الفصل السابع: أشعيا نبي الرجاء المسيحاني
 

الفصل السابع
أشعيا نبي الرجاء المسيحاني

مقدمة
يذكر العهد الجديد أشعيا مراراً فيورد نصوصه أكثر ممّا يورده أي سفر آخر، ما عدا المزامير. ولقد تعلّقت الليتورجيّا بنصوص أشعيا فأوردتها في كلّ المناسبات الهامّة: الميلاد وبعده، الدِنْح والصوم، الآلام والقيامة والصعود، وما يتبعها من الأفراح المسيحانيّة. كلّ هذا يدلّنا نحن المؤمنين اليوم أننا ما زلنا بحاجة إلى كلام هذا النبيّ العظيم الذي يعلّمنا الانتظار الحقيقيّ لذلك الآتي، يسوع المسيح ابن الله وابن مريم.
وها نحن، في هذا الزمن الميلاديّ، نتوقّف عند موضوعين: البقية الباقية وعمّانوئيل. يصل بنا القسم الأول إلى الحديث عن الإيمان بالربّ. ويوصلنا القسم الثاني إلى الملك المسيحاني الذي رأت الشعوب الوثنيّة نوره.

1- البقيّة الباقية والإيمان بالربّ
حين نقرأ أشعيا، نكتشف مواضيع هامّة تحافظ على شعلة الرجاء في وقت المحنة. وهذا ما يصاى بنا إلى ما طبّقه التقليد اللاحق من نصوص، على شخص يسوع المسيح.
أ- البقيّة الباقية
ظهرت فكرة البقيّة الصغيرة أو الزرع المقدّس أول ما ظهرت، في كرازة أشعيا. وارتبطت ارتباطاً وثيقاً باعلان القصاصات الإلهيّة. فشدّدت، أكثر ما شدّدت، على قساوة هذا التدخّل المدمّر، كما قال عا 3: 12: "كما ينقذ الراعي طرفاً من الأذن، هكذا ينقذ بنو اسرائيل" (أي ينقذ شيئاً قليلاً) (رج عا 5: 15؛ 9: 8- 10). ولكن الأنبياء قد يشيرون إلى هدف مطهّر: الله يريد أن ينقّي شعبه من خطيئته كما تُنقّى الفضّة من التراب الذي علق بها.
هذا ما نقرأه في خبر الرواية التي تدشّن رسالة أشعيا النبويّة، وتجمع السمات الرئيسيّة من تعليْمه: "يكون فراغ (وحشة) عظيم في البلاد، وإن بقي فيها العُشر من بعد، فإنها تعود وتصير إلى الخراب. سيجرّد كالبطمة التي يبقى لها جذع بعد أن تقطع أغصانها. فالجذع هو زرع مقدّس" (6: 12- 13).
يرى أشعيا أن المصائب التي تحلّ بالشعب لا تعود إلى تسلّط قوى الأرض. بل هي تعبير عن غضب موقّت من قبل الربّ. مصير اسرائيل يدخل بطريقة مميزة في مخطّط الله حيث يجد علّة وجوده وما يبرّره. فوجود الشعب وتاريخه هما علامة دعوة، وهما يدلاّن كيف نمارس هذه الدعوة. في هذا المنظار، تكشف الكوارث السياسيّة فوضى أساسيّة هي فوضى الخطيئة، وتشكّل دينونة من قبل الله وحكماً: "أين أضربكم بعدُ، وأنتم تكدّسون الخيانات" (آ 1: 5).
حين دنّس اسرائيل دعوته، أغاظ الحضور الإلهيّ الذي يقيم فيه، وجرح علة وجوده. وبداية دماره هو بداية إزالته من الوجود. أمّا بقاء الشعب في الوجود فعائد إلى رحمة الله المجّانيّة: "لو لم يترك لنا الربّ بقيّة يسيرة (بعض الناجين) لصرنا مثل سدوم وأشبهنا عمورة" (أش 1: 9).
ولم يكتف النبيّ بأن يعلن الحكم. ولو اكتفى، لجعل كرازته عقيمة. لهذا، حرّك الضمائر بصور عن العقاب الذي تسبّبه قساوة الشعب. ولكنّ فاعليّة هذا التعليم ترتبط بإمكانيّة المصالحة. ثمّ إن رسالة النبيّ هي الإشادة بعناية الله بشعبه وبأمانته. إذن، لن ندهش إن كان تذكّر "البقيّة" لا يكتفي بالتشديد على الدمار. فقد رافقته إشارات عن البعد التربوي للكوارث القريبة. إن تدخّل الله لدى شعبه الخائن لن يكون تدخّل نار تحرق كلّ شيء من دون تمييز، بل تدخّل نار تفرز وتنقّي: "ويكون نور اسرائيل ناراً، وقدّوسه لهيباً يحرق ويلتهم شوكه وحسكه في يوم واحد ويفني غنى غابه وجنانه فيضحي كسقيم يذوب. وما يبقى من شجر الغابة يكون قليل العدد حتى إن صبياً يدوّنه" (10: 17- 19). وأيضاً. "وأردّ يدي عليك وأحرق خبثك في أتون وانزع نفاياتك كلّها. أعيد إليك قضاة كما في الماضي، ومشيرين كما في الأيام السابقة. حينئذٍ يدعونك: مدينة البرّ (العدل)، المدينة الأمينة" (1: 25- 26).
لقد اختبر النبيّ هذه المحنة المنقيّة والخلاصيّة حين أمسك به وحيٌ مباشر بقداسة الله فعرف أنه عدم ولا يستحقّ أن يرى حضور الله. قال: "ويل لي، قد هلكتُ لأني رجل نجس الشفتين وقد رأت عيناي الملك، ربّ الاكوان. فطار إليّ احد السرافيم وبيده جمرة أخذها بملقط من المذبح ومسّ بها فمي وقال: ها إنّ هذه قد مسّت شفتيك فأزبل اثمك وكفّرت خطيئتك" (أش 6: 5- 7).
ينطلق أشعيا من الوعد ببقيّة منقّاة في المحنة وأمينة بعد اليوم، فيعبرّ عن يقينه بإعادة البناء المقبل ويصوّر لنا المناخ الروحيّ لهذا البناء. ويشير إلى هذا الوضع اسم أحد أبناء النبيّ: يشر يشوب، أي بقيّة ترجع. "وفي ذلك اليوم لا تعود بقيّة اسرائيل والناجون من بيت يعقوب يعتمدون على من ضربهم، بل يعتمدون على الربّ، قدّوس اسرائيل. وترجع بقيّة، بقيّة يعقوب، إلى الله الجبّار". (10: 20- 21).
و"في ذلك اليوم، يكون نبت الربّ بهاء ومجداً، وثمرة الأرض فخراً وزينة للناجين من اسرائيل. ومن أُبقي في صهيون وتُرك في أورشليم يقال له قديس ويسجّل لكي يحيا في أورشليم" (4: 2- 3).
إنّ هذه النظرة إلى بناء أخير بشكل جماعة صغيرة ولكن مقدّسة، سترافق النبيّ دوماً رغم اختباره لقساوة الأمة واستمرار الصعوبات السياسيّة. وسيعبرّ عنها بصورة خاصّة في بعض الظروف السعيدة مثل اعتلاء حزقيا التقيّ للعرش، وعودة سنحاريب المفاجئة إلى بلاده. وهذه الظروف كانت بالنسبة إلى أشعيا، علامات عن تدخّل الربّ الخلاصي. "وبقيّة الناجين من بيت يهوذا تُنتج جذوراً جديدة في أسفل، وثماراً في أعلى. فمن أورشليم تخرج بقيّة، ومن جبل صهيون، الناجون. غيرة (الحبّ الغيور) ربّ الأكوان تفعل هذا" (37: 31- 32).
ويبرز هذا التأكيد أيضاً في النشيد الرائع الذي تركه أشعيا بشكل "وصيّة" (30: 8- 18). فبعد حياة طويلة ما فتىء فيها يعلن متطلبّات القداسة، اقتنع بأن البشر متقلّبون. فهو لن يشهد "عودة" يهوذا الحاسمة ولا إعادة بناء "المدينة الأمينة". ولكنّه يسند رجاءه، كما فعل في السابق، إلى أمانة الربّ ورحمته. "فهلمّ الآن واكتب ذلك على لوح أمامهم وارسمه في سفر ليكون لليوم الأخير شهادة دائمة. هذا شعب متمرّد، هؤلاء بنون كاذبون، بنون لا يريدون أن يسمعوا أوامر الربّ" (30: 8- 9). "يهرب ألف معاً تجاه تهديد واحد. وتجاه تهديد خمسة، تهربون حتى لا يبقى منكم أكثر من سارية على رأس جبل وراية على التلّة. ولكن الرب ينتظر الساعة التي فيها يتحنّن. لهذا سيقوم ليرحمكم، لأن الربّ إله عادل، فطوبى للذين ينتظرونه" (30: 17- 18).
إنّ موضوع "بقيّة اسرائيل" لا يعني، في كرازة أشعيا، إلاّ بقاء وتنقية قسم من الأمة وسط المحن القريبة. ولكنه يبرز أكثر فأكثر كموضوع رجاء يلقي الضوء على المناخ الروحيّ الذي ألمّ ببعض الأقوال في عمانوئيل (7: 14- 15؛ 9: 1- 6؛ 11: 1- 9). وهو يبرّر هكذا التفسير المسيحاني الذي أعطاه التقليد لهذه النصوص.
وسيستعيد أشعيا هذا الموضوع في معنى مسيحاني وشامل فيقول: "وفي ذلك اليوم، يقوم أصل يسّى كراية للشعوب. ايّاه تلتمس الأمم، ويكون مقامه مجيداً. في ذلك اليوم، يمدّ الربّ يده ثانية ليفتدي بقيّة شعبه... ينصب راية للأمم ويجمع منفييّ اسرائيل. يضمّ مشتّتي يهوذا من أربعة أطراف الأرض" (11: 10- 12).
في هذه القصيدة، يدلّ "أصل يسّى" الذي ينتصب كراية للشعوب، على سلالة داود التي صارت نقطة تجمّع للمدعوين من المسكونة كلها.
ب- الإيمان بالربّ وبتدخله الخلاصي
يرتبط موضوع الإيمان ارتباطاً وثيقاً مع النبوءة التي تعلن الشقاء: هناك أمر ملحّ ومتطلبات لنبقى أحياء: "إن لم تؤمنوا، لن تكونوا في أمان، لن تبقوا أحياء" (7: 9- 10).
ويعارض النبيّ الحسابات السياسيّة التي يأخذ بها المسؤولون في الأمّة. هم لم يفهموا حقاً أن تاريخ شعبهم تاريخ مقدّس يقوده الله ويتّخذ فيه المبادرة. هم يحسبون حساب القوى الفاعلة ويُكثرون من الدسائس، ولكنّهم لا يجعلون اتّكالهم على الله الحاضر في صهيون حضوراً مقدساً.
"ويل للذين ينزلون إلى مصر طلباً للحماية، للذين يعتمدون على الخيل ويتوكّلون على المركبات الكثيرة وعلى الفرسان الأقوياء، ولكنّهم لا يلتفتون إلى قدّوس اسرائيل ولا يلتمسون الربّ" (31: 1).
وسيعود موضوع الإيمان لا في إطار هجومي، بل هو يعبرّ عن الثقة بأن الله يحفظنا وسط المحن، كما عن حالة النفس لدى جماعة أعيد بناؤها: "ها إني واضع في صهيون حجراً شاهداً، حجر زاوية، حجراً ثميناً وأساسياً، من يؤمن به لا يتزعزع. وأجعل من الحقّ حبلاً للقياس ومن البرّ معياراً" (28: 16- 17).
ما هو حجر الزاوية هذا الذي تشهد الكتابة فيه على فاعليّة الإيمان؟ هل هو مجرّد تذكّر؟ هل هو بقيّة اسرائيل المنقّاة؟ هل هو عمانوئيل نفسه؟ يبدو أن أشعيا يتطلع إلى مجموعة المؤمنين الصغيرة، التي هي الشاهد للثقة بالربّ وأساس المدينة المقدّسة. وما يؤكّده النصّ بوضوح هو أن الربّ هو الكافل الوحيد لبقاء الأمة.
وحين تهدّد وجود هذه الأمة طموحاتُ الممالك الكبرى، تصبح كرازة الإيمان بالربّ إعلاناً لتدخّله الخلاصي. فحضور "قدّوس اسرائيل" في صهيون يتطلّب من الشعب نقاوة، ولكنه يكفل له أيضاً أنه لا يُمَسُّ. فخلال الحرب الآرامية الافرائيميّة سنة 735، وخلال حصار أورشليم على يد سنحاريب سنة 701، أعلن أشعيا المقاومة والاتكال على الله، لا لاعتبارات سياسيّة أو استراتيجيّة، بل لأن الربّ هو هنا. فعلامة "عمانوئيل" (الله معنا) المعطاة لآحاز، تعلن حضور الربّ الفاعل (7: 14). وسيعلن أشعيا مراراً تأكيدات مماثلة فيقول: "إعلموا أيها الشعوب وتحطّموا. إسمعوا أيتها الأمم البعيدة. إلبسوا سلاحكم وانسحقوا. ابنوا مشاريع فتدمّر. إن قلتم كلاماً فلا يثبت لأن الله معنا (8: 9- 10). ونقرأ في 14: 32: "أسّس الربّ صهيون فيلجأ إليها بائسو شعبه" (10: 24- 27). وفي 3: 5: "كالطيور التي تبسط أجنحتها، ربّ الأكوان يحمي أورشليم، يحميها، ينقذها، يعفو عنها، ينجّيها".
إن اعلانات الثقة هذه مع التعاليم التي تتضمّنها، تتجاوز الظروف التي حرّكتها. إنّها تتجذّر ولا شكّ في الوجدان الحميم للعهد ولمصير اسرائيل المميَّز. لا شكّ في أنّ نظرة أشعيا تبقى زمنيّة: هي تجعل هذا المصير في المجال التاريخي، ولكنّها تشير أيضاً إلى البعد الروحيّ. بما أنّ التهديدات على الأمّة ترتبط بخيانة الشعب، فعملُ الله وحمايته يرافقان إعادة بناء الأمّة بناءً دينياً. الله هو مخلّص شعبه، لا لأنه ربّ الجنود الذي يحطّم القوى المعادية، بل لأنه ينقيّ هذا الشعب فيصبح اختياره له ملء الاختيار. "في التوبة والراحة كان خلاصكم. وفي الطمأنينة والثقة كانت قوتكم، لكنكم لم تريدوها" (30: 15). ويقول أشعيا أيضاً: "حين يغسل الربّ قذارة ابنة صهيون وينقّي أورشليم من الدماء المسفوكة" (4: 4). ويقول: "أقطري أيتها السماوات النصر كالندى، ولتمطر الغيوم البرّ. لتنفتح الأرض ويبلغ الخلاص" (45: 8).
هذا النصّ الأخير يفتح الدرب، بصورة خاصة، على تفسير مسيحاني مميّز ردّدته الليتورجيّا: اقطري أيتها السماوات ولتمطر الغيوم الصدِّيق. لتنفتح الأرض وتُخرج المخلّص.

2- عمّانوئيل والملك المسيحاني
إنّ متطلبات الأمور الآنيّة جعل كرازة أشعيا تكدّس التوبيخ والتهديد، ولكنّها لم تُخفِ النداء إلى الرجاء المرتبط بإيمان النبيّ بقدرة الله ومحبّته ورحمته. إن هذه النظرة تبدو بوضوح في أقوال ترد في "دورة عمانوئيل"، التي ارتبطت بالإيمان المسيحاني في التقليد اليهودي وفي المسيحيّة الأولى. وهناك علاقة متينة بين سّر مولد المخلّص والأحداث التي تشير إليها هذه الأقوال النبويّة: البشارة بعمانوئيل (7: 14)، ولادة أمير السلام (9: 1- 6)، مجيء ملك البرّ وعهد سلام (11: 1- 9).
أ- آية عمّانوئيل (7: 10- 25)
لقد دلّ أشعيا نفسه على الظروف الخاصّة التي أعلن فيها هذا القول النبويّ. في سنة 735- 730 وخلال الحرب الآرامية الافرائيميّة التي هدّدت سلالة داود، حاول النبيّ أن يبعد آحاز عن معاهدة خطرة مع الآشوريين، ودعاه إلى الاتّكال على الربّ وحده (7: 4- 9). وإذ أراد النبيّ أن يثبّت إيمان الملك المتزعزع، عرض عليه "آية"، تدلّ على إرادة الله وقدرته التي تحمي شعبه وملكه (7: 10- 11). تظاهر آحاز بالتقوى، ولكنه تابع سياسة المعاهدات (آ 12). أمام هذا الموقف الملتبس والإيمان الناقص الذي عرفه بيت داود، أعلن أشعيا أن الربّ يتّخذ المبادرة ويقدّم آية: مولد عجيب لولد يشير (ويحقّق) اسمه إلى حضور الله الفاعل وسط شعبه: عمّانوئيل أي الله معنا. سيعرف هذا الولد أولاً حماية الله ومحنة البريّة (آ 15). وقبل أن يبلغ سنّ الرشدُ ستسلّم أرض الأعداء إلى الدمار (آ 16).
يفترض السياق التاريخي لهذا القول أن الولادة المنتظرة قريبة. وقد تشير الآية أولاً إلى دمار الِحلف الآرامي الافرائيمي (آ 16)، قبل أن تدلّ على الطابع العجيب لولادة عمّانوئيل أو شخصيّته (آ 14). ثمّ إنّ القول النبويّ لا يوحي فقط بالسعادة. سيبقى الشعب حيّاً، ويستمرّ النسل الملكي، ولكن هذا الاستمرار ترافقه محن قاسية. في هذا المجال نلتقي بالأقوال عن البقيّة الباقية وعن الإيمان بتدخّل الربّ الخلاصي.
سيفهم عمّانوئيل أنه سيّد أرض يهوذا والملك المسيحاني، وستوضح الترجمة اليونانيّة الطابع العجائبي لولادة عمّانوئيل: إنه شخص مقدّس وقد أوكلت إليه مهمّة إلهيّة. وسيطبّق متى (1: 23) هذا النص على يسوع المسيح وعلى ولادته البتوليّة.
أشار القول النبويّ أولاً إلى حزقيا بن آحاز، فكان قوله فعل إيمان في ثبات سلالة داود التي اعتبرها الكاتب الملهم كفيلة باستمرار رسالة شعب الله. يتمتّع فعل الإيمان هذا بآنيّة ترتبط بالوضع السياسي في هذا الوقت. ولكنّه يتجاوز في مدلوله العميق الأحداث التاريخيّة ليعلن مصير الشعب الذي تميّز بحضور الله. في هذا المنظار نقرّب بين 7: 14- 17 و9: 1- 6؛ 11: 1- 12.
بمختصر الكلام، إن القول عن عمّانوئيل وحده لا يتيح لنا أن نؤكّد أن أشعيا رأى بوضوح مولداً عجيباً لملك مسيح، أو أنه رأى مسبقاً ولادة يسوع البتوليّة. يتعلّق انتباه النبيّ ببطلان المشاريع الآراميّة الإفرائيميّة وبمخاوف آحاز. أمّا ولادة عمّانوئيل فهي آية وعلامة، لا موضوع الوعد عينه. ولكن الاسم الذي يحمله الولد يدلّ على ثقة تتجاوز أزمة حاضرة تتألّم منها الأمة: فالإيمان الذي نجده في القول عن عمّانوئيل قريب من الإيمان بالبقيّة الباقية. وهو يتصمّن التوسّعات المسيحانيّة اللاحقة ويتحقّق أكثر ما يتحقّق في مجيء يسوع المسيح وملكوته (مت 1: 23). بالإضافة إلى هذا، نستطيع أن نفترض أن الولادة التي استشفّها أشعيا بصورة مباشرة هي ولادة أمير وارث يضع فيه النبيّ رجاء إعادة بناء الأمّة تحت نظر الربّ. إن قول أش 7: 14 هو شكل بدائي لمسيحانيّة ملكيّة سيجد توضيحه في القولين الشهيرين: 9: 5- 6 ومولد الولد الملكي، 11: 1- 9 ومجيء ملك البرّ والعدل.
ب- مولد الولد الملكي (9: 5- 6)
ارتبط 7: 14- 25 بدمار الأعداء قبل أن يرتبط بشخص عمّانوئيل ونشاطه. ولكنّ الأمر ليس هكذا بالنسبة إلى 9: 5- 6. فمجمل المؤوّلين الكاثوليك يأخذون بالمدلول المسيحاني لهذا القول النبويّ. قد يكون نشيد التهليل هذا قد ألّف بمناسبة ولادة الأمير الوارث (مثلاً حزقيا)، ولكنّ الألقاب التي يمنحها أشعيا للمولود الجديد والمهمّة التي يسلّمه إياها تدلّ بما فيه الكفاية، على أن الكاتب الملهم يرى فيه، بصورة رئيسيّة، الوكيل المميّز على مخطّط الله تجاه شعبه.
لم يزل الأفق المباشر سياسيّاً: فولادة الأمير الصغير فجرٌ يعلن تحرير قبائل الشمال التي أخضعها الملك الأشوري من مدّة قصيرة: "الشعب السالك في الظلمة أبصر نوراً عظيماً... لأنّ النير الثقيل والعصا على الكتف وقضيب التسخير قد كسّرتها كما في يوم مديان... لأنّه وُلِدَ لنا ولد، أُعطي لنا ابن وسلّمه الله كامل السلطان" (9: 1، 3، 7).
ولكنّ الأمير ليس فقط معيد وحدة مملكة داود المنتظر. فالنبيّ يفكّر أولاً بالوجه الروحيّ لحكمه، وهكذا يتبرّر انتظار الخلاص. فهذا الأمير يجمع في شخصه مزايا الملوك العظام الذين منحوا الأمّة ازدهارها، والذين اعتبرهم التقليد خدّام الربّ ومرسليه الحقيقيّين. سيتمتّع هذا الأمير بحكمة سامية، علويّة مثل سليمان (عجيباً، مشيراً). ومآثره تشبه مآثر داود فتدلّ على حضور الله الفاعل (إلهاً جبّاراً). سيمتدّ ملكه فيكون أباً لشعبه (أبا الأبد) وتتأكّد سلطته بالسلام (أمير السلام). وفوق هذا، سيؤسّس ملكه على مبادىء الحقّ والعدل فيعارض الحكّام الذين لم يكونوا جديرين بسلطتهم فاجتذبوا على اسرائيل غضب الله.
من المهمّ أن نلاحظ الخيال في تصوير هذا الملك السعيد الذي لا يستند إلى ما هو معقول عند البشر. ولكنّ أشعيا ينسب مجيء هذا الزمن المبارك (آ 1) إلى أمانة الله وحدها وإلى محبّته. فالولد الملك هو صغير، فلا نستطيع أن نكتشف شجاعته وحكمته، ولكن مولده وحده هو عربون يدلّ على أن الربّ ما زال يهتمّ بشعبه. لقد تحقّق الآن ما وعد به الربّ آحاز في أش 7: 14. من المعقول أن تكون القصيدة قد قيلت في ظروف تاريخيّة ملموسة، ولكن النظرة اللاهوتيّة تتعدّى هذه الظروف بشكل لا يحدّ.
يعبرّ النبيّ عن موضوع الرجاء هذا بشكل مسيحاني. إنه ينتظر واثقاً، ظهور محبّة الله تجاه شعبه. ويتخيّل هذه المحبّة بشكل مُلك مجيد وخيرّ، هو استعادة مثاليّة لممالك الماضي المجيدة. ويرى الباكورة في مولد هذا الأمير الصغير الذي يأخذ على عاتقه في هذه الأزمنة القلقة، مصير سلالة داود ومواعيدها. ولكن الكلمات المستعملة للتكلّم عن هذا الحدث تدلّ بما فيه الكفاية، على أن النبيّ يستشفّ، عبر التفسير الديني للحاضر، استمراريّة مخطّط الله الذي سيتمّ بصورة نهائيّة في يسوع المسيح.
إذن، لا نفهم هذا النشيد عن الوارث الملكي فقط بالنسبة إلى وضعه التاريخي الخاصّ. فهو ملهم، ولهذا يدخل في تواصل التقليد البيبليّ فيهيّىء الدرب للوحي اللاحق، ويستنير بنوره. وبقدر ما تترجم صورة الملك المثالي الموضوع الأخير لرجاء أشعيا، فهي لا تجد تطبيقها التام في ملوك الأرض حتى أفضلهم. من هذا القبيل هي تعلن مجيء الربّ يسوع ومملكته الروحيّة.
نحن هنا أمام نصّ يمثّل المسيحانيّة الملكيّة في العهد القديم، وقد رأى التقليد المسيحي ملء تحقيقه في الربّ يسوع. ولهذا استعملته الليتورجيّا لتحدّثنا عن مولد يسوع. بل لتعرّفنا بالبُعد الحقيقي لمثل هذا الحدث.
ج- مجيء ملك البرّ وإقامة سلام شامل (11: 1- 9)
هذا القول هو من وجهة الايديولوجيا الملكية توضيح لنصّ أش 9: 5- 6. هو يكشف نضوجاً في الانتظار المسيحاني لدى النبيّ. فصورة الملك قد تحرّرت من كلّ عودة إلى أحداث تاريخيّة ملموسة. وبرز ميل إلى إظهار الوجه المثالي. أكّد أشعيا، من جديد، رجاءه وكأنّي به لم يعد ينتظر تحقيقه الكامل في وقت قريب.
نكتشف في هذه القصيدة، استمرار المواضيع الدينيّة في كرازة أشعيا. إنّ النبيّ يجعل ذلك الذي يقود مصير الشعب إلى كماله، في سلالة داود. وقد ورث هذا اليقين من تقليد قديم نجد آثاره في نبوءة ناتان (2 صم 7- 16). غير أن الألفاظ المستعملة هنا لتدلّ على ظهور الملك المسيحاني، هي قريبة من تلك التي تتحدّث عن البقية الباقية: "يخرج قضيب من جذر يسّى، وينمي فرع من أصوله" (11: 1).
فالملك المثالي لن يكون فقط امتداداً للسلالة. فهي ستعرف أولاً التنقية بواسطة المحنة. ثم إن عطيّة روح الربّ تشير، في الوقت عينه، إلى مبادرة الله في عمل البناء وإلى العلاقة الحميمة بين ممثّل السلالة والربّ. فممارسة السلطة في هذا الملك المنتظر توافق مشيئة الله وروح عهده (آ 3- 5). وسوف تتوسّع رؤية الكاتب الملهم فتعبرّ عن الزمن الجديد في صورة يملأها الحنين إلى فردوس مفقود.
"يسكن الذئب مع الحمل، ويربض النمر مع الجدي... لن تكون إساءة أو دمار في كلّ جبلي المقدّس لأن الأرض تمتلىء من معرفة الربّ" (11: 6- 9).
هل نحن أمام عودة فردوس فقدناه، أم أمام صورة تدلّ على نهاية العنف؟ إن آ 9 تفترض أن افق أشعيا يتّسع على مجمل شعب الله، ولكنّه لا يضم البشريّة كلها. هو لا يتطلّع إلى تجديد الكون كلّه وتناسقه، بل يرسم لوحة يشبّه فيها الناس بحيوانات وادعة أو مفترسة. وفي إطار "معرفة الله"، لن يهدّد أحد المتواضعين، ويأخذ الأغنياء كلّ ضعيف بعين الإعتبار.
إن رؤية السلام المسيحاني ستملأ عقول الأنبياء فيعبرّون عنها في معنى شامل واسكاتولوجي يصل بنا إلى تمثّل الخليقة الجديدة والمدينة السماويّة التي تحدّث عنها سفر الرؤيا (21: 1- 4؛ أش 65: 17- 25).

خاتمة
ليس دور النبيّ فقط في أن يتنبّأ بشكل عجائبيّ بالأحداث المقبلة، سواء كانت بعيدة أم قريبة، ولا أن يحمل من قبل الله تعليماً عقائدياً أو أخلاقياً. النبيّ هو الذي يستنير بنور الروح فيميّز في ظاهر التاريخ البشري استمرار تتمّة مخطّط الله. ومهمّته هي أن يعلن آنيّة هذا التدخّل الإلهي ووجهته الأخيرة. فالأحداث المفرحة أو المؤلمة التي يعرفها الشعب، ليست ثمرة الصدفة أو السياسات البشريّة. إنها الموضع الذي فيه ينضج مخطّط الله، وعلامة انتشاره في العالم.
يتوجّه القول النبويّ إلى الشعب ليجعله يعي حضور الله الفاعل فيكيّف حياته حسب وضعه كشعب مكرّس لله... وهدف تذكّر الماضي والنظر إلى المستقبل هو أن يُفهمنا الحاضر فهماً دينياً. فتاريخ الشعب "مقدّس"، إنه ظهور (تيوفانيا) مستمرّ لله. والحدث يكشف هدف الله ويجسّده في فاعليته، وهو يتضمّن التوسّعات اللاحقة. الحاضر نبوءة و"سر". والقول النبويّ يشير إلى بُعد هذا السّر.
حين طبّق التقليد المسيحيّ الأول بعض النبوءات على يسوع، فهو لم يُرد أن يقول إن هدف هذه النبوءات كان حصراً، رسم تاريخ ذلك الآتي. ما أراد أن يقوله هو أن يسوع هو كمال الأسفار المقدّسة. إنه ملء ظهور مخطّط الله العظيم وتحقيقه النهائي. وفي منظار هذه التكملة تصبح مختلف مراحل تاريخ اسرائيل تهيئة تشير إلى المسيح، وصورة تدلّ عليه. فالأحداث الكبرى في حياة الشعب هي أعمال الربّ، وبالتالي هي نموذج لما سيتحقّق في النهاية. والعاملون في التاريخ المقدّس يصبحون صورة عن المسيح لأنهم يخدمون عمل الله.
هذا ما وجّهنا إليه أشعيا النبيّ. نظر إلى ملك محدّد وإلى وضع تاريخي عرفه في أيامه. ولكنّ الكلمة التي أطلقها تعدّته وتجاوزته لأنها أيضاً كلمة الله، ولهذا فنحن نقرأها اليوم وكأنها قيلت عن المسيح يسوع الذي نعيّده في زمن الميلاد هذا.

 

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM