الفصل الخامس: علاقة الله بشعبه

الفصل الخامس
علاقة الله بشعبه

حين نقرأ آية قانا الجليل، في آخر زمن الظهور الالهي، نعيش أعراس الربّ مع شعبه. ففي قانا، حضر يسوع عرساً في قرية باسم الصداقة وربّما القرابة. ولكنّ هذا الحضور دلّ على سّر العلاقة بين الله والبشر، بين المسيح والكنيسة. أجل، في كلّ مساعي الله تجاه البشر، نراه يطلب صداقتهم. إنّه كالعريس الذي يبحث عن عروسه. منذ البدء، يشبه ملكوت الله ملكاً صنع عرساً لابنه. منذ البدء، حين أعلنت أعراس الابن وأعطي العريس، عرفت الكنيسة عريسها. ومنذ البدء، كان استعداد طويل قبل أن تقول العروس مع الروح: "تعال أما الربّ يسوع" (رؤ 22: 17).

1- العهد: الربّ عريس شعبه
قال الله: "أكون لكم إلهاً وتكونون لي شعباً" (خر 6: 7). هذه العبارة تدلّ على علاقة الله مع شعبه كما تمّت على جبل سيناء. فالله اله غيور (خر 20: 5)، وهو لا يريد أن يتعلّق شعبه بأحد سواه. لم يعد فقط إله الآباء واله العاصفة واله الحرب. إنّه اله شخصي اختار له شعباً وخصّ به نفسه كما يختار العريس عروسه. إنه الاله الذي يتحنّن (خر 20: 6). الاله الذي يحبّ.
ولقد عاش النبيّ هوشع في حياته علاقة الله بشعبه، فشبّهها بعلاقته مع زوجته. زنت المرأة فتركت زوجها وتبعت رجلاً آخر. امتلكها روح زنى وأضلّها. هذا ما حدث لشعب الله: لا أمانة، لا حبّ، لا معرفة، بل نكران الجميل. ما يؤلم الربّ، هو أن شعبه لم يعرف الحبّ الذي به أحبّه. اختار الله شعبه وحماه ووجّهه وتزوّجه وغمره بالخيرات. ولكن شعبه نساه. وهكذا تنكشف الخطيئة في عمقها الحقيقي: قطع الحبيب الرباط، تجاهل الحبّ فأصيب الله في الصميم. ودعا شعبه إلى العودة، بل عاقبه، فعرّاه من كلّ ما يملك، وأخذه إلى الصحراء، وكلّمه في قلبه. بل أحبّه حبّاً جديداً. قال: "سأتزوّجك في البرّ والحقّ، في الرحمة والمحبّة والأمانة" (هو 2: 21- 22).
وسار النبيّ إرميا على خطى هوشع، فذكّر شعبه بحبّ الصبا وبسعادة أيام الخطبة وأبرز نكران الجميل الذي لا يقدر الله أن يفهمه. العروس غير واعية، ولا تريد أدى تقرّ بخطيئتها. "هل تنسى العروس حلاها؟ ولكن شعبي نسيني" (ار 2: 32). غير أن الله سيبدّل قلب شعبه. أعطيتهم قلباً ليعرفوني. وحم يعودون إليّ" (إر 32: 39).
وتوجّه حزقيال (ف 16) بكلامه إلى أورشليم فقال: كنت فتاة أراد الله أن يجعلها عروسه: أحبّها. تبنّاها، غمرها بنعمته. ولكنّها خانته. لهذا فهو سيعاقبها. وقدّم في ف 23 استعارة الأختين: أحدث الله شعب السامرة، فخانه. وأحبّ شعب يهوذا فلم يختلف عن "أخته". وذهبت الأختان إلى المنفى. ولكن الله سيغفر لهما: "سيعطيهم قلباً جديداً، سيجعل في أحشائهم روحاً جديداً. سينزع منهم قلب الحجر، ويعطيهم قلباً من لحم، فيسلكون في رسومه ويحفظون وصاياه. حينئذٍ يكون لهم الهاً ويكونون له شعباً" (حز 36: 26- 28).
ويذهب شعب الله إلى المنفى ويظنّ أنّ الله تخلّى عنه وهجره. ولكن الربّ يهتف: "عزّوا، عزّوا شعبي. خاطبوا أورشليم وكلّموها" (أش 40: 1- 2): انقضى زمن العقاب، وتمّ التكفير عن الخطيئة. لتستيقظ العروس ولتتذكّر حبّ عريسها الخلاصيّ. قالت: "الله تخلّى عنيّ ونساني" (أش 49: 14). أجاب الربّ: "حتى لو نسيت المرأة ابنها فأنا لا أنساك" (أش 49: 15). لتفرح أورشليم ولترنّم، لأنّ أبناءها يعودون إليها. حينئذٍ سيعود إليها مجدها السابق. ضربها الله ثمّ أشفق عليها. عرّاها وأذلّها، ولكنّها استعادت حلاها ومجدها وجمالها. عاد حضور الربّ إليها ودعا إليها أبناءها. ولكن الربّ ينتظر. هو ينتظر أن تستيقظ العروس: ساعة تشاء (نش 2: 7؛ 3: 5؛ 8: 4). هذا هو سّر النعمة والحريّة. الربّ يدعو وهو ينتظر. ينادي ولن يتحرّك فبل أن يسمع الجواب. هذه هي طريق الله وخلاصه رغم الخطيئة الحاضرة في حياة الانسان والتي شبّهها الأنبياء بالزنى. كما أنّ الزنى خيانة للمحبوب، هكذا هي الخطيئة. ليست فقط شريعة نتجاوزها، إنها رفض ونكران جميل: نحن نحتقر حبّ من أحبّنا، نحن نمرّغ في التراب حبّاً بدأ منذ بداية العالم وسيبقى حاضراً إلى الأبد.

2- المسيح عريس كنيسته
سنجد عشرة نصوص في العهد الجديد، تتحدّث عن موضوع الأعراس. فالحدث الذي يتمّ هو موعد يتجاوز الحدث في الوقت عينه، ويحطّم الأطر الاتديمة فيجد تعابير جديدة. ونحضر تحوّلاً قد تمّ: صار يسوع المسيح العريس، وصارت الكنيسة شعب الله الجديد، فاتّخذت سمات العروس واتّخذ الاحتفال بأعراسهما وجهاً مأساوياً: بدأ زمن العرس مع يسوع، وختم يسوع العهد والزواج بدم صليبه قبل أن تذهب العروس في المجيء الثاني للقاء عروسها.
ونبدأ في الأناجيل الازائيّة حيث تتّخذ الأعراس وجهاً فرحاً ودراماتيكياً معاً.
يتحدّث النصّ الأول عن فرح الأعراس. نقرأ في مت 9: 15: "أتنتظرون من أهل العريس أن يحزنوا والعريس معهم؟ لكن يجيء وقت يُرفع فيه العريس من بينهم فيصومون" (مر 2: 19؛ لو 5: 34- 35). تمّ الزمان وصار ملكوت الله قريباً. هذه هي البشرى التي بها دشّن يسوع رسالته. ولكن تلاميذ يوحنّا والفريسيّين ما زالوا ينتظرون الملكوت ويهيّئوا مجيئه بالتوبة. فلاموا تلاميذ يسوع لأنهم لا يصومون (كما يصوم اليهود في أوقات محدّدة مثل الأربعاء والجمعة من كل أسبوع). أجاب يسوع: لا يليق الصوم في أيّام العرس. وهكذا ربط يسوع، في عبارة واحدة، ثلاثة مواضيع نبويّة تتمّ فيه: شبّه الملكوت بوليمة (أش 25: 6؛ أم 9)، والخلاص الاسكاتولوجي بالأعراس، وجعل من الأزمنة المسيحانيّة ينبوع فرح (أش 9: 2؛ 49: 13). فكلام يسوع واضح: يسوع يدشّن الملكوت بحضوره، ويحمل الفرح المسيحاني، ويفتح زمن الأعراس لأنه العريس.
ويقدّم لنا النصّ الثاني مثل المدعوين إلى العرس (مت 22: 1- 14) مع فكرتين: كلّ الناس هم مدعوّون إلى العرس، ولكنّ هذه الدعوة تفرض عليهم أن يلبسوا ثياب العرس. قال السيّد: أخرجوا إلى الطرق، وادعوا إلى الوليمة كلّ من تجدوه. فخرج الخدم إلى الشوارع. وجمعوا من وجدوا من أشرار وصالحين. وهكذا امتلأت قاعة العرس بالمدعوين. هذا المثل سيتحقّق يوم موت يسوع الذي سيعطي لأعراسه أبعاد المسكونة كلّها، فيدعو كل واحد، ولا سيما الوثنيّين، بعد أن رفض اليهود تلبية الدعوة. ولكن للعرس متطلباته، والدخول إلى الملكوت يفرض ممارسة الفضائل الأنجيليّة: "إن لم يزد برّكم على برّ الكتبة والفريسيّين، لن تدخلوا ملكوت السماء".
ونقرأ في المقطع الثالث عن اختطاف العريس (مر 2: 20). رفض اليهود العرس لأنهم رذلوا العريس، لأنهم خطفوه، قال يسوع: "ستأتي أيام يُخطف العريس (من بين التلاميذ). وحينئذٍ سيصومون". إنه يلمّح إلى المستاقبل، إلى ذهابه وإلى حزن تلاميذه بعد هذا الذهاب. أمّا ذهابه أو بالأحرى موته، فسيكون عنيفاً، كما كان موت عبد الله في أش 53: 8. وسيعود يسوع إلى موضوع الفراق، في نهاية حياته على الأرض، ويدعو تلاميذه إلى السهر لأنه سيعود في يومه.
"ها العريس آتٍ". هكذا يبدأ مثل العذارى (مت 25: 1- 13). خُطف العريس فتأخّرت الأعراس، ونحن ننتظر عودته لنحتفل بها. بدأت الأعراس يوم بدأ الملكوت، وستتمّ في النهاية. ها العريس آتٍ. هذه الصرخة في الليل تعلمنا أن المسيح يعود لا كسيّد أو ملك، أو ابن انسان، بل كعريس يُدخل إلى وليمته المدعوّين الذين انتظروا واستعدّوا لمجيئه. وهو أيضاً الديّان الذي يميّز بين مدعوّيه الذين يخرجون من ذاتهم حين يرون قناديلهم فارغة من الزيت، وحياتهم من الأعمال الصالحة. إذهبوا إلى لقائه. لا يكفي أن نُدعى إلى العرس أو نستعدّ، فعلينا أن نذهب إلى لقاء العريس (1 تس 4: 17). أجل، على الكنيسة أن تنتظر مجي عريسها في إيمان قد يغشاه الظلام، وفي رجاء يحتاج إلى مساندة.

3- بولس والكنيسة العروس
وننتقل إلى القديس بولس الذي يحدّثنا عن الكنيسة، العروس الجديدة.
ستكون هذه العروس عذراء نقيّة. قال القدّيس بولس: "أغار عليكم غيرة الله لأني خطبتكم لعريس واحد، كعذراء نقيّة أقدّمها إلى المسيح" (2 كور 11: 2). كنيسة كورنتوس هي صبيّة لا خبرة لها، وقد تنجرّ إلى التعاليم الكاذبة. لهذا، يسهر بولس سهرة الغيرة. هذا لا يعني أنّ الكنيسة هي عروسه. إنها تخصّ المسيح. والمسيح هو العريس الوحيد لهذه الكنيسة كما هو آدم الوحيد لحوّاء الجديدة وأمّ الأحياء. نحن في زمن الخطبة بالنسبة إلى الكنيسة، لا في زمن الأفراح. نحن في زمن الانتظار لا في زمن اللقاء. فعلى الخطيبة أن تحفظ نقاوة منحتها إيّاها المعموديّة والإيمان لتستعدّ لمجيء عريسها المسيح الذي هو آدم الجديد.
ويقدّم لنا بولس في رسالته إلى غلاطية (4: 21- 31) الكنيسة على أنها سارة (زوجة ابراهيم) الجديدة. هي المرأة الحرّة بوجه هاجر الأمة. كان عهد جديد تحرّرت فيه الكنيسة من الشريعة اليهوديّة وارتبطت فقط بحبّ عريسها فكانت خصبة، على مثال أورشليم السماويّة، وكان لها البنون العديدون.
ويعلن بولس في الرسالة إلى أفسس (5: 21- 32) أن علاقات المسيح بكنيسته هي المثال للعلاقات بين الرجل وامرأته. ويتعمّق بولس في هذه العلاقات، على ثلاث مراحل، قبل أن ينقلنا إلى التأمّل والاعجاب في سّر الكنيسة.
1- كما أن الرجل هو رأس المرأة، كذلك المسيح هو رأس الكنيسة. هو الرئيس وصاحب السلطة، والكنيسة تخضع له.
2- والمسيح يحبّ كنيسته "فيبذل نفسه لأجلها ليقدّسها، مطهّراً إياها بغسل الماء وبالكلمة التي ترافق هذا الغسل (أي المعموديّة)، حتى يزفّها إلى نفسه كنيسة مجيدة لا عيب فيها ولا تجعُّد ولا ما أشبه ذلك، بل مقدّسة وطاهرة". ليست الكنيسة هي التي تستعدّ للقاء المسيح في يوم الأعراس، بل هو المسيح الذي يغسلها في دم صليبه يوم أسلم نفسه لأجلها فأعطاها عربون محبّته.
3- ثمّ إنّ الكنيسة هي جسد المسيح. فكما أنّ الرجل يحبّ امرأته كما يحبّ جسده، هكذا يحبّ المسيح كنيسته. هذا السّر عظيم! سّر المسيح والكنيسة عظيم. يدلّ على تميّز بين المسيح والكنيسة وعلى اتحّاد بحيث "يصبح الاثنان جسداً واحداً" (تك 2: 21- 24). ولكنّنا نرى الآن التباعد: فالمسيح الممجّد هو في السماء وقد وصل إلى الملء والكمال. وظلّت الكنيسة عروسه على الأرض. يجتذبها عريسها وينمّيها حتى الكمال ليعدّها لذلك اليوم الذي فيه ستقدّم إليه من أجل الأعراس الأبديّة.

4- يوحنّا الانجيليّ والعرس
وفي نهاية القرن الأول، أدخلنا يوحنّا، على ضوء الروح القدس، إلى حقيقة الأعراس الكاملة، فساعدنا على اكتشاف أعماقها الخفيّة.
حدّثنا أولاً عن المعمدان الذي هو صديق العريمس (يو 3: 25- 30). دوره أن يقود العروس إلى عريسها ويحافظ عليها حتى ليلة العرس. وحين تنتهي مهمّته، يختفي. "له هو (أي يسوع) أن يزيد، ولي أنا (المعمدان) أن أنقص" (يو 3: 30). اكتمل فرحه حين رأى أنّ هذا الشعب الذي هيّأه، توجه إلى عريسه (يو 3: 29).
ونصل إلى ساعة الأعراس مع عرس قانا الجليل (يو 2: 1- 11). تحوّلت الجموع إلى يسوع، فرأى المعمدان، في هذا التحوّل، علامة تدلّ على العريس. قال: "من له العروس فهو العريس" (يو 3: 29). وإذا قرأنا هذا النصّ مع يو 12: 32 (إذا ما ارتفعت عن الأرض جذبت إليّ كلّ البشر)". نفهم أن هذا التجمّع الذي بدأ في المعموديّة وشُبّه بعرس، سيتحقّق كاملاً على الصليب. وهذا ما يشير إليه، بصورة رمزيّة، عرس قانا الجليل الذي فيه أظهر يسوع مجده حين حوّل الماء إلى خمر. إن هذا اخبر هو علامة لحدث موت يسوع وقيامته (يو 13: 1). سيعطي يسوع دسه في تلك "الساعة" فينال ملء التمجيد (يو 11: 23؛ 17: 1).

5- وفي كتاب الرؤيا
ونصل إلى سفر الرؤيا: ما زالت الكنيسة تنتظر وهي تقاسي الاضطهاد. عزّاها رائي بطمس (الجزيرة التي فيها كتب يوحنا الرؤيا) فكشف لها المجد الذي لا يقاس بالشدّة (2 كور 4: 17) التي تنتظرها. في هذا السِفر، العريس هو المسيح الذي هو الحمل الفصحي الذي يختم المعمّدين بدمه. إنه الحمل المذبوح (رؤ 5: 6، 12؛ 13: 8) الذي يطهّر المختارين بدمه ويؤكد لهم الغلبة (رؤ 7: 14؛ 12: 11).
وأرانا يوحنا العروس. قال: "تعال لأريك عروس الحمل" (21: 9). "هي إمرأة تجمّلت وتزيّنت واستعدّت للقاء عريسها" (رؤ 21: 2). "أعطيت أن تلبس الكتّان الأبيض (علامة الغلبة) الناصع، والكتّان هو أعمال القدّيسين الصالحة" (رؤ 19: 8). وهي مدينة، أورشليم الجديدة "النازلة من السماء، من عند الله" (رؤ 21: 2). وهناك المدعوّون إلى العرس، إلى أورشليم التي هي مدينة القديسين. المدعوّون هم رفاق الحمل. جاؤوا من المحنة الكبرى (رؤ 7: 14)، وباستشهادهم غسلوا ثوبهم بدم الحمل (رؤ 7: 15) وخُتموا بختمه فنجوا من العقاب. ولهذا قيل عنهم: "طوبى للمدعوّين إلى وليمة عرس الحمل" (رؤ 19: 9). رقدوا في الربّ (رؤ 14: 13) ليقوموا معه ويشاركوه في انتصاره.

خاتمة
مع الرؤيا تمّ مخطّط الله. تهيّأت، منذ زمن بعيد، أعراسُ الابن مع البشريّة، وقد كلّفته هذه الأعراس دمه. بعد اليوم، صار كلّ شخص معنياً بهذا الحبّ، بهذه العلاقة، بهذا الاتحّاد مع المسيح. ولقد أعلن زمن الأعراس، فدخل كلّ واحد منّا في فرحة البشارة. نحن مدعوّون مع البشريّة كلّها وعلينا أن نلبّي الدعوة. نحن أبناء الملكوت، هذا ما لا شكّ فيه. ولكن، لنخف من أن نبقى خارج الملكوت. لنستعدّ ليوم الوليمة هذا. لقد نلنا غسل العماد فتنقّينا، ولبسنا حلّة العرس، وتهيّأنا في الافخارستيّا، لوليمة العشاء الحميمة (رؤ 3: 20). فعلينا أن نسير كلّ يوم حتى ذلك اليوم الذي فيه نلتقي الربّ.

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM