الفصل السادس: مسيح الله

الفصل السادس
مسيح الله

1- المقدمة
حين نقرأ التوراة نجد رجاءً لا شيء يوقفه، وانتظاراً يلفت نظر المؤرّخ ويدفع اللاهوتي إلى اكتشاف علامة من علامات صدق كلمة الله. نحن أمام انشداد نحو حقبة أخيرة، وهذا الانشداد يطابق تحرّك الإيمان. هذا الرجاء ينتقل من جيل إلى جيل ويتغذّى من تمثّلات تثير نشاط البشر، فينتظرون مجيء ملكوت الله ويهيّئون له الدرب. نحن نظنّ أنه حاضر، ولكنّنا نتوق إلى ملء أخير لا يتحقّق إلاّ بتدخّل علويّ. وهكذا يرتبط الإيمان بهذا اليقين المضاعف الذي يحدّد بعده البيبلي: الخلاص هو حاضر الآن وهو سيأتي فيما بعد. لم يحدّد الواقع المستقبلي مسبقاً، ولكن الله أراد مع ذلك أن يأتي إلى البشريّة نورٌ يوجّه مسيرتها عبر الظلمة. قال بطرس عن كلام الأنبياء: "إنه سراج منير يضيء في مكان مظلم إلى أن يطلع النهار ويشرق كوكب الصبح" (2 بط 1: 19) الذي هو المسيح. وقالت عب 1: 1: "الله تكلّم بالأنبياء مرّات عديدة وبطرق مختلفة". وإذا كان هذا المشعل الذي وضعه الله بين أيدي الأنبياء يغشاه الدخان، فهو يرتبط بطريقة الله في تربية البشريّة. إن الله صبور (3: 25)، والوحي عن مخطّطه يعرف تعابير تقريبيّة. فكأني به يقود على مهل اكتشافنا لحقيقته: نحن نطلب ونتلمّس طريقنا إليه كما يفعل الانسان في الظلام (أع 17: 27).
تمّ هذا الاكتشاف في شعب الله الذي طلب منه أن يكون شاهداً وأن يحمل الرسالة. كلّ ما عاشته البشريّة من حياة دينيّة انصهر في التوراة بعد أن تنقّى عبر الإيمان بالله الواحد الذي خلق السماوات والأرض، كلّ ما يرى وما لا يرى. هذا الشعب الذي يعيش على حدة (عد 32: 9) ولا يمتزج بسائر الشعوب الوثنيّة لكي يحافظ على إيمانه، هذا الشعب الذي عرفه الله فأحبّه (عا 3: 2)، جاء يحمل آمال كلّ الشعور ويوصلها إلى الله.
لقد أمل الأنسان وحلمَ بعصر ذهبيّ. تصوّر السومريّون (في جنوب العراق الحالي) السعادة أرضاً كاملة مفروشة بالمعادن الثمينة. فيها تخدم كلّ الحيوانات الانسان، وليس فيها مرض ولا شيخوخة ولا موت. وتخيّل الفينيقيّون السعادة طعاماً إلهياً (اللبن والعسل)، فردّد أشعيا ما قالوا حين تحدّث عن الملك الذي ستلده "العذراء" (أش 7: 15). وستستعيد التوراة تلك المواضيع الشرقيّة مشيرة إلى العمر الطويل (أش 65: 20) وإلى الحيوانات التي تعيش في سلام (أش 11: 6- 8) وإلى المعادن الثمينة (تك 2: 10- 14؛ حز 28: 12- 13). كلّ هذا ستفكّر فيه التوراة بطريقة جديدة.
أمّا نقطة الانطلاق فالعهد. إن الله الذي كشف عن نفسه للآباء وموسى، هو إله يدخل التاريخ ويعطيه قيمته ومعناه. وكثافة هذا التاريخ تدلّ على تدخّلات ومآثره: هو يبارك وهو "يغضب"، فيجعل التاريخ يسير مسيرته "بأيّامه" (يتحدّث الأنبياء عن يوم الربّ). وهكذا يصبح التاريخ علاقة بالله، له وجهته ومعناه. لم نعد أمام دورة تنغلق على ذاتها، بل أمام اندفاع وسهم ينطلق. إن التاريخ منفتح على المستقبل، وشعب الله يعمل مع الله. وحين طبّق الأنبياء على الربّ وعلى شعبه صورة الزواج، أشاروا إلى مشاركة في العمل، في بناء ملكوت الله. فالوعد للآباء، والتحرير من مصر، واحتلال كنعان، وإقامة المملكة، وبناء الشعب بعد المنفى، كلّ هذا محطّات في عمل الله الموجّه نحو هدف معيّن.
دعا الأنبياء الشعب، ففكّر الشعب في هذا العمل واكتشف دعوته الخاصّة: نظر إلى المستقبل في تواصل مع ماضيه وحاضره، وتخيّل هذا المستقبل استعادةً كاملة لأفضل ما عاشه في الماضي. ونقل إلى الحقبة الأخيرة التي ينتظر، عناصر مجده وسعادته الحاضرة. كلّ شيء سيصبح جديداً: عصر ذهبيّ جديد، عهد جديد، إرث جديد، داود جديد، أورشليم جديدة، هيكل جديد، إنسان جديد، سماوات جديدة وأرض جديدة. "ها أنا أجعل كل شيء جديداً" (رؤ: 21: 5).

2- المسيح الملك
المسيح هو الملك وبالأخصّ يوم ينصّب. إنه يُمسح بالزيت المقدّس (2 صم 5: 3). ولكن الأنبياء جعلوا في الحقبة الأخيرة ملكاً خارقاً يخرج من الذين سلّم إليهم الله المملكة التاريخيّة في أرض اسرائيل. وها نحن نرسم الأتجّاه الأول لانتظار متعدّد الوجوه ونقدّم خطوطه العريضة.
حين تكلّم أشعيا عن المسيح، كانت المؤسسة الملكيّة حاضرة منذ ثلاثة قرون وقد أعطاها داود رونقها وبهاءها. ولقد جاء النبيّ ناتان إلى أورشليم العاصمة الجديدة، إلى تابوت العهد الذي هو معبد الربّ المتنقّل، فبارك نجاح داود وأعلن الأهميّة الدينيّة للنظام الملكيّ. قال: "وإذا تمّت أيّامك ورقدت في الموت مع آبائك، أقيم من يليك من نسلك وسائر ملكه... أنا أكون له أباً وهو يكون لي ابناً، وإذا أثم أؤدّبه... ولكنّي لن أنزع حظوتي عنه... يكون بيتك وملكك ثابتين إلى الدهر أمامي، ويكون عرشك راسخاً إلى الأبد" (2 صم 7: 12- 16).
بهذا الاعلان الاحتفالي انطبع العهد بالطابع الملكي. وسيتحمّل الملك الداودي مسؤوليّة العهد وواجباته: كما كان الشعب ابن الله (خر 4: 23)، سيكون الملك ابن الله، فيجمع في شخصه كلّ هذا الشعب ويؤمّن له وحدته، كما يؤمّن له النجاح الأرضي بتصرّفه الأخلاقيّ والدينيّ. ففي نظر التوراة، سيأتي ملكوت الله على هذه الأرض، والبركات الزمنيّة ترافق القيم الروحيّة وتدلّ عليها. حلّت النعمة على المملكة، فلعبت دوراً أساسياً في مسيرة العهد، وصارت إحدى العناصر الأولى في عمل الخلاص.
وهكذا ارتبطت بعض المزامير بالملك الداودي وبهذا "الدستور" الجديد: إنّ الملك يعرف أنه يحمل مستقبل شعب الله. قال مز 2: 7- 8: "ها أنا أعلن قرار الربّ. قال لي: أنت ابني، أنا اليوم ولدتك (صرت لي ابناً، تبنّيتك يوم صرت ملكاً). إسأل فأعطيك الامم ميراثاً وأقاصي الأرض مُلكاً لك".
يعرف الملك الداودي أن يوم تنصيبه هو يوم يتبنّاه الله فيه. وحين يأتي ملك جديد يعلن صاحب المزامير ما ينتظره من الملكيّة، ما سوف تفعله عاجلاً أم آجلاً. إنه يعلن مثالاً لا يستنفد أي ملك مضمونه. لهذا انفتحت هذه المزامير الملوكية القديمة على المستقبل. دوّنت لاحتفال تنصيب أو زواج، فذكّرت الملك بالبرنامج الذي تكفّل به وبالمجد الذي ينتظره: البرّ والعدل (مز 45: 8؛ 72: 7)، التقدّم الروحي في الأرض (مز 18: 50؛ 72: 17)، السلام والخصب (مز 72: 7)، التحرّر من العدّو (مز 22: 9- 18) والانتصار على الأشرار (مزمور 2: 8- 12).
ولكن التاريخ أبرز عجز الملوك عن تحقيق ما يُنتظر منهم. وانتقد الأنبياء ملوكاً خانوا رسالتهم، وحافظوا على جذوة الرجاء التي كانت تشتعل من جديد في كلّ أزمة. وقد عايش أشعيا إحدى هذه الأزمات يوم كانت المملكة الآشورية تتجّه إلى الغرب: هل ستكون أورشليم ريشة في مهبّ الريح؟ لا شعبيّة للملك أحاز (أش 8: 6)، وقد تحالفت عليه دمشق والسامرة لتُحلّ محلّه طابئيل ملكاً في أورشليم (أش 7: 6). ثمّ إن الملك أتعب الله بقلّة إيمانه (أش 7: 12): تحالف مع البشر وذبح ابنه البكر لمولك (2 مل 16: 3؛ 23: 10). حينئذٍ أعلن أشعيا قولاً احتفالياً: الملك المثالي موضوع رجاء، سيكون عظيماً في المستقبل: "وُلد لنا ولد، أعطي لنا ابن. جُعِل المُلكُ على كتفيه، وسُمّيَ المشير العجيب، الاله القدير، الآب الأزلي، أمير السلام. امتدّ سلطانه في سلام دائم على عرش داود ومملكته التي يقيمها ويثبّتها في الحقّ والعدل" (أش 9: 5- 6).
ولن يتخلّى أشعيا عمّا رآه. فيوم حاصر سنحاريب، الملك الآشوري، أورشليم (سنة 701 ق. م.)، العاصمة الضعيفة في نظر البشر، في ذلك اليوم تذكّر داودَ فانتعش إيمانه (أش 38: 3- 5). أعلن مجيء المسيح، الملك الداودي (أش 11: 1- 4)، وجعله في إطار فردوس خُلق من جديد: "يسكن الذئب مع الحمل، ويربض النمر مع الجدي. يرعى العجل والشبل معاً، وصبي صغير يسوقهما. تتصادق البقرة مع الدبّ، ويربض أولادهما معاً. والأسد يأكل التبن كالثور. يلعب المرضع على حجر الأفعى، ويضع الفطيم يده في نفق الحيّة" (أش 11: 6- 8). ويتابع أشعيا (11: 9): "تمتلىء الأرض من معرفة الربّ كما تغمر المياه البحر". وهكذا تكتمل السعادة بمعرفة الله التي هي قمّة الاختبار الروحي. وقد قال بولس يوماً: "بل أحسب كلّ شيء خسارة من أجل الربح الأعظم، وهو معرفة ربيّ يسوع المسيح" (فل 3: 8).
ولن تكون النظرة المسيحانيّة دوماً اسكاتولوجيّة. فهناك نصوص تشدّد على أنّ الملك يكون بحسب قلب الله (إر 23: 1- 6). وهو الذي يجسّد في شخصه انتظار الإيمان، كما كان زرّبابل الداودي بعد زمن المنفى (525 ق. م.). حينئذٍ نقول بشكل عامّ إن الانتظار يتطلّع إلى مسيح النهاية. وسينشد نبي آخر دخول المسيح إلى عاصمته بتواضع يحدّد ديانة فقراء يهوه (أو الربّ) العميقة: "ابتهجي بكلّ قواك يا ابنة (أي مدينة) صهيون! واهتفي هتاف الفرح، يا بنت أورشليم! هوذا ملكك يأتيك: صدّيق (أو بارّ)، مخلّص (أو منتصر)، وديع راكب على جحش ابن آتان. سيزيل من افرائيم (مملكة الشمال) عجلات الحرب، ومن أورشليم (مملكة الجنوب) الجياد (كانت للحرب). سيعلن السلام للأمم. يمتدّ سلطانه من البحر إلى البحر (إذاً الأرض كلها) ومن النهر إلى أقاصي الأرض" (زك 9: 9- 10).
وسيأتي يسوع يوماً فيحقّق هذه النبوءة التي تترجم سمة خاصّة في شخصيّته (مت 11: 29: أنا وديع ومتواضع القلب). ولكن العالم اليهودي المتأخّر لن يشدّد على هذه الوداعة، بل يتطلّع إلى مسيح منتصر بواسطة الحروب. وسيأخذ سفر الرؤيا (19: 11- 21) هذه النبوءة فيطبّقها على المسيح الذي يمجّد بانتصاره على قوى الشّر والخطيئة.

3- المسيح النبيّ: مخلّص وفقير
ونعود الآن إلى الوراء إلى زمن المنفى، يوم تعلّم الشعب أموراً عديدة، فصار في المحنة شعباً نوعيّاً (لا عدديّاً). ضاعت وساطة المُلكيّة، وضاعت علامة الهيكل، فلم يبقَ للشعب إلاّ أسفاره المقدّسة يشرحها الكهنة في المجامع.
وعى الشعب تواصل تاريخه من إبراهيم إلى موسى، ومن داود إلى أورشليم. أحسّ أنّه من نسل ابراهيم (أش 41: 8)، وأنّه يستفيد من نعم حصل عليها داود (أش 55: 3). الأبناء هم كالآباء شهود للربّ وسط الأمم الوثنيّة (أش 55: 4). عاش المؤمنون وسط شعوب قاسية (مز 130) أو مضيافة (أش 44: 5)، فانفتحوا على دور الشهادة الذي خانوه في الماضي. "قال الربّ: دنّستم اسمي العظيم بين الأمم" (حز 36: 23). والآن صاروا شعباً يحمل رسالة وتعليماً وينشد الربّ الذي هو إله الأرض كلّها (أش 54: 5).
وسمع المؤمنون نداء الأنبياء واكتشفوا دورهم: إنّهم الوحي الحيّ لوساطة من نوع آخر. حلّوا محل الكهنة والملوك (الذين ذهبوا إلى المنفى)، فصاروا، مثل موسى في الماضي، مسؤولين عن إخوتهم. حملوا خطاياهم وتشفّعوا من أجلهم كما فعل إرميا (5: 1)، وطالبهم الله بدم كلّ الناس (حز 33: 8: إن لم تنذر الخاطىء أطالبك بدمه). ولكن هذا التضامن الروحي قد رافقته عزلة ووحدة: لم يفهم الناس الأنبياء، بل هم اصطّهدوهم (إر 26: 8: ستموت موتاً، يا ارميا). وسيفهم المؤمنون أن الكلمة لن تدخل في أعماقنا إلاّ عبر التضحية والتجرّد. وهكذا صار الأنبياء لحمة "البنية" الجديدة لشعب الله. وعلى هذه الأرض نبت شكل جديد من الانتظار المسيحاني.
تسلّم شعب الله مهمّة حمل الرسالة إلى العالم كله. هذا ما قاله الله لعبده وعابده الذي هو شخص واحد سيرى فيه العهد الجديد شخص يسوع، والذي هو مجموعة تسير على خطى ذاك الشخص الواحد. قال أشعيا (42: 1- 4): "هوذا عبدي الذي أعضده، مختاري الذي سُرّت به نفسي. جعلت روحي عليه ليحمل الحقّ إلى الأمم. لا يصيح ولا يصرخ، ولا يسمع أحد صوته في الشوارع. القصبة المرضوضة لا يكسر، والسراج المدخّن لا يُطفىء. يحمل الحقّ بأمانة. لا يني ولا ينكسر إلى أن يثبت الحقّ على الأرض لأن الجزر (أو الأمم البعيدة) تنتظر تعليمه".
وهكذا سار الشعب على خطى الأنبياء والمعلّمين وورث الروح الذي أعطي للمسيح (أش 11: 2). ولكن صورة عبد يهوه ستدلّ على شخص فرد يتجاوز كلّ الصور التاريخيّة في الكرامة وفي ما يقوم به من عمل. لقد جعل من ألمه وسيلة التكفير الذي انتظرته البشريّة الخاطئة. هذا العبد صار صورة عن الشهيد والمخلّص: "ورضي الله أن يسحقه بالألم. إن قدّم حياته تكفيراً فسيرى الازدهار وتطول أيّامه. ويتمّ فيه ما يرضي الله" (أش 53: 10). وينتهي النشيد بما يشير إلى القيامة (أش 53: 12).
صورة الألم والتواضع وصورة الفقر. هذا ما نقرأه ايضاً في مز 22 الذي سيردّده يسوع على الصليب فيعبرّ عن ألمه الخاصّ ويعلن عن ثقته بالله وعن يقينه أن ملكوت الله آت: "تتذكّر الأرض كلّها وتعود إلى الربّ. وتسجد كلّ عشائر الأمم أمامه: الملك للربّ، لسيّد الأمم" (مز 22: 28- 29).

4- مجيء الله
ما ينظر إليه الكاتب هو ملكوت الله. وإذا توقّفنا عند ما يفعله المسيح، فنحن لا ننسى تسامي هذا الملك. فالخلاص هو من عند الله. وهنا برز تيّار مسيحانيّة من دون مسيح. هذه الحقيقة تعبرّ عنها مزامير الملك (93؛ 96- 99). لا شكّ في أن الناس انتظروا مملكة الله الاسكاتولوجيّة في ما قبل المنفى. لم يذكر أشعيا (2: 2- 4) الملك، ولكنّه جعل من صهيون الحكم بين الشعوب الذين سيأتون إليها. ولكن سيحسّ الشعب بعد المنفى عجز الملوك عن العمل بحسب دعوتهم العميقة. وتساءلوا: هل كان الله يحتاج إلى أدوات بشريّة ليظهر من جديد كما في سيناء؟ قال أش 52: 7- 8: الله ملك هو، الله يملك! فانفتح المستاقبل على مآثر الهيّة: خروج جديد (أش 41: 17- 20)، ميثاق جديد (أش 55: 3)، نشيد جديد (أش 42: 10) يشبه نشيد مريم، أخت موسى وهارون (خر 15).
ولكن الليتورجيّا الرسميّة لعيد الفصح بعد المنفى، تنشد ظهور الله في نشيد جديد (مز 98: 1). دعي شعب الله إلى الفرح، بل دعيت الأمم كلّها، ودعي الكون أجمع: "ليعجّ البحر وملؤه، والمسكونة وسكّانها. لتصفّق الأنهار، ولترنّم الجبال جميعاً ترنيم الفرح أمام الربّ، لأنه يأتي ليدين الأرض. سيدين الأرض بالعدل، والشعور بالاستقامة" (مز 98: 7- 9).
وتتحدّث آخر صفحات العهد القديم عن مجيء الله إلى هيكل أورشليم. فيقول ملا 3: 2- 3: "من يتحمّل يوم مجيئه؟ من يبقى واقفاً عندما يظهر"؟ ولكن يسوع أتمّ هذه الاسكاتولوجيا في إطار لم نكن ننتظره. فقالت الليتورجيّا: كانت بروق ورعود فارتجفت الأرض. ولكن حين نزلتَ في حشا العذراء، لم يكن لخطواتك أيّة ضجّة! وحين نقرأ نشيد سمعان الشيخ (لو 2: 29- 32: أطلق عبدك بسلام) الذي يفسّر مجيء الربّ يسوع إلى أورشليم، نستشفّ صدى أقوال أشعيا الثاني وما فيها من انتصار. ولكن يبقى أن الحدث الذي ننشد له هو حدث "الوضيع والمتواضع القلب".

5- ابن الانسان
وهناك موضوع مسيحاني آخر: موضوع ابن الانسان (7: 9- 14). نحن هنا في جوّ جلياني: مشهد سماوي يجعلنا في حضرة الله. الله ينصّب شخصاً يشبه ابن الانسان وهو يسير على سحاب السماء، شأنه شأن الكائنات السماويّة (أش 19: 1؛ مز 68: 5). قال دا 7: 13- 14: "نظرت في رؤى الليل فرأيت مثل ابن انسان آتياً على سحاب السماء. تقدّم إلى الأزلّي وقدّم إلى حضرته فأعطي له الملك والكرامة، وخدمته كلّ الشعوب والأمم والألسنة. ملكه ملك أزلي لا يزول ولا يفنى".
يتجمّع شعب الله العليّ في شخص واحد. وستقول أمثالى أخنوخ (كتاب منحول): يظهر ابن الأنسان كشخص وُجد قبل الخلق وسُميّ مسيحاً ودُعي نور الأمم مثل عبد يهوه في أش 42: 6. ولقد كان مز 110 تفسيراً لمقطع دانيال هذا. فالمسيح يجد نفسه في مشهد سماوي محاطاً بالقديسين (أي بالملائكة)، وهو يسمع القول الالهي: "من الرّحم، قبل الفجر أنا ولدتك" (مز 110: 3).
استعمل يسوع مراراً لقب ابن الانسان المسيحاني، ولا سيما في وقت هام من رسالته، ساعة كان أمام قيافا ومجلس القضاء الديني (مر 14: 61- 62). قال: "سترون ابن الانسان جالساً عن يمين الله القدير وآتياً مع سحاب السماء".

6- المسيح الكاهن
أخذ الكهنوت أهميّة كبرى في اسرائيل بعد العودة من المنفى. فرئيس الكهنة صار وارث الملوك ومدبّر الجماعة على المستوى الديني والسياسي. وكما لعبت البنية الملوكيّة والنبويّة دوراً في تصوير وجه المسيح، هكذا ستفعل البنيّة الكهنوتيّة.
جمع إرميا (33: 14- 26) نسل داود ونسل لاوي: لا ينقطع لداود رجل يجلس على عرش آل اسرائيل، لا ينقطع للكهنة رجل يُصعِدُ المُحرقات. ولقد أعيدت قراءة زكريا (6: 9- 14)، فحلّ المسيح الكاهن محلّ المسيح الملك. وفي الفترة عينها مجّد ابن سيراخ الكهنوت على حساب الملك. قال: "سيكون عهد مع داود بن يسّى الذي من قبيلة يهوذا. سينتقل المُلك من الأب إلى واحد من أبنائه. أمّا كهنوت هارون فينتقل إلى كل نسله" (سي 45: 25).
ومن الواضح أن كتاب "وصيّات الآباء الاثني عشر" (كتاب منحول) عرف تيّارين فكريّين: واحد يشدّد على حضور اسكاتولوجي للاوي قرب مسيح يهوذا، وآخر يشدّد على حضور مسيحاني: "اقتربوا بتواضع من لاوي (القبيلة الكهنوتية) لتنالوا بركة من فمه. فسيبارك يهوذا واسرائيل، لأن الربّ اختاره ليملك على كلّ الأمم. وانحنوا أمام نسله لأنه يقوم لأجلكم بحروب منظورة وغير منظورة ويكون عندكم ملكاً أزلياً".
وجاء يسوع فألغى الذبائح القديمة. طرد من الهيكل الغنم والبقر (يو 2: 15) لأن هذه الذبائح لم تعد تنفع، ونطم العبادة الجديدة "بالروح والحقّ" (4: 23- 24).

7- يسوع، المسيح الاله
إنّ الانتظار المسيحاني الذي تحدّثنا عنه، بدأ في زمن المسيح متشعّباً ومليئاً بالأشواك. ولكن يسوع الذي قرأ الأسفار المقدّسة وعرف تقاليد شعبه، لم يرتبط بقول ولا بنبوءة، بل قدّم نفسه جواباً حيّاً على هذا الانتظار. اختار مسيحانيّة عبد الله المتألّم ونظر إلى عمله الرسولي في هذا الإطار. طالب بدور ابن الانسان، بل جعل هذه العبارة كاسم علم له. كشف عن سّره لا بالكلام فقط، بل عبر بهاء اللاهوت الخفىّ ومجده. فهذه التربية على الانتظار التي قرأناها في التوراة، لم تقل بوضوح إن المسيح هو الله: إنّ الحدث المسيحاني حقّق هذا الرجاء ولكنّه تجاوزه. وستستغلّ المسيحيّة الأولى هذا الغنى فتعي موقع المسيح الخارق. هي تربط رسالة المسيح بكهنوت ملكيصادق لكي تجعل عمله شاملاً للكون لا محصوراً في شعب من الشعوب. وربطت المسيح بآدم الجديد أو بآدم الآخر (1 كور 15: 45- 49؛ روم 5: 12- 20).
هذا هو مسيح الله الذي ننتظره كما انتظرت ميلاده النفوس التقيّة. ننتظره يأتي في حياتنا وفي العالم، بانتظار أن يأتي ملكوته ويتقدّس اسمه في السماء كما على الأرض.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM