الفصل السابع عشر: الروح القدس البارقليط

الفصل السابع عشر
الروح القدس البارقليط

إن كلمة بارقليط خاصّة بيوحنا، في العهد الجديد. وهي تستعمل في إطار قانوني، فتدلّ على إنسان يساعد إنساناً آخر، على المعاون والمدافع والمحامي. وهذه الكلمة تطبّق على الروح الاقدس فتميّز الدور الذي يلعبه تجاه المؤمنين. كل النصوص التي تتحدّث عن الروح البارقليط نجدطا في خطبة يسوع الأخيرة التي هي وصيّة يسوع قبل عودته إلى الآب. فبعد أن وعد الرسل وعداً واضحاً بمجيء البارقليط، أشار إلى وجهات نشاطه الثلاث: وظيفة التعليم، ووظيفة الشهادة ليسوع، ودوره كمتّهم للعالم وحاكم عليه.

1- وظيفة التعليم
تقدّم لنا النصوص اليوحناويّة الروح القدس في دور المعلّم. وإليك النصّ الأول: "قلتُ لكم هذا كلّه وأنا مقيم معكم. ولكنّ البارقليط، وهو الروح القدس الذي يرسله الآب باسمي، سيعلّمكم كل شيء ويجعلكم تتذكّرون كل ما قلته لكم" (يو 14: 25- 26).
يقابل يسوع هنا، بين تعليمه وتعليم الروح العتيد، ليدلّ على أن عمل الروح سيختلف عن عمله. وهو يميّز مرحلتين أو فترتين كبيرتين في تدبير الوحي. تتكوّن الفترة الأولى من كلمته، والفترة الثانية من تعليم الروح. هذا لا يعني أن الوحي الآتي من المسيح كان ناقصاً أو جزئياً. فالمسيح الذي هو الحقيقة بالذات (يو 14: 6) وكلمة الله المتجسّد (يو 1: 14)، حمل إلينا الوحي التامّ والنهائي. غير أن عمل الروح القدس هو عمل لا يُستغنى عنه ولكنّه من نوع آخر. هذا ما يفسرّه النصّ.
أ- تعليم الروح وتعليم يسوع
سيرسل الآب الروح القدس "باسم يسوع". وقد كان يسوع نفسه على هذه الأرض "باسم أبيه" (يو 5: 43). كان متحداً بأبيه اتّحاداً وثيقاً. كان بين البشر ليجعلهم يعرفون اسم الآب، ليكشف لهم الآب (يو 17: 6). بعد هذا، نفهم بطريقة أوضح، ما يعنيه يسوع حين يعلّم أن البارقليط يُرسل "باسمه". هذا لا يعني فقط أن الآب يرسله بناء على طلبه أو يرسله مكانه، أو كممثّل للابن أو ليتمّ عمل الابن. فالاسم يعبرّ عن أعمق ما في شخص المسيح، عن صفته كابن. وللابن كابن دور ناشط في إرسالى الروح. لهذا نجد في خطبة الوداع عبارتين متكاملتين: الآب يرسل الروح باسم يسوع (يو 14: 26). الابن نفسه يرسل الروح من عند الآب (يو 15: آ 2). فالعبارة "باسمي" تدلّ بوضوح على اتحّاد الآب والابن في ارسال الروح. الآب هو أصل هذا الارسال. والابن يرسل الروح من عند الآب. ولكنّ الابن هو أيضاً مبدأ هذا الإرسال. إذاً، سيرسل الآب الروح "باسم الابن". فالآب والابن هما مبدأ إرسال الروح. بعد هذا، إذا كان الروح قد أرسل باسم المسيح، فرسالته تقوم بأن يكشف للناس سّر المسيح، بأن يعرف الناسُ اسمه الحقيقيّ، اسم ابن الله الذي يعبرّ عن شخصه. والروح هو من يدفع الناس إلى الإيمان بيسوع ابن الله.
ويصوّر 14: 26 عمل الروح بفعلين مختلفين: "يعلّمكم كل شيء، ويذكّركم كل ما قلته لكم". لا نفصل بين العملين، والروح لا يعلّمنا شيئاً آخر حين يذكّرنا بأقوال يسوع. فتعليم الروح ليس بمستقلّ عن تعليم يسوع. وإن قلنا هذا أدخلنا في الكنيسة وحياً جديداً آتياً من عند الروح، واتّبعنا هرطقات عرفتها الكنيسة في تاريخها.
هناك طريقتان قاتلتان نفصل بهما المسيح عن روحه: أن نحلم بمملكة روحيّة تقودنا إلى أبعد من المسيح؛ أو نتخيّل مسيحاً يعيد كلّ شيء إلى ما قبل الروح. فالروح لا يحمل إلى التلاميذ إنجيلاً جديداً. فحياة يسوع وتعليمه يتضمّنان كل ما تجب معرفته من أجل مكوت الله وخلاصنا. ودور الروح يخضع أساساً للوحي الذي حمله المسيح.
والتعليم عند يوحنا يرتبط بالوحي، فالآب علّم الابن ما نقله الابن إلى العالم (يو 8: 28). يحدّثنا يوحنا عن يسوع المعلّم (6: 59؛ 7: 14، 28، 35؛ 8: 20). ولكن البارقليط يعلّم أيضاً. إذاً، هناك تواصل في الوحي: جاء الوحي من الآب، انتقل إلينا بالابن، ووصل إلى كماله بالروح.
سيعلّمنا الروح ما قاله يسوع. ولكنّ طبيعة هذا التعليم سيحدّدها الفصل الآتي: يذكرنا بكل ما قاله يسوع. يشدّد الانجيل الرابع على موضوع التذكير. ويشير يوحنا مراراً إلى أن التلاميذ تذكّروا، بعد رحيل يسوع، هذه الكلمة أو هذا العمل الذي قام به المعلّم فأدركوا معناه الحقيقيّ وبُعده الكامل بعد القيامة (2: 17، 22؛ 12: 16). ودور التذكير سيكون دور الروح القدس: حين يذكّرهم بكل ما قاله يسوع، لن يكتفي بالاعادة إلى ذاكرتهم تعليماً قد نسوه. إن عمله الحقيقي هو أن يُفهمهم من الداخل كلمات يسوع، وأن يجعلهم يدركونها على ضوء الإيمان، وأن يُحسّوا بكلّ معانيها وغناها من أجل حياة الكنيسة. وبعمل الروح هذا، لن يعود التعليم خارجاً عنّا وغريباً. فالروح يجعله في داخلنا، ويجعلنا نلجُ فيه روحياً، فنكتشف فيه كلمة حياة.
ب- ملء الحقيقة
ويعود يسوع إلى التعليم عينه فيقول: "عندي كلام كثير أقوله لكم، ولكّنكم لا تقدرون الآن أن تحتملوه. فمتى جاء روح الحقّ، أرشدكم إلى الحقّ كلّه. لأنه لا يتكلّم بشيء من عنده، بل يتكلّم بما يسمع ويخبركم بما سيحدث. سيمّجدني لأنه يأخذ كلامي ويقوله لكم. كلّ ما للآب هو لي. لذلك قلت لكم: يأخذ كلامي ويقوله لكم" (يو 16: 12- 15).
يدلّنا يسوع هنا على دور الروح القدس تجاه أقواله. ونظنّه يناقض نفسه بنفسه. قال في 15: 5، إنه عرّف تلاميذه كلّ ما تعلّمه من الآب. وها هو يعلن لهم الآن أنه قد بقيت أمور عديدة لا بدّ من قولها. ولكنّنا في هذه المرة، أمام استكمال وحي محفوظ للروح. فالروح لا يقدّم تعليماً جديداً، بل يعطينا فهماً أعمق لسّر يسوع وحياته وأعماله وأقواله. وتبرز لفظة "الآن" في نهاية آ 12 (لا تقدرون أن تحتملوه الآن) فتقيم مقابلة بين الزمن الحاضر، زمن حياة يسوع على الأرض، والزمن الآتي، الزمن الذي يأتي بعد القيامة ومجيء الروح (13؛ 7؛ 16: "3- 31). فالأمور العديدة التي تنقص التلاميذ ليست نقاطاً تعليميّة تُزاد على ما قاله يسوع، بل هي الفهم الكامل لشخص يسوع وأقواله.
والروح القدس هو هادٍ أكيد. إنه يقود التلاميذ إلى الحقيّة كلّها، ويرشدهم إلى الحقّ كله. كان مز 25: 5 قد قال: "قُدني نحو حتيقتك وعلّمني"، فطلب من الله معرفة كاملة لحقيقته ووصاياه وشريعته. وفي نصّ يوحنا، إن الحقيقة التي إليها يقودنا الروح هي حقيقة يسوع، حقيقة تعليمه وأعماله وكلّ شخصه. ويجعلنا الروح نلجُ إلى قلب هذه الحقيقة ونكتشف مِلئها.
ج- وحي الروح
ويشدّد يسوع أيضاً (16: 13- 14) على نشاط الروح بالنسبة إلى "الآب والابن"، كما يشدّد على الجديد الذي يعطيه الروح حين يضيء علينا بأنواره. وتعود الفكرة ثلاث مرّات: "لا يتكلّم من عنده، بل يقول كلّ ما يسمع". ثم "يأخذ مما هو لي (كلامي)". عبارتان متقابلتان. فما هو للمسيح هو ما يسمعه الروح منه. ويشدّد النصّ على هذه النقطة التعليميّة: إن الوحي الذي يحمله الروح لا يأتيه منه. فالمسيح لم يتكلّم من عنده (7: 17؛ 12: 49؛ 14: 10) ولم يقل إلا ما علّمه إياه الآب (8: 28؛ 12: 50) وما سمعه من الآب (8: 26، 38). وهكذا لا يتكلّم الروح من عنده، بل يقول ما سمعه. ممّن سمعه؟ من الابن. فهو يأخذ مما هو للابن. ويأخذ من الآب، لأن كل ما هو للآب هو للابن. وهكذا يُدخلنا الوحي إلى قلب سرّ الثالوث: فالوحي واحد ينبع في الآب، يعمل بالابن، يتمّ في الروح.
وهناك لفظة تتكرّر ثلاث مرّات في وعد يسوع بالروح، وتعني: أخبرَ، أعلنَ، كشفَ. بها يفسّر يسوع كيف يُدخلنا الروحُ إلى قلب الحقيقة. بها يبيّن ما يكون نشاط الروح في المستقبل: يعطينا أن نفهم وحياً سابقاً ظلّ خفياً وسرياً. لم يفهم التلاميذ أقوال يسوع، فجاء الروح يشرحها لهم. يقول النصّ: يخبركم بما سيحدث. هذا لا يعني أن يسوع يعد التلاميذ بعطيّة التنبؤ، بل يعني أن الروح يجعلهم يفهمون النظام الاسكاتولوجي وتدبير الخلاص الجديد، على ضوء كلمات يسوع وأعماله. سيفهمون النظام الجديد الذي برز بعد موت يسوع وقيامته. يعطيهم المعنى المسيحيّ للتاريخ، ويجعلهم يكتشفون في كل شيء، آثار مخطّط الله، ويلقون ضوء الوحي الكامل على كلّ حدث وعلى كل زمن. ذاك هو دور الروح بالقرب من التلاميذ. وهكذا يقودهم إلى ملء الحقيقة.

2- الشاهد ليسوع
تحدّثنا عن مهمّة الروح التعليميّة. يبقى لنا أن نشدّد على وجهة أخرى من وجهات نشاط الروح، وهي دوره كشاهد. وهكذا ندخل في إطار دعوى ومحاكمة. نشير هنا إلى أن يوحنا يقدّم حياة يسوع في جوّ محاكمة. ثم إننا لا ننسى الأصل القانوني للقب البارقليط: حينذاك نفهم لماذا أعطى يوحنا أهميّة كبرى لموضوع الروح البارقليط الذي يدافع عن يسوع. قال: "ومتى جاء البارقليط الذي أرسله إليكم من الآب، روح الحقّ المنبثق من الآب، فهو يشهد لي. وأنتم أيضاً ستشهدون، لأنكم من البدء معي" (يو 15: 26- 27).
أ- بغض العالم
إذا أردنا أن نفسّر هذا النصر تفسيراً صحيحاً، نرجع إلى القرينة. فالمقطع السابق (15: 18- 25) والمقطع اللاحق (16: 1- 4) يحدّثاننا عن بغض العالم وعن الاضطهادات. فإطار العداوة هذا، يفسّر دور الشاهد الذي سيلعبه روح الحقّ.
وهنا نتذكّر آيات الأناجيل الأزائيّة (متى، مرقس، لوقا) التي فيها وعد يسوع الرسل بعون الروح خلال الاضطهادات المقبلة: خطبة يسوع في متى والحديث عن المعاملات السيّئة التي يلقاها التلاميذ أمام المحاكم (10: 17- 25). ثمّ الخطبة الاسكاتولوجيّة في مت 24: 9- 14، وفي لو 12: 11- 12 حيث نقرأ: وعندما تُساقون إلى المجامع والحكّام وأصحاب السلطة، فلا يهمّكم كيف تدافعون عن أنفسكم أو ماذا تقولون، لأن الروح القدس يُلهمُكم في تلك الساعة ما يجب أن تقولوا". نجد في هذه النصوص ما يقابل المواضيع المطروحة في يو 15: 18، 16: 4 وهي: بغض العالم، التذكير بالقول المعروف: ليس عبد أفضل من سيّده، إعلان الاضهادات بسبب اسم يسوع، التحذير من الشكوك، المعاملة السيّئة في المجامع، شهادة التلاميذ. تشدّد نصوص الازائيّين على عمل الروح القدس مع التلاميذ وسط هذه الاضطهادات: هو يتكلّم فيهم وبهم (مر 13: 11)، هو يعلّمهم ما يجب أن يقولوه (لو 12: 12). ولكن يوحنا يتفرّد بالقول: إنه يشهد لي. الروح هو الشاهد للمسيح.
فروح الحقّ هذا الذي يرسله يسوع، ينبثق من الآب. هناك من يتحدّث عن انبثاق الروح الأزلّي في داخل الثالوث. وهناك أيضاً حديث عن مهمّة الروح في هذا العالم. فالروح الذي أرسله الابنُ جاء من عند الآب شاهداً للابن وسط البشر.

ب- شهادة البارقليط
كيف نفهم هذه الشهادة؟ هناك من قال: عمل الروح في إعلان الانجيل. وآخرون: العجائب والأعمال التي قام بها الرسل. وغيرهم يدخلون في إطار العداوة التي يدخل فيها وعد يسوع بإرسال الروح فيشدّدون على اتهّامات يسوع ضد قضاة يسوع الأشرار. إذاً، ننطلق من إطار الاضطهادات لنفهم معنى هذا النصّ. نشدّد على أن شهادة البارقليط معدّة، بطريقة مباشرة، لا للعالم بل للتلاميذ. البارقليط (الذي أرسله إليكم. آ 26) سيرُسَل إليهم بسبب الاضطهادات التي سيتحمّلونها. ثمّ إن شهادة الروح تتميّز عن شهادة التلاميذ أنفسهم (آ 27). إذاً، لا نستطيع أن نجعل شهادته وكأنها شهادة خارجيّة يؤدّيها التلاميذ المضطهدون أمام المحاكم. فشهادة الروح سابقة لشهادة التلاميذ وهي من طبيعة أخرى. وهدفها الحقيقي ليس أن تُلهم دفاع التلاميذ أو شهادتهم، بل أن تحفظهم من الشكّ ساعة يُمتحن الإيمان ويتعرّض للخطر. يبقى أن نشدّد قبل كل شيء، على الوجهة الداخليّة لشهادة الروح هذه: سيكون دوره إنارة وجدان الرسل وسط المعاكسات وتثبيتهم في إيمانهم. وحين يعرفون تجربة الشكّ، سيفعل الروح فيهم ويشهد أمام ضمائرهم، من أجل يسوع.
ج- محاكمة يسوع
لماذا يُعتبر الروح، بسبب دوره المنير، شاهداً ليسوع؟ الجواب واضح: فالروح يلعب دوراً حاسماً في ما سُمِّيت "المحاكمة الكبرى" في حياة يسوع. ولكنّ طابع المحاكمة طابع علنيّ لا سّري. لهذا يجب أن نتذكّر أن المدلولات اللاهوتيّة الكبيرة عند يوحنا قد تحوّلت تحوّلاً عميقاً. والأمر صحيح بالنسبة إلى موضوع الشهادة وموضوع المحاكمة. فالشهود المختلفون الذين يتحدّث عنهم الإنجيل الرابع لن يقدّموا شهادتهم في وقائع تاريخيّة أمام محاكم بشريّة. إنّهم يشهدون دوماً لشخص يسوع نفسه. وهدف شهادتهم أن يجعلوا الناس يتقبّلون يسوع ويؤمنون به. إذاً، نحن أمام روحنة فكرة الشهادة واستبطانها.
ونستطيع أن نقول الشيء عينه عن المحاكمة. أعلن يسوعُ في الأناجيل الأزائيّة أن تلاميذه سيمثُلون أمام الناس ليُحاكَموا: سيُسلَّمون إلى المجالس ويقفون أمام المحاكم والملوك (مت 10: 17- 18؛ مر 13: 9). أما يوحنا فلا يتحدّث بالتفصيل عن هذه المحاكم ولا عن قضاتها. فالمحاكمة الكبرى التي يفكّر بها يوحنا هي من نوع آخر: إنها الصراع اللاهوتي الكبير الذي يمثّل إطار حياة يسوع، إنها هذه الدعوة بين يسوع المسيح والعالم. وهذه الدعوة تنتهي بالحكم على العالم وبتمجيد المسيح على الصليب. لا يتوقّف يوحنا عند مجرى العدالة التي تحكم على التلاميذ في واقع التاريخ. فهذه المحاكم البشريّة تقف كلّها خلف قوّة وحيدة وسريّة، قوّة لا وجه لها، هي العالم. فموضوع العالم يجعلنا نحسّ بأهميّة القضيّة المعروضة: أنكون مع المسيح أم ضدّ المسيح؟ وهذه الحرب تتجاوز تجاوزاً واسعاً، معارضة اليهود ليسوع خلال حياته الأرضيّة، لتمتدّ إلى البعيد في حياة الكنيسة.
وفي هذه الدعوى الدينيّة الواسعة حيث يتواجه يسوع والعالم، تأخذ شهادة الروح مدلولها الحقيقي: فتجاه عداوة العالم سيتعرّض تلاميذ يسوع من جديد للشكوك: قد يسقطون، قد يرتابون وييأسون! ولكنّ روح الحقّ والمدافع عن يسوع سيتدخّل في تلك الساعة بالذات ويشهد ليسوع في أعماق ضمائرهم، ويثبّتهم في إيمانهم، ويعطيهم الثقة بنفوسهم.
إن فهمنا وعد الروح على هذا الشكل، وجدنا نفسنا في خط سائر المواعيد. فحسب 14: 26 و16: 13، يبدو عمل الروح تعليماً يُفهم التلاميذ أقوال يسوع ويقودهم إلى ملء الحقيقة. والنصّ الذي تفحّصناه الآن يتوقّف عند نشاط الروح، خلال الأزمات: سيلعب الروح دور الشاهد ليسوع. يكشف للتلاميذ كشفاً داخلياً، بُعد تعليم يسوع الحقيقي، ويدعوهم إلى أمانة لا تراجع فيها رغم الاضطّهادات التي يتعرّضون لها. نحن هنا أمام عمل الروح الداخلي مع التلاميذ، وهذا العمل يهدف إلى إنماء حياتهم في الإيمان.

3- متهمُ العالم
الروح يتّهم العالم. يترافق هذا الكلام مع ما قلناه عن موضوع الشهادة ويتمّمه. إن الروح سيؤدي شهادة ضدّ العالم الخاطىء.
حين أعلن يسوع رحيله، امتلأ قلبُ التلاميذ حزناً (16: 6). ولكنّ يسوع شجّعهم فأعلن لهم مجيء البارقليط: "صدّقوني (أقول لكم الحقّ)، من الخير لكم أن أذهب. فإن كنت لا أذهب لا يجيئكم البارقليط. أما إذا ذهبت، فأرسله إليكم. ومتى جاء، وبّخ العالم على الخطيئة والبرّ والدينونة. أما على الخطيئة، فلأنّهم لا يؤمنون بي. وأما على البرّ، فلأنيّ ذاهب إلى الآب ولن تروني. وأما على الدينونة، فلأنّ سيّد هذا العالم قد دين وحُكم عليه" (يو 16: 7- 11).
أ- الروح يبيّن خطأ العالم
يحدّد يسوع في هذا الكلام دور الروح العتيد بالنسبة إلى العالم. فالفعل اليوناني يعني وبّخ أو بكّت أو أخزى. يتفحّص القاضي القضيّة ويسأل ويمتحن ثم يقوم بالاستجواب ويبيّن نتيجة ما توصّل إليه. أما إذا كنّا أمام شخص، فنقول: أقنعه بخطأه، قدّم له البرهان أنه مذنب. وفي يو 16: 8: يبرهن البارقليط للعالم أنه مخطىء. يقدّم البراهين ضدّ العالم ويُقنعه بذنبه. وهذا يعني أن عمل الروح المقنع سيجعل الخطأة يُقرّون بخطيئتهم ويتوبون. ولكنّنا نتساءل: أمام من سيقدّم البرهان؟ أمام العالم نفسه، بفم التلاميذ الذين يوبّخون العالم بشهادتهم الثابتة فلا يعود له ما يقوله: وهكذا نكون في إطار اسكاتولوجي. أما في حياة الكنيسة اليوميّة، حيث يتّصل التلاميذ بالعالم اتصالاً مستمراً، فماذا سيكون دور البارقليط؟
سيبرهن البارقليط عن شّر العالم وذلك في وجدان الرسل الحميم. إليهم يأتي ولأجلهم يأتي، كما يقول النصّ: إن كنت لا أذهب لا يجيئكم البارقليط. أما إذا ذهبت فأرسله إليكم (آ 6). ونقرأ أيضاً في الآيات اللاحقة: "يقودكم إلى الحقّ كله" (آ 13). ثمّ إن آ 10 تدلّ على أن الموضوع هو المؤمنون: "لأنّكم لن تروني".
إذاً، هذا هو معنى الوعد: حين يبرز الروحُ خطيئة العالم، يفعل بطريقة داخليّة في أعماق وجدان التلاميذ. ففي المحنة التي يخضع لها إيمانهم سيعطيهم الروح اليقين أن العالم خاطىء وأن الحقيقة هي بجانب يسوع. إذا كان هذا هو معنى وعد يسوع للرسل، فسيكون هذا الوعد عملياً. طردت الجماعة اليهوديّة الرسل بسبب تعلّقهم بيسوع وحسبتهم أشراراً واعتبرت موتهم فعل عبادة تقدّمه لله. كان كلّ هذا محنة للرسل. ولكنّهم سيجدون مدافعاً عنهم وفيهم. هو يؤكّد لهم أنّهم في الحقّ، وأن إيمانهم يرضي الله، وأن ما يقوله المضطّهدون هو الخطأ عينه.
أجل، يوم عمل البارقليط، قام بتثبيت التلاميذ في إيمانهم خلال الأزمات: ربطهم بيسوع ربطاً أوثق وأكّد لهم خطأ العالم. وحين يتقوّى إيمان التلاميذ، يستطيعون أن ينتصروا على الشكوك، وأن ينتصروا على العالم: "إيماننا انتصارنا على العالم" (1 يو 5: 4). والبرهان الذي يقدّمه روحُ الحقّ يتمّم نصر المؤمنين. ولكنّ هذا النصر سيكون باطنياً وروحياً: ففي عمل الروح السّري، سيجد التلاميذ القوّة الضروريّة ليقاوموا تيّار العالم الكاذب فلا يجرفهم، وليبقوا أمناء للمسيح.
ب- الخطيئة والبرّ والدينونة
وسيبرهن الروحُ خطأ العالم في ثلاثة مجالات: الخطيئة والبرّ والدينونة. إن يسوع قد رذله اليهود خلال حياته العلنيّة وحكموا عليه خلال الآلام. فالبارقليط سيعيد النظر في هذه المحاكمة، ويبيّن للتلاميذ أن المخطىء هو العالم، وأن الحقّ هو بجانب يسوع، وأن المحكوم عليه هو سيّد هذا العالم.
ويستعيد النصّ الوجهات الثلاث لاتّهام العالم بفم الروح البارقليط. أما على الخطيئة فلأنّهم لا يؤمنون بي". هذا هو جوهر الخطيئة: رفض العالم أن يؤمن بأن يسوع المسيح هو ابن الله. "وأما على البرّ فلأني ذاهب إلى الآب ولن تروني". يتحدّث النصّ عن برّ المسيح لا عن برّ المسيحيّين. فالبرّ هو قداسة المسيح الشخصيّة وصداقته مع الله وحقّه في صراعه مع العالم. وهنا البرّ يعني: الغلبة، الانتصار، المجد. فبرّ يسوع هو انتصاره وتمجيده السماوي عندما يعود إلى الآب. وإذ يؤكّد البارقليط للتلاميذ أن يسوع هو في المجد، فهو يعمل على إظهار ضلال العالم وخطيئته. "وأما على الدينونة فلأنّ سيّد هذا العالم قد دين وحُكم عليه". خلال الدعوى بين يسوع والعالم تتحدّد النهاية، ساعة آلام يسوع وموته: فارتفاعه (وتمجيده) فوق الصليب ورفض العالم أن يؤمن به، يكوّنان دينونة العالم والحكم على رئيسه الذي هو الشيطان. فعمل الروح القدس المنير سيتيح للرسل أن يكتشفوا، من خلال أحداث موت يسوع، سيّد هذا العالم الذي كان المحرّك الحقيقيّ لليهود والوثنيّين معاً.

خاتمة
حين نُلقي نظرة إلى مواعيد يسوع، ندرك وحدتها: فهي ترتبط كلّها، بإيمان تلاميذ يسوع. شدّد الوعد الأول على المعارضة الجذريّة بين العالم والمؤمنين (يو 14: 16- 17). وتطرّق الوعدُ الثاني (14: 26؛ 16: 12- 15) إلى دور الروح التعليمي. والوعدُ الثالث (16: 7- 11) إلى عمله في الدعوى التي يتقابل فيها يسوع والعالم. وفي كل هذه الحالات، سيكون دور الروح البارقليط بأن يعمّق إيمان التلاميذ فيفهمهم من الداخل، حياة يسوع وتعليمه ويثبّت إيمانهم المترجرج ضدّ هجمات العالم.
وهكذا نفهم لماذا سُمّي البارقليط روح الحقّ. فالحقّ هو المجال الذي فيه مارس الروحُ عمله. أما وظيفته في لاهوت القديس يوحنا فتقوم بأن يوصل إلينا الحقيقة، وأن يعلّمنا إيّاها من الداخل، وأن يجعلها تلجُ بعيداً في قلوب المسيحيّين. أجل، بفضل عمل الروح الخفيّ، تستمرّ كلمةُ يسوع في الكنيسة وتبقى فاعلة إلى منقضى الدهر.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM