تلميذا عماوس

تلميذا عماوس لو 24: 13-35

مقدمة
يندرج نص تلميذي عماوس في إطار نصوص ظهورات يسوع القائم من الموت. إن هذه النصوص عديدة في الأناجيل؛ فالقديس متّى يقدّم ظهورين من هذا النوع: الاول للنسوة قرب القبر الفارغ، والثاني للرسل الاحد عشر على الجبل في الجليل (متى 28: 9-10، 16-20). ويذكر القديس لوقا ظهورين: الاول لتلميذين على طريق عماوس، والثاني للأحد عشر ورفاقهم في أورشليم (لو 24:13-35، 36-53). أما القديس يوحنا فيذكر ظهورات أربعة: الاول لمريم المجدلية على القبر الفارغ، والثاني للتلاميذ بغياب توما، والثالث لتوما أمام التلاميذ (وكل هذه الظهورات في أورشليم، يو 20: 14-18، 19-23، 24-29)، والرابع أمام سبعة من التلاميذ في الجليل، وقد بدأ بصيد عجائبي (يو 21). أما نهاية إنجيل القديس مرقس (مر 16: 9-16) (يتفق العلماء على كونها زيادة متأخرة)، فانها تقدم ثلاثة ظهورات يعتقد المفسّرون بأنها مستوحاة من الأناجيل الثلاثة الاخرى: الظهور الأول لمريم المجدلية (راجع يوحنا)، والثاني لتلميذين في الطريق (راجع لوقا)، والثالث للأحد عشر (راجع متى ولوقا).
وتتميّز الظهورات الخاصة بأفراد معيّنين، بأدبها القصصي، وهي نصوص تحافظ على تعبير حسّي للخبرات الشخصية التي عاشها الأشخاص المعنيّون. إنها نصوص عقائدية تتمحور حول إعلان بشرى عيد الفصح، ومعنى القيامة بالنسبة لموت يسوع ولخبرة شهوده.
فيما يخص لوقا، يبدو هذا الأمر أكيدًا. فإن تابعنا الأحداث بحسب روايته، لوجدنا أن كل ظهورات يسوع بعد قيامته تمت في يوم واحد: يوم الفصح. كل اهتمامه ينصب على إظهار كيفية الانتقال من عدم الإيمان إلى الإيمان. ففي نص القبر الفارغ، تأتي النساء بهدف إتمام تكفين يسوع الميت (لو 24: 1)، وفي حين أنهن "يبحثن عنه بين الأموات" (24: 5)، يقابلهن ملائكة ليوكلوا إليهن مهمة نقل بشرى القيامة للرسل. وفي قصة تلميذي عماوس نتابع مسيرة تربوية طويلة تؤدي بهما إلى الإيمان بواسطة علامة أساسية تتمثّل بفهم كل ما "يختص بيسوع" في الكتب المقدس، ومشاركة الخبز (لو 24: 25-26). ولا يختلف الامر بالنسبة للرسل الذين لم يصدقوا بشرى القبر الفارغ (لو 24: 10-11)، فيذكر خوفهم واضطرابهم وتساؤلاتهم (لو 24: 37-38)، قبل أن يصلوا إلى ثقة الإيمان وشجاعة الشهود.


أورشليم- عماوس- أورشليم: طريق التلمذة والحج
أمام موت يسوع تشلّعت مجموعة التلاميذ وتشردت. كثيرون فقدوا شجاعتهم لأنهم لم يستطيعوا فهم ما جرى. فهل ترك الله يسوع؟
إثنان منهم تركا أورشليم إلى عماوس وهي على بعد بضعة كيلومترات فقط عن أورشليم في مكان لا نعرف كيفية تحديده. تركا في أورشليم كل الاحلام الكبيرة والآمال العظيمة. على شخص يسوع كانا قد وضعا أسمى ما يمكن أن يأملاه: خلاص اسرائيل وتحقيق كل الوعود. إلى جانبه كانا قد وثقا بأن هذا الخلاص أصبح وشيكًا جدًا. وفجأة تحطّم كل شيء وبناءً على حكم قضائي مشترك بين كل السلطات الدينية والسياسية والشعبية. إن ذلك ليتجاوز كل منطق انساني، فلم يعد باستطاعتهما الاستمرار. لقد وصلا إلى هاوية الاحلام وإلى قاع اليأس. كانا قد تكرّسا لمشروع يسوع. كانا أكيدين من أنهما معه سيحرران العالم من الشر واسرائيل من الرومان ومن استعباد المتسلطين. لم يكونا من بين المسؤولين في جماعة يسوع، بل من عداد الكثيرين الذين تبعوه ليسمعوه. كانا مستعدين لتقديم أي شيء من أجله ولمساعدته في تحقيق مشروعه. وها هو قد انتهى أمام عيونهم وانتهى معه كل شيء. تحطمت الآمال وانتهت الحياة.
تركه الجميع، كل الجموع التي كانت تتدافع لتحاول ولو لمسه مضت؛ وتركه المسؤولون بين التلاميذ. ورفاقه الأقربون الذين اختارهم هربوا واختبأوا، وبطرس أنكر أنه يعرفه. مات يسوع دون أن يحاول الدفاع عن نفسه. وبموته ماتت مغامرتهم التي ظنوا أنها تعطي المعنى لحياتهم وتفتح أمامهم مستقبل الفرح، فما بقي لهم إلا الأسف والأسى والندم على ما فات.
تركا أورشليم، المدينة المقدسة التي دارت فيها حياتهما وانفتح فيها المستقبل، إلى عماوس اللامكان، عماوس رمز العدم والفراغ، طريق الآمال الخائبة.
على هذه الطريق يرافقهم رجل يجعلهم يخبرونه ألمهم وتعاستهم. رافقهم وأصغى. بعدها راح يخبرهم قصة الآمال بدءًا من موسى والأنبياء. إتقد قلبهم فانفتحوا، لكن ذهنهم أبطأ في الوصول فلم يعرفوه إلا عند مشاركتهما الخبز... فاختفى. ولقد عادوا إلى أورشليم.
سنحاول من خلال دراسة النص بالعمق كشف هدف القديس لوقا من هذه القصة، ونحاول تمييز سرّها فنقترب أكثر من رسالتها.

حبكة أدبية مدهشة
لقد أدهش هذا النص الذي اتفق المفسّرون على تسميته "تلميذي عماوس" أو "حجّاج عماوس" (لو 24: 13-35). أدهش القرّاء والشرّاح على السواء وعبر العصور، إن لجودة أدبه، وتقنية أسلوبه، ودقة وصفه السيكولوجي لعمق الأحاسيس، أو لغنى تعليمه اللاهوتي والروحي.
أول ما يلفت النظر في هذا النص هو العمل الأدبي الدقيق والمتقن. فالحبكة القصصية، كما توزيع العبارات المهمة والغنى الذي تحتويه، كل ذلك يعطي النص معنى عميقًا جدًا.

قراءة النص في إطاره
ينظم لوقا الفصل 24 من انجيله بحسب أحداث ثلاثة غاية في التناغم. في القسم الاول نقرأ حدث وجود النساء على القبر الفارغ (لو 24: 1-12) (يذكره إلانجيليون كافة)، والقسم الأخير ظهور المسيح لتلاميذه بعد قيامته من الموت (لو 24: 36-53) (وهو حدث يتشابه مع ما يخبره متى ويوحنا). وبين هذين القسمين يضع لوقا حدثًا محوريًا خاصًا به: حدث لقاء يسوع بتلميذي عمّاوس (لو 24: 13-35).
عادت النساء من القبر الفارغ، حاملات بأمانة كلية البشرى السارة التي أوكلها إليهن الملائكة. لكن هذا الكلام بدا للرسل "أوهام" نساء "ولم يصدقوهن" (لو 24: 11). لكن أخبار النساء هذه أجبرت الرسل على التحرك. "فقام بطرس وأسرع إلى القبر. فلما انحنى رأى الأكفان وحدها، فرجع متعجبًا مما حدث" (24: 12). و"في اليوم نفسه" أي يوم القيامة الذي سيصبح يوم الرب، كان اثنان منهم ذاهبين إلى قرية اسمها عماوس. يركز لوقا في بداية القصة على أنها تمّت يوم عيد الفصح. في طريقهما نجدهما يتحدّثان ويتجادلان بهذه الامور كلها. وإذ "يسوع نفسه قد دنا منهما وأخذ يسير معهما، على أن أعينهما حُجبت عن معرفته". وكأن لا ذنب لهما في عدم معرفة الرب. فعيونهما غير قادرة على ذلك. فقال لهما: "ما هذا الكلام الذي يدور (تتراشقان به) بينكما وأنتما سائران؟". بعد فعلَي "يتحدثان ويتجادلان" يأتي هنا فعل أقوى يُستعمل عادة لرمي السهام. لقد وصل هذا المسافر عندما احتد الحديث. فيجيبه كليوبا- الذي ربما كان مصدر هذه القصة- "أأنت وحدك نازل في أورشليم ولا تعلم الأمور التي جرت فيها هذه الأيام؟" فقال لهما: "ما هي"؟ قالا له: "ما يختص بيسوع الناصري، وكان نبيًا مقتدرًا على العمل والقول عند الله والشعب كله، كيف أسلمه عظماء كهنتنا ورؤسائنا ليُحكم عليه بالموت وكيف صلبوه، وكنا نحن نرجو أنه هو الذي سيفتدي اسرائيل. ومع ذلك كله فهذا هو اليوم الثالث منذ جرت تلك الامور". ولكن هناك صوتًا آخر:
"غير أن نسوة منا حيّرننا، لأنهن زرن القبر عند الفجر فما وجدن جسده...". ويلخّص كليوبا وجهة نظر الرجال التي يعرفها القارئ من النص السابق، ولكن من وجهة نظر النساء. "فرجعن وقلنا إنهن أبصرن ملائكة قالوا إنه حي. فذهب بعض أصحابنا إلى القبر فوجدوا الحال على ما قالت النسوة أما هو فلم يروه".
وأخذ يسوع الكلام، فقال لهما: "يا قليلي الفهم وبطيئي القلب عن الايمان بكل ما تكلم به الأنبياء! أما كان يجب على المسيح أن يعاني تلك الآلام فيدخل في مجده؟ وبدأ من موسى...".
الجدير بالانتباه رؤية المسيح الممجَّد في هذا النص بين موسى والأنبياء، مما يذكرنا بنص التجلّي، خاصة وأننا لا نجد موضوع المجد في حدث التجلي إلا عند لوقا وحده.
"... وجميع الأنبياء يفسِّر لهما في جميع الكتب ما يختص به". يقوم يسوع نفسه بتفسير الكتب، يطبّق الكتب على ذاته في يوم القيامة عينه. إنه النبي بحسب ما قال كليوبا، وكنبي يفسِّر يسوع الكتب ويعطي معنى لحدث الآلام والموت والقيامة.
"ولما قربوا من القرية التي يقصدانها، تظاهر أنه ماضٍ إلى مكان أبعد، فألحّا عليه قالا: أمكث معنا، فقد حان المساء ومال النهار. فدخل ليمكث معهما".
وهنا نجد من جديد لفظة "وحصل" لتنذرنا بحدث يستأهل انتباهنا الكامل. "... ولما جلس للطعام، أخذ الخبز وبارك ثم كسره وناولهما، فانفتحت أعينهما وعرفاه. فغاب عنهما". وكلمة αφαντοs نادرة. انها المرة الوحيدة التي يستعمل فيها العهد الجديد هذه الكلمة وتعني حرفيا غير منظور، غير مرئي.
"فقال أحدهما للآخر: أما كان قلبنا متقدًا في صدرنا حين كان يحدثّنا في الطريق ويشرح لنا الكتب؟ وقاما في تلك الساعة عينها ورجعا إلى أورشليم، فوجدا الأحد عشر والذين معهم مجتمعين، وكانوا يقولون إن الرب قام حقًا وتراءى لسمعان. فرويا ما حدث في الطريق وكيف عرفاه عند كسر الخبز".
وهنا يأتي حدث ظهور يسوع للتلاميذ كقسم ثالث وأخير للفصل 24.
فإن كان نص تلميذي عماوس يأخذ موقع القلب في هذا الفصل الأخير من إنجيل لوقا، فأين نجد قلب هذا النص؟ اين يقع محوره وجوهر تعليمه؟ فهل هو درس افخارستي؟ هل هو درس عن وجود يسوع المسيح السرّي؟ هل ان اقتسام الخبز والتعرف إلى يسوع في هذا الوقت المحدد هو محور النص؟ أم أنه مجرد نقل لشهادة من رأوا المسيح مما يعطي المؤمنين الذين "لم يروه" قوة لايمانهم ولطابعه "المظلم"؟ خشية الانجراف مع اعتبارات واستنتاجات من الممكن ان تكون ذات طابع شخصي، سنحاول دراسة حبكة النص الأدبية علّنا نجد أدلّة تكشف لنا سرّ تأليفه وتنظيمه وهدفه.

دراسة النص الأدبية
من خلال الروابط الأدبية والفكرية اللاهوتية التي نجدها في ترتيب النص الدقيق التأليف، نستنج صورة تجعل من هذا النص الأدبي إطارًا يحيط بشكل متقن بآية محورية تشكل قلب النص وجوهره.


أ- أخبرن الرسل (9)
ب- غير أن بطرس قام فأسرع إلى القبر (12 أ)
ج- فرأى اللفائف (12 ب)
د- اثنين منهم كانا ذاهبين من أورشليم (13)
هـ- يتحادثان ويتجادلان فيما بينهما (15 أ)
و- إذا يسوع نفسه يقترب (5_ ب)
ز- لكن أعينهما حجبت عن معرفته (16)
ح- فوقفا متجهمّي الوجه (17)
ط- حوار (18-19 أ)
ي- ما يختص بيسوع (19 ب)
ك- يا قليلي الفهم... وبطيئي... الأنبياء (25)

ل (26)


ك- وبدأ من موسى وجميع الأنبياء (27 أ)
ي- يفسّر لهما ما يختص به (27 ب)
ط- حوار (28-29 أ)
ح- دخل ليمكث (29 ب)
ز- فانفتحت أعينهما وعرفاه (31 أ)
و- فغاب عنهما (31 ب)
ه- فقال أحدهما للآخر (32)
د- رجعا إلى أورشليم (33)
ج- تراءى (34)
ب- لسمعان (34)

أ- "أخبرن" (آ 9): ينهي هذا الفصل قصة النساء، لكنه يشكل أول عناصر هذا الاطار المتماسك، وبداية مجسَّم نقاط التلاقي التي ستُظهر محور النص وتحيط به.
ب- "غير أن بطرس أسرع الى القبر" (آ 12): رغم وجود ما يبرر التردد في اعتبار هذه الآية زيادة لاحقة، فإن تقليدًا عريقًا يؤكده.
ج- فرأى: لقد رأى بطرس... اللفائف، وعاد إلى بيته متعجبًا. لكنه بقي هنا، عند حدّ الاندهاش ودون ان يتقدم إلى العمق، عمق الايمان. لقد أعطي النور للنساء اللواتي تحركن عند الفجر باندفاع حبهن العميق نحو القبر، بينما بقي الرجال خائفين، قابعين في ظلمة ضياعهم ومنغلقين على ذواتهم في حين بدأ انفتاح القبر الفارغ يطرح السؤال الكبير والتعجب والقلق.
د- وإذا باثنين منهم كانا ذاهبين... من أورشليم (آ 13): انهما يبتعدان عن المدينة التي يعتبرها لوقا منارة العالم ومكان الخلاص. أن يتركا أورشليم في هذه الظروف بالذات، هو أن يديرا الظهر للنور وأن يتوغّلا في ليل دون رجاء.
هـ- يتحادثان ويتجادلان فيما بينهما. كلمة صغيرة لا تتردد بعض الترجمات في حذفها لكنها هنا تلعب دور الرابط بين الافكار لأنها تلفت النظر إلى ما يقابلها.
و- يسوع نفسه يقترب (آ 15): يسوع نفسه هنا، ولكن ما زلنا في الظلام.
ز- أعينهما حُجبت عن معرفته (آ 16): يسوع معهما يسير إلى جانبهما. يبدأ حوارًا معهما ويسأل "ما هذه الكلمات...؟"
ح- فتوقفا متجهمّي الوجه (آ 17): انها صدمة اللقاء. توقفا عن المراشقة بحوار لا يجدي. توقفا للحظة. لكنهما جنبًا إلى جنب، لم يتعرفا بعد إلى الرب وجهًا لوجه.
ط- حوار
ي- ما يختص بيسوع الناصري (آ 19): هنا أيضًا كلمة صغيرة "ما يختص" لكن مكانها المحدد يعطيها أهمية كبرى بحيث إنها تدير قسمًا مهمًا من النص (آ 19-25).
تتوقف الحركة بسبب التعليم الذي يقطع النص: إنه ملخص تعليمي لكل ما حدث حتى الآن، ملخص لحياة المسيح تنتهي بمغامرة النساء في صباح هذا اليوم عينه. وما إن انتهيا من إسماعه كل ما يعرفونه "بما يختص بيسوع" حتى أخذ يسوع الكلمة لكن ليوبخ أولاً.
هذا ما سيقفل هذا القسم السلبي المظلم من النص.
ك- يا قليلي الفهم، وبطيئي القلب عن الايمان بكل ما قاله الانبياء (آ 25). هنا تأتي العبارة التي انتظرها النص بكامله وأعلن عنها. إنها مفتاح هذه القصة التي ما زالت حتى الآن غامضة.
ل- أما كان يجب على المسيح أن يعاني تلك الآلام فيدخل في مجده (آ 26).
انها الآية المحورية، بها وصلنا إلى عمق النص الذي يعطيه معناه. انطلاقًا من هنا ستنتقل الكلمات إلى النور بحيث ان الكلمات ذاتها التي كانت مظلمة في القسم الاول سنقرأها بصورة مختلفة في هذا القسم الثاني. لقد أُعطينا مفتاح القراءة فاصبحنا قادرين على إعطاء العبارات معناها الايجابي.
ومن جديد...
ك- بدءًا من موسى وكل الانبياء (آ 27). إن أمعنّا الانتباه، نلاحظ كيف أن الآية المحورية (آ 26) تأتي تمامًا بين الذكرين المميّزين للأنبياء (25، 27). وتكمل الآية: "يفسِّر لهما في جميع الكتب".
ي- ما يختصّ به (آ 27): عبارة تلتقي تمامًا مع آ 19 "ما يختص بيسوع". يأخذ يسوع الاشياء عينها التي سبّبت حزن التلميذين ليفسِّرها. لقد شرح لهما ما يختص به.
إنتهى الدرس البيبلي فيتابع لوقا القصة. اقتربوا من القرية التي يقصدون فتظاهر بأنه سيتركهما. ويبدأ الحوار من جديد (آ 28-29).
حتى مع غياب التقارب في الكلمات فإن المقاربة موجودة: عندما التقيا المسيح في البداية توقّفا، لكنهما لم يشعرا بشيء، أحسّا أنه من واجبهما تعليمه كل ما يعرفانه بما يخص يسوع الناصري... والآن في الوقت الذي شرح يسوع بنفسه كل ما يختص به في الكتابات، توسّلا اليه ليبقى... فوافق على التوقف معهما. دخل معهما، فلم يبقيا جنبًا إلى جنب، بل انتقلا إلى مرحلة الوجه للوجه. انها شرط المعرفة الحقة. وكم من عائلة وجماعة ومجموعة تقضي حياة كاملة والفرد جنب الفرد فلا يتعرف الاعضاء إلى عمق بعضهم البعض فينتقلون إلى الشخص مقابل الشخص.
ثم بعد اقتسام الخبز.
ز- انفتحت اعينهما وعرفاه (آ 31). لقد كانت لهما أعين لا تبصر (آ 16)، فانفتحت الآن، وأصبح بامكانهم أن يعرفوه.
و- فغاب عنهما. لقد عرفاه على حقيقته: غير منظور.
هـ- فقال أحدهما للآخر (آ 32): يستعمل الكاتب "فيما بينهما" وهي العبارة التي نجدها في آ 14 لتكوِّن إطارًا يحيط بكل حضور يسوع المرئي ولتظهر التلميذين منفردين "فيما بينهما" قبل وبعد رؤية يسوع.
د- "فقاما في تلك الساعة عينها وعادا إلى أورشليم" (آ 33): لقد عادا إلى نقطة الانطلاق، إلى أورشليم المدنية الام، وتمّت بالتالي مسيرة حجّهما فأقفلت دائرة طريق الايمان، "فوجدا الأحد عشر... يقولون إن الرب قام حقًا".
ج- تراءى
ب- لسمعان: عند القبر كان بطرس قد رأى... اللفائف (آ 12).
اما الآن فإن الرب ذاته كشف عن ذاته فتراءى لسمعان (آ 34). يشكّل ذكر بطرس- سمعان إطارًا للنص بكامله.
أ- فأخبراهم ما حدث في الطريق... (آ 35). وقُبلت شهادتهما، فانتهى هذا القسم الثاني الايجابي بالفرح في حين أن القسم الذي يقابل هذه الآية (شهادة النساء) أدّى إلى الشك والقلق.

بين الوجه المتجهّم والقلب المتقد
إن دراستنا لترتيب وتنظيم هذا النص يكشف فكرة المسيرة اللاهوتية التي يقصد لوقا إبرازها، والتي يمكن عنونتها "من الوجه المتجهم إلى القلب المتقد" (32)، أي من حزن الشك إلى حرارة الايمان.
في القسم الاول من النص تجهّم وظلام، كل شيء يأخذ منحى سلبيًا بحيث تؤدّي المسيرة إلى الفشل الذريع.
في النقطة (أ) تعلن النساء... لكن أحدًا لا يصدقهن. وفي (ب) يُذكر بطرس... لكن دوره باهت فاتر. صحيح انه يرى (ج)... ولكن اللفائف فقط. وفي (د) كانا ذاهبين... من اورشليم؛ "فيما بينهما" (هـ)... ولكن يتجادلان وحدهما؛ وصحيح أن يسوع يقترب (و)... لكنهما لا يتعرفان اليه؛ وإن كانا يملكان العيون (ز)... لكنهما عاجزان عن رؤيته. في النقطة (ح) يتوقفان... لكنهما يحتفظان بوجه متجهّم؛ يحاوران (ط)... ليقولا له انه الوحيد الذي لا يعرف؛ يعلنان ما يختص بيسوع (ي)... دون أن يفهما، ويصل حوارهما إلى نقطة وحيدة: لم يروه.
ونلاحظ أن يسوع يتكلم في هذا القسم (ك)... ولكن ليوبّخ: فهما لم يؤمنا بما قاله الأنبياء. انها مسيرة "الوجه المتجهّم".
وهنا نصل إلى جوهر النص (ل): الكشف الكبير لسر المسيح.
فتنطلق المسيرة من جديد عابقة بالنور والحياة والفرح، انها مسيرة "القلب المتقد"، مسيرة كلُّ ما فيها يأخذ طابعًا ايجابيًا.
يسوع يتكلم (ك) عن الانبياء... ليفسِّر. فقد اصبحت المراجع الكتابية واضحة الآن. لقد انفتحت الكتب أمام التلميذين، ففهما أخيرًا "ما يختص به" (ي). إن ما أخبراه إياه في يأسهما يأخذ الآن كل معناه على ضوء ما شرحه يسوع. ويكمل الحوار (ط) فيلحّان عليه بحيث تنبّهنا اللجة الحارة المتوسّلة إلى انهما على وشك ان يتعرّفا إلى ضيفهما. فدخل و"مكث معهما" (ج). بعد مشاركتهما الكلمة إنه يشاركهما الطعام، "فانفتحت أعينهما وعرفاه" (ز) "فلم يعد منظورًا" (و). بعد ان تأكدا من قيامته ترك لهما حضوره بالايمان، انه الحضور الذي نحياه حتى الآن وإلى نهاية الأزمنة، وهو حضور يتغذى من شرح الكلمة ومن المشاركة بالافخارستيا. ومن جديد هما "فيما بينهما" (هـ) ولكن هذه المرة "بقلب متقد". عادا إلى أورشليم (د)، ومن جديد إنهما في قلب المدينة حيث الرسل سيبقون بانتظار أن تحلّ عليهم قوة العلي (آ 49)، وهم يقولون إن الرب قام حقًا وتراءى (ج) لسمعان (ب). إن دور سمعان هو دور اساسي هذه المرة. فالانجيلي لا يخبرنا هذا الظهور. لكنه يقوم بما هو أهم من ذلك: إنه يظهر لنا قوة شهادة سمعان بطرس من خلال التفاف التلاميذ وحماسهم. "فأخبراهم" (أ) وُقبلت شهادتهم.
وهكذا انقلبت ظلمة القسم الاول إلى نور وضّاء في القسم الثاني. لكن هذا لا يعني ان كل قسم منفصل تمامًا عن الآخر. فنقاط التلاقي تحمل بحد ذاتها معنى عميقًا وتلعب كل منها دور نقطة المرجعية.
فانطلاقًا من المحور نلاحظ ان (ك- كَ) تحيط قلب النص بذكر الانبياء. لقد اتى المسيح وقام برسالته فتمم ما أعلنه الانبياء. هذا ما يمّيز دوره المسيحاني وعمله كمرسل للآب لتتميم تدبيره. و"ما يختص بيسوع" (ي- يَ) عبارة تجمع كل ما يجب ان نعرفه عن يسوع على ضوء النور الذي أضافه القائم من الموت على هذه المعرفة. ويتمحور الحوار في (ط- طَ) حول اهتمامات التلميذين أولاً وآخرًا... لقد وصل تعليم الرب إلى هدفه. وبعد ان كان الوقت الاول بسيطًا، أصبح فعليًا بعد أن وصلا إلى المشاركة الحقة. إنه دور (ح- حَ)، وهو ما تشدّد عليه النقاط التالية (وز- وزَ) حيث "يسوع نفسه" في البدء و"هو" بعد ذلك يحدد زمن حضوره ويعلّمنا سر هذا الحضور المنظور ولكن غير المعروف في (و- ز) كما كانت الحال في جماعة ما قبل القيامة؛ والحضور غير المنظور (وَ) ابتداء من زمن الفصح ولكنه معروف (زَ) إنه سر حضور الرب الغامض الذي يدعو إلى الاتحاد به بالمحبة وبالاسرار، حضور سرّي يميّزه الايمان. هذه هي حصة المؤمنين حتى النهاية (يو 20، 29)، أما عبارة "فيما بينهما" (هـ- هـَ)، فانها تشكل إطارًا لحضور الرب المنظور، وتظهر أهمية هذا الحضور. فعندما كانا "فيما بينهما" من دونه، لم يكونا قادرين إلا على "التراشق" بالكلام؛ وعندما أصبحا "فيما بينهما" بعد أن عرفاه وغاب، أصبح قلبهما متقدًا لانه حاضر ولو غير منظور. وتشكل مدينة اورشليم ملخصًا لكل دعوة اسرائيل بحسب لوقا. فكل انجيله يتمحور حول أوشليم بحيث يبدأ في هيكل أورشليم مع الظهور لزكريا، وينتهي في الهيكل حيث نرى الرسل يسبحون الرب دومًا. ونرى في (د- دَ) ان التلميذين يقومان بالمسيرة ذاتها من أورشليم إلى أورشليم فيبدو هذا النص وكأنه مجسَّم مصغَّر لانجيل لوقا. وفي نقطتي (ب ج- ب جَ) يأتي ذكر سمعان بطرس بحيث يبدو النص وكأنه مختوم بحضور هذا التلميذ. نحن نعرف بأن القديس متى يعطي لبطرس المركز الطليعي (إعلان قيصرية فيلبس متى 16: 13-19؛ المشي على المياه متى 14: 29؛ الجزية لقيصر متى 17: 24-27، نصوص ثلاثة لا نجدها إلا عند متى). لكن انجيل لوقا مكتوب بطريقة مختلفة. إنه انجيل الكنيسة التي تقوم بمسيرة حج عبر العصور، من هنا أهمية الطريق والرحلات. يعطي الانجيلي الثالث اهمية كبرى لزمن الكنيسة الذي يراه يطول عبر الزمن. ومن هذا المنطلق يضع لوقا في آخر إنجيله ثلاث نصوص يذكر فيها بطرس. الاول عند اقتراب الآلام: "صلّيت لأجلك لئلا يضعف ايمانك، وأنت متى عدت فشدَّد اخوانك" (22: 32). والثاني في أول أيام الأسبوع إذ نراه يطبّق هذه الكلمة، فما إن "عاد" إلى الايمان بعد أن تراءى له الرب القائم من الموت حتى شدّد اخوانه فآمن الجميع بشهادته. إن هذين الذكرين الأخيرين لبطرس يشكلان إطارًا لنص تلميذي عماوس. فإن وضعناهما خارج هذا الاطار، فقدا الكثير من أهميتهما. ولكن تلاقي هذين الذكرين حول نقطة النص المحورية يُظهر دور بطرس الاساسي في الكنيسة. فإن أخذنا موقعًا للقراءة من وجهة نظر سرد الاحداث، نجد أن التلميذين قد عادا إلى أورشليم لينقلا البشرى إلى الأحد عشر؛ فالهدف إذًا "كنسي". ولكن من وجهة نظر ترتيب النص الأدبي، فإن ذكر سمعان بطرس المزدوج يجعل النص بأكمله مرتبطًا بهذا الذكر. لربما دلّ ذلك على تقدم في التفكير اللاهوتي حول دور بطرس. فمهما كانت خبرة التلميذين والظهور الذي خصّهما به الرب والاعلان الذي أوكله اليهما، فإن ذلك مرتبط بذكر سمعان أو بالاحرى بطرس الذي يسيطر حضوره على القصة بأكملها. وفي النهاية نصل إلى التلاقي الاوسع والاشمل (أ- أَ) إنه موضوع الإعلان: فالنساء "أخبرن" في البداية؛ والتلميذان "أخبراهم" في النهاية. نضيف أن هذا الإعلان يشكل خاتمة الانجيل كله حيت نجد الشهود في خضم العمل. وبالتالي فإن الشهادة التي تشكل إطارًا لنص تلميذي عماوس تعطيه صدى يتردد عبر كل حياة الكنيسة زمانًا ومكانًا.
وهكذا نرى كيف أن ترتيب النص وتنظيمه يظهر محوره وجوهر تعليمه: "أما كان يجب على المسيح أن يعاني ليدخل في مجده؟" (آ 25). ولكن وإن كان هذا الاعلان أساسيًا، فانه لا يُفرغ النص من كل غناه. فالقصة مليئة بالحوارات والخطابات وكل التعليم عن مفهوم الطريق ولاهوت المشاركة واخلاقية الضيافة الخ...

محاولة لسبر لاهوت هذا النص
رغم صعوبته وطوله، نجد في هذا النص أولاً تعليمًا معمّقًا عن معنى الفصح. إنه محاولة للشهادة عن خبرة معرفة خاطفة للمسيح القائم من الموت محضّرة ومحصورة في نص طويل. من خلال هذه القصة، يحاول لوقا إدخال القارئ في قلب السؤال المؤلم الذي يطرحه: كيف يمكن للمسيح ان يتألم ويموت؟ سؤال في حال طرحناه على ذواتنا يجعل منا تلاميذ خائبين، هاربين... ولكن في قلب اليأس والهرب، ينضمّ الرب إلى التائه على دروب الايمان ليحوّله رويدًا رويدًا وانطلاقًا من الكتب المقدسة. "كان يجب": أمام عثرة الصليب، الفضيحة التي اخذت مكانها في تاريخ الخلاص، أمام موت البار، المسيح، الابن، لم تجد الكنيسة بدًا من العودة إلى الكتب المقدسة في بحثها عن منطق تدبير الله. في كتاب أعمال الرسل تبدو العودة إلى الكتب أساسية (اع 13: 27؛ 2: 23؛ رج 3: 18؛ 4: 28)؛ ويربط يسوع إعلانه عن موته بتتميم الكتابات والنبؤات.
إن الايمان بأمانة الله التي تجلّت بالقيامة، يؤكد لنا أن موت يسو ع لا يمكن ان يخرج عن مشروع الله الخلاصي، ويدفعنا للبحث عن فهم هذا السر من خلال تاريخ العهد القديم، فإذا بنصوص- رموز مثل نص عبد يهوه المتألم (اش 42-53)، وبعض المزامير (22 و69)، وكتاب الحكمة (2: 12-20)، وتقدمة اسحق (تك 22)، تأخذ بُعدها على ضوء المسيح المتألم والقائم من الموت. وبالمقابل فإن هذه النصوص تعطي بدورها نورًا معينًا يجعلنا نفهم هذا الموت كحدث لا يخرج عن الايمان، مع التأكيد بأنه ليس لهذه النصوص صفة ملزمة بحد ذاتها خارج حدث يسوع، تمامًا كما أن معرفة هذه النصوص لم تسمح للرسل والتلاميذ بفهم موت يسوع إلا كموت نبي (إرميا- إيليا- يوحنا المعمدان) تابع نبوءته حتى الموت ولم يكونوا بالتالي قادرين على تصوّر القيامة.
إن سؤال التلاميذ هو سؤالنا اليوم، سؤال لا ننفك نتعثّر به بعد ألفي سنة، وبالتالي فإن التوبيخ "يا قليلي الفهم" (لو 24: 25) يتوجه لنا أكثر منه لهم. إن المسيح القائم هو وحده القادر على تفسير الكتابات، وحده قادر أن يعطيها معنى وكأنها تختص به (لو 24: 25-27). وهذا ما تقوم به الكنيسة على خطاه، ولنا في المقابلة بين نص تلميذي عماوس ونص فيلبس مع الوزير الاثيوبي خير برهان على ذلك (اع 8: 30-35).
ويبدو أن لوقا يريد أن يؤكّد أن لقاء الرب ومعرفته هما بالمستطاع اليوم، وأن لقاءه لا يستلزم العودة إلى ماضي يسوع الأرضي. فنحن نلتقيه اليوم بالاسرار وهذا ما يؤكّده استعمال فعل "أعطى" (لو 24: 30) بصيغة تركز على مدة الفعل بحيث يُظهر أن يسوع القائم من الموت يكمل حتى اليوم إعطاء هذا الخبز لكنيسته.
لقد دخل الغريب إلى بيت التلميذين فأخذ مكان السيّد إلى المائدة التي استضافته. وزّع الخبز فانفتحت أعينهما وعرفاه فغاب" (24: 31).
لقد أصبح القائم من الموت ومنذ ذلك الحين الحاضر- الغائب على المائدة المسيحية. عرفاه وبالوقت عينه فهما ما كلمهما به في الطريق فانفتحت أمامها الكتب مع انفتاح قلوبهما لمعرفة الرب (24: 32). إن المائدة المسيحية هي مكان التعرّف إلى السيد وإلى كلمته وبالتالي يصبح حضور المسيح البشري غير ضروري. إن الكلمة والخبز المقتسم يفتحان العيون على الغياب.
في اربع وعشرين ساعة لخّص لوقا جوهر إيماننا المسيحي: إنه يكمن في يوم الفصح: يأس- خوف- مجادلات- مسيرة هرب إلى الامام- تعيلم كتابي- تعليم عن الاسرار- عودة إلى الإيمان- لقاء واجتماع بالكنيسة- ظهور الرب للجميع- إسناده لهم رسالته وصعوده إلى السماء. إن يوم القيامة هو مصدر الايمان وأساس بشرى القيامة. وفي مسيرة تلميذين أعطانا صورة مسيرتنا الايمانية المتأرجحة أبدًا بين الشك والايمان متأكدين بأن الأهم هو الثقة بأننا سنجد الله، وبأنه يرافقنا حيث تقودنا خطواتنا. فكل خبرة قلب متقد نحياها تضعه أمام عيوننا فيفتح قلوبنا وأذهاننا لمعرفته كلما تشاركنا في الكتب وفي الخبز، وبالعودة من عماوس ولو ليلاً كل الطرقات تؤدي من جديد إلى حيث ضاع الرجاء الكاذب وتمّ الخلاص الحق.
الأخت باسمة الخوري

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM