الفصل الثامن عشر: قداسة شعب الله
 

الفصل الثامن عشر
قداسة شعب الله

نحن نُنشد للمسيح: لأنّك وحدك قدّوس. ونُنشد مع الملائكة قبل الكلام الجوهري: قدّوس، قدّوس، قدّوس. ونُعيِّد في بداية شهر تشرين الثاني، عيدَ جميع القدّيسين، هؤلاء الذين لا يُعدّون ولا يُحصَون، وقد تحدّث عنهم القدّيس يوحنا في سفر الرؤيا.
سنتحدّث هنا عن قداسة الله، عن قداسة شعب الله، عن قداسة الكنيسة التي هي أورشليم الجديدة.

1- الله وحده قدّوس
كان لشعب إسرائيل كما لسائر شعوب الشرق، معابد وأماكن مقدّسة، فيها القدس وقدس الأقداس. وكان له ذبائحه وكهنته وقرابينه. ولكنَّ التوراة لا تعرف إلاّ قداسة واحدة، هي قداسة الله التي يوصلها الله إلينا. وهنا نفهم أنّ القداسة ليست أوّلاً تفتّح الشخص الذي يصل إلى الكمال. إنّها قبل كلّ شيء اتّحاد بالله. فالقدّيس في التوراة ليس بطلاً كأبطال التاريخ. إنّه انسان مرتبط بالربّ ارتباطاً حميماً. والشيء المقدّس ليس صنَماً نعبده في حدّ ذاته. نحن نحترمه لأنّه مكرّس لله. وشعب إسرائيل شعب مقدّس، لا لأنّه أفضل من الآخرين، بل لأنّ الله اختاره وأقام معه عهداً، بانتظار أن يختار كنيسته ويُقيم معها عهداً أبديّاً.
القداسة صفة خاصّة بالله ونحن لا ندركها. الله يتقدّس، يُظهر أنّه قدّوس، يكشف عن قداسته حين يتدخّل في التاريخ من خلقٍ وظهور وخلاص ومحَن، حين يعاقب وحين يحمي، حين يدين وحين يخلّص. قداسته قوّة ظهرت على جبل سيناء وسط البروق والرعود. قداسته خلاص وبركة. قال: أنا إله لا إنسان. أنا وسطك القدّوس ولا أحبّ أن أدمّر (هو 11: 9).
ولمّا ظهر الله على أشعيا (ف 6)، ظهرَ كملك عظيم وكالخالق الذي يملأ الأرض بمجده، كموضوع عبادة يقوم بها السرافيم، وكسيّدٍ على مصائر الناس والشعوب. حينئذ قال أشعيا: "ويل لي فقد هلِكت. أنا رجل دنس الشفتين وأقيمُ وسط شعب دنس، وقد رأت عيناي الربّ القدير!". أحسَّ أنّ لا شيء مشترك بينه وبين الربّ. لا تستحقّ الشفاهُ أن تسبّح ولا العيون أن ترى. ولكن، حين طُهِّرت شفتاه، استطاع أن يحدّث الله ويتلقّى مهمّة ورسالة. لقد رُدمت الهوّة التي تفصل الخليقة والخاطىء عن الله. الإله السامي فوق البشر صار مع البشر، الاله الذي يعاقب الخاطىء صار الاله الذي يخلّص، والاله القدّوس اتّصل بشعبه.
وهكذا ارتبطت قداسة الله بقوّته ومجده، بغضبه ورحمته، بالخلق والعهد والشريعة، وارتبطت خاصّة باسمه. إنّها صفة خاصّة بالله. ولكن، كيف يوجد قدّيسون وأشياء مقدّسة خارجاً عن الله؟ إذا كان الله وحده قدّوس، فكيف ينقل قداسته؟ لا جواب إلاّ المحبّة. فالله ينقل قداسته إلى البشر لأنّه يُحبّهم.

2- شعب مقدّس
حين ظهر الربّ لشعبه على جبل سيناء، كشف عن اسمه وأظهر إرادة الخلاص والرحمة، وقرّر أن يعقد عهداً مع شعبه. قال: "إذا سمعتم صوتي وحفظتم عهدي، أجعلكم أخصّائي من بين كلّ الشعوب. أجعلكم مملكة كهنةٍ وأمّة مقدّسة" (خر 19: 5- 6).
شعب الله شعب مكرّس لله، هو يخصّ الربّ. إنّه في خدمته. إنّه يتعبّد له ولا سيما في شعائر العبادة. يشبه الشعبُ هؤلاء الحملان التي وُضعت جانباً إكراماً لله، يشبه المحرقات التي تُقدَّم للربّ، واللاويّين الذين يخصّون الربّ ويُحفَظون لخدمة الهيكل.
شعب الله شعب مقدّس. فكما قدّس الله الهيكل والأواني المقدّسة واختصّها لنفسه، وكما كرّس اللاويّين والكهنة، هكذا كرّس له شعباً دون أن يهتمّ بصفاته واستحقاقاته. تذكّر مواعيده للآباء الذين أحبّهم، رأى شقاء شعبه في مصر فأراد أن يخلّصهم. وإذ خلّصه اقتناه، وإذ افتداه كرّسه فصار الشعبَ المقدّس والمفتدى. وهذا التقديس يعطي الشعب ثباتاً. قد يُرذَل كاهن، قد تُرذَل آنية مقدّسة، قد يُدمَّر الهيكل ويصبح بدون جدوى. ولكن الشعب المقدّس لا يزول. فالله أحبّه وهو لا يتراجع عن مواعيده. فالله ربط شعبه بمجد اسمه. حتّى إذا كنّا نحن خائنين، فهو لا يمكن أن يُنكر نفسه (1 تم 2: 13).
الله اختار شعبه وأحبَّه وخلّصه وهو يحيا معه ويسير معه. ظهر له عبر سحاب يقوده ويحميه، عبر تابوت العهد الذي يمثّل حضوره، عبر هيكل هو مركز إقامته، عبر مجده الذي يرافقه في طريق الضيق والمنفى. وحضور الله الفاعل، ينقل إلى الشعب قداسة خاصّة وقوّة رهيبة هي منبع طمأنينة وحماس وفخر وتفاؤل ورجاء لا يُقهر. ثمّ انّ القداسة ليست طهارة طقسيّة وحسب. فالعهد مع الله يفترض قداسة أخلاقيّة تصل إلى قلب الانسان. هذا هو سبب وجود الشريعة التي تتأسّس فرائضها الأولى على العهد. وهدف الشريعة أن تذكّر البشر بأن شعب الله هو شعب وُضع جانباً، وأنّ الأفراد مقدّسون. الشريعة تشهد على قداسة الله وقداسة شعبه. إلى هذا الحد يجب على الشعب أن يصل. قال الربّ: "أنا الربّ الذي يقدّسكم" (لا 20: 8). وقال: "كونوا قدّيسين لأنّي أنا قدّوس" (لا 11: 44). فنحن أبعد ما نكون عن الطاعة والطهارة الطقسيّة. نحن أبعد ما نكون عن أعمال خارجيّة. لقد وصلنا إلى رغبات النفس العميقة وطُلب منّا أن نقتدي بصلاح الله ورحمته، "أن نحبّ الله بكلّ قلبنا وكلّ نفسنا وكلّ قدرتنا" (تث 6: 5) "وأن نحبّ القريب مثل نفسنا" (لا 19: 34). وهذه القداسة الأخلاقيّة، يطلبها الأنبياء من الشعب باسم الله. إنّهم يريدون أن يعلّموه كرهَ الظلم والخطيئة وعبادةِ الأوثان.
طلب الله، ولكنَّ طلبه لم يلبَّ. نادى الله، فما وجد جواباً. وهكذا ظلّ حبّه كصدى في واد. لم يُسمع نداؤه. وظل شعب اسرائيل دنس الشفتين ولم يفهم أمثولة المنفى التي جرّدته من كل سلطة سياسيّة، بل كان الوثنيّون أفضل من شعب الله. تاب أهل نينوى ورجعوا إلى الربّ وظلّ بنو إسرائيل الشعبَ القاسي الرقاب. فهل فشل الله في عمل التقديس؟ كلاّ. فقد أبقى بقيّة مقدّسة، أبقى غرسة مقدّسة وشعباً يجدّده الروح ويطهّره عبدُ الله الذي يكفّر عن الخطايا بآلامه ومصيره الرهيب. وهكذا يتكوّن شعب نوعيّ من أبرار يخافون الله ويرفضون كلّ مساومة مع الأشرار وينتظرون في نهاية الزمن، الملكوتَ الذي يتقدّس فيه كلّ إنسان وكلّ شيء.

3- أورشليم الجديدة، المدينة المقدسة
وأسّس المسيح كنيسته على الرسل وربطها بينابيع قداسة جديدة. صار المسيح لنا قداسة (1 كور 1: 30). إنّه القدّوس، إنّه الانسان الوحيد الذي يحمل هذا اللقب المحفوظ لله. وهذا بفضل بنوّته وعلاقته الخاصّة بالروح القدس. حُبل به بالروح القدس ودعي ابن الله وصار قدّوساً. عمّده يوحنا وسط ظهور، فنال مسحة الروح. وهذا الروح سيملأهُ ويقوده إلى البرّية ليحارب الشيطان.
إنّه يُظهر قدرة الله بواسطة المعجزات. أمامه يحسّ الناس بالخوف والرهبة، يحسّ الواحد أنّه خاطىء. ولكنَّ يسوع لا يتعلّق بمظاهر القدرة، بل يخفي شخصيّته المسيحانيّة لئلاّ تُفهم بغير معناها، ويتبعه الناس كقائد سياسيّ وحربيّ. فقداسة يسوع هي من نوع آخر. إنّها قداسة الآب القدّوس وهي تحمل ميزات قدرته وصلاحه وتقوده إلى الحبّ الذي يجعله يضحّي بنفسه من أجل أحبّائه (يو 15: 12). وانّ موت المسيح على الصليب يدلّ على ساعة تمجيده. فذبيحته أظهرت أنّه قدّوس وأنّه يقدّس أخصّاءه. لقد أحبّ الكنيسة وبذل نفسه عنها ليقدّسها (أف 5: 25). وتقدّسنا نحن بدورنا في المسيح يسوع (1 كور 1: 2).
لقد صار التعلّق بالمسيح أساس كلّ قداسة. والكنيسة التي هي جسده، تستقي قداستها من قداسته. إنّها بناء روحي ينمو بفعل الرّوح ويصير هيكلاً مقدّساً ومسكن الله الحقيقي. ولهذا، فقداسة الله تظهر فيها اليوم كما كانت تظهر في يسوع، بآيات وعجائب عديدة.
والمسيحيّون هم أعضاء المسيح وحجارة حيّة أدخلت في بناء معبد جسد المسيح. صاروا بالمعموديّة، كائناً واحداً مع المسيح. شاركوا في جسد المسيح، الذي هو الكنيسة. تغذّوا من جسده القربانيّ وعاشوا من حياته الأبديّة. لقد صاروا قدّيسين في المسيح (فل 1: 1). ولأنّهم تعمّدوا بالروح القدس، نالوا المسحة الآتية من القدّوس. أنعشهم الروح فدعوا الله أبّا، أيّها الآب. صاروا أبناء الله وهياكل الروح. والروح يعمل فيهم كما كان يعمل في بشريّة المسيح.
وعندما يسمّي القدّيس بطرس الجماعة المسيحيّة "أُمّة مقدّسة" (1 بط 2: 9) فهو يعطيها معنىً عميقاً لم يكنْ لها في العهد القديم. لسنا فقط، أمام شعب مختار ومميّز عن سائر الشعوب ومدعوّ إلى القداسة بالشريعة، بل أمام شعب مقدّس يتكوّن من أبناء الله ويدخل فيه كلّ الأمم ويجتمعون في الوحدة. ومسيحيّو أورشليم سمَّوا أنفسهم القدّيسين (أع 19: 13). فقداستهم لا تأتي أوّلاً من تقواهم ولا من انعزالهم عن العالم، بل من الروح القدس الذي نالوه في العنصرة. وهكذا، وبفعل الروح، دُعي جميع المؤمنين قدّيسين.
إذا كان الأمر هكذا، فما هو دور الكمال الأخلاقي في القداسة المسيحيّة؟ قال الربّ: "كونوا كاملين كما أنّ أباكم السماوي كامل هو" (مت 5: 48). وقال بطرس: "تكونون قدّيسين لأنيّ أنا قدّوس" (1 بط 1: 16). ولا ينبع الكمال الأخلاقي من شريعة، بل من مبدأ القداسة المسيحيّة الذي هو الروح القدس. صار المسيحيُّ روحانيّاً وكاملاً (1 كور 2: 6- 16)، فصلبَ الجسدَ مع شهواته وميوله. هو لا يعيش بحسب الجسد، لأنّ قداسة الله ترفض كلّ خطيئة. فالخطيئة هي دمار الكائن المسيحي. وهكذا يكون عمل التقديس انتصاراً على الشرّ والخطيئة.
وهكذا تكون القداسة الأخلاقيّة علامةَ عمل الروح القدس وثمرته. والروح لا يجعلنا نتجنّب الخطيئة فقط، بل نثمر ثماراً صالحة: الايمان والرجاء والفضائل الخلقيّة من محبّة وفرح وصلاح وخدمة ووداعة. والروح هو أيضاً ينبوع المواهب التي تجعل كلّ واحد في مكانه في الكنيسة وتساعد على بناء الكنيسة. ويدفع المسيحيّين إلى أنّ لا يكتفوا بممارسة الوصايا، بل إلى أنْ يكرّسوا نفوسهم للملكوت، ليصبح الواحد خادماً للآخرين، ويقدّم نفسه مجّاناً من أجل الانجيل، فيحرم نفسه لئلاّ يشكّك أخاه، ويكمل في جسده ما ينقصُ من آلام المسيح، من أجل جسده الذي هو الكنيسة (كو 1: 24).
نبعت قداسة الكنيسة من ديناميّة الروح القدس. ولكنّها لم تصل بعد إلى كمالها. هي لا تزال تنمو مثل جسد المسيح. هي لا تزال تُبنى مثل هيكل مقدّس. ما زال الزؤان ممزوجاً بالقمح، رما زال التصّرف الجسداني مُسيطراً. فعلى المسيحيّين أن يسهروا لئلاّ يخسروا ثمار عمادهم ويسقطوا في الخطيئة. والذين دُعوا قدّيسين، عليهم أن يتقدّسوا ليستعدّوا لمجيء الربّ. عند ذاك، يأتي المسيح على السُحب بقدرة ومجد عظيم، فيُظهر قداسته. يضع أعداءه تحت قدميه. يفصل الأبرار عن الأشرار، ويجازي القدّيسين ويسلّم المُلك لله. حينئذ تتمّ النبوءات ويكتمل الخلاص وتظهر الكنيسة التي هي أورشليم السماويّة والمدينة المقدّسة "جميلة مثل عروس تزيّنت من أجل عريسها" (رؤ 21: 2)، "عروس لا عيب فيها ولا تجعّدَ ولا ما أشبه ذلك، بل مقدّسة لا عيب فيها" (أف 5: 27).

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM