكبر ويصغر. إنّه يدلّ على التاريخ البشري. إذا كان القمر تحت قدم المرأة، فهذا يعني أنّ التاريخ البشري كلّه خاضع لها. وبعبارة أخرى، إنّ الكنيسة الأبدية، جسد المسيح، تشرف على تقلّبات الزمن وتحرّكات التاريخ.
وهناك رمز آخر للقمر. حين يكون بدراً تكون الطبيعة جميلة في صمت الليل. حينئذ نحسّ بالهدوء والطمأنينة والسلام. ومع ذلك فهذا النور الذي في القمر ليس خاصّاً به، بل قبله من آخر. كلّ جمال القمر هو انعكاس لبهاء الشمس. وهذا ما نقوله عن جمال الكنيسة كما نقوله عن جمال مريم العذراء "الجميلة كالقمر".
في رؤ 12، نور المرأة قد نالته من الله بواسطة المسيح، الذي تسمّيه الليتورجيّا: شمس البرّ، شمس العدل. ويقول يوحنا في رسالته الأولى (1: 5): "الله نور لا ظلام فيه". إنّه ينبوع كلّ نور (يو 1: 7). وهذا النور الالهي الذي يشّع في كلّ مكان تعكسه أفضل ما تعكسه بنت (امرأة) صهيون.
وما هو مدلول الاثني عشر كوكباً التي تتوّج المرأة؟ العدد 12 يدل على الملء والكمال. والصورة تدلّ هنا على ملء شعب اسرائيل اديد حين يجيء ملكوت الله بصورة نهائية. إنّ المرأة المتوّجة باثني عشر كوكباً، هي صورة عن اسرائيل القديم (12 سبطا) واسرائيل الجديد (12 رسولاً) في كماله الاسكاتولوجي في نهاية الزمن. ليست فقط كنيسة التاريخ، إنها شعب الله المعدّ ليكون مدينة الله.
ب- المرأة التي تلد
في آ 2 نجد صورة المرأة التي تصرخ من وجع الولادة. نحن للوهلة الأولى أمام تعارض بين وضع المرأة في آ 1 وموقفها الممجّد، ووضعها المؤلم: هي ستضع ولداً في الأوجاع. إنّ آلام المرأة التي تتمخّض، ترمز إلى آلام ابنة صهيون كأمّ في نهاية الأزمنة. نقرأ في مي 4: 10 صورة عن ابنة صهيون التي ستصير أمّاً: "تمخّضي وادفعي يا بنت صهيون كالمرأة التي تلد. فانّك الآن تخرجين من المدينة وتسكنين في الحقول. ستذهبين إلى بابل وهناك تنقذين. هناك يفتديك الربّ من أيدي أعدائك". وفي أش 66: 6- 10 نجد صورة عن الأحداث الاسكاتولوجية الكبرى في إطار الولادة: "صوت جلبة في المدينة، صوت يخرج من الهيكل، صوت الربّ الذي يجازي الأعداء: قبل أن تتمخّض ولدت، قبل أن تحسّ بالأوجاع وضعت ذكراً. من الذي سمع بمثل هذا، ومن الذي رأى مثل هذه؟ أتوضع أرض في يوم واحد، أم تولد أمّة في مرّة واحدة"؟
ونقرأ في يو 16: 21: "فالمرأة تحزن وهي تلد، لأن ساعتها جاءت. فإذا ولدت تنسى أوجاعها، لفرحها بولادة انسان في العالم". إنّ استعمال رمز المرأة التي تلد في سياق العشاء الأخير، وقبل الآلام والقيامة، يقودنا إلى تفسير أوضح لموضوع الولادة. فآلام المرأة التي نقابلها مع حزن التلاميذ، هي علامة عن العالم الجديد الذي تحقّق لهم في الحدث الفصحي. أجل، إنّ آلام الولادة في رؤ 12 ترتبط أوّل ما ترتبط بولادة شعب الله الجديد في الألم، عبر الصليب والقيامة. فالعلاقة متينة جداً بين سفر الرؤيا والسّر الفصحيّ.
ج- الولد الذكر
ولكن من هو هذا الولد الذكر الذي وضعته المرأة (آ 5)؟ إنّه المسيح يسوع. وما يبرهن على ذلك الاستشهاد بالمزمور الثاني الذي يصوّر الدراما المسيحانية: "هو الذي يرعى الأمم بعصا من حديد". ولكن أيّ ولادة يعني النصّ؟ ليست هذه الولادة المسيحانية تلك التي ترويها أناجيل الطفولة، بل ولادة صباح الفصح والقيامة. فالقيامة تصوّر في العهد الجديد وكأنّها ولادة جديدة. ونعطي على هذا مثلاً نأخذه من أعمال الرسل. أعلن بولس في أنطاكية بسيدية: "ونحن نبشّركم بأن ما وعد به الله آباءنا تمّ لنا، نحن أبناءهم، حين أقام يسوع من بين الأموات، كما جاء في المزمور الثاني: أنت ابني وأنا اليوم ولدتك" (أع 13: 32). ويطبّق أيضاً مز 2: 7 على قيامة يسوع في عب 1: 5. إذن، القيامة هي الوقت الذي فيه يستيقظ يسوع لحياة جديدة. فزمن ولادة المسيح الممجّد هو بداية حياته في المجد. حينئذ نفهم أن اختطاف الولد "إلى الله وإلى عرشه" يصوّر تمجيد المسيح السماوي في الصعود. فإذا أخذنا بعين الاعتبار هذه المعطيات، يتّضح أنّ ولادة الولد الذكر في رؤ 12 تتعلّق جوهرياً بقيامة المسيح وانتصاره النهائي على قوى الشرّ. إنّ صاحب سفر الرؤيا يصوّر الأمّ صهيون التي تلد المسيح في أحداث الفصح، المسيح الذي سينال بهذه الصورة، السلطان على كلّ الأمم وعلى كل التاريخ.
ولكنّنا بتفسيرنا هذا نقف أمام مفارقة: إذا كانت المرأة التي تلد هي المرأة صهيون والشعب المسيحاني، وإذا كان المولود هو المسيح، فكيف نقدّم تفسيراً جماعياً للأمّ وتفسيراً فردياً لابنها؟ ولكن لا ننسى النصوص النبويّة التي تتحدّث عن صهيون التي تلد. فالابن لا يدلّ على المسيح فقط، بل على الشعب المسيحاني. فالوجهة الفرديّة تلتقي بالوجهة الجماعيّة. هذا ما نكتشفه في عرس قانا، وهذا ما نكتشفه أيضاً عند الصليب: فالمرأة التي يتوجّه إليها يسوع هي في الوقت عينه أمّه (مريم) والمرأة صهيون (الكنيسة). والتلميذ هو في الوقت عينه "التلميذ الذي يحبّه يسوع" وكلّ التلاميذ الذين يمثّلهم. وفي رؤ 12: 5، الابن الذي ولدته المرأة هو يسوع الأرض الذي قام ومجّد، ولكنّنا لا نفكّر فقط بالمسيح الشخصي، بل بالمؤمنين الذين يشاركون قائدهم في سلطانه كما تقول الرسائل إلى الكنائس. وهذا ما نفهمه من النصّ: إنّ الزمن الذي فيه يغلب الشيطان بقدرة الله، لن يكون فقط زمن سلطة المسيح (رؤ 13: 10)، بل زمن انتصار الاخوة أيضاً: "غالبون بدم الحمل وبشهادتهم له" (رؤ 12: 11). وسيسمّون في 12: 17: "باقي نسلها": إنّهم كلّ اخوة يسوع "الذين يعملون بوصايا الله وعندهم شهادة يسوع". كلّ هؤلاء هم أبناء المرأة. إذاً، ليست ولادة الولد الذكر ولادة المسيح وحسب، بل ولادة أعضائه الذين ولدتهم الكنيسة.
د- هرب المرأة إلى البرية
وهناك وجهة أخرى في هذا النصّ لا بدّ من إيضاحها: هرب المرأة إلى البرّية، إلى الصحراء (آ 6، 13، 17). موضوع البرّية مهم جداً في التوراة وهو يرتبط بإقامة الشعب أربعين سنة وبالأحداث التي عاشها الشعب هناك. في البرّية عقد الله عهداً مع شعبه قرب جبل سيناء. ولكن زمن البرّية كان أيضاً زمن الخيانة والمحنة، كما كان الزمن الذي فيه قاد الله شعبه وسار أمامه في عمود من نار.
إذن، البرّية هي الموضوع الذي فيه اعتزل اسرائيل، فحماه الله حماية خاصّة وقاده في مسيرته. وما عاشه الشعب على أيام موسى، سيعيشه إيليّا النبيّ (1 مل 19: 4- 16): هرب من وجه أعدائه ودخل في الصحراء حتى وصل إلى حوريب. وهناك تقبّل رسالته. إذن، البرّية هي موضع يحامي الله فيه عنّا ويدرأ الأخطار. وهي أيضاً الموضوع المميّز للّقاء مع الله.
والمرأة في رؤ 12 هي الكنيسة. هربت في محنها واضطّهاداتها إلى البرّية، وظلّت هناك 1260 يوماً أي 3 سنوات (تتألف السنة من 360 يوماً) ونصف السنة. يدلّ هذا الزمن الرمزيّ، الذي سيكون محدوداً (هو نصف سبعة رمز الملء والكمال) على المرحلة التي فيها ستشهد الكنيسة لربّها وستمرّ في المحنة، ولكن الله يحميها. إنّ الكنيسة التي هي شعب الله، تفلت من قبضة الشرّ وتعيش بعناية ربّها وإلهها.
هـ- التنّين
"ووقعت حرب في السماء بين ميخائيل وملائكته وبين التنّين، فاتاتلهم التنّين بملائكته" (رؤ 12: 7). والتنّين، كما تقول آ 9 هو "تلك الحيّة القديمة، المسمّى إبليس أو الشيطان". يعود الكاتب إلى تك 3، إلى حيّة الفرودس التي نصبت فخّاً للمرأة، والتي ستدوسها المرأة بعقبها. نحن هنا أمام انتصار امرأة الفردوس على الحيّة.
كيف بدا التنّين؟ مشهده مربع: "تنّين عظيم أحمر كالنار، له سبعة رؤوس وعشرة قرون، وعلى كلّ رأس تاج. فجّر بذنبه ثلث نجوم السماء وألقاها إلى الأرض" (رؤ 12: 3- 4).
اللون الأحمر هو علامة الدمّ، والنار تدلّ على الدمار. هذا رمز إلى الطابع الدمويّ والخطير لهذا الوحش المخيف. هذا رمز إلى العذابات والأهوال التي ينشرها في العالم. الرؤوس السبعة تدلّ على أنه وحش هائل يستطيع أن يؤذي الناس في كلّ جهة. والقرون العشرة تدلّ على السلطان العظيم الذي يهدّد البشرية. التاج هو رمز القوّة الملكيّة. إذن، توصّل الوحش إلى الالتحاق بمظاهر المجد والبهاء، فسحر الناس بقوّته. إنّ قوى الشّر وقوى العالم تظهر من خلال السلطة والكرامة البشريّة. بهذه الطريقة يبدو التنّين "خادع الدنيا كلّها". وذنب التيّين يكنس ثلث كواكب السماء. هو لا يكتفي بأن يهاجم الأرض. فيهاجم السماء، كما فعل الذين حاولوا أن يبنوا بابل. قالوا: "تعالوا نبني برجاً تصل قمّته إلى السماء" (تك 11: 9).
وهاجم التنّين المرأة. هذه صورة عن صراع الشيطان ضدّ "المرأة صهيون"، شعب الله، الكنيسة. صراع يبدأ منذ بداية التاريخ البشري. هذه صورة عن صراع دائم بين قوى الشرّ مع كلّ نسل المرأة، مع البشر، وخاصّة مع شعب الله الذي هو الكنيسة. وأخيراً إنّ آ 7- 12 تصوّر انتصار ميخائيل وملائكته على التنّين. ولكن القتال سيطول وسيمتدّ امتداد التاريخ البشري حتى الانتصار الأخير والنهائي، إلى أن تعطى "العزة والملك لالهنا والسلطان لمسيحه" (آ 10).

3- التفسير المريمي
قدّمنا تفسيراً للمرأة في إطار كنسي. وها نحن نقدّم التفسير المريمي لهذه الصورة الرمزيّة. فمريم أمّ يسوع هي في التقليد اليوحنّاوي التحقيق الشخصي والملموس للكنيسة. المرأة التي يتحدّث عنها سفر الرؤيا تتألّم ألم المخاض. أمّا ولادة يسوع في بيت لحم فهي ولادة مقدّسة لم تعرف الألم. ولكننا لسنا هنا أمام سّر التجسّد، بل أمام قيامة المسيح وولادة الكنيسة. فآلام ولادة المرأة تنطبق على ذاك المستوى الآخر. إذا أردنا أن نفهم رؤ 12 في إطار مريميّ فنحن نحتاج إلى كلّ العهد الجديد. لاحظ بعض الشرّاح أنّه لا يعقل أن لا تفكّر الكنيسة بمريم حين صوّرت امرأة رؤ 12. إنّ الواقع هو هنا: فمريم هي شخص واقعيّ وهي تحتلّ مكانة خاصّة في السرّ الخلاصي الذي أعلنه كاروز الانجيل للكنيسه الفتيّة. ثمّ يجب أن نأخذ بعين الاعتبار واقعين اثنين: الأوّل، إنّ الخلفيّة الأساسيّة لسرّ مريم في العهد الجديد هي صورة أنثوية من العهد القديم، صورة ابنة صهيون. الثاني، حين يتحدّث يوحنا عن مريم أمّ يسوع فهو يسمّيها المرأة. نقرأ في يو 2: 4: "ما لي ولك يا امرأة؟" وفي 19: 26: "يا امرأة، هذا ابنك". إذن، سنعيد قراءة رؤ 12 على ضوء خلفية العهد القديم وتسمية يوحنا لمريم. فبعد هرب المرأة إلى البريّة (رؤ 12: 14) تقول آ 17: "فغضب التنّين على المرأة وذهب يقاتل باقي نسلها الذين يطيعون أوامر الله ويحفظون شهادة يسوع". إنّ هذه الآية لا تذكر ابن المرأة، أي المسيح، بل سائر أبنائها في المسيح. فللمرأة أبناء آخرون غير الولد الذكر الذي ولدته.
هذا ما يجعلنا قريبين من مشهد مريم قرب الصليب. هناك صارت أم يسوع، على المستوى الروحي، أمّ التلميذ، أمّ كلّ التلاميذ. صارت بهذه الأمومة الروحيّة أمّ الكنيسة التي هي صورتها. هنا يقول القدّيس امبروسيوس: "يا ليت المسيح يقول لكلّ واحد منكم من أعلى صليبه: هذه هي أمّك. يا ليت المسيح يقول أيضاً للكنيسة: هذا هو ابنك. حينئذ تبدأون بأن تكونوا أبناء الكنيسة حين ترون المسيح منتصراً على الصليب". إذن المرأة على الصليب صارت عند امبروسيوس نموذج الكنيسة وأمّ الكنيسة. أمّا التلميذ الذي ينظر إلى جنب يسوع المطعون، ويقوده نظر مريم، فهو يتحوّل إلى إنسان جديد، يصير ابن مريم وابن الكنيسة، يصير مسيحياً. نحن كلّنا مدعوّون إلى حالة البنوّة هذه على مثال بنوّة يسوع. هنا عند الصليب يولد شعب جديد، تولد الكنيسة التي تبدو مريم صورتها وأمّها.
إن لصورة مريم في رؤ 12 مدلولاً كنسياً ومريمياً معاً، ولكن من خلال أمومة المرأة وفي علاقتها مع أبنائها. إنّها أمّ الولد الذكر الذي ولدته. وهي أيضاً أمّ سائر نسله الذين هم المؤمنون: عبر المحن والاضطهادات يحفظون وصايا الله ويشهدون ليسوع. ولكنّ كلمة مريم في الانجيل تقول لنا: "إفعلوا كلّ ما يأمركم به" (يو 2: 5). نحن هنا في إطار الأعراس المسيحانية في قانا، أمام الطاعة ليسوع، أمام الأمانة المعقودة بين الله وشعبه، أمام الانفتاح على مبادرة الله والاستعداد لتقبّل عمله الخلاصي. نحن أمام الايمان العميق الذي هو باب الدخول إلى وضعنا كأبناء. وسمته الأساسية: هذا هو نسل المرأة، هؤلاء هم اخوة يسوع. يحفظون وصاياه لأنّهم يحبّونه، يحملون كلامه فتكون حياتهم امتداداً لحياته، وشهادتهم امتداداً لشهادة يسوع. وكما كانت مريم مع الرسل تنتظر عمل الروح في الكنيسة (أع 1: 14)، فهي باقية معنا صورة كاملة عن الكنيسة التي تحاول أن تحمل شهادة يسوع إلى أقاصي الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM