سفر الأخبار أو اللاويين

سفر الأخبار أو اللاويين
مقدّمة:
قد نظنُّ أن سفر الأحبار (اللاويين) بما يحتويه من تشريع في أمر الذبائح والكهنوت والطقوس هو أبعد ما يكون عن ذهنية العهد الجديد، وبالتالي يصعب علينا أن نقرأه قراءة مسيحية كما نحاول في ندوتنا هذه. قد يكون ذلك صحيحاً لولا ان كاتب الرسالة إلى العبرانيين لم يحاول أن يظهر من خلال عظة تحليليّة رائعة كيف أن كهنوت العهد القديم وذبائحه قد لاقت إتمامها في ذبيحة الكاهن الأوحد يسوع المسيح. فلذلك وجدنا أن أفضل سبيل للحديث عن قراءة مسيحية لسفر الأحبار (اللاويين) هو في التفكير في يأصل كهنوت المسيح في الكهنوت القديم وتجاوزه إيّاه في ضوء الرسالة إلى العبرانيين.
يتحدّث دارسو الكتاب المقدّس عن شروط ثلاثة في شأن إتمام الكتب المقدّسة وهو أمر يهم تفكيرنا اليوم في العلاقة القائمة بين العهدين عامة وبين كهنوت العهد القديم وكهنوت المسيح. وهذه الشروط هي التالية:
1) التشابه أو الاتصال بين العهدين
2) الفرق أو الانفصال
3) التفوّق أو التجاوز.
1) إن أردنا أن نرى في العهد الجديد إتماماً للعهد القديم، كان لا بدَّ لنا من شرط أساسي وهو وجود وجه شبه واتصال بين العهدين. فإن كانت الحقيقة الجديدة التي تخلف الحقيقة القديمة ليس لها أي صلة، لم نستطع أن نقول أن هناك إتماماً، اذ إن هناك، بالعكس، مجرد ابتكار. فمن المستحيل أن نضع هذا الابتكار في داخل التدبير الالهي المقدّس والمعلَن عنه منذ زمن طويل. فالحديث إذاً عن كهنوت المسيح ليس بالأمر الغريب، لأن الكهنوت هو بُعد هام من أبعاد العهد القديم.
2) الشرط الثاني: الفرق أو الانفصال، ويشترط ألا تكون الحقيقةُ الجديدة مشابهةً تماماً للحقيقة القديمة. وإلا، نبقى على مستوى الاستعدادات، بدل أن نكون قد انتقلنا إلى مستوى الإتمام النهائي. فإذا كان يسوع، على سبيل المثل، قد مارس الكهنوت كما مارس هذه الوظيفة كهنة العهد القديم، أي بتقديم الذبائح الحيوانية وبالنفوذ السياسي، لما استطعنا أن نرى فيه إتمام المواعد المشيحية إتماماً كاملاً. فالاتمام الالهي لا يكون أبداً مجرَّد تكرار لما كان، بل يتضمن دائماً فوارق وانفصالاً، لأنه على مستوى آخر.
3) الشرط الثالث: التفوّق أو التجاوز. هذا المستوى هو ولا شك، مستوى أعلى لاتمام الكتب المقدسة. لا بد أن تزيل الفوارقُ الملحوظة الحدود والنواقص القديمة، وأن تسير في طريق تقدم حاسم وغير منظور، يكشف عن تدخل الله الخلاَّق. وإلا لكنّا أمام مجرَّد تنوعّ يُشَك في قيمته. هذا شأن إعادة بناء الهيكل بعد الجلاء، فهي وإن اختلفت في وجوه كثيرة عن بناء سليمان، لا تشكل اتماماً نهائياً للرغبة الالهية في السكنى مع الشعب، لأن الفوارق كانت ثانوية ولا تسير في طريق التقدّم (راجع حج 2/ 1- 3) فكان لا بدّ من انتظار تدخّل جديد لله (حج 2/6- 9). وهكذا بالنسبة لكهنوت المسيح، إنه من نوع جديد. فالمسيح نفسه قد صار الكاهن والذبيحة في تقدمة حياته، وبالمسيح شق حجاب الهيكل وانفتحت الأرض على السماء.
تلك هي أنواع الصلة الثلاثة التي نجدها دائماً في الاتمام الحقيقي بين الحقيقة الجديدة التي يقيمها الاتمام، والاستعداد القديم الذي جاء ليضع حداً له. في العهد الجديد أمثال لاتحصى، والرسالة إلى العبرانيين تحلل هذه الشروط مظهرة الصلات المختلفة القائمة بين العهدين.
تاريخ الأحبار (اللاويين) وأصله ومفضمونه
لا بد لنا أولاً من أن نتوقف عند تاريخ هذا السفر. لقد أُلف بعد الجلاء جامعاً عناصر مختلفة المصادر، قد يرقى بعضُها إلى أقدم العصور. لقد تميّز عصر ما بعد الجلاء بزوال الملكية. وتصاعد النفوذ الكهنوتي، في المجال الديني والسياسي. فراح الكهنة في أورشليم يضمّون في مجموعات منسّقة مختلف الشرائع والطقوس الدينية وأضافوا إليها ما يلائم حاجات الهيكل الثاني الذي بني ما بين السنة 520 و515.
ويتَّفق دارسو الكتاب المقدس على تقسيم سفر الأحبار إلى أربعة أقسام يليها فصل أخير (الفصل 37) يعتبرونه ملحقاً للكتاب.
القسم الأول (1- 7): يدور الحديث فيه على أصناف الذبائح التي يجب على العبراني أن يقرّبها لله. ويكفينا أن نعود إلى الكتاب نفسه للحصول على لائحة بأسماء هذه الذبائح.
أما القسم الثاني (8- 10): فيتبسّط في أمر تكريس الكهنة ووظيفتهم. فإنهم يظهرون بوضوح في مهمّتهم كوسطاء، وهذه المهمة تقتضي القداسة على وجه خاص، اذ عليهم أن يقوموا بدور الوسطاء بين الشعب والإله القدّوس.
القسم الثالث: (11-16): يتحدّث عن الطاهر والنجس، كي يعرف الانسان كيف يقترب من الله. ويُعَدّ الفصل 16 قلب الكتاب، فهو يصف خدمة يوم التكفير الرائعة، يوم الغفران العظيم، الذي سمي "الجمعة العظيمة المقدّسة بالنسبة إلى العهد القديم"، وهو اليوم الوحيد الذي كان عظيم الكهنة يدخل فيه إلى الهيكل لنيل غفران الخطايا. وسيستعين صاحب الرسالة إلى العبرانيين بهذه الخدمة الطقسية للتعبير عن ذبيحة المسيح.
القسم الرابع (17-26): وتسمى هذه الفصول "شريعة القداسة". بما أن الرب إله حي وقدّوس، فعلى الشعب الذي اختاره وخصّ به نفسه وقدّسه أن يطلب كلّ ما يساعده على الاتصال بالله.
نستنتج من هذه القراءة السريعة لسفر الأحبار، أهـمية الذبائح وطقوسها أولا. فالذبيحة تخوّل العبراني أن يتقرّب من الله وأن ينال بواسطتها رضى الله وبركاته. والكهنة هم الذين يقرّبون الذبائح. فالكهنوت أمر هام من حيث هو وساطة ما بين الناس والله، كا أن هذه الوساطة تقتضي القداسة على وجه خاص. وتمتاز هذه القداسة بالانفصال عن كل ما هو نجس للتقرب من الله. ولذلك يتوسّع سفر الأحبار في مختلف النجاسات التي تحول دون القيام بالواجبات التي تقع على عاتق الكهنة كوسطاء.
لا ينحصر الحديثُ عن الذبائح والكهنوت في العهد القديم على سفر الأحبار، فهنالك أسفار أخرى من التوراة والتاريخ والحكمة والأنبياء قد تطرّقت لمثل هذا الموضوع، لشدّة أهميته ومكانته في الكتاب المقدس عامة، إلا أن سفر الأحبار وتسميته اليونانية تدل عليه، يبقى السفر الذي تفرّد بالحديث عن الذبائح والكهنوت. فإن عدد المرات الكثيرة التي تُذكر فيها كلمةُ ذبيحة وكاهن في سفر الأحبار لأكبر برهان على أهميّة هذه المواضيع.
الكهنوت في العهد القديم
لو حاولنا أن نفكّر في سبب نشأة المؤسسة الكهنوتية، لوجدنا أن ما ترمي إليه هو العلاقة بين الأشخاص، وتقوم هذه العلاقة بين الأشخاص على علاقة أساسية حتى ولو لم تشعر بها شعوراً واضحاً، هي العلاقة مع الله، فهي تتغلغل في أعاق النفس وتشمل كلَّ مجالات الحياة.
إلا أن الشعوب القديمة عامة، وشعب الله خاصة قد شعروا بصعوبة الدخول في علاقة صحيحة مع الله، فالمسافة التي تفصل بين الإنسان والله هي شاسعة، وكيف تستطيع الخليقةُ الضعيفة أن تكون على صلة بالله القدوس؟ لقد اعترف الإنسان أن العلاقة مع الله هي غير ممكنة من دون تحوّل جذري في كيانه، تحوّل يراه عبوراً، من مستوى الحياة العاديّة إلى مستوى الحياة القدسيّة. فالله قدّوس، ولكي يَدخل الإنسان في علاقة معه، لا بدّ من شرط أساسي، وهو أن يكون هو نفسه أيضاً مقدّساً، ويكون ذلك بواسطة "التكريس".
فما كانت تقترحه طقوسُ العهد القديم هو حلّ طقسي، يقوم على نظام انفصالات طقسية. ليس للشعب ما يلزم من القداسة لكي يقترب من الله. ولو حاول الاقتراب منه لمات (خر 19/12 و23/3). ولذلك فُصل أحد الأسباط وكرّس لخدمة الله. وفي داخل هذا السبط، فصلت عائلة وكُرّست تكريساً خاصاً. ومن هذه العائلة اخذ الكاهن، وكان مكلّفاً بتأمين العلاقات الصالحة ما بين الشعب والله. كان الكاهن يُفصل من العالم الأرضي بواسطة تكريس يُدخله في عالم القدسيات. ورد في سفري الخروج والأحبار (خر وأح 8- 9) وصف دقيق لهذا التكريس: فهناك غسل طقسي للتطهّر من كل ما هو غير مقدس، ومسحة تسم الإنسان بالقداسة، وثياب خاصة تعبّر عن انتماء الإنسان إلى عالم القدسيات، وذبائح تكريس. فعلى الإنسان الذي نال "القداسة" أن يحافظ عليها بدقة. وهناك فرائض صارمة تُرغم الكاهن على تجنّب كل ما من شأنه أن يُرجعَه إلى عالم غير مقدَّس (21/10- 15). فإن خالف تلك الفرائض، لم يعد يستطيع أن يقترب من الله.
ولقاءُ الإنسان بالله مرتبط أيضاً بشروط أخرى، فهو لا يلتقي الله في أي مكان، بل في مكان مقدّس. ففي هذه الحال أيضاً، تبدو المسألة انفصالاً، لأن المكان المقدس هو مجال خاص بالطقوس، ولا يُسمح للشعب أن يقترب منه. وعلى الكاهن، إذا أراد الدخول إلى المكان المقدّس، أن يمارس طقوساً معيّنة، وأهمها "الذبيحة".
وعلينا أن نتعمّق في مفهوم كلمة "ذبيحة". إنها تعني خاصة التحويل، أي جعل الشيء مقدّساً. فالذبيحة هي عمل طقسي يَنقل الإنسانَ من العالم العادي إلى عالم القدسيّات.
لماذا على الكاهن أن يقرّب الذبائح؟ لأنه لا يستطيع على الاطلاق أن يعبر هو بنفسه إلى العالم الإلهي. فبالرغم من تكريسه، لا يزال إنساناً أرضياً. فعليه إذا أن يختار كائناً حيّاً قادراً على مثل هذا العبور. والطقوس تفرض عليه تقريب الحيوانات التي لا عيب فيها. والحيوان يُنتزع ويُفصَل من العالم العادي، لأنه يُذبَح ويقرّب على مذبح الهيكل. ويُحرَق فيَصعد إلى السماء متحوّلاً إلى دخان (1/9 و17 الخ)، أو يُرش دمه نحو عرش الله في السماء (16/14-15).
هذا ما توصّلت إليه الطقوس القديمة في ميدان الوساطة. كانوا يسعون وراء شكل فريد عن التكريس، وكانوا يحصلون على هذا التحقيق عن طريق جموعة من انفصالات طقسية: فيُفصل الكاهنُ عن الشعب لكي يكون في خدمة الطقوس، ويغادر المكان الاعتيادي، لكي يدخل في المكان المقدس، ويَترك أعماله العادية ليقوم باحتفالات قدسيّة، وتنفصل تقادمه الذبائحية عن الحياة الأرضية لتصعد إلى الله.
بعد هذه الحركة التصاعدية، القائمة على انفصالات متعاقبة، يتوقَّع الإنسان حركة تنازلية تحمل معها الرضى الالهي وعطاياه. فإن نالت الذبيحة رضا الله، كانت الضحية مقبولة. فيدخل الكاهن الذي قرَّبها في صلة بالله وتُستجاب صلواته. والشعب الممثَّل بالكاهن هو نفسه في علاقة جيدة مع الله وينال النعم التي ينتظرها.
يسوع المسيح وكهنوت العهد القديم
ما هي العلاقات التي أقامتها جماعة المؤمنين ما بين حياة يسوع البشرية والمؤسسة الكهنوتية القديمة، كما وصفناها سابقاً؟ في الحقيقة ليس هناك من علاقة مباشرة، فإن يسوع لا ينتمي إلى هذه المؤسسة الكهنوتية، ولا يندرج فيها نشاطُه الرسولي. ولكن أليس موت يسوع ذبيحة وتقدمة كهنوتية؟ أو لم يلحق يسوع بالكهنوت في موته؟ هذا هو السؤال الذي طرحه مؤلف الرسالة إلى العبرانيين محاولاً التعمّق في فصح المسيح.
إن الرسالة إلى العبرانيين، بإدخالها موضوع الكهنوت وكهنوت المسيح في الإيمان المسيحي، أدخلت بُعداً جديداً في العهد الجديد قد حمل المسيحيين على التعمّق في إيمانهم وذلك إنطلاقاً من سؤال جديد في حياتهم.
كان عدم التطرّق إلى موضوع الكهنوت أمراً عادياً في المراحل الأولى من الكرازة، إلا أن عدم التطرق إلى موضوع الكهنوت كان أمراً قد يُسيء إلى الإيمان المسيحي. فهل كانت المسيحية ديانة دون كهنوت؟ وهل كان المسيحيّون يؤلّفون جماعةً لا تحتاج إلى كاهن؟ فالإيمان المسيحي يعلن أن المسيح قد حقّق الكتاب المقدس ومخطط الله الخلاصي الذي أعلن عنه في العهد القديم. والكهنوت كما نعلم هو بُعد هام من أبعاد العهد القديم.
أهمية المؤسسة الكهنوتية في العهد القديم
حين نقرأ العهد القديم، تظهر لنا بوضوح أهمية المؤسسة الكهنوتية، فالشريعة الموسوية تولي تنظيم الطقوس والكهنوت شأناً كبيراً (خر 25- 31 و35- 40 وأح 1- 10 و16- 17 و21- 24 وعد 3- 4 و8 و15- 19). أما كتب التاريخ فإننا نلاحظ فيها أن شأن عظيم الكهنة أخذ يزداد شيئاً فشيئاً وأصبح بعد الجلاء رئيس الأمة الوحيدة جامعاً في شخصه بين السلطة الدينية والسلطة السياسية (سي 50/1- 4). وفي القرن الثاني قبل المسيح، كان الثائر على السلوقيين عائلة كهنوتية، وكان السبب القاهر في هذه الثورة سبباً كهنوتياً، وهو الرفض القاطع لتدنيس الهيكل عن يد الوثنيين، فكان لا بد من إعادة تنظيم الطقوس اللائقة بالإله الحق (1 مك 1- 2 و4/36- 59). وكان من نجاح هذه الثورة أن تلك العائلة الكهنوتية قد رُفعت إلى الحكم وتمّ التأكيد مرة أخرى على أهمية الكهنوت. وفي زمن المسيح، كان رئيس الكهنة السلطة العليا في الأمة، يرأس مجلس اليهود الذي كان الرومان يعترفون به سلطة محليّة.
الكهنوت ما بين الرفض والتجديد
إن طموح بعض الكهنة وتصرّفاتهم التعسّفية قد حملت بعض الناس على الوقوف منهم موقفَ الرفض (2 مك 4). لكن ما لم يكن بإمكان الناس أن يشكّوا فيه هو بُعد الكهنوت الإلهي. فكان الكهنوت أمراً أكّدته لا شريعة موسى فقط، بل الأنبياء الذين انتقدوا الكهنة وطقوسهم أيضاً (هو 5/1 و8/13 وعا 5/21- 25 وملا 2/1- 9 وأش 1/10 وإر 2/8). لقد ذهب إرميا إلى أبعد ما يمكن من الشجاعة وذلك بتنبّئه بخراب الهيكل (إر 7/12- 14). إلا أنه تنبّا أيضاً باسم الله بأن اللاويين سيكون لهم من يخلفهم لتقريب الذبائح (إر 33/18- 22). وقد أكد ابن سيراخ أن لكهنوت هارون ضمانات عهد أبدي (سي 45/7 و15 و34- 25).
ونتيجة لذلك، فعندما كان الحديث يدور على تحقق التدبير الإلهي في أيام المشيح، كان يُذكرَ أيضاً تجددُ الكهنوت (ملا 3/3). وهناك عدة كتابات من القرن الأول قبل المسيح تؤكّد على أن الشعب كان ينتظر كاهناً للأزمنة الأخيرة. وقد كشفت مخطوطات قمران، بوجه خاص، عن عدة نصوص تذكر هذا الموضوع. وكان هذا الانتظار أمراً اعتيادياً، لأنه كان لابد لهذا التحقق النهائي أن يشمل العناصر الأساسية في التدبير الالهي الخلاصي. ولا شك ان الوساطة الكهنوتية هي إحدى هذه العناصر الأساسية.
تحقق التدبير الإلهي في المسيح والكهنوت
إن كان المسيح هو التحققُ النهائي للتدبير الالهي في نظر المسيحيين، فلا بد لهم أن يطرحوا السؤال التالي: هل للتحقق الذي قام به المسيح من بُعد كهنوتي؟
إن الإجابة على مثل هذا السؤال هي أمر دقيق وعسير، والوصول إلى إجابة مقنعة تتطلب الولوج إلى الأعماق. هذا ما فعله كاتب الرسالة إلى العبرانيين، انطلاقاً من تجربته الإيمانية.
فبدل أن يتوقف عند ما في الطقوس القديمة من فرائض شكلية، أخضع هذه الطقوس لتحليل دقيق، انطلاقاً من الكتاب المقدس نفسه. يقودنا هذا التحليل إلى التمييز في الطقوس القديمة بين الرؤية الأساسية وتطبيقها على الواقع. لا شك أن الرؤية الأساسية في الكهنوت لا تخلو من قيمة، إلا أن تطبيقها كان ضعيفاً، بسبب عجز الإنسان عنه. والعهد القديم نفسه يشهد على هذا الأمر.
فكاتب العبرانيين حاول أن يفكر في سر المسيح، فسبر غور واقع الأحداث، واكتشف أن المسيح أخذ على عاتقه رؤية الكهنوت الأساسية وبلغ بها إلى غايتها. وهذا الجهد المزدوج في التفكير أي النظر في أسس كهنوت العهد القديم وتحققها في المسيح، هو سبب تغيير في العقلية حول أمور عديدة. فلا بد من ترك صورة الكهنوت القديمة واتخاذ مفهوم جديد لها. ومن جهة أخرى، اكتسب سر المسيح شكلاً فريداً من الوضوح، استناداً إلى هذه الرؤية الجديدة.
تؤكد الرسالة إلى العبرانيين على أن المسيح نقلنا من طقوس خارجية وغير فعّالة وهامشية بالنسبة إلى الحياة، إلى قربان يستوعب حقيقة وجودنا ومجوّلها تحويلاً عميقاً، في انفتاح بنوي أمام الآب وفي تضامن أخوي مع كل إنسان.
خاتمة واستنتاجات
يقول أحد مفتر الكتاب المقدس المعاصرين: باستطاعتنا أن نلخّص سيرة الكتاب المقدس لكامله انطلاقاً من فكرة الذبائح. فالإنسان منذ بدء الخليقة مجاول أن يقدّم الذبائح لإرضاء الألوهة. إنه يتقدَم من الله بربوات الحيوانات من ماشيته وببواكبر محصولاته ويتساءل حتى عن ضرورة بذل وحيده، لكن الله يجيبه مرة تلو المرة محاولاً تربية قلبه على نوع آخر من الذبائح (راجع مي 6/6- 8). إن الرب يرفض الذلائح المادية البحتة، ويرفض محاولة الإنسان وضع يده على الله لإرضائه بهذه الذبائح. وبكلمة يقول له: إجعل من حياتك ذبيحة، ولا تحاول أن ترضيني بحلول كاذبة لا تدخلك في علاقة صادقة معي ومع إخوتك.
إن كاتب الرسالة إلى العبرانيين قد ساعدنا على أن نفهم كيف أن يسوع المسيح ينقلنا من الكهنوت القديم إلى الكهنوت الجديد، ومن ذبائح طقسية وخارجية إلى ذبيحة توحّد حياتنا وتفتحنا بشكل جذري على الله أبينا وعلى البشر إخوتنا.
توحيد حياتنا! أليس هذا ما نصبو إليه. أليس هذا ما تتوقُ إليه جوارحنا؟ أليست هذا ما سعت إليه ذبائح العهد القديم وكهنوته؟ إقامة علاقات صحيحة مع الله ومع الآخرين! ومن يحرر الإنسان من عقدة الذنب والخطيئة؟ ومن يُخرج الإنسان من غزلته ويأسه؟ إن في يسوع المسيح سر هذه الوحدة وفيه سر هذا التحرر، وقد حاول مؤلف العبرانيين أن يساعد المسيحيين على فهم ذلك في أيامهم ويساعدنا اليوم أيضاً على أن نتعمّق أكثر فأكثر في متطلبات ايماننا التي تصهرنا في دينامية توحيدية يوماً بعد يوم.
إن الأسلوب الأدبي الذي إتَّبعه مؤلف الرسالة إلى العبرانيين لهو أولاً منهجية مسيحية إن أمكن القول. فعظته بكاملها تقوم على جدلية التعليم اللاهوتي والتطبيقي الأخلاقي، وكلنا يغلم اليوم النقاشات الدائرة حول النظري والعملي في العلوم الفلسفية والسياسية واللاهوتية. ومنهجية الأسلوب الأدبي في العبرانيين تقول لنا أن كل تعمّق في سر المسيح هو في سبيل التزام واقعي وفعّال في هذا العالم، وكل تأصل في هذا العالم وصراعاته يرجعنا بالضرورة إلى تساؤل حول معاني إيماننا. في إيماننا المسيحي، وفي موت المسيح وقيامته، في تدخل الله بشكل نهائي في الوجود الإنساني، انفتح النظري على العملي، وعلينا كمسيحيين أن نكون المؤتمنين على مثل هذه المسؤولية في عالم اليوم، فلا نقبل التقوقع في رؤى ونظريات ومعتقدات بالية، ونرفض أن يكون التزامنا فارغاً من كل معنى ومن كل ديناميّة خلاصية لنا وللعالم. فلنكن موحّدين. ولنحاول دائماً على مثال الذين نقلوا إلينا الوحي، ألا ننفصل بين المعاني اللاهوتية والمواقف الأخلاقية.
نستنتج من قرائتنا لسفر الأحبار في ضوء الرسالة إلى العبرانيين جدلية ثانية ونلخّصها في كلمتين: انفصال/ تضامن.
كان الكهنوت القديم قائماً كما رأينا على سلسلة من الانفصالات التي كان على الكاهن أن يحققها كي يدخل في مجال القداسة لإرضاء الالوهة (إنفصال السبط، انفصال مجموعة منه، انفصال شخص منه، انفصال المكان، انفصال الحيوان...) أما في العهد الجديد، وفي كهنوت المسيح بصورة خاصة، فلدينا انقلاب في المقاييس ودخول في منطق جديد. فعوضاً عن طقوس الانفصالات التي تحدّثنا عنها بإسهاب، يُدخلنا يسوع في منطق التضامن الجذري، وهذا التضامن هو قوّة توحيدية وتحررية. كان الكاهن في العهد القديم ينفصل عن كل النجاسات ليدخل في مجال القداسة، أمّا يسوع فقد اتخذ طريقاً معاكساً. لقد تضامن معنا حتى الموت الذي يعتبر نجاسة النجاسات في سفر الأحبار. وهل ننسى في هذا المقام كلمة القديس بولس: "ذاك الذي لم يعرف الخطيئة جعله الله خطيئة من أجلنا كيما نصير فيه برّ الله" (2 قور 5/21). لقد تضامن يسوع مع أخيه الانسان إلى أقصى درجات التضامن، وهو لا يستحي أن يدعونا اخوة له على حد قول الرسالة الى العبرانيين (2/11). لقد اتحد يسوع بالانسانية وصار جزءاً منها، وعانى كل ما تعانيه من انقسامات ورفض وتمرّد، ولكن يسوع في هذه المعاناة فتح أمامنا دروب الأمانة لله الآب. فالانسان يحاول دائماً أن يغشّ في أمانته لله وفي تضامنه مع إخوته، فهو إما يخدم الالوهة على حساب الأخوة، وإما يلتزم مع الإخوة ناسياً مصدر الحب ومتطلباته. في يسوع المسيح يتحد وجودنا، نحن في تضامن مع إخوتنا، نعيش الرحمة كما عاشها ولكن في الوقت نفسه نقف موقف الأمانة مع يسوع الابن أمام الآب. فكاتب الرسالة الى العبرانيين، يصف يسوع على أنّه المؤتمن على كل البيت، لكونه ابناً (3/6)، فهو الأمين وفي أمانته وبنوّته علمنا نقف بثقة أمام الله أبينا.
إن كهنوتنا، ولكل مسيحي نصيب من كهنوت المسيح، يدعونا إلى أن نعي أن على ذبائحنا أن تتجسد في التضامن الأخوي تحت أشكاله المختلفة، وهذا التضامن هو شرط من شروط الأمانة والبنوة في انفتاح جذري أمام الله أبينا. فلا ننسى، فمع يسوع نحمل في يد الأمانة ونجعل اليد الأخرى تمتد دوماً للتضامن.
وأخيراً، دعنا نفكّر في ضوء ما قلنا حول كهنوت العهد القديم وذبائحه في جدلية ثالثة وأخيرة.
هل نغيّر الله بذبائحنا أم هو الذي يحوّل قلوبنا في فصح المسيح؟ كم من مرة تعلِّمنا الخبرةُ الرعوية أن المسيحي، وهو انسان مثل باقي البشر، يحاولُ دوماً في صلاة التوسل أو في الاحسان الذي هو نوع من الذبيحة، أن يغيّر الله كي ينال منه العطايا. أليس هذا هـو منطقُ كهنوت العهد القديم وذبائحه؟ ولكن الله منذ القدم، رفض مثلَ هذه الذبائح وحضر قلب الانسان وزرع فيه عطشاً إلى ذبيحة وكهنوت من نوع آخر. ففي يسوع المسيح ينفتح قلبُ الانسان على قلب الله، فيسوع نفسه هو الكاهن والذبيحة، وهو المقرِّب والمقرَّب كما تقول الليتورجيا. في يسوع المسيح ندخل في ذبيحة التسبيح، وفي هذه الذبيحة الفصحية تتحوّل حياتنا الى عبور دائم، من كل أنواع العنف والحقد التي تهدد حياتنا الى مصالحة تدعو جيع الشعوب الى السير في طريق الوحدة والمصالحة.
الأب أنطوان أودو اليسوعي
استاذ الدروس البيبلية في الجامعة اليسوعية
وفي جامعة الكسليك

Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM