الحقيقة في الإنجيل والرسائل اليوحناوية

الحقيقة في الإنجيل والرسائل اليوحناوية

مقدمة
يحتل مفهوم الحقيقة عند يوحنا مكانة مرموقة، حيث إنّ تفكيره اللاهوتي ينصبّ على موضوع الوحي. يفسّر البعض لفظة "حقيقة" بالمعنى الأفلاطوني أو المعنى الغنوصي، كما لو كانت الحقيقة "الذات الإلهية" التي تكشف عن نفسها للإنسان. إلاّ ان يوحنا لا يطلق البتة لفظ "الحقيقة" على الله، كما لا يقوم يوحنا إلاّ بشرح موضوع الحقيقة الموحاة، طبقًا لخلفية رؤيوية وحكمية حيث نجد تعاطفًا بين الحقيقة والحكمة والأسرار. كذلك يتميّز الكاتب بإبراز طابع الوحي للحقيقة وقوتها الباطنية.
تتميّز الحقيقة المسيحية من الحقيقة الفلسفية والحقيقة التاريخية، لأنها ترتكز أساسيًا على حقيقة الوحي، أي حقيقة الإيمان. أجل، تصدر الحقيقة عن الله، كما أنّ الله يعطيها لشعبه ومن خلاله للناس أجمعين ليكشف لهم عن معنى وجودهم الأخير. نجد في صلاة تعود إلى الجماعة القمرانية، أنّ "سرّ الحقيقة" يطابق "أسرار الله العجيبة". وتكمن هذه الحقيقة في أسفار الشريعة، وبالتالي يتساوى الاهتداء إلى "الحقيقة" مع الاهتداء إلى "شريعة موسى". كذلك يسلك "أبناء الحقيقة" في "سبيل الحقيقة" والطريق الموسوية. يكتب الأب جان بريك: "تُعطى الأسرار الإلهية كوحي إلى "جماعة الحقيقة"، وتصبح هذه الأسرار واضحة من خلال تفسير صحيح للكتب المقدسة. إنها تتعلّق "بالمخطط الخلاصي"، ذلك القصد الإلهي الأخير الذي وضعه الله لسير التاريخ الذي ينتهي في افتقاد الله لشعبه... وتصبح الحقيقة وحي حقيقة الله ذاتها وتجلّيها". ترتبط الحقيقة إذًا بمخطط الله الخلاصي الذي أوحاه يسوع إلى البشر.
يسوع وحده في العهد الجديد يبدأ كلامه أو ينهيه باستعمال عبارة "آمين، آمين" الظرفية (مكرّرة عند يوحنا؛ راجع يو 1: 51؛ 3: 5...) للتأكيد على القول والتفخيم. تعود الكلمة اليونانية إلى أصلها العبري "أمن"، وتركز على يسوع الذي يتكلّم لأنّ كلامه مليء بالثقة. ينتظر بالتالي يسوع من مستمعيه أن يلتزموا بهذا الكلام.

1- الكلمة والحقيقة
لا يسمّي يوحنا الله "الحقيقة"، ولكنه يسير في خط الكتاب المقدس ويتبع التقليدين الحكمي والرؤيوي إذ يتطرق إلى موضوع الحقيقة الموحاة. ويشدّد البشير من جهة على أنّ الحقيقة هي الوحي وأنّ هذه الحقيقة الموحاة تتمحور حول المسيح، ويركز من جهة ثانية على عمل الحقيقة الداخلي في حياة المؤمن. كما أنّ حقيقة المسيح لا تستطيع أن تمرّ إلى حقيقة المؤمن إلاّ من خلال عمل "الروح" الذي يهب الحقيقة.
نجد في رسالة يوحنا الأولى تطابقًا بين عبارتي "الحقيقة" و"كلام" الله. يكتب الرسول: "إذا قلنا: إننا بلا خطيئة، ضللنا أنفسنا ولم يكن الحق فينا... وإذا قلنا: إننا لن نخطأ، جعلناه كاذبًا ولم تكن كلمته فينا" (1 يو 1: 8 و10). تدل هذه الحقيقة على "كلمة الآب" التي هي حق (يو 17: 17)، وهي بالتالي الكلمة التي سمعها يسوع من لدن الله (يو 8: 40). يقول يسوع هذه الحقيقة علنًا: "أما أنا فلأني أقول الحق لا تؤمنون بي... فإذا كنت أقول الحق، فلماذا لا تؤمنون بي؟ من كان من الله استمع إلى كلام الله" (يو 8: 45-47). يعلن يسوع هذه الحقيقة لأنه جاء إلى العالم بهدف معيّن: "... وأنا ما وُلدت وأتيت العالم إلاّ لأشهد للحق" (يو 18: 37).
تصبح الحقيقة اليوحناوية في أساسها كلمة الآب التي يوصلها لنا المسيح ويتخذها هوية له. يؤمن به الإنسان عندما يتقبّل هذا الكلام وهذه الحقيقة: "إن ثبتم في كلامي، كنتم تلاميذي حقًا. تعرفون الحق، والحق يحرركم" (يو 8: 31-32). تتجلى هذه الحقيقة وتُعطى في يسوع. ولذلك فالإيمان به هو أيضًا معرفة الحقيقة وتقبلها. فالحقيقة هي إذًا في الوقت نفسه، الكلمة التي يوجّهها إلينا المسيح نفسه، والتي يجب أن تقودنا إلى الإيمان به. يقول أ. ميلانو: "نجد من خلال هذه النصوص تركيز مسيحاني حول الحقيقة عند يوحنا". تلتقي الحقيقة في رسالة يسوع الزمنية، في كلامه، في كيانه. إنها الكشف الذاتي عن شخصه، وبالتالي الوحي بما هو في الأعماق، أي إنه ابن الله الوحيد. إنها الحركة النازلة من قبل الله نحو البشر: إنها حركة التجسد. وهذا ما عبّر عنه الآباء اليونان بفكرة "التنازل" الإلهي.

2- يسوع والحقيقة
أضافت المسيحية مفهومًا جديدًا إلى التقليدين الحكمي والرؤيوي من العهد القديم. ما جاءت به هو أنها أطلقت على المسيح صفة "الحقيقة" لا بصفته الإلهية فحسب، بل من حيث إنه الكلمة الذي صار بشرًا وهو يحمل في ذاته ملء الوحي ويخبرنا عن الآب: "إن الله ما رآه أحد قط، الابن الوحيد الذي في حضن الآب هو الذي أخبر عنه" (يو 1: 18). أجل، الابن الوحيد المشارك في حياة الآب على وجه مطلق، وهو وحده قادر على هداية البشر إلى المعرفة وإلى الحياة. يغدو يسوع بأعماله وأقواله كلها الموحي بالله والمعبّر عنه.
يقدّم لنا الاب دولابوتوري تعليقًا على نصين من انجيل يوحنا (1: 14-18؛ 14: 6). يؤلف النص الاول (1: 14-18) نواة مفهوم يوحنا عن التجسد. ويشكل تجسّد الكلمة في الواقع البشري حدثًا هامًا في تاريخ مخطط التدبير الخلاصي، إذ يتحدّى المسيحيين ويضعهم أمام خيار حاسم. إنه ليس مجرد "مظهر" (راجع 1يو 4: 2). يأخذ هذا الكاتب بتفسير القديس اكليمنضوس الاسكندري الذي يعطيه عن عبارة "ملؤه النعمة والحق" الواردة في الآية. يعتبر اكليمنضوس هذا الجزء من النص بشكل حقيقة واحدة تتألف من جزئين (Hendiadys)، ويفسّرها على النحو التالي: إن "حقيقة" الكلمة المتجسد هي "نعمة" من الآب. إنها ملء الوحي وحاضرة في الانسان يسوع الذي رآه التلاميذ وشهدوا له: "... ذاك الذي رأيناه وسمعناه، نبشركم به أنتم أيضًا" (1 يو 1: 3). كما يدل هذا "الملء" (آية 16) على فيض الخيرات الروحية الذي يزداد في المسيح الكلمة وبه وحده.
يشكل هذا النص (1: 14-18) محورين يحملان المسيحانية اليوحناوية ويدخلانها في تاريخ البشرية الخلاصي. يقوم المحور المسيحاني الاول "الأفقي" على اكتمال شريعة موسى وكمالها في حقيقة يسوع المسيح (آ 17). بينما يقوم المحور الثاني "العامودي"، وهو نازل، على مجيء الابن الوحيد من عند الآب. كما يؤلف يسوع المسيح نقطة التقاء هذين المحورين لانه ابن الله الوحيد. تمكّن هذه البنوّة الابن من الاشتراك بلاقيد في "النعمة والحقيقة". ويقول يوحنا في خاتمة انجيله: "إنما كتبت هذه لتؤمنوا بان يسوع هو المسيح ابن الله..." (20: 31).
أمّا النص الثاني فيقوم على الآية التي وردت في جواب يسوع لتوما: "قال له يسوع: أنا الطريق والحق والحياة" (14: 6). يتعلق تفسير هذه الآية بالعلاقة التي نضعها بين هذه الكلمات الثلاث. لا يدلّ الحق والحياة على الهدف نفسه الذي يدل عليه الطريق، بل إنهما يشيران إلى ما يقوله يسوع عن نفسه أنه هو "الطريق". لأنه هو، الانسان يسوع، الحق والحياة. أجل، يسوع هو الطريق نحو الله، لأنه كأنسان هو الحق ولانه يعبّر تعبيرًا تامًا للبشر عن الآب، ويكشفه لهم بعمله وقوله. لقد كشف لنا هذا الابن المتجسد في ذاته بنوته الالهية وأعطانا القدرة على أن نصير "ابناء الله" (يو 1: 12). يقول يوحنا في رسالته الاولى: "... لتكون لكم أيضًا مشاركة معنا، ومشاركتنا هي مشاركة للآب ولأبنه يسوع المسيح" (1 يو 1: 3). لا انقطاع إذًا في خط الاتصال الذي يربط في اتحاد محبة وحق واحد بين يسوع المسيح وأبيه من جهة، وبينه وبين شهوده الأولين من جهة أخرى. بالاضافة إلى ذلك، إن الحقيقة التي يتكلم عنها يسوع هي تلك "الحياة (التي) ظهرت... ونبشركم (بها)... التي كانت لدى الآب فتجلت لنا" (1 يو 1: 2).
يستشهد دولابوتوري بابوليناريوس اللاذقاني الذي يقول: "هذه هي الحقيقة التي يتكلم (يسوع) عنها: إنه يكشف عن نفسه للانسان، ومن خلال معرفته نفسه، يمنحهم الخلاص". لقد فتح لنا يسوع السبيل الذي يقودنا إلى الآب، لانه كان هو ذاته الطريق، وقد أظهر لنا نفسَه وهو الأبن الوحيد للآب. تكمن "الحقيقة" إذًا في ذلك "الحدث" الكاشف والمبين والموحي عن ذلك السر العظيم؛ إنه ابن الآب. ليس يسوع طريقًا بقدر ما يقود المؤمن بتعليمه إلى الحياة فحسب، بل هو الطريق المؤدي إلى الآب بقدر ما هو نفسه "الحق والحياة". وهذا ما دعا الاسقف زيزيولاس إلى القول: "نقطة الانطلاقة الوحيدة لمفهوم الحقيقة المسيحي هي الكريستولوجيا".

3- الروح والحقيقة
لا يخشى يوحنا من القول بان "الروح هو الحق" (1 يو 5: 6)، كما إنه يستعمل أيضًا عبارة "روح الحق" (يو 14: 17؛ 15 ك 26؛ 16: 13؛ 1 يو 4: 6). هذا الروح الذي يأتي من يسوع يعمل في تأوين حقيقة يسوع وتفعيلها وتنشيطها ليجعلها قوية ومؤثرة (يو 1: 33؛ 7: 38-39؛ 19: 30، 34؛ 20: 23). أجل، الروح هو الحق إذ لا يخفى علينا أنّ الحق الذي أتى به يسوع يصبح بالروح حاضرًا وناشطًا.
ينبئ يسوع تلاميذه، بعدما أتمّ وحيه للعالم (يو 12: 50)، عن مجيء "مؤيد آخر" ويدعوه "روح الحق". يقول يوحنا البشير: "وأنا (يسوع) سأسأل الآب فيهب لكم مؤيدًا آخر يكون معكم إلى للأبد. روح الحق الذي لا يستطيع العالم أن يتلقاه لأنه لا يراه ولا يعرفه (يو 14: 16-17). إنه "البارقليط". يدل هذا اللفظ اليوناني، المقتبس من لغة القانون، على من يُستدعى لدى المتّهم للدفاع عنه. يصبح هذا الباراقليط المحامي والمدافع والمساعد، وبالتالي المعزّي والشفيع. إن روح الحق الذي يمنحه المسيح يعارض روح الضلال والكذب المسيّطر على العالم (يو 8: 44).
يتمحور عمل الروح المعزي على دورين هامين. يقوم الدور الاول، قبل كل شيء، على أن هذا الروح هو الشاهد ليسوع: "ومتى جاء المؤيد الذي أرسله اليكم من لدن الآب، روح الحق المنبثق من الآب، فهو يشهد لي" (يو 15: 26؛ 1 يو 5: 6). يشهد الروح ليسوع في قلب التلاميذ عندما يحصل الحكم بين العالم وبين يسوع. كذلك يشدّد الروح إيمان هؤلاء التلاميذ ويمنحهم الثقة التامة بأنفسهم ليكونوا بدورهم شهودًا ليسوع ويقهروا العالم. يقول الرسول "لأنّ كل ما وُلد لله يغلب العالم. وما غلب العالم هذه الغلبة هو إيماننا. من الذي غلب العالم إن لم يكن ذاك الذي آمن بان يسوع هو ابن الله؟" (1 يو 5: 4-5).
يقوم الدور الثاني الذي يلعبه الروح المعزي على تعليم التلاميذ. سيذكرهم ويعلمهم بطريقة جديدة جميع ما قاله يسوع ويعيده إلى أذهانهم ليجعلهم يدركون المعنى الحقيقي لأقواله. "إنّ التلاميذ الذين سبق لهم أن شاركوا يسوع في حياته في الارض (يو 15: 27؛ أع 1: 21) يحفظون ذكرى ما عمله وقاله، وسيساعدهم روح المسيح القائم من الموت على ادراك معنى أعماله العميق... والروح يعلمهم كل شيء... إذ يجعلهم يتفهمون حقيقة يسوع ومعنى الاشياء في صلتها به تفهّمًا تدريجيًا". ويشدد يسوع في وعده الأخير لتلاميذه عن مجيء الروح القدس: "فمتى جاء هو، أي روح الحق، أرشدكم إلى الحق كله لأنه لن يتكلم من عنده، بل يتكلم بما يسمع ويخبركم بما سيحدث. سيمجدني لانه يأخذ مما لي ويخبركم به. جميع ما هو للآب فهو لي ولذلك قلت لكم إنه يأخذ ما لي ويخبركم به" (يو 16: 13-15). يعمل روح الحق إذًا على كشف معنى الحياة الحقيقي وتوضيح معاني كلام يسوع الخفية.
ستؤدي هبة الروح بالتلاميذ إلى تفهّم الحقيقة تفهمًا عميقًا، وهي الحقيقة المكشوفة في الابن المتجسد. وكما أنّ المسيح يستند دائمًا إلى الآب الذي أرسله، كذلك يُحيل الروح على الابن، ولن يكون هناك وحي جديد مستقل عن الوحي الممنوح في يسوع المسيح. يستخدم يوحنا في النص السابق مرتين فعل "أخبر" ويربطه بما يتمّ في يسوع الذي يتمجّد بقدر ما يهدي الروح التلاميذ إلى معرفة الحقيقة المتجلية في المسيح. يُنجز بالتالي الروح القدس عمله القائم على تمجيد الآب وكشفه. "هكذا تظهر وحدة الوحي التي لا تُنقض". يستعمل المجمع الفاتيكاني الثاني، في دستور الوحي الالهي مفهوم النص اليوحناوي 16: 13-15 ليصف التقليد المقدس المتجه نحو "الحقيقة كلها"، إذ إنها تتضمّن كلام الله. أجل، يسعى التقليد في التعمق في حدث الحقيقة التي هي وحي الله في يسوع المسيح: "وهكذا تسعى الكنيسة، بلا انقطاع، وعلى ممر العصور، أن تبلغ الحقيقة الالهية كاملة، إلى أن يحين لها الوقت، فتتحقق فيها جميع أقوال الله" ("كلمة الله" 8).

4- الحقيقة في حياة المؤمن
يشدّد يوحنا بوضوح على دور الحقيقة في حياة المؤمن الذي يغدو "عاملاً" للحق. يُعدّ هذا العمل أول خطوة لدخول المؤمن في الايمان الحقّ. وبالتالي يجعله يعبر من الايمان إلى المعرفة. هكذا يبلغ المؤمن إلى هذه المعرفة لأنه أصبح "في الحقيقة" ولأنّ ما يصدر عنه يدفعه أن يكون "من الحقيقة". وهذا اكليمنضوس الاسكندري في نص جميل من كتابه "المربّي" يقول عن ابناء الله: "يدل لقب "أبناء الله" الذي نتخذه لأنفسنا على ربيع حياتنا. فالحقيقة التي فينا لا تذبُل أبدًا، لاّنّ وجودنا بأسره يستقي من هذه الحقيقة" (كتاب "المربّي"، جزء أول ،5 20).
4. أ- يستعمل يوحنا عبارة "يعمل الحقيقة" التي تدلّ على تكييف السلوك بالحق: "أمّا الذي يعمل بالحق، فيُقبل إلى النور، لتُظهر أعماله وقد صنعت في الله" (يو 3: 21). تعود هذا العبارة إلى العهد القديم وتدل في الدين اليهودي على السلوك الخلقي المطابق للشريعة. نجد أيضًا هذه العبارة في رسالته الاولى: "فاذا قلنا: لنا مشاركة معه، ونحن نسير في الظلام، كنّا كاذبين ولم نعمل للحق" (1 يو1: 6). تحفظ هنا العبارة هذا الطابع العملي والوجودي. غير أن يوحنا يفسّر هذه العبارة مطلقًا إياها على الاهتداء ونشوء الايمان. "فالحق، في نظر يوحنا، هو كلمة الله (راجع 1 يو 1: 8 و10) المعلنة على لسان يسوع المسيح والنافذة إلى قلب المؤمن لتحوّل حياته". كذلك يستعملها يوحنا في المقطع السابق 3: 21 ليدل على أول خطوة ايمانية يقوم بها الانسان، وعلى السير نحو الايمان. لذا يضع يوحنا هذه العبارة بالموازاة مع عبارة "النور". إنه نور الوحي الالهي الذي أضاء العالم بيسوع المسيح، ولكن العالم رفضه: "... إنّ النور جاء إلى العالم، ففضّل الناس الظلام على النور، لأنّ أعمالهم كانت سيئة. فكل من يعمل السيئات يُبغض النور، فلا يُقبل إلى النور لئلا تُفضح أعماله" (يو 3: 19-20).
على هذا النحو، يرى يوحنا في الحقيقة مبدأ السلوك الباطني ويشحن عبارة "العمل بالحقيقة" الكتابية بملء المعنى المسيحي. ويشرح لنا يوحنا هذا "العمل" من خلال نص ثان: "فاجابهم يسوع: عمل الله أن تؤمنوا بمن أرسل" (يو 6: 29). هذا هو الجواب على سؤال التلاميذ: "ماذا نعمل لنقوم بأعمال الله؟" (يو 6: 28) أي الاعمال التي ينتظرها الله من الانسان. يرفض يوحنا تعداد الاعمال، بينما يصرّ على الايمان بالذي أرسله الله. يقصد البشير في هذا الجواب الاشتراك في تحقيق الاعمال التي يقوم بها الله عن يد ابنه الذي عهد اليه هداية البشر إلى الحياة الابدية. إزاء النور الآتي إلى العالم (راجع يو 3: 19)، يُطلب من الانسان أن "يعمل الحقيقة"، وبالتالي أن يتقبّل حقيقة يسوع وأن يجعلها في داخله.
تعني عبارة "يعمل الحقيقة" "ممارسة الأمانة وموافقة حياة المؤمن مع مشيئة الله كما تظهر في الشريعة، وبالتالي سلوك أخلاقي مستقيم وعادل وأهل للكرامة"؛ فهي كذلك قبول حقيقة يسوع وتبنّيها. ويتضمّن هذا "العمل" اعتراف الانسان أولاًّ بخطيئته ليرتدّ إلى المسيح ويهتدي مجدّدًا ودائمًا اليه. وثانيًا بان "الايمان يدفعه من الداخل إلى أن يأتي إلى النور".
4. ب- كان الايمان بمثابة خطوة أولى نحو المعرفة، إذ إنه يؤهل المؤمن إلى اتحاد وثيق مع مصدر النور. يشدّد يوحنا على المؤمن الحقيقي أن يعبُر من "الايمان" إلى "المعرفة"، أي من الايمان الاوّلي والبدائي إلى معرفة الحقيقة التامّة. يذكرنا البشير بذلك في رسالته الثانية، عندما يتطرّق إلى الكلام عن المسيحيّين الحقيقيّين: "... وهم جميع الذين عرفوا الحق" (2 يو 1). أجل، إنهم المؤمنون الحقيقيون الذين ثبتوا في الحق وصمدوا في إيمانهم ضد هجمات البدع إذ "إنّ الآب والابن معهم" (2 يو 9).
يشرح يو هذا العبور في مقطع يضع فيه الثبات في كلام يسوع جنبًا إلى جنب معرفة الحق: "... إن ثبتم في كلامي، كنتم تلاميذي حقًا. تعرفون الحق، والحق يحرركم" (يو 8: 31-32). يؤكد البشير على ايمان أولئك التلاميذ الاوّلي ويقول "ثبتم في كلامي"؛ إنه الانضمام الوثيق إلى الذي فيه تنطق كلمة الله الحق (راجع يو 15: 7؛ 1 يو 2: 24 و27؛ 3: 9). فالتلميذ الحقيقي ليسوع هو الذي يجعل كلام يسوع جزءًا منه وفي داخله. هذا هو الشرط الاساسي ليعرف التلميذُ الحقيقة ويتحرّر داخليًا من الخطيئة، ويتطهّر بكلمة يسوع (يو 15: 3)، ويتحرّر بالابن نفسه (يو 8: 36). أجل، إنّ الذي يثبت على هذا النحو في كلمة يسوع، هو الذي يستطيع وحده أن يصل إلى معرفة الحقيقة وإلى التحرّر الباطني من الخطيئة بقوة هذه الحقيقة. تصبح الحرية، التي حصل عليها المؤمن من المعرفة، وجهًا من وجوه البنوّة المضادة للعبودية. وتدل الخطيئة في نظر يوحنا، التي هي جهل لله وانفصال عنه، على حالة استعباد أو اغتراب. والابن وحده قادر، لاتحاده بالآب، على أن يشرك المؤمنين الحقيقيين في حياته. قال القديس أوغسطينس: "إن المؤمن يصبح منزّهًا عن الخطيئة "بقدر ما يثبت في المسيح" (راجع يو 5: 18)".
يستشهد كذلك الاب دولابوتوري بالتفسير الذي يعطيه القديس أوغسطينس عن يو 7: 16 ("ليس تعليمي من عندي، بل من عند الذي أرسلني") والذي يتطابق مع يو 8: 32 ("تعرفون الحق. والحق يحرركم"). يقول القديس: "هل تريد أن تفهم؟ آمن. لأن الله يقول بلسان نبيّه: إن لم تؤمنوا فلن تفهموا" (راجع أش 7: 9 LXX). ويستطرد الاب دولابوتوري إلى قوله: "هناك إذًا تدرّج من الايمان إلى المعرفة".
4. ج- عبارة "في الحقيقة"
تعود هذه العبارة، وهي من أصل سامي، مرات عديدة في يوحنا. يستعملها يوحنا سبع مرات بطريقة اعتيادية (يو 17: 17 ,19؛ 2 يو 1 و4؛ 3 يو 1 و3 و4)، ويعطفها على الروح (يو 4: 23-24)، والعمل (1 يو 3: 18)، والمحبة (2 يو 3). غير أن حرف الجر لا يدل على معنى "الاداة"، بل تأخذ هذه العبارة المجازية معنى "مكانيًا" شاملاً.
يعطي يوحنا لهذه العبارة بُعدًا آخر، فالوجود المسيحي الحقّ يدور في إطار روحي ليصبح بالتالي "العيش في الحقيقة". نعرف، كما ذكرنا آنفًا، أنّ الحقيقة هي يسوع نفسه لأنه يكشف ذاته لنا. يغدو الانسان الذي يعيش "في الحقيقة" التلميذ الحقيقي. كذلك تصبح الحقيقة لذاك التلميذ "المحيط" الروحي الذي ينمو فيه وجوده. يتطلب هذا النمو من التلميذ "السلوك في سبيل الحقيقة". ويستخدم يو عبارة "سلك في الحقيقة" (2 يو 4؛ 3 يو 3 و4)، وهي عبارة يوحناوية في العهد الجديد، ليدل على سلوك الانسان الاخلاقي في عمله ضمن هذا الاطار الروحي للحقيقة، في إشعاع محبة الآب التي تجلت لنا في يسوع. أجل، إنه يحيا في نور وصية المحبة، الآتية من الآب: "والمحبة هي أن نسلك سبيل وصاياه، وتلك الوصية،... هي أن تسلكوا سبيل المحبة" (2 يو 6). هذا ما يدعونا إلى القول بانّ الاخلاقية اليوحناوية تتمركز في هاتين العبارتين "في الحق والمحبة" (2 يو 3).
تصبح هكذا الحقيقة مصدر المحبة الأخوية، لأنّ هذا المصدر هو فائق سامٍ وبالوقت نفسه حاضر مُلزم (immanent). والحقيقية عند يوحنا لها ديناميّة وحركة. تظهر هذه الحركة عند يوحنا "نازلة" لانها مرتبطة بالتجسد. ويقدّم لنا يوحنا وصفًا للصلة بين "محبة الله" (1 يو 5: 3) ومحبة "ابناء الله" (1 يو 5: 2)، أي العلاقة بين المحبة والحقيقة. يقول في رسالته الاولى: "إنما عرفنا المحبة بأنّ ذاك قد بذل نفسه في سبيلنا. فعلينا نحن أيضًا أن نبذل نفوسنا في سبيل أخوتنا. من كانت له خيرات الدنيا ورأى بأخيه حاجة فأغلق أحشاءه دون أخيه فكيف تقيم فيه محبة الله؟" (3: 16-17). فالمسيح الذي منحه الله من أجلنا بعمل محبة هو الحقيقة، كما أنّ أعمال محبتنا تُظهر بأننا ننتمي إلى الحقيقة.
علينا أن نعي وعيًا تامًا البُعد السامي والباطني للمحبة، والتعبير عنه على المستوى الجماعي لنفهم بعمق ما يقوله لنا البشير. "يا بنيّ، لا تكن محبتنا بالكلام ولا باللسان، بل بالعمل والحق. بذلك نعرف أننا من الحق ونسكّن قلبنا لديه" (1 يو 3: 18-19). أجل، الكلمة التي تتدفق إلى الخارج هي التي تساعد على الاتصال مع الاخوة، ويصبح اللسانُ الاداة الداخلية والضرورية لهذا الاتصال. هكذا، وعلى هذا المثال، تتضمّن المحبة المسيحية بُعدين، واحد خارجي وآخر داخلي. وهذا ما يعبّر عنه يوحنا بقوله "بالعمل" (راجع آية 17) ومصدره فينا، وبالحق الموجود فينا.
غير أن المؤمن معرّض للابتعاد عن الحقيقة إذ إنّ ابليس، ويدعوه يوحنا "أبا الكذب"، لا يثبت "في الحق" لأن الحق غير موجود فيه، ولأنّ كيانه قائم على رفض الحق: "كان (إبليس) منذ البدء قتّالاً للناس، ولم يثبت على الحق لأنه ليس فيه شيء من الحق. فاذا تكلم بالكذب تكلم بما عنده، لانه كذّاب وأبو الكذب" (يو 8: 44). يقف إبليس حاجزًا بين المؤمن والحقيقة، ويسعى بان تظلّ بعيدة عنه حتى يبقى تحت سلطان العبودية والموت. هكذا يصير "طريق" الانسان المستعبد لأبي الكذب بعيدًا عن الحقيقة وعن محبة الله ومحبة الأخوة.
يشير بالتالي يوحنا إلى أنّ "الذين يعرفون الحق" هم وحدهم قادرون على محبة اخوتهم "بالحق". يدلّ ذلك على أن المسيحيين، ويتكلم يو عن جماعته بالضمير المتكلم "نحن"، إذا أحببنا اخوتنا "بالحق"، يكون ذلك "بفضل الحق المقيم فينا" (2 يو 1-2). نلحظ الطابع الجدلي في هذه العبارة للدلالة على المؤمنين الحقيقيين: نحن "في" الحق، والحق الحاضر "فينا" يصبح الينبوع الذي نستقي منه المحبة المسيحية.
أجل، تقودنا هذه المحبة إلى السجود والعبادة التي يبعثها الروح في المؤمن. لذا يجيب يسوع المرأة السامرية: "صدّيقيني أيتها المرأة، تأتي ساعة- فيها تعبدون الآب لا في هذا الجبل ولا في أورشليم... ولكن تأتي ساعة- وقد حضرت الآن- فيها العباد الصادقون يعبدون الآب بالروح والحق" (يو 4: 21، 23)، يدل هنا حرف الجر على ظرف محلي. أمّا في الزمن المسيحاني الأخيري الذي بدأ مع يسوع، لا تقوم العبادة الحقّة في الجبل أو في الهيكل الحجري، بل "في الحق". تقوم هذه العبادة إذًا، بفضل عطية الروح، لأنّ الوجود الالهي مرتبط بشخص يسوع وهو ابن الآب. كذلك "تبرز الحقيقة على أنها قاعدة التصرّف المسيحي، وواقع يوجّه الديانة الجديدة التي يريدها للآب". هكذا يستطيع المؤمن أن يعرف الله ويعبده على أنه الآب.
يربط يوحنا من جهة اخرى عبارة "في الحق" مع تقديس المؤمن عندما يسأل يسوع الآب في صلاته الكهنوتية أن "يكرّس" تلاميذه: "كرسّهم بالحق.... وأكرّس نفسي من أجلهم ليكونوا هم أيضًا مكرّسين بالحق" (يو 17: 17 و19). يشير حرف الجر إلى معنى مكاني. ويضع الاب دولابوتوري الآية (11 ب) من الفصل ذاته بموازاة هاتين الآيتين السابقتين ليشرح هذا الحرف: "احفظهم باسمك الذي وهبته لي". يصبح الحقّ الكشف عن اسم الآب. وهكذا يدخل التلاميذ معه في اتحاد وثيق لا تستطيع أية ارادة في العالم أن تفصلهم عنه (راجع عامود 424). يحصل تقديس التلاميذ وتكريسهم قبل إرسالهم، ويصبح الشرط الاساسي لهذه الرسالة. يهدف هذا التقديس أن يكون التلاميذ "واحدًا" على مثال الآب والابن. كما أنّ الآية (19) التي ورد ذكرها آنفًا، تؤكد أن تقديس يسوع وسلوكه البنوي المميّز وطاعته للآب، هما المثال لتقديس التلميذ وبالتالي المؤمن وأساسه. وأخيرًا، تفرض الحقيقة على المؤمن أن يكون "معاونًا للحق" (3 يو 8) في نشر رسالة المسيح.
4. د- عبارة "من الحقيقة".
ترد هذه العبارة ثلاث مرات (يو 18: 37؛ 1 يو 2: 21؛ 3: 19). يروي لنا المقطع الاول (يو 18: 37) الحديث الذي جرى بين يسوع وبيلاطس حول "المملكة" التي تكلم عنها يسوع بانها "ليست من هذا العالم" (يو 18: 36). يتطرق بعد ذلك يسوع إلى "كل من كان من الحق يصغي إلى صوتي". يدل يسوع على تلاميذه الطيّعين لانهم يعرفون صوته (راجع يو 10: 4)، وهذه هي حقيقتهم الباطنية "لأنهم من الحق". لقد تقبّلوا في قلوبهم بايمان حقيقة يسوع، وتركوا أنفسهم يتبدّلون ويتغيّرون ليصبحوا تلاميذه الحقيقيين ويسيروا بحسب الحق.
كذلك يتطرّق يوحنا في المقطع الاول من رسالته (1 يو 2: 21) إلى المسيح الدجّال الذي لا يستطيع أن يكون "من الحق" لانه كذّاب (راجع يو 8: 44)، ولأنه لا ينتمي إلى مصفّ التلاميذ الذين يعرفون "الحق". بينما ينوّه الرسول في المقطع الثاني (1 يو 3: 19) إلى وجود الحقيقة في قلب المؤمن إذ أصبحت ينبوع الوحي للمحبة نحو الاخوة. والمؤمن ملزم بان "يكون من الحق"، وهو يجتهد في أن يظل في حياته تحت تأثير الحق الثابت فيه، وأن يصبح مولودًا جديدًا.

خاتمة
لا تتخذ "الحقيقة" في البيبليا معنى الدقّة المنطقية بحيث نستطيع "قول الحقيقة"، بل تدلّ بالاحرى على معنى "الأمانة". ينتج عن ذلك أنّ الله "حقّ" لأنه "أمين" في وعوده. يصبح بالتالي "حقيقيين" الوحي الالهي والشريعة والمسيح، لانّ الانسان الذي يتبعهم هو أكيد بانه اختار الطريق الصحيح ويسلك في سبيل الحق. أجل، تتعمّق خبرة "حقيقة" الله قبل كل شيء في العهد الذي قطعه الله مع شعبه، ويستنتج الشعب من جهته، وبالرغم من عدم أمانته، أن الله بقي أمينًا نحوه. نجد هذه الأمانة للعهد موصوفة بصور شعرية عندما يتطرّق الكاتب الملهم عن الله بقوله: "إن الله صخرتي، وملجأي، وتعزيتي، ودرعي..." (المزامير).
تظهر "حقيقة" الله بعد حقبة العهد من خلال شخص يسوع المسيح ورسالته. إنه "الحقّ" (رؤ 3: 7) لأنّه يثبت المواعيد التي وعد بها الله الآباء (راجع روم 15: 8). إنه "الآمين" الذي يعبّر على الأمانة الالهية. يقول بولس: "إنّ جميع مواعد الله لها فيه "نعم". لذلك به أيضًا نقول لله "آمين" إكرامًا لمجده" (2 قور1: 20؛ راجع رؤ 3: 14). يصبح المسيح "الآمين" المطلق لانه من جهة شاهد على أمانة الله لشعبه، وأمانة الشعب لالهه، ولانه من جهة ثانية هو الحقيقة التي أظهرت واقع الله المتجلية بالظاهر فقط. يقول تيرّي مارتنس: "يقود (المسيح) تلاميذه في الحق الذي يدلّ على جوهر الله، وبالتالي يفتتح عهدًا جديدًا من خلال العبادة "بالروح والحق". تصبح هكذا الحياة بأسرها، والسلوك في سبيل الحق، وعمل الحق، مظاهر مختلفة لتلك الكلمة التي يعبّر بواسطتها المؤمن عن صلته بالاله الذي تجسّد من أجل خلاصه، والتي أظهرت له أن المسيح هو "الطريق والحق والحياة".
الارشمندريت نيقولا انتيبا قب

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM