الليتورجيا عيش وتحقيق الخلاص

الليتورجيا عيش وتحقيق الخلاص

عنوان يحتلّ المكانة الأولى في دراسات "اللاهوت الليتورجي". فهل من ليتورجيا بدون لاهوت؟ وهل من لاهوت بدون ليتورجيا؟ هنا يستحضرنا القول المأثور في اللاتينية
Lex orandi lex credendi= قاعدة الصلاة هي قاعدة الإيمان؛ أيّ إنّ اختبار الكنيسة المصلّي يحتوي على لاهوتها الذي يتمحور حول التدبير الإلهي الخلاصي. وانطلاقًا من هذه القاعدة ندخل في صلب موضوعنا ونرى أنّ الاحتفال الليتورجي يُدخل الكنيسة مباشرة في سرّ الخلاص إذ هو أجلى تعبير وأعظم تحقيق لهذا الخلاص في قلب الجماعة المحتفلة، الآن أيّ في هذا الزمان وفي هذا المكان الحاضرين.
سوف نتوقف على النقاط التالية:
أولاً: الاحتفال الليتورجي هو تحقيق للتدبير الخلاصي.
ثانيًا: الاحتفال الليتورجي يصنع الكنيسة وهي تصنعه.
ثالثًا: احتفال المعمودية اعتلان لحقيقة الخلاص.

1- الاحتفال الليتورجي هو تحقيق للتدبير الخلاصي
"مدبرنوتا" أي "التدبير" هو من المصطلحات الأكثر أهميّة في اللاهوت المسيحي عامّة واللاهوت الليتورجي بنوع خاصّ، إنّ على صعيد معنى الاحتفال وإن على مستوى استعمال اللفظ في سياق الرتب الليتورجيّة. فلفظ "التدبير"، يدخلنا مباشرةً في تاريخ العلاقة بين الله والإنسان؛ إنّه يعود بنا إلى مرحلة الخلق الأول؛ والتدبير الخلاصي هو تواصل تاريخ هذه العلاقة بعد سقطة آدم التي جعلت الله الخالق يتدخّل وبطريقة مستمرة، ومن عهد إلى آخر إلى أنّ تُوِّج تدخّله في "ملء الزمن" بإرسال ابنه الوحيد يسوع المسيح كلمته المتجسّد، ليحقّق مشروع الخلاص من أجل حياة الإنسان. فالتدبير الإلهي يلخّص كلّ مراحل التاريخ؛ هذا التاريخ أصبح خلاصيًا، فتوجّه من خلال الأحداث والأشخاص والظروف حتّى وصل إلى غايته الأساسيّة وهي خلاص الإنسان أيّ إدخاله في الحياة الأبديّة.
فالليتورجيا ترتكز على التدبير الإلهي وهي احتفال بهذا التدبير بمعنى أنّها تلخيص واستحضار آنيّ لكلّ مراحل التاريخ استنادًا إلى شخص يسوع المسيح وإلى عمله الفصحيّ: موته وقيامته وصعوده، وإرساله الروح الذي ما يزال يحلّ على الجماعة وعلى الأسرار ويكمّل في العالم الخلاص الذي تحقّق منذ ألفي سنة مرة واحدة ودائمة.
من هنا يحتوي الاحتفال الليتورجي على تدبير مثلّث الأبعاد: ثالوثي، كرستولوجي وبنفماتولوجي.

أ- التدبير الثالوثي
العمل الليتورجي في الكنيسة له بُعد ثالوثي بجوهره. إنّه احتفال الثالوث. فعلى الصعيد اللاهوتي، إنّ ليتورجيا الكنيسة التي تتمّ على الأرض ليست إلاّ تشبّهًا وانعكاسًا لليتورجيا السماء، أي لأورشليم السماويّة حيث يجلس الابن الممجّد عن يمين الآب ويقدّم له الشكر والتسبيح من أجل الخلاص الذي حقّقه باسم البشرية التي يمثّلها. "فإن بشريته في وحدة شخص الكلمة، هي التي غدت أداة خلاصنا؛ ولهذا ظهر في المسيح فداء مصالحتنا كاملاً، وحلّ فيما بيننا ملء العبادة الإلهية" (الوثائق المجمعية: في الليتورجيا، 5).
أولاً: من الناحية التصاعدية
فالكنيسة ترفع مع الابن الشكر= إفخارستيا، إلى الآب، وهذا الشكر يتحقّق فيها بالروح الذي يجمعها "ويصلّي فيها بأنّاة لا توصف". من هنا كلّ عمل ليتورجي هو اشتراك حيّ وفعليّ بحياة الثالوث الأقدس؛ أي أنتَ- أنتِ- الكنيسة مع الابن وهو الليتورجي الأول والكاهن الأوحد، تقدّم أيّ ترفع ذاتك للآب بقوّة الروح الذي يهبك دينامية التسبيح والتقدمة.
هذا البُعد الثالوثي للاحتفال ينطلق من ليتورجيا القربان= الافخارستيا، ويمتدّ في كلّ احتفالات الكنيسة؛ لذلك كلّ الأسرار تتحقّق باسم الثالوث الأقدس "الآب والإبن والروح القدس" للحياة الأبدية.
ثانيًا: من الناحية الإنحدارية
العمل الليتورجي في اختبار الكنيسة يعكس تدبير الله الآب التاريخي- الخلاصي؛ من هنا تعكس النّصوصُ الليتورجية، ولا سيّما الإفخارستية منها، "تدبير الآب" أيّ ما نسمّيه "زمن الآب" وهي المرحلة التي تبدأ مع الخلق الأول وترسم كلّ تاريخ العهد القديم الذي يعبّر عن رحمة الآب ومحبته اللامتناهية للبشر وتصل ذروة هذه المرحلة إلى "ملء الزمن" أيّ إلى ما نسمّيه تدبير الابن أو "زمن الابن" وهو دخول كلمة الله في التاريخ. وهنا تُرسم كلّ حياة يسوع التاريخية أيّ تدبيره الحياتي منذ ولادته وعماده وصومه وحياته، بكلّ أبعادها، وآلامه وموته وقيامته وصعوده إلى السماء؛ فإنّ كلّ هذه المرحلة خلاصية وتأتي لتتوّج تدبير الآب؛ وتكتمل هذه المرحلة بما نسميّه "تدبير الروح" أو "زمن الروح" وهو حلول الروح على الرسل والتلاميذ في العليّة: هذا الروح الذي يختم ويكمّل في الجماعة وفي العالم الخلاصَ الذي حقّقه الابن؛ هذا الروح المنبثق من الآب وهو روح الابن القائم، وهبَه الابن لرسله وحقّق فيهم مشروع التحوّل: وما زالت الكنيسة تستدعي الروح فيأتي ويحلّ ويحوّل.
في هذه الأزمنة الثلاثة يكتمل كلّ عمل ليتورجي إذ هو ذكر=mémorial أي استحضار لكلّ التاريخ الخلاصي انطلاقًا من الحاضر الاحتفالي؛ ومن هذا الحاضر الاحتفالي تعود الكنيسة وتعيش مسيرة التاريخ الخلاصية بكلّ مراحلها، أيّ تعود إلى الماضي الذي يرتكز على الحدث الأقوى وهو الفصح: موت المسيح وقيامته، ومنه إلى الحاضر الذي هو اشتراك آنيّ بحدث الموت والقيامة ومنه تنفتح نحو اكتمال هذا الخلاص في المستقبل؛ وهنا يأتي البعد الإسكاتولوجي الذي هو اكتمال ما سبق وتحقّق، مرورًا باحتفال الكنيسة الحالي لهذا الخلاص. هناك إذًا: حاضر احتفالي- ماضٍ خلاصيّ- حاضر خلاصيّ- مستقبل اسكاتولوجي.
كلّ هذه الأبعاد التي تدور حول تدبير الثالوث الأقدس تتحقّق في الليتورجيا فتصبح الاحتفالَ الآتي بالخلاص الذي ما زال يتواصل في حياة العالم انطلاقًا من ليتورجيا الكنيسة ومرورًا بكلّ أنواع رسالتها في قلب هذا العالم، ومن خلاله تظهر له شخص المسيح القائم وتشهد لمحبّته.

ب- التدبير الكرستولوجي
نعني هنا تجلّي وإظهار شخص المسيح وهو الحيّ القائم والحاضر في كلّ احتفال ليتورجي. فالجماعة المؤمنة في لقائها تتمحور حول شخص يسوع المسيح إذ تشترك من خلال الإفخارستيا بمائدة الفصح وتعلن موته وقيامته. ومن هذا السرّ العظيم، تنبعث الحياة الليتورجية في الكنيسة، ويصبح كلّ سرّ من الأسرار إعلانًا للموت والقيامة واشتراكًا بهذا الحدث الفصحي- الخلاصي. وما إعلان هذا الحدث في كلّ احتفال إلاّ تتويجًا لمراحل التدبير الخلاصية التي عاشها يسوع في كلّ حياته؛ من هنا تشدّد ليتورجياتنا الشرقية والأنطاكية بنوع خاصّ على البعد الحياتي والعملي لرسالة يسوع وحضوره في قلب العالم إذ إنّ كلّ عمل قام به كان اشتراكًا ومساهمةً في العمل الفصحي الذي تَوَّج وكمَّل رسالته الخلاصيّة.
في هذا السياق نستطيع أن نرى حضور المسيح المتنوّع في الاحتفالات الليتورجية: المسيح حاضر في كلمته؛ فعندما يُعلَن الكتاب المقدّس في الجماعة إنما هو المسيح الذي يعلن إرادة الآب السماوي ويتابع مهمّة الكرازة والتبشير في الكنيسة ومن خلالها في العالم. المسيح حاضر في الافخارستيا من خلال شخص خادم السرّ وبنوع خاصّ من خلال الأعراض الافخارستية: الخبز والخمر. وما الاشتراك بالمائدة المقدّسة إلاّ دخولاً مباشرًا بسرّ الفداء الذي حقّقه بآلامه المحيية عندما جمع رسله وناولهم قائلاً: خذوا كلوا منه جميعكم هذا هو جسدي. وخذوا اشربوا منها جميعكم هذا هو دمي دم العهد الجديد... اصنعوا هذا لذكري. ففي كلّ وليمة إفخارستية، يقدّم المسيح ذاته مأكلاً ومشربًا لأجل حياة العالم، ويظهر مجدَ الآب ومحبته اللامتناهية للبشر.
المسيح حاضر في المعمودية. فعندما يعمّد أحد إنّما المسيح ذاته هو الذي يعمّد؛ وهو حاضر في كلّ أسرار الكنيسة وفي صلاتها. "فحيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في وسطهم". إنّ حضور المسيح يسبّب فرحًا كبيرًا في حياة الجماعة المصليّة التي تدخل في سرّ خلاصه بفعل الروح الذي يجمعها ويعمل فيها.

ج- التدبير البنفماتولوجي
الروح القدس هو الذي يحقّق ليتورجيا الكنيسة. إنها تدبير الروح الذي حلّ وختم وكمّل الخلاص في حياة جماعة الرسل وقدّسهم وجدّدهم وأطلقهم ليكونوا شهودًا لهذا الخلاص في العالم. وتدبير الروح يستمرّ في كلّ عمل ليتورجي، إذ هو العنصر المكمّل والمحقّق للخلاص في حياة الجماعة الحاضرة، وهو الذي يحيي ويقدّس هذه الجماعة وهذه الأسرار التي تتمحور حولها ليتورجيا الكنيسة. وعندما نقول هنا "المقدِّس" لا ننفي عمل الروح خارجًا عن إطاره الثالوثي؛ وعلينا هنا أن نقرأ القراءة اللاهوتية للعمل الليتورجيّ خارجًا عن "دقّات الساعة"، والتوقيت المبالغ فيه في موضوع الحلول والتحوّل، وندخل في ذهنيّة احتفاليّة ثالوثية من خلالها نرى أنّ ارتباط الأوقات الثلاثة هي مسألة حتمية بدونها لا نستطيع أن نفهم معنى الاحتفال بالخلاص الذي يطال الجماعة المصلّية الآن. وفي هذا الإطار الثالوثي، يأخذ "كلام التقديس" مثلاً معناه وقوّته الفاعلة والمقدِّسة بكونه كلام السيّد الذي يتضمن قوّة مقدّسة ومحوّلة تحقّق التحوّل الجوهري في الخبز والخمر بفعل الروح المحيي والمقدّس... ومن هنا علينا ألاّ نفصل بين أدوار الثالوث، بالرغم من "تدابيره" الموزّعة في الترتيب الليتورجي وفق مراحل التاريخ الخلاصية.
يحتلّ إذًا البُعد الثالوثي أهمية محورية في الاحتفال الليتورجي، إذ إنّ كلّ احتفال هو اشتراك حيّ بحياة الثالوث الأقدس الذي يعطي الحياة ويجدّد الخلاص في الجماعة المحتفلة التي تصير وبطريقة دائمة وتصاعدية كنيسة، كلّ مرّة تحتفل بفرح الخلاص.

2- الاحتفال الليتورجي يصنع الكنيسة وهي تصنعه
ننطلق هنا من المقولة اللاهوتية الآبائية المعروفة: "الإفخارستيا تصنع الكنيسة والكنيسة تصنع الإفخارستيا". الليتورجيا ولا سيّما الاحتفال الإفخارستي هو ذكر الفصح المجيد، وبهذا الفصح دخل المسيح في سرّ الموت والقيامة وعبر إلى الآب وأدخل معه البشرية الجديدة؛ "ومن جنب المسيح المطعون بالحربة الذي جرى منه دم وماء"، خرجت الكنيسة إلى العالم ووُلد شعب الله الجديد؛ هذا الفصح يتجدّد في الافخارستيا، وهو الذي يسبّب بطريقة دائمة ومستمرة ولادة الكنيسة الدائمة في العالم، ويضمن نموّها وهي في مسيرها نحو اكتمال ملكوت الآب. لذلك لا وجود للكنيسة ولا حياة لها خارجًا عن الإفخارستيا. فاللقاء الإفخارستّي يحقّق الوحدة، وهذه الجماعة الواحدة بالقلب والفكر والروح تشترك بالخبز الواحد، وهذه الأعضاء المتنوّعة التي تعبّر عنها "حبّات القمح المبعثرة"، تجتمع فتصير قربانًا واحدًا يصبح تقدمة المسيح الواحدة إذ هو المقدِّم والتقدمة، من أجل رجاء الكنيسة وتجدّدها: فالافخارستيا تجعل الكنيسة واحدة جامعة مقدّسة رسولية، وهي تساعد الكنيسة على أن تجيب باستمرار "نعم" لدعوة عروسها من خلال الفضائل التي تجسّدها وهي: الإيمان والرجاء والمحبة. فالكنيسة تطلب دومًا أن تزداد إيمانًا وثباتًا في هذا الإيمان؛ وهي التي تتجدّد بالرجاء، فتكون شاهدة لفرح القيامة في احتفالها وفي رسالتها؛ وتنمو بالمحبّة، وهي المدعوَّة لأن تشهد للمحبّة داخل الجماعة القربانية وخارجها بحيث إنّ رسالتها تغدو تواصلاً للاحتفال القرباني من خلال محبّة الأخوة.
الإفخارستيا تصنع الكنيسة فتحوّلها إلى جماعة عنصرة دائمة بقوّة الروح الذي يحلّ فيها ويجدّدها ويجعلها تنمو ومعها تزدهر البشرية بفضل القوت الإفخارستي الذي ينميها بالحب والمصالحة والسلام.
وهذه الكنيسة هي التي تصنع الإفخارستيا استنادًا إلى حقيقة المسيح، كاهن العهد الجديد الذي أدّى الخدمة الجديدة، الخلاصية، عندما لم يقدّم أشياء خارجًا عنه، بل عندما قدّم ذاته بكلّيتها للآب من أجل خلاص العالم؛ والرسل الذين أقامهم الرّب وعلى إيمانهم بُنيت الكنيسة، هم الذين يواصلون فعل التقدمة هذا فيقدّمون المسيح- القربان باسم الجماعة إلى الآب؛ والأساقفة في الكنيسة المحليّة والكهنة باسمهم في الجماعة الرعوية ليسوا إلاّ امتدادًا لمهمّة الرسل أساس الكنيسة الأولى، هؤلاء أرسلهم المسيح كما أرسله الآب ليتمّم مشروع الخلاص.
لذلك لا افخارستيا خارجًا عن الكنيسة- الرسل، رؤساء جماعات المؤمنين؛ ولا إفخارستيا خارجًا عن شركة الإيمان مع الأساقفة ومن خلالهم مع الرسل والمسيح فالآب؛ وما رسالة الكنيسة إلاّ السهر لضمان هذه الشركة والعمل على نموّها بروح إيمان ومحبة بين شعب الله.
هذا البُعد الكنسيّ يجعلنا نطرح مسألة الروحانيات الفردية التي تسيطر اليوم عامّة على مفهوم الإيمان المسيحي؛ ويجعلنا من جهة أخرى نطرح مشاكل القدّاس الخاصّ الذي يعبّر عن مشاعر الفرد خارجًا عن هذه الشراكة الكنسيّة التي كلّما تجسّدت في الليتورجيا بطريقة عميقة وصادقة كلّما أثمرت في الممارسة الراعوية التي هي تواصل وترجمة حياتية لشراكة الإفخارستيا.
إنّ الواقع الراعوي اليوم يبيّن لنا الحاجة الماسّة إلى هذه الذهنية الكنسيّة التي ويا للأسف تبدو غائبة من الممارسة الراعوية. وما الإشارة اليها إلاّ لتأكيد أهميتها ليس فقط ببعدها التطبيقي بل أيضًا اللاهوتي وذلك بارتباطها العضويّ بالسرّ الفصحي.


3- احتفال المعمودية اعتلان لحقيقة الخلاص
من خلال سرّ المعمودية، تبدأ المسيرة الإيمانية الخلاصية مع يسوع المسيح، وينمو الإنسان في الملكوت بفعل الروح وبهدف الوصول إلى الآب.
لا بدّ من أن نلفت الانتباه إلى أن "الحساية" أو صلاة الغفران في الطقس الماروني هي من الصلوات الأكثر أهمية لما تتضمّنه من غنى على صعيد البنية اللاهوتية التي تحمل من جهة بعدًا ثالوثيًّا ومن جهة أخرى بعدًا كرستولوجيًّا، متوقفة على المعاني اللاهوتية للمناسبة أو للعيد أو للحدث الذي تحتفل به الكنيسة.
إنّ حساية رتبة المعمودية التي هي مرجعنا في هذه الفقرة، هي بالواقع "تحفة لاهوتية"، تتمحور حول حدث الأردنّ أي معمودية السيّد المسيح من يوحنا المعمدان. فلنحاول شرح وتحليل هذا النص تباعًا.

أ- المعمودية والصليب
يرفع النص آيات التسبيح والشكر إلى "رئيس الكهنة الي بدأ فعلّمنا التنقية بنفسه على مياه الأردنّ". هذه الصفة "رئيس الكهنة" هي الأولى التي يبدأ فيها النص وصفه للسيّد المسيح. الصورة الأولى التي تُرسم أمامنا من خلال هذا التعبير هي صورة الصليب. فالمسيح، رئيس كهنة العهد الجديد، قدّم ذاته للآب السماوي على الصليب، وهذا ما يميّز المسيح- الكاهن عن كهنة العهد القديم وعن كلّ أنواع الكهنوت الماضية. قبله كانت تقدمة، ولكنها تقدمة خارجة عن ذات الإنسان؛ كانت تقدمة الحيوانات والقرابين والبواكير والعشور، وغيرها؛ أما تقدمة المسيح فكانت "الذات" بكليّتها لأبيه من أجل الإنسان. وحياة يسوع كلّها كانت حياة كهنوتية؛ وحدث الصليب هو التتويج الكبير لرسالة يسوع التي كانت قد استُهلّت في معموديته على مياه الأردنّ؛ يقول النص في هذا السياق: "رئيس الكهنة الذي بدأ فعلّمنا التنقية بنفسه على مياه الأردنّ، ونهج سبل الحياة أمامنا، لأجل تنقيتنا من خطايانا".
نشدّد هنا على اللّحمة اللاهوتية والحياتية بين حدث الاردن وحدث الصليب. على الأردنّ أُعلنَ أنّ المسيح هو الابن الحبيب والمسيح والكاهن. وعلى الصليب توّجت رسالة الابن والمسيح والكاهن. فحياة يسوع كلّها كانت تسليمًا مُطلقًا لإرادة الآب وتتميمًا لمشيئته القدوسة. هذا التسليم توِّج عندما أَسلم الابن ذاته كليًّا للآب؛ لقد ارتفع المسيح ورفع معه العالم. فحياة يسوع هي مثال لحياة كلّ معمّد.

ب- المعمودية وحياة يسوع التبشيرية
نقرأ في النص: "ونهَجَ سبل الحياة أمامنا".
هذه الصورة التي نراها في النص، تشير إلى أن معمودية يسوع هي النموذج والمثال لمعمودية كلّ مسيحي. كيف؟ كما أن المسيح تعمّد ومُسح بالروح وأُعلن عنه أنه الابن الحبيب وانطلق بعد المعمودية ليبدأ بمشروع الكرازة في ملكوت الآب، هكذا كلّ معمّد يُمسَح بالروح ويعلَن عنه أنّه ابن الآب الحبيب مع الابن يسوع، ويُدعى لكي ينطلق بعد المعمودية ويبدأ رسالته التبشيرية إذ يعلن من خلال حياته وكرازته عن ملكوت الآب وعن الإنجيل ويكون شاهدًا له في قلب العالم.
بهذا المعنى يكون قد نَهج السيّد المسيح سبل الحياة أمامنا، إذ كان مثالنا بمعموديته وبحياته. والمقياس الجوهري لكلّ معمّد هو: حياة يسوع، رسالته، تبشيره، صلاته، تردّده بين الناس، آلامه، موته وقيامته.
وهكذا يُدعى كلّ مسيحي لكي يواصل بعد المعمودية رسالة المسيح فيكون: نبيًّا مثل المسيح يشهد للحقّ؛ راعيًا مثل المسيح يقود بمثله وحياته الناس إلى مراعي الحياة والسلام والمحبة؛ وكاهنًا مثل المسيح يقدّم ذاته مع المسيح القربان تقدمة روحية وعقليّة إلى الله الآب من أجل سلام العالم وخلاصه.

ج- المعمودية والتجسّد
نقرأ في النص: "أيّها الإله الذي صار إنسانًا بمحبته، واتّلد في الجسد، بدون زواج، اتلادًا لا يُدرك، من البتول القديسة، لكي يقرّب البشر من التبني لوالده فجعلهم أبناء لأبيه بالماء والروح".
أول ما يسترعي انتباهنا في هذه الفقرة هو حدث ميلاد الرّب بالجسد؛ وهنا نجد الرباط أيضًا بين حدث المعمودية وحدث التجسّد. إن مشروع التجسّد هو في بادئ الأمر التعبير الأكبر عن محبة الله الإنسان "إذ صار إنسانًا، واتّلد في الجسد... من البتول القديسة". وهدف هذا التجسّد هو التبنّي. فمن خلال المسيح الابن المتجسّد، تحقَّقَ مشروعُ تبنّي الإنسان، أي رَجَعْنا إلى حالة الأبناء بعد أن كنّا في حالة العبيد والعبودية.
أين تحقّق فعليًّا هذا المشروع؟ طبعًا بمعمودية الماء والروح التي نشترك فيها والتي حقّقها المسيح بمعموديته الأولى على الأردنّ والتي قادته إلى المعمودية الثانية على الصليب. فبموته وقيامته اكتمل مشروع التبني، وبمعمودية الكنيسة يدخل الإنسان مباشرةً في هذا المشروع ويصبح ابن الله.

د- المعمودية والخلق
نقرأ في النص: "يا مصوّر الأجنّة في الأحشاء، الذي صار جنينًا ليجدّد صورة آدم التي شاخت وبَليَتْ بفساد الخطيئة تجديدًا بنار الكور السليم الروحاني الذي هو المعمودية".
في سياق العلاقة بين المعمودية ومحطات التدبير الإلهي الخلاصيّ، وبعد أن ذكر النصُّ العلاقةَ مع الصليب وحياة يسوع والتجسّد، نصل الآن إلى اللحمة بين المعمودية والخلق. هنا تتوجّه الصلاة إلى الخالق من خلال هذا التعبير: "يا مصوّر الأجنّة في الأحشاء".
هذا الخالق ومعطي الحياة، صار جنينًا- إنسانًا بهدف أن "يجدّد صورة آدم التي شاخت وبليَتْ بفساد الخطيئة". هذا التجديد تمّ ويتمّ بالمعمودية.
في الواقع، نحن أمام نص هو من أجمل وأعرق وأقدم الصلوات المسيحية على الإطلاق: هذا التعبير "تجديد صورة آدم" يشير بطريقة صريحة إلى الخلاص الذي حقّقه آدم الجديد يسوع المسيح. فصورة الله المطبوعة في الإنسان وهي ميزة الخلق الأول، هذه الصورة قد "شاخت وبليت" بسبب معصية آدم. أتى المسيح، آدم الثاني، وأعاد إلى هذه الصورة جمالها ورونقها؛ المسيح الذي يمثّل البشرية الكاملة والألوهة الكاملة، قد رمّم هذه الصورة بتجسّده ومعموديّته وحياته وموته وقيامته؛ ومع المسيح وفي معموديته يشترك الإنسان في حالة آدم الجديد، آدم النعمة، آدم القيامة والحياة الجديدة وعدم الموت.

هـ- المعمودية وحدث الأردن
نقرأ في النص: "أيها الغير المحتاج الذي أتى وتعمّد ليقدّس مياه الأردن بحنانه، يا ابن العظمة الذي حنى رأسه أمام يوحنا المعمدان، والآب يصرخ من العلاء كالرّعد: "هذا هو ابني الحبيب الذي به ارتضيت"، والروح القدس قد نزل وحلّ على رأسه بشبه جسد حمامة، والقوّات الروحانية قائمة بالخوف والرعدة".
نصل هنا إلى حدث معمودية يسوع على مجاري الأردنّ، وهو المحور الرئيسي في هذه "الحساية"، وعليه ترتكز كلّ الأبعاد اللاهوتية التي أوردناها والتي تتعلّق من جهة بالمسيح وبعمله الخلاصي: صليب- حياة يسوع- تجسّد- خلق، وتتعلّق من جهة ثانية بالإنسان الذي يتهيّأ للمعمودية كما سنرى في المقطع التالي.
في هذه الفقرة، نجد وصفًا لما جرى على الأردنّ مع التركيز على تواضع المسيح. "الغير المحتاج، أتى وتعمّد". والهدف أن يُقدِّس المياه بحنانه. تلتقي هذه الصورة مع عمل ليتورجي رمزيّ نجده في رتبة تبريك المياه في عيد الغطاس وهو رمي ثلاثة جمرات نار في حوض المياه للإشارة إلى حلول السيّد المسيح في مياه الأردن ليقدّس مياه الكون بأسره ويقدّس الطبيعة بشخصه. وفعلُ الإتحاد هذا يعبّر عن رحمة الرّب وحنانه، الذي بتجسّده وعماده وحلوله المثلث في الزمن قد قدّس الزمن والكون وأعاده إلى جماله الأول. إنّه مشروع الخلق الجديد الذي تقدّس بالمسيح وعلى رأس هذه الخليقة الإنسان الذي أفتُديَ وخُلِّص وعاد إلى الفردوس مع يسوع المسيح بقوّة الماء والروح.

و- المعمودية وطالب العماد
نقرأ في النص: "أنت أيّها الرّب الإله، أحلّ يمن رحمتك على عبدك هذا الذي تأهّب للمعمودية المقدّسة. قدّسه وطهره ونقّه بزوفاك الغافرة، وبارك واحفظ شعبك وميراثك. وكما ألبستنا بمعموديتك الإلهية حلّة المجد ووسم الروح القدس المحيي، ودعوتنا لنكون بنين روحانيين بالمولد الثاني من المعمودية المقدّسة المبرّرة الخطأة، هكذا أهلّنا بقوّتك العزيزة الغير المغلوبة لأنّ نمجدك بوجوه طلقة وبدالّة الأبناء الأحبّاء، ونمجّد أباك الذي أرسلك لخلاصنا وروحك الحيّ القدوس الآن وكلّ آن إلى الأبد. آمين".
هنا يبدأ القسم الثاني من الحسّاية، أي ما نسمّيه قسم الطلب. وهذه الجملة "أنت أيّها الرّب الإله" أو ما يشابهها مثل: "أنت الآن" أو "الآن"، هي التي تنقل توجّه الصلاة من تمجيد وتسبيح وذكر الأعمال الخلاصية عبر التاريخ، إلى الحاضر الاحتفاليّ أي واقع الكنيسة التي تحتفل الآن، أي في مكان وزمان محدّدين ومع أشخاص مدعوين للاشتراك بروح الاحتفال أي بالخلاص الذي يبغيه كلّ احتفال ليتورجي.
في هذا المناخ، تأتي الصلاة على الإنسان الذي يتهيّأ للمعمودية، وتطلب أن يتقدّس ويتطهّر ويتنقى. وهذه الأفعال لا تحمل فقط بُعدًا أدبيًّا وأخلاقيًا، بل هي أفعال خلاصيّة تُدخل الإنسان في دينامية الخلاص.
وتشير الصلاة إلى الجماعة المحتفلة. فمفاعيل المعمودية هي الانتماء إلى شعب الله المفتدى. وهذا الأمر هو مهمّ جدًا، وهو يشكِّل ربما مُعضلةً هي من أهم المعضلات في الإيمان المسيحي اليوم وهي عدم حسّ الانتماء إلى الجسم المسيحي وإلى كنيسة المسيح؛ هذا الانتماء يتحقّق بالمعمودية، وتكمن ثماره في كلّ أبعاد الشركة مع الله ومع البشر.
ومن مفاعيل المعمودية أيضًا هي: أن يَلْبس الإنسان حلّة المجد ووسم الروح، ويصبح ابنًا، ويمجّد بدالّة الأبناء الآب والابن والروح القدس.

خلاصة
نستنتج ممّا ورد النقاط التالية:
1. التدبير الإلهي الخلاصيّ بكلّ مراحله، أيّ من الخلق الأول مرورًا بالخلق الثاني (الموت والقيامة) وانفتاحًا على الأسكاتولوجيا، يتحقّق في كلّ احتفال ليتورجي إنطلاقًا من الحدث الإفخارستي.
2. الاحتفال الليتورجي هو اشتراك في حياة الثالوث الأقدس من جهة، وانعكاس للتدبير التاريخي- الثالوثي من جهة ثانية من خلال: زمن الآب، زمن الابن، وزمن الروح، الذين يصبحون الزمن الخلاصيّ الحاضر في زمن الكنيسة المحتفلة.
3. الكنيسة تصير كنيسة بالإفخارستيا؛ والكنيسة- شهادة الرسل والقدّيسين، هي التي تحتفل بالسرّ الفصحيّ. والحقيقتان مرتبطتان ببعضهما البعض ارتباطًا عضويًّا يساعد على خلق ذهنية احتفالية شاملة جامعة.
4. إن الاحتفال بالمعمودية قد تمحور حول الأردن ومنه بأهمّ المحطات الخلاصية: انطلق من الصليب، وطال حياة يسوع التبشيرية، ووصل إلى ميلاد الرّب بالجسد وإلى الخلق الأول حتّى وصل إلى الإنسان الذي يتهيّأ اليوم للمعمودية ويصبح ابنًا لله باشتراكه بالخلاص؛ فالمعمّد الموسوم يستطيع بدالّة الأبناء أن ينادي الآب: أبّا.
الخوري يوسف سويف

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM