سفر العدد

سفر العدد
مقدمة
ان أول من قرأ العهد القديم قراءة مسيحية، هم كتّاب العهد الجديد الملهَمون، وقد اتضح لهم معناه الكامل، على ضوء سر المسيح يسوع المصلوب والحي القائم من الموت، والواهب تلاميذه روحه القدوس، ذلك الروح عينه، الذي سبق فنطق بالانبياء منذ القديم، على حدّ قول بطرس الرسول، فشهدوا بآلام المسيح، وبما يتلوها من المجد، ثم عاد هو نفسه فنطق بالرسل القديسين، فشهدوا وبشرّوا بانجيل النعمة والخلاص (1 بط 1/10- 12). وما اصدق هذا القول، حين يدور حديثنا على سفر العدد، وقد قرأه واستشهد به كل من كتّاب العهد الجديد، متّى ويوحنا وبولس وبطرس ويهوذا وكاتب الرسالة الى العبرانيين وكاتب سفر الرؤيا، وفسّروه تفسيراً مسيحياً. لذلك نرّكز البحث على نقاط ثلاث:
النقطة الأولى: كلمة في سفر العدد
سفر العدد هو رابع كتب موسى الخمسة، يتبع ويكمّل سفر الخروج. موضوعه اثنان: الأول وصف شعب التوراة، في مراحل مسيرته صوب الارض المقدسة، عبر برية سيناء، من جبل حوريب المقدس الى برية موآب مقابل اريحا؛ والثاني اعطاء هذا الشعب مزيداً من الشرائع والرسوم تكمل الشريعة الأولى المعطاة على جبل حوريب، في سفر الخروج، تهيّئ الشعب للدخول الى الأرض المقدسة. أما تصميمه فيتبع عبور الشعب في الصحراء على ثلاث مراحل:
المرحلة الأولى (1- 8) هي امتداد لسفر الخروج، والشعب في ايامه الاخيرة عند جبل حوريب. يحصيه مويى احصاء شاملاً، بحسب اسباطه كلها، ما عدا سبط اللاويين (1- 4)، ويفرض عليه رسوماً وشرائع في التقديس والنذور والنسك لله (5- 6)، ويقدس المسكن وامتعته والمذبح، ويكرّس اللاويين ليخدموا فيه، ويقدّسوا الشعب، ويقدّم بنو اسرائيل التقادم (7- 8).
والمرحلة الثانية (9- 25) هي عبور الشعي من سيناء إلى قادش فموآب، وتبدأ المسيرة بأكل الفصح الثاني، بهَدْي الله، على هتاف البوق، وراء الغمام، الذي كان يحلّ كمنظر نار على خباء المحضر، ويرتحل الله في طليعة الشعب يهديهم الطريق (9- 10) ويصل الشعب الى قادش، ويقوم بمحاولة فاشلة، للدخول الى الأرض المقدسة من الجنوب (11- 14)، ويُعطَى فرائض ورسوم، لكن قورح وداثان وابيرام يقاومون موسى وهارون، فتحل ضربة قويّة في الشعب حينئذ يشفع اللاويون امام الله لردّ الضربة عن الشعب (15-19). ويتابع الشعب العبور من قادش إلى موآب، وتموت مريم وهارون، ويبارك النبيُ بلعام الشعب، ويفجَر الشعبُ مع بنات موآب في فغور (20- 25).
والمرحلة الثالثة (26- 36) هي تدابير موسى لتوزيع الارض المقدسة على الشعب، فيحصي الشعب احصاءً جديداً، ويعطيهم شرائع جديدة مختلفة، ويكرّس يشوع بن نون قائداً للشعب من بعده (26- 30) ويكون للشعب حرب قاسية ضدَّ مِدْيَن (31)، ويستقر سبط رأوبين وسبط جاد ويمد كنان في بر الأردن (32). وبعد تلخيص لمراحل العبور من مصر إلى بر الاردن (33)، ينتهي الكتاب بإعطاء بعض شرائع في توزيع الأرض المقدسة على أسباط الشعب الباقية (34- 36).
كلّ هذه الفصول تسطّر مسيرة شعب يخطو في مغامرة مخيفة، يجهل فيها مصيره، فيعثر احياناً، ويتذّمر على الله وعلى من اقامهم الله عليه رعاة، والله يتحمَّل خطايا شعبه، ويغفر له، ليكّمل مسيرته، واعداً اياه في آخر المطاف بأرض مقدَّسة طيّبة، ومعطياً اياه قوَّاداً مخلصين قدّيسين، وكهنة امناء يخدمون الشعب ويقدّسونه، وواهباً لهم طعاماً وشراباً عجيبين، رمزاً إلى عناية الله الفائقة، ليكمّل مسيرته، ويحها في شريعة الله المقدسة.
النقطة الثانية: قرأة كتّاب العهد الجديد لسفر العدد
1) الإحصاء (عد 1؛ 26)
يستهّل الكاتب الملهم كلامه في سفر العدد بإحصاء قام به موسى الكليم، بأمر من الله، في برّيّة سيناء، قبل عبور البريّة، لجماعة بني اسرائيل، بحسب اسباطهم الاثني عشر (عد 1/ 1-54). ثمَّ يعود الكاتب فيتكلّم على احصاء آخر، بعد عبور البرية، وقبل دخول أرض الميعاد، في صحراء موآب على اردنّ اريحا (عد 26/1- 65). وفي كلا الاحصاءين يعطي الكاتب رقماً رمزياً لا حقيقياً، ليدّل على عناية الله الفائقة بشعبه العابر إلى أرض الميعاد، اذ ان ست مئة ألف مقاتل، لو كان رقاً حقيقياً، ليفرض عدد الشعب كلّه فوق المليونين والنصف، وهذا رقم خيالي ضخم جداً وغير ممكن!
كذلك كاتب سفر الرؤيا (7) يحصي عدد المختومين بختم الحمل، من جميع اسباط اسرائيل الاثني عشر، شعب العهد الجديد وهو يشمل جميع شعوب الارض، ويعطي رقماً رمزياً لا حقيقياً، ليدّل على عدد المخلّصين الذي لا يُحصى، في ملكوت الحمل والجالس على العرش، أرض ميعاد العهد الجديد اذ ان عدد مئة واربعة واربعين ألفاً، لو كان حقيقياً، يبقى عدداً ضئيلاً جدّاً لا يُعقَل!
2) شريعة القداسة (عد 5)
بعد إحصاء الشعب، فرض موسى بأمر الله شرائع على الشعب، لكي يظلّوا أطهاراً مقدَّسين، بحيث ان كلّ من يتنجّس لا يحلّ له ان يسكن بين الشعب، بل ينبغي ان يُنفى إلى خارج المحلّة لئلاّ ينّجس الشعب كلّه، لأن الشعب مقدَّس بحضور الله المقيم فيما بينهم ( عد 5/1- 4).
كذلك أمر بولس الرسول المسيحيين في قورنتسى بأن يرفعوا الشرّير من بينهم وألاّ يخالطوه ولا يؤاكلوه (اقور 5/7- 13)، بل ينبغي ان يخرجوه من بينهم، لأنهم جاعة مقدّسة، والله ساكن فيهم وسائر فما بينهم (2 قور 6/16- 18).
3) شريعة الناذر (عد 6)
أمر موسى كل رجل أو امرأة نذَرَ نَذْر نسُكٍ لينسُك للرب ان يعتزل عن الخمر والمسكر، وان لا مصر موسى برأسه طول أيام نسكه، بل يربّي خُصَل شعر رأسه، ليكون مقدّساً للرب، إلى ان تتّم الأيام التي تنسّكها للرب، فيقرّب قربانه للرب ويحلق رأسه عند باب خباء المحضر (عد 6/1- 5، 13- 21).
كذلك ذكر لوقا في شأن يوحنا المعمدان: "سيكون عظيماً في عين الرب، لا يشرب خمراً، ولا مسكراً" (لو 1/15). وكذلك فعل بولس الرسول في اورشليم سنة 58، يوم عاد من جولته الرسولية الثالثة وكان عليه نذر هو وأربعة رجال، فأخذهم الى الهيكل وتطهّر معهم وأنفق عليهم ليحلِقوا رؤوسهم. حمفاظاً على شريعة موسى، وقرّب القربان عن كل منهم (رسل 21/23- 26).
4) صلاة البركة (عد 6)
أمر موسى هارون وبنيه الكهنة واللاويين أن يباركوا الشعب وعلموا اسم الله عليه ويقولوا له: (يباركك الرب ويحفظك.. يرفع الرب وجهه نحوك، ويمنحك السلام" (عد 6/22- 27).
كذلك فعل يسوع ليلة آلامه، في وداعه الأخير لتلاميذه، فمنحهم السلام، أثمن ما منح: "سلاماً أترك لكم، سلامي أعطيكم، ولست كالعالم أعطي، فلا تضطرب قلوبكم، أو تخف" (يو 14/27) ثمّ صلّى إلى أبيه من أجلهم، وقد أظهر لهم اسم أبيه، قال: "أيها الآب القدوس، احفظهم في اسمك الذي وهبته لي... لمّا كنت معهم كنت احفظهم في اسمك" (يو 17/11-12).
5) البوق لنداء الجماعة (عد 10)
وصنع موسى، كما أمره الرب في بريّة سيناء، بوقين من فضّة، ليكونا اولاً لنداء الشعب، ليجتمع اليه الرؤساء رؤوس الوف بني اسرائيل، وثانياً لتسيير المحلاّت ليرحل كلّ سبط وراء راية محلّته (فرقته) في البريّة صوب أرض الميعاد (عد 10/2- 3).
كذلك صوّر بولس الرسول مجيء الرب في النُّهيَة، يدعو إليه جميع الراقدين بهتاف بوق الله، ليجتمعوا إليه من كل صوب في لحظة وطَرْفة عين، ويقوموا من مثوى الموت إلى المجد الخالد، إلى أرض الميعاد الجديدة في السماء (اتس 4/16؛ اقور 15/ 52).
وكذلك رأى كاتب سفر الرؤيا ملائكة سبعة واقفين أمام الله وقد اُعطوا سبعة أبواق لينفخوا فيها فتحلّ الضربات على سكّان الأرض ليتوبوا من أعمال أيديهم الشريرة ويسجدوا للجالس على العرش وللحمل ويسبّحوا للرب ومسيحه المالك إلى دهر الدهور (رؤ 8- 11).
6) لحم في البريّة (عد 11)
تذمّر الشعب على موسى وعلى الله في برية سيناء، وسئمت نفسه المّن وقالوا: "من يطعمنا لحاً؟ فقد ذكرنا السمك الذي كنّا نأكله في مصر مّجاناً والقِثاء والبطّيخ والكُرّات والبصل والثوم، والآن نفوسنا يابسة لا شيء أمام عيوننا في المنّ (عد 11/4- 6). حار موسى في أمره وسأل الرب: "أَفيُذبَح لهم غنم وبقر فيكفيَهم أو يجمع لهم سمك البحر فئشبعَهم؟" (عد 11/22)
كذلك فعل يسوع في البرية يوم رأى جمعاً كثيراً مقبلاً إليه، فقال لفيلبّس، أنّى نشتري لهؤلاء خبزاً لكي يأكلوا؟... قال فيلبّس: لا يكفي خبز بمئتي دينار، ليصيب كلّ منهم كسرة!
وبعد آية تكثير الخبز والسمك، كان ليسوع حديثان، احدهما على خبز تعليمه الجديد بدل المّن القديم (يو 6/35- 47)، والثاني على خبز لحمه ودمه، طعاماً وشراباً حقاً (يو 6/48- 72). فتجادل اليهود وقالوا: كيف يسَعُ هذا ان يعطينا لحمه مأكلاً؟ (6/52). وتلاميذه أنفسهم تذمّروا من كلامه هذا فقال لهم: "آهذا يُزلّكم؟ وان ترَوا الانسان صاعداً إلى حيث قبلاً كان؟... هو الروح يُحي، وما في اللحم ما يجدي، فما قلت من كلمات انّما هو روح وحياة" (يو 6/61- 63).
7) روح الله على موسى وعلى شيوخ الشعب (عد 11)
في اطار إعطاء رفوف من السلوى ليأكل الشعب لحماً، أعطى الله شيوخ اسرائيل السبعين ذلك الروح عينه الذي كان على موسى، ليحملوا مع موسى اثقالَ الشعب في الصحراء، ولا يحملها موسى وحده (عد 11/17، 25).
كذلك فعل يسوع في إطار تكثير الخبز والسمك، وفي إطار الوعد بإعطاء لحمه ودمه طعاماً حقاً في القربان الاقدس، وعَدَهم أيضاً باعطائهم روحه القدوس بعد صعوده إلى السماء (يو 6/62- 63)، وقد حقّق وعْدَه لهم بعد قيامته، اذ نفخ فيهم وقال لهم: خذوا روحاً قدساً (يو 20/22)، وحقّق أُمنية موسى: ليت جميع أُمَّة الرب انبياء يجعل الرب روحه عليهم (عد 11/29)، لمّا حان يوم العنصرة وكان التلاميذ كلهم مجتمعين معاً... وامتلأوا جميعاً روحاً قدساً وشرعوا يتكلّمون بألسن غريبة على ما كان الروح يؤتيهم ان يتكلّموا (رسل 2/ 1- 4).
8) موسى أمين في بيت الله (عد 12)
ميّز الله موسى عن جميع الانبياء، وقاصص هارون ومريم لأنهما قارنا نفسيَهما بموسى، وخاطبهما في شأن موسى: ان يكن فيكم نبي للرب فبالرؤيا أتعرف إليه وفي حلم أخاطبه. وأمّا عبدي موسى فليس هكذا بل هو أمين في جميع بيتي. فما إلى فم أخاطبه وعياناً لا بألغاز وشبه الرب يعاين. فما بالكما لم تهابا ان تتكلّما في عبدي موسى؟ (عد 12/6- 8).
كذلك كاتب الرسالة إلى العبرانيين يشبّه يسوع بموسى الأمين، ثمّ يضيف ان موسى خادم في بيت الله أمَّا يسوع فهو الابن في بيته: "وقد كان موسى أميناً في جميع بيته كخادم شهادة لما سيُقال أمّا المسيح فكالابن على بيته، وانما بيته نحن ان تمسّكنا بثقة الرجاء وفخره حتّى يثبّتنا إلى المنتهى (عب 3/5- 6).
9) قصاص الشعب المتذمّر (عد 14)
شقّ على الله ان يكون شعبه ناكراً لجميله متذمّراً غير راض بركم كل ما رأى من مجد الله وآياته. فلذلك أقسم ان لا يدخل إلى أرض الميعاد احد منهم، حتى موسى نفسه، بل تسقط جثثهم جميعاً في البرّية، ما عدا اثنين هما كالب ويشوع بن نون (عد 14/22- 30). كذلك كاتب الرسالة الى العبرانيين يشير إلى ذلك بوضوح، فيحذّر قارئيه من أن يقسّوا قلوبهم مثل اولئك المتذمّرين الكافرين، لئلاّ ئمسوا متغرّبين عن الله، غير مستحقّين الدخول إلى مجد ملكوته ومقّر راحته الابدية (عب 3/7- 13).
10) قصاص قورح وداثان وابيرام (عد 16)
قاوم قورح وداثان وابيرام موسى وهارون واعترضوا على سلطتهما، واتَّهموهما بالترفع على شعب الله، فدعاهم موسى وتهدّدهم ففتحت الأرض فاها وابتلعتهم فبادوا من بين الجماعة (عد 16/3، 24، 32- 33).
كذلك يهوذا في رسالته يحذّر من الويل المريع الذي نال من هلكوا في معاندة قورح (يهو 11). وما أقرب جواب يسوع لفيلبس: "ألا تؤمن أني أنا في الآب، وأن الآب فيّ؟ لا أقول من تلقاء نفسي ما أقول، بل الآب المقيم فيّ هو يعمل أعماله... فمن أجل الأعمال نفسها صدّقوا" (يو 14/10- 11)، من جواب موسى على قورح وداثان وابيرام: "بهذا تعلمون ان الرب أرسلني لأعمل جميع هذه الأعمال، وان ذلك ليس من تلقاء نفسي" (عد 16/28).
11) التطهير برماد البقرة (عد 19)
شريعةٌ أمر بها الربُ موسى وهارون: أن يُؤتى ببقرة صهباء صحيحة لا عيب فيها ولم يُرفَع عليها نير، فتُدفَع إلى الكاهن فيُخرجها إلى خارج المحلّة وتُذبَح هناك... ويَجمع رجل طاهر رماد البقرة ويضعه خارج المحلّة في موضع طاهر ويكون محفوظاً لجماعة بني اسرائيل لأجل ماء النَّضح. إنها ذبيحة خطأ (عد 19/1- 9).
كذلك صاحب الرسالة إلى العبرانيين يشير إلى رتبة التطهير هذه، ولكنها لا تقاس بدم المسيح الذي قرَّب نفسه إلى الله لتطهير الضمير في خدمة الله الحي (عب 9/13- 14).
12) ماء في البرية (عد 20)
نذمّر الشعب على موسى وهارون في البرية، لأنهم لم يكن لهم ماء فأمر الرب موسى بأن يرفع يده ويضرب الصخرة بعصاه، فخرج ماء كثير شرب منه الجماعة وبهائمهم (عد 20/1- 11).
كذلك بولس الرسول ئشير إلى هذا الحدث ويفسّره كما يلي: وكلّهم شربوا شراباً روحياً واحداً فإنهم كانوا يشربون من الصخرة الروحية التي كانت تتبعهم والصخرة كانت المسيح (1 قور 10/3- 4).
وكذلك الانجيلي يوحنا، في خطبة يسوع في آخر أيام عيد المظال وأعظمها: "ان كان فيكم عطشان فليأت إلي! وليشرب المؤمن بي. وقد قالها الكتاب: من جوفه سوف تدفق انهار ماء معين" (يو 7/37- 38)، وفي حديثه على يسوع المصلوب: "بل طعن أحد الجنود جنبه بحربة، فسال على الأثر دم وماء (يو 19/34)، وفي حديث يسوع إلى السامرية على البئر: "ومن يشرب من ماء أنا أعطيه إياه فلن يعطش، بل الماء الذي أعطيه إياه يصير فيه نبع ماء يتفجّر حياة ابدية (يو 4/14). وقد يكون في حديث يسوع هذا على البئر صدى لنشيد البئر الذي أنشده بنو اسرائيل حين رحلوا إلى البئر التي قال الرب فيها لموسى: "اجمع الشعب حتى اعطيهم ماء" (عد 21/17- 18).
13) الحيات النارية والحية النحاسية (عد 21).
وعاد الشعب يتذمّرون على الله وعلى وموسى في شأن المنّ، فأرسل الرب على الشعب حيّات نارية فلدَغت الشعب ومات قوم كثير من اسرائيل (عد 21/5- 6). فتضرّع موسى إلى الرب ليزيل عنهم الحيات، فقال له الرب: "اصنع لك حية وارفعها على سارية، فكل لديغ ينظر إليها يحيا. فصنع موسى حية من نحاس وجعلها على سارية فكان أي انسان لدغته حيَّة ونظر إلى الحية النحاسية يحيا (عد 21/8- 9).
إلى تلك الحيات النارية أشار القديس بولس في رسالته الأولى إلى أهل قورنتس: "لا نجرّب المسيح كما جرّبه قوم منهم فأهلكتم الحيّات" (10/9). وإلى تلك الحية النحاسية أشار يوحنا الانجيلي في حوار يسوع مع نيقوديم: "رفع موسى الحية في البريّة، وعلى ابن الانسان ان يُرفَع مثلها، لتكون به لكل مؤمن حياة أبدية" (يو 3/14- 15). بهذا أنبأ يسوع بموته وقيامته وصعوده. فان رفع الحية النحاسية في الصحراء أمام الشعب، كان رمزاً إلى رَفْع يسوع على الصليب أولاً، بالموت، ثم إلى رَفْع يسوع من القبر، ثانياً، بالقيامة، ثم إلى رَفْع يسوع الى السماء ثالثاً، بالصعود والجلوس في المجد عن يمين الله الآب، حياة وخلاصاً أبدياً لكّل من ينظر إليه مرفوعاً.
14) تعليم بلعام (عد 22- 24)
تروي الفصول 22- 24 قصة بلعام، ويرى شارحون في الرواية قصَّتَين منفصلتين في الأصل: في احداهما يظهر بلعام نبياً أمورياً أو آرامياً، عابداً للرب الاله، ولا يلبّي دعوة ملك موآب إلاّ بأمر من الله. أما في الثانية فيظهر عرّافاً مِدْينياً لبّى دعوة ملك موآب بدون أمر من الرب فتصدّى له ملاك الله فعاد إلى موضعه، فأضطرَّ بالاق نفسه أن يذهب إليه ويأتي به.
دمج الكاتب الملهَمُ القصَّتَين في رواية واحدة، فأصبح بلعام في النص الحالي نبيّاً لله العلي يدافع عن شعب الله، ولكنَّه بقي في الوقت نفسه مثال الانسان المتمّرد على الله، والحامل الشعب على العصيان والتمّرد: "قال لهم موسى: هل استبقيتم الإناث كلَّهنّ. إن هؤلاء هن اللواتي حملن بني اسرائيل بمؤامرة بلعام على أن يتمرّدوا على الرب في أمر فَغُور فحلّت الضربة في جماعة الرب (عد 31/15- 16؛ راجع عد 25/1- 18؛ عد 31/7- 8؛ يش 13/ 21- 22). ان تلك الصورة القاتمة عن بلعام المتمرّد والمحرّض على التمرّد بقيت الصورة الطاغية لشخصية بلعام في نصوص العهد الجديد: "وقد تركوا الطريق المستقيم وضلّوا واتبعوا طريق بلعام بن بَعُور الذي أحب أجرة الظم. إلا أنه قد ناله التوبيخ على معصيته اذ ردع حماقة النبي حمارٌ أبكم نطق له بصوت انسان (3 بط 2/15- 16) "ويل لهم فإنّهم سلكوا طريق قاين وانصبّوا إلى ضلال بلعام لأجل أجرة" (يهو 11). "ان عندك هناك قوماً يتمسّكون بتعليم بلعام الذي علّم بالاق ان يُلقي معثرة أمام بنىِ اسرائيل حتى يأكلوا من ذبائح الأوثان ويَزْنوا (رؤ 2/14).
15) كوكب وصولجان (24)
قبل ان يعود بلعام وينصرف راجعاً إلى موضعه تنبّأ أمام بالاق الملك على شعب اسرائيل، قال: "يسعى كوكب من يعقوب، ويقوم صولجان من اسرائيل، فيحطّم طَرَفَي موآب، ويُريح جيع بني شيت، ويكون ادوم ميراثا له" (عد 24/17- 18). الكوكب والصولجان هما رمز إلى ملك عظيم يسطع على العالم أجمع ويملك مدى الدهور، رمز إلى المسيح.
الى الكوكب أشار بطرس الرسول في رسالته الثانية: "وعندنا أثبث من ذلك، وهو كلام الانبياء، الذي تُحسنون اذا أصغيتم إليه كأنّه مصباح يضيء في مكان مظلم إلى أن ينفجر النهار ويشرق كوكب الصبح في قلوبكم" (1/19)، وأشار كاتب سفر الرؤيا: "مثلما أُوتيتُ أنا من عند آبي، وأُعطيه كوكب الصبح (2/28).
أمّا القديس متّى الانجيلي فقد فسّر الكوكب والصولجان في نبوءة بلعام تفسيراً أوضح، في ميلاد الرب يسوع، ملك اليهود، المولود في بيت لحم، ولكنه ملِكُ جميع الشعوب، وقد سجد له المجوس آتين من الشرق، يهديهم الكوكب إلى مكان الطفل الملك المولود (متى 2/1- 13). فهذا النص في متّى هو أشبه بمِدْراش (بحث وتأمل) جديد لكوكب بلعام وصولجانه في سفر العدد، ولعمود النار الذي كان يسير أمام شعب الله يهديهم الطريق في برية سيناء (خر 13/21)، وللغمام الذي كان يحلّ كمنظر نار على خباء المحضر، ويرتحل سائراً في طليعة الشعب يهديهم الطريق (عد 9/15- 23).
النقالة الثالثة: قراءة مسيحية حالية لسفر العدد
في تلك القراءة المسيحية لسفر العدد، وجد معظم كتّاب العهد الجديد امثولات كبرى، طبّقوها على حياة الكنيسة الناشئة. فلا يسع الكنيسة، اليوم، على مرّ العصور، إلا أن تجد فيه أيضاً العبر والأمثولات العديدة الكبرى.
أولاً- الكنيسة هي شعب الله السائر بالايمان والرجاء والمحبة وراء الرب يسوع ومعه، في مغامرة مخيفة، على الأرض، تجهل فيها مصيرها، وتعثر أحياناً، وتتذمر على الله، وعلى من أقامهم عليها رعاة، فتحدث فيها انقسامات وانشقاقات. ويبتعد واقعها الزمني أحياناً كل البعد عن مثالها الروحي السامي، اليوم، تحت إشراف أساقفتها وكهنتها، في أنحاء العالم كله، كما في الأيام الأولى، تحت اشراف بطرس والرسل في أورشليم (رسل 5/1- 11؛ 6/1- 7)، كما في جماعة التوراة، تحت إشراف موسى ورؤساء الشعب في سيناء. غير أن الله المحبة يظل يبعث فيها أنبياء ومعلّمين وقديسين ينيرون طريقها، ويعيدون إليها بهاءها الأول، على مر العصور.
ثانياً- للكنيسة رعاة حقيقيون، يملأهم الروح القدس، خلفاء للرسل القديسين، قادة للشعب ومثاله الحي، في مسيرته ومغامرته الكبرى، عليهم يتوقف مصير شعب الله المؤمن. الكنيسة جماعة أرادها المسيح نفسه منظّمة، مبنيّة على صخرة بطرس والرسل، تجمعها سلطة واحدة، في رباط إيمان ورجاء ومحَّبة واحدة. كنيسة اليوم مثل كنيسة الرسل، في عهدها الأول، ومثل جماعة التوراة، مع موسى والشيوخ السبعين المملوئين من روح الله عينه، كما في سفر العدد.
ثالثاً- الكنيسة جاعة كهنوتية نَبَويَّة مقدسة (1 بط 2/9)، مكرَّسة لعبادة الله الآب والابن والروح القدس، عبادة حقيقية، وهي العلامة بين جميع الشعوب، والدعوة الدائمة لها لكي يؤمنوا، تسعى لتعيش مثالية دعوتها إلى القداسة الكاملة، ولكن يبقى فيها دور للخطيئة كبير! وتبقى خاضعة لجدلية الواقع والمثال، مثالُها مشاركة الله القدوس نفسه في قداسته الكاملة، وواقعها لا يختلف أحياناً عن واقع البشرية الخاطئة المتمرّدة. لكنَّ الله باقٍ، فيها، حاضر، يصونها مقدَّسة ويجدّدها أبداً. لكأنّي بالله يختار له شعباً خاطئاً فيقدّسه مجَّاناً، ليقدس به الشعوب كافة ويباركها. حال الكنيسة اليوم، حالها أيام الرسل الأوَّلين، وحال جاعة التوراة، أيام موسى في صحراء سيناء وموآب، على ما يروي لنا سفر العدد.
رابعاً- للكنيسة مذبحها، وكأنه خباء محضر جديد. فيه تلتقي وجه فاديها الذبيح والممجّد: ولها مائدتها تنال منها طعامها وشرابها الروحي، الدافق من قلب المسيح الحي إلى الأبد، في سر الافخارستيا، وهو المنّ الجديد والسلوى الجديدة، تغتذي بهما في مسيرتها الطويلة الشاقة صوب الملكوت؟ ولها كهنتها المكَّرسون لخدمتها وخدمة اسرارها. وهكذا تبقى الكنيسة اليوم على خطّ الكنيسة الرسولية الأولى، وخطّ جماعة التوراة الأولى في سيناء، حيث قدَّس لهم موسى المسكن وأمتعة المذبح، وكرَّس اللاويين، ليخدموا فيه ويقدّسوا الشعب.
خامساً- الكنيسة جماعة بشرية أرضية مع كونها جماعة سماوية إلهية. فتبقى خاضعة لحاجات مادية زمنية واقعية، ولا بدّ لها من علاقات طيّبة تشدّها إلى العائلات والجماعات البشرية الباقية. فلا يسعها ان تعيش معزولة عن العالم، بعيدة عن التأثر بعوامل بشرية عديدة، من شأنها أن تعكّر أحياناً صفاء وجهها الالهي النقي. وهذا يعطيها وجه ابن الله المتأنس، ابن البشر، الذي صار انساناً ليشابهنا به، وبالله. الكنيسة صورة ابن الله المتأنّس، وامتداد لحضوره على الأرض. فهي بالرغم من وجودها البشري الضعيف الخاطئ، تبقى مميّزة عن الجماعات البشرية كافّة، وتبقى تسعى إلى القداسة التي هي فيها نقطة الدائرة، تشدّها جذريّاً إلى ربّها وفاديها إلى الأبد. وبهذا نرى كنيسة اليوم مثل كنيسة الأمس، في عهدها المثالي الأول، ومثل جاعة التوراة، في عهد حبّها الأوَّل مع الله، في مراحل عبورها من مصر إلى الأرض المقدسة، في سفر العدد.
الاب يوحنا الخوند
جامعة الروح القد س- الكسليك

 

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM