قراءة روحيّة لمفهوم اليوبيل

قراءة روحيّة لمفهوم اليوبيل

مقدّمة
هناك على الأقلّ ثلاثة أنواع من الاستعدادات "الدنيويّة" لحدث اليوبيل: هناك الترويج لنهاية العالم (تؤلّف ولا تؤلّفان)، وهناك البرامج السياحيّة والرحلات، وهناك "جردة" التطوّرات على مختلف الأصعدة يقوم بها العلماء. أمام هذه الاستعدادات يجد المؤمن نفسه مضطرّا لأخذ المواقف إن سلبيًّا أو ايجابيًّا.
كنسيًّا، كان لا بُدّ من عدد من السنين للاستعداد لهذا الحدث "الرمزيّ": مرور 2000 سنة على مجيء يسوع المسيح ابن الله في تاريخنا وفي بشريّتنا. تركّزت الاستعدادات على التوقّف على ما جاء به يسوع من وحي، على ما كشفه لنا الثالوث: عمل الابن، عمل الروح، عمل الآب وذلك على مدى ثلاث سنوات.
في سنة الابن (1997) تأمّلنا بهويّة يسوع المسيح الذي نحتفل بتذكار مجيئه وذلك لمعرفة كيفيّة الاستعداد لهذا الحدث ولأهمّيّته في حياتنا وفي عالمنا. يسوع المسيح الذي هو الأقنوم الثاني من الثالوث يصير إنسانّا مثلنا؛ إنّه حدث غيّر ويُغيّر وجه التاريخ. إنّه مُخلِّص العالم؛ مات من أجلنا، جاء لتكون لنا الحياة وتكون لنا أوفر. معرفتنا لهذه الحقائق الإيمانيّة توجّه طريقة استعدادنا الروحيّ للاحتفال بـ "صاحب العيد" المُميّز في عمله معنا ومن أجلنا.
في سنة الروح (1998) تأمّلنا بمفاعيل الروح في حياتنا وفي حياة الكنيسة؛ توقّفنا أيضًا على كيفيّة مُتابعته عمل الابن في الكنيسة وعلى دوره في الأسرار الكنسيّة. أنّه يُفهمنا معنى كلّ ما عمله يسوع المسيح من أجلنا؛ إنّه يُصلّي فينا بأناتٍ لا توصف.
في سنة الآب (1999) تأمّلنا الهدف الذي جاء يسوع المسيح ليقودنا إليه. تأمّلنا وجه الآب الحقيقي. إنّه الآب الرحيم الحنون الذي ينتظر عودة أبنائه إليه. إنّه المحبّة.
واليوم، في مطلع الألف الثالث، سنتأمّل بمعنى اليوبيل، بكيفيّة عيشه ومضمونه، وأخيرًا بكيفيّة عيشنا المثاليّ استعدادًا ليس فقط لسنة الـ 2000 بل لحضور يسوع المسيح اليوميّ في حياتنا.

1- مفهوم اليوبيل في العهد القديم
- السنة السابعة: سنة راحة، سنة نظرة إلى الخليقة كلِّها، سنة اتّكال مُطلق على الربّ.
"ست سنين تزرع أرضك وتجمع غلّتها، وفي السابعة أرحها واتركها أرض سُبات، فيأكل منها فقراء شعبك، وما فضل بعدهم تأكله وحوش البرّيّة، وكذلك تصنع بكرمك وزيتونكَ.
في ستّة أيّام تعمل أعمالك، وفي اليوم السابع تُعطّل لكي يستريح ثورك وحمارك ويتنفّس ابن أمَتكَ والنزيل". (خروج 23: 10-12).
* عمل المؤمن متواصل مع عمل الخالق (ستّة أيّام أو ستّ سنين يتبعها يوم راحة أو سنة راحة).
* تشمل الراحة كلّ الخليقة: إنّها وقفة تأمّل ورجوع إلى الذات وإلى الخالق.
* السنة السابعة هي نظرة إلى الفقراء وإلى كلّ الخليقة.
"فاعملوا بفرائضي وأحكامي واحفظوها، تقيموا بالأرض آمنين وتُخرج الأرض ثمرها. فتأكلونه شبعكم وتُقيمون بها آمنين. فإن قلتم: ماذا نأكل في السنة السابعة، إن لم نزرع ولم نجمع غلالنا؟ فإنّي أمرت ببركتي لكم في السنة السادسة، فتغلّ لثلاث سنين. فتزرعون في السنة الثامنة وتأكلون من الغلّة القديمة إلى السنة التاسعة. إلى مجيء غلتها تأكلون من الغلّة القديمة" (اللاويّين 25: 18-22).
* شريعة العمل والراحة شريعة إلهيّة تجعل المؤمن يعيش في أمان (ماديًا وروحيًا).
* السنة السابعة هي سنة اتّكال مُطلق على الربّ وعلى بركته.
"في آخر كلّ سبع سنين تصنع إبراء: وهذا معنى الإبراء: كلّ صاحب دين فليُبرى قريبه ممّا أقرضه، فلا يُطالب قريبه ولا أخاه، لأنه قد نوديَ بإبراء للربّ. لا يكون عندك فقير، لأنّ الربّ يُباركك في الأرض التي يُعطيك الربّ إلهُك إيّاها ميراثًا لترثها، إن سمعت لصوت الربّ إلهك لتحفظ كلّ هذه الوصيّة التي أنا آمرك بها اليوم ولتعملّ بها...
إذا كان عندك فقير من إخوتك في إحدى مدنك، فلا تُقسِّ قلبك ولا تقبض يدَك عن أخيكَ الفقير، بل افتح له يدك واقرضه مقدار ما يحتاج إليه. واحذر أن يخطر في قلبك هذا الفكر التافه، فتقول: قد قرُبت السنة السابعة، سنة الابراء فتسوء عينُك إلى أخيك الفقير ولا تُعطيه شيئًا، فيصرخ إلى الربّ عليك وتكون عليك خطيئة. بل أعطه، ولا كرها إذا أعطيته، وبذلك يُباركُك الربّ إلهُكَ في كلّ أعمالكَ وفي كلّ مَشاريعكَ. إنّ الأرض لا تخلو من فقير، ولذلك أنا آمُركَ اليوم قائلاً: افتح يدك لأخيك المسكين والفقير الذي في أرضكَ.
إذا باعك أخوكَ نفسَه أو أختُكَ نفسها، فليخدمك ستّ سنين، وفي السنة السابعة أطلقه من عندك حرًّا. وإذا أطلقته حُرًّا من عندك، فلا تُطلقه فارغًا، بل زوّدهُ من غنمكَ وبيدركَ ومعصرتك، وممّا باركك الربّ إلهك فيه تُعطيه. واذكُر أنّك كنتّ عبدًّا في أرض مصر، وفداكّ الربّ إلهُكَ، ولذلك أنا آمُرك اليوم بهذا". (تثنية 15).
* السنة السابعة هي سنة ترك الديون؛ سنة المُساواة أمام الربّ.
* من أهداف السنة السابعة ألاّ يبقى عندك فقير؛ إنّها سنة العدل الأرضيّ.
* الأرض لا تخلو من فقير... على كلّ المستويات.
* السنة السابعة هي سنة تحرير العبيد؛ سنة مُساواة في الحريّة، حريّة أبناء الله.
* أساس العمل بمضمون السنة السابعة: التذكار بأنّ كلّ ما هو لك إنّما هو عطيّة من الربّ.
- السنة اليوبيليّة: بوار الأرض. نظرة إلى الفقراء، ترك الديون، تحرير العبيد.
"واحسب لك سبعة أسابيع من السنين، فتكون لك أيّام أسابيع السنين السبعة تسعًا وأربعين سنة. وانفُخ في بوق الهتاف في اليوم العاشر من الشهر السابع، في يوم التكفير تنفخون في البوق في أرضكم كلّها، وقدّسوا سنة الخمسين ونادوا بإعتاق في الأرض لجميع أهلها، فتكون لكم يوبيلاً، فترجعوا كلّ واحد إلى ملكه وتعودوا كلُ واحد إلى عشيرته. سنة الخمسين تكون لكم يوبيلاً، فلا تزرعوا فيها ولا تحصدوا الحصيد النابت من تلقاء ذاته ولا تقطفوا ثمر كرمكم غير المقضوب. إنّها يوبيل، فتكون لكم مقدّسة، ومن غلال الحقول تأكلون.
وفي سنة اليوبيل هذه ترجعون كلُّ واحد إلى ملكه..إذا بعتم لأقربائكم أو أشتريتم منهم. فلا يظلم الواحد منكم أخاه، بل إتّق إلهك : إنّي أنا الربُّ إلهكم". (اللاويين 25: 8-17).
* كلمة "يوبيل" مُشتّقة من "قرن الجدي" (باللغة العبرانيّة) الذي كانوا ينفخون فيه مُعلنين سنة الخمسين.
* السنة اليوبيليّة تلي السنة السابعة (السبتيّة) وتأتي بأعمال "تحريريّة" أكبر ممّا يتمّ فيها.
* الإعتاق يطال جميع السكّان (وليس فقط الإخوة في الإيمان).
* في السنة اليوبيليّة يصير إرجاع كلّ واحد إلى ملكه: إعادة الأرض إلى أصحابها.
* "من غلال الحقول تأكلون" (وليس من الكرم غير المقضوب ولا من الحصيد النابت من تلقاء ذاته): إنّها علامة الاتّكال المُطلق على عمل الربّ.
- أساس الأعمال اليوبيليّة: "كُنت عبدا..."، "الربُّ يُباركُكّ".
* العلاقة مع الربّ هي أساس كلّ الأعمال اليوبيليّة
* "للربّ الأرض"؛ "كنتَ عبدًا"؛ "اعملوا بفرائضي وأحكامي"؛ "الربّ يُباركُك".
خلاصة القول، تُظهر السنة السبتيّة وسنة اليوبيل إرادة الله العادلة وجذريّتها من أجل التجديد الدائم للإنسان وللمجتمع. هناك تشديد على البركة الإلهيّة (إنّها قوّة خلاّقة تُساعد على الازدهار والنموّ)، وعلى العدالة الاجتماعيّة من خلال توزيع الخيرات بشكل متوازن بين الشعب. فالمسألة هي مسألة "كرامة الشخص البشريّ": عودة الفقير إلى المجتمع الاقتصاديّ، عودة العبد إلى الجماعة، توزيع الملكيّة بالتساوي.
ليست هذه التفاصيل للحصر. إنّها تنحصر في مجتمع زراعيّ، المجتمع السائد في الحقبة القديمة. فإذا أردنا تطبيقها اليوم، فلن نُطبقها بحذافيرها بل نُطبٍّق "روحانيّتها": "كرامة الشخص البشريّ". فالمُجتمع الذي نعيش فيه يجعلنا نعدّد تفاصيل أوسع تطال كلّ انحرافات المجتمع تجاه كرامة الإنسان. على سبيل المثال لا الحصر نذكر: الاهتمام بالأجنّة (كلّ مسائل اخلاقيّات علم الأحياء)، مسألة المُعاقين عقليًّا، مسألة المُسنّين، مسألة الفقراء، مسألة العاطلين عن العمل... كلّ هذا يدفعنا إليه تأوين مفهوم اليوبيل القديم.

2- دور يسوع المسيح اليوبيليّ

أ- برنامج عمل يسوع المسيح
"وأتى يسوع الناصرة حيث نشأ، ودخل المجمع يوم السبت على عادته، وقام ليقرأ. فدُفع إليه سفر النبيّ أشعيا، ففتح السفر فوجد المكان المكتوب فيه: "روح الربّ عليّ لأنّه مسحني لأبشّر الفقراء، وأرسلني لأعلن للمأسورين تخلية سبيلهم، وللعُميان عودة البصر إليهم وأفرّج عن المظلومين وأُعلن سنة رضا عند الربّ". ثمّ طوى السفر فأعاده إلى الخادم وجَلس. وكانت عيون أهل المجمع كلِّهم شاخصة إليه. فأخذ يقول لهم: اليوم تمّت هذه الأية التي تُلبت على مسامعكم" (لوقا 4: 16-21).
* اليوم الذي يقرأ فيه يسوع فصلاً من كتاب أشعيا هو يوم السبت. إنّه اليوم الذي تمّم الله خلقه واستراح فيه؛ إنّه اليوم الذي أخرج فيه الله شعبه من العبوديّة في مصر؛ إنّه رمز السنة السبتيّة والسنة اليوبيليّة.
* "روح الربّ عليّ"، كما كان الروح في بدء الخليقة، كذلك سيكون على يسوع من أجل خلق جديد. فالسنة اليوبيليّة ليست فقط تحريرًا للعبيد أو تركّا للديون أو بوارا للأرض، إنّها بداية خلق جديد. يتمثّل هذا الخلق الجديد بعدّة أعمال سوف يُعدّدها يسوع: البشارة تطال الفقراء والمأسورين والعميان والمظلومين على كلّ المستويات.
* بشارة الفقراء. من هم الفقراء؟ إنّهم بُسطاء القلوب، أطفال بالروح. "حطّ المُقتدرين عن الكراسي ورفع المتواضعين". "إن لم تعودوا كالأطفال لن تدخلوا ملكوت السماء". جاء يسوع فقلب المقاييس.
* إعلان تخلية للمأسورين. المأسورين بأفكارهم السوداء، بماضيهم التعيس؛ المأسورين داخليًا. يمكن للإنسان أن يكون في السجن وهو حرّ متحرّر، وأن يكون مُطلقْا وهو أسير شهواته.
* منح البصر للعُميان، عميان القلب. وماذا يعني عمى القلب؟ أليس عدم رؤية يسوع ومعرفته على حقيقته؟ لقد فتح يسوع عيون تلميذَي عمّاوس؛ كانا يملكان حاسّة النظر، ولكنّه فتح عيونهما على رؤيته الداخليّة، على فهم كلّ ما كُتب عنه وما عمله من أجل الخلاص.
* الإفراج عن المظلومين، أولئك الذين يعيشون تحت رحمة شرّ الآخرين وظلمهم، الذين يعيشون بغياب كلّ عدالة. جاء يسوع يُنصفهم مُظهرا لهم من خلال كلّ ما جرى له (هو الذي ظُلم) أنّ الكلمة الأخيرة ليست للظلم أو للشّرّ، بل للغلبة... وللقيامة.
* إعلان سنة النعمة. يختصر يسوع بهذا الإعلان جوهر رسالته. كلّ الذي قام به هو رحمة من الله، عطيّة مجّانيّة منه: "أرسلني" لتتميم كلّ هذه الأعمال. هذا هو برنامج عمل يسوع المُرسل من الآب.

ب- "اليوم" تمّت هذه الكتابة على مسامعكم: سنة اليوبيل هي "اليوم".
متى سيُتمّم يسوع برنامجه الخلاصيّ التحريريّ؟ "اليوم". إنّها آنيّة الخلاص. يوم السبت الذي قرأ فيه يسوع يُصبح "الآن"، والخلق يتحدّد كلّ يوم معه. بمعنى آخر، مع يسوع أعمال السنة السبتيّّة أو اليوبيليّة لا تنتظر سبع سنين أو خمسين سنة حتّى تتحقّق. إنّها تتحقّق في واقع المؤمن، كلّ مرّة يقرأ فيها الإنجيل "على مسامعكم".
يُعلّمنا هذا الإنجيل الطريقة الفضلى التي يجب علينا أن نتمثّل بها.
يمكن أن نكون نحن الفقراء والمظلومين والأسرى؛ يكشف لنا هذا الإنجيل هويّة يسوع وبرنامجه ويدعونا بالتالي للاستفادة منه.
يُمكن أن نكون نحن الظالمين والآسرين ومُسبّبي التعاسة للآخرين؛ فيُظهر لنا جليًّا كيفيّة التصرّف في السنة اليوبيليّة الحاضرة أبدًا "الآن".
يدعونا أخيرًا أن نكون مسيحًا آخر تجاه الفقراء والمأسورين والمظلومين والعميان، مُعلنين لهم حلول سنة النعمة والرحمة من عند الربّ.

3- ثلاث طرق لقراءة "الأبانا"
صلاة الأبانا "مثال" كلّ صلاة. تضمّ عدّة طلبات، وبالتالي يمكن صلاتُها من زوايا عديدة.

أ- متّى 6: 9-13
وضع متّى صلاة الأبانا ضمن "خطبة الجبل" التي تتمحور حول الصلاة. أوردها وسط الممارسات اليهوديّة الأساسيّة الثلاث: بين عمل البرّ والصوم تأتي الصلاة، وبخاصّة صلاة الأبانا ليُبرز جوهر عمل المؤمن.
يُركّز متّى في نهايتها على ناحية واحدة من تطبيق مضمونها: "الغفران المُتبادل". "فإن تغفروا للنّاس زلاّتهم يغفر لكم أبوكم السماويّ، وإن لم تغفروا للنّاس لا يغفر لكم أبوكم زلاّتكم" (6: 14-15).

ب- لوقا 11: 2-4
يورد لوقا الأبانا بعد قصّة السامريّ الصالح الذي عمل الرحمة، وبعد وجهتَي الصلاة والعمل المتمثّلتين بمرتا ومريم. مُناسبة صلاة الأبانا هي أنّ يسوع كان يُصلّي في أحد الأماكن فسأله أحد تلاميذه أن يعلّمهم الصلاة.
في نهاية الأبانا يورد لوقا مثل الذي يطلب من صديقه بلجاجة مُركّزًا بالتالي على مفهوم "صلاة الطلب" وعلى عطيّة الآب المثاليّة التي هي الروح القدس.

4- طريقة رابعة لصلاة الأبانا: كيفيّة عيش اليوبيل
- الأبانا: سبع طلبات.
أبانا الذي في السماوات
ليتقدّس اسمك
ليأت ملكوتك
لتكن مشيئتك
كما في السماء كذلك على الأرض.
أعطنا خبزنا كفاف يومنا
واغفر لنا ذنوبنا وخطايانا كما نحن نغفر لمن خطئ وأساء إلينا
ولا تُدخلنا في التجارب
لكن نجّنا من الشرير.
* تتألّف الأبانا من سبع طلبات: ثلاث تخصّ الآب وأربع تخصّ المؤمنين.
* الطلبات الثلاث الأولى التي تطال الآب هي من عمل المؤمن (أو بالأحرى عمل الآب في المؤمن).
* الطلبات الأربع الثانية التي تطال المؤمن هي من عمل الآب.
* تظهر الطلبات الثلاث الأولى كأساس للطلبات الأربع الثانية: لا يمكن للمؤمن أن يطلب لنفسه من الآب إلاّ بعد أن يكون قد تمّم مضمون الطلبات الأولى.
* الطلبات الأولى تعني حلول الملكوت على الأرض فترجع الأرض كلّها وتصبح لله (للرّبّ الأرض...). تعود المساواة في البنوّة إذ يُصبح الآب أبّا للجميع (يتقدّس اسمُكَ أيّها الآب). تعود الرحمة والسلام إلى الأرض لأنّ الملك رحيم (ليأت ملكوتك). يحلّ الخلاص في الأرض كلّها لأنّ مشيئة الربّ هي خلاص البشريّة (لتكن مشيئتك). هذا هو دور المؤمن.
* "أعطنا خبزنا كفاف يومنا"، أي اجعل أن يزول الفقر والجوع. إنّه اتّكال مُطلق على نعمة الله.
* "اغفر لنا كما نحن نغفر"، أي ترك الديون الروحيّة المُتبادل. تركُنا لديون الآخرين يتوازى مع ترك الله لديوننا.
* "لا تُدخلنا في التجارب"، أي لا تسمح لنا بالانحراف عن ترك ديون الآخرين، عن مُساعدتهم، "احذر أن يخطر في بالك أنّ سنة الإبراء قد قربت فلا تعطي أخاك شيئًا".
* "لكن نجنّا من الشرير"، أي حرّرنا من كلّ ما يستعبدنا. فالدعوة إلى تحرير العبيد تتوازى مع صرختنا التحريريّة. فالشرير هو كلّ ما يُبعدنا عن تتميم الطلبات الأولى والمُساهمة في تحقيق الثانية في حياتنا. الشرّير (الكلمة الأخيرة في الأبانا) هو كلّ ما يتعارض مع "أبانا" (الكلمة الأولى).
بكلمة واحدة، صلاة الأبانا هي صلاة تشمل كلّ مفهوم اليوبيل والأعمال التي يجب أن تُقام فيه. من هنا نفهم أهمّيتها ونفهم لماذا لم يُعلّمنا يسوع غيرها. إنّها كافية ووافية حتّى تُصبح مثال كل صلاة ويُصبح مضمونها شريعة المؤمن المثاليّة، الذي يتوق إلى عيشها، ليس فقط في هذا اليوبيبل أو تلك السنة، بل في كلّ لحظة من حياته

خاتمة
- كلّ يوم هي سنة يوبيليّة في حياتنا
كلّ الذي قيل حول السنة السبتيّة أو السنة اليوبيليّة جعله يسوع حاضرًا في كلّ لحظة من حياة المؤمن. لم ينتظر يسوع سنة معيّنة حتّى يُتمّم الخلاص الذي جاء يمنحه للبشر. إنّه "اليوم" يُبشّر الفقراء ويُعلن للمظلومين الحريّة وللعميان البصر... "اليوم حصل الخلاص لهذا البيت"، "اليوم تكون معي في الفردوس".
ولأن أعمال المؤمن مرتبطة جوهريَّا بعمل "المعلّم"، فحاضر الله يُصبح حاضر المؤمن، وتُصبح الدعوة اليوبيليّة الموجّهة للمؤمن دعوة "آنيّة"، وتصبح السنة اليوبيليّة يوبيلاً حاضرًا أبدّا في حياة المؤمن يجعله يُرافق يسوع المسيح في حياته وفي أعماله ويكون مسيحًا آخر من أجل البشريّة.
ماذا يمنع المؤمن من أن يقول على مثال يسوع: "روح الربّ عليّ..."، "اليوم تمّت هذه الكتابة...".
- علاقتنا بالله توجّه كلّ أعمالنا
أخيرًا يرتكز اليوبيل على عمل الله الخلاصيّ. فالذي لا يشعر بالخلاص لا يستطيع أن ينقله إلى الأخرين. والذي لا يعيش محبّة الله في حياته لا يستطيع أن يشهد أنّ الله محبّة.
علاقتنا بالله توجّه كلّ أعمالنا حتى تصبح بمجملها أعمالاً يوبيليّة. لقد شاء يسوع أن يعلّمنا ماهيّة الأعمال اليوبيليّة بصلاة (صلاة الأبانا) حتّى نعي أهمّيّة الصلاة في توجيه كلّ أعمالنا. صحيح أنّ عملنا وبخاصّة مع الضعفاء يُصبح صلاة؛ لكنّه إذا لم ينطلق من صلاة شخصيّة عميقة ومن علاقة وثيقة مع الله فإنّه يُصبح "تصريف أعمال" تنقصه "روحانيّة يسوع المسيح".
وقفتُنا مع اليوبيل هي وقفة مزدوجة (كما هي حال حياة المؤمن). وقفة صلاة ترسّخ علاقتنا باللّه، ووقفة أعمال يوبيليّة تحترم "كرامة الإنسان" في كلّ حالاته (جنينًا، طفلاً، شابًا، شيخًا، امرأة، رجلاً، مُعاقًا، رئيسًا، مرؤوسنا)؛ اليوبيل أعمال ترتكز على عمق علاقتنا باللّه.
الأب أنطوان عوكر

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM