الفصل الثامن: الانتيكرست أو المناوئ للمسيح

الفصل الثامن
الانتيكرست أو المناوئ للمسيح
2: 1- 12
رغم الشكوك حوله صحّة نسبة 2 تس إلى بولس، فما زال عدد كبير ثمن الشرّاح ينسب إلى بولس 2 تس التي دوّنت من كورنتوس سنة 51، وذلك بضعة أشهر بعد تدوين 1 تس. هناك اختلاف بسيط بين الرسالتين. تفيض 1 تس لطفاً وعاطفة محبّة. أما 2 تس فتظهر بشكل تدخّل ظرفيّ فيها يبدو الرسول رئيس الجماعة الذي يكتب ليعيد النظام ويرضح الحقيقة. أما المستوى التعليمي فهو هو في الرسالتين: نجد في الأفق مجيء الربّ الذي يُشرف على فكر بولس ويوجّهه.
1- مدخل إلى النصّ
أ- السياق
تنقسم 2 تس ثلاثة أقسام.
أولاً: شكر وثناء، ودعاء (1: 3- 12)
بعد العنوان والتحيّه (1: 1- 2) يبدأ الرسول كلامه بشكل غير مباشر. في جملة طويلة (آ 3- 10) يحدّد موقع مراسليه بالنسبة إلى انتظار دينونة الله العادلة وبالنسبة إلى ملكوت الله (آ 5) الذي هو السماء عند بولس. ويقابل بين مصير المضطهدين الذين "سيعاقبون بالهلاك الأبدي" (آ 9) لأن انتقام الله يلاحقهم (آ 8)، ومصير المؤمنين الذي سيكون راحة (آ 7) ومجداً (آ 13) أمام وجه الربّ عندما يأتي ذلك اليوم (آ 15) ويظهر مجد قدرته (آ 9).
ثانياً: مجيء الربّ (2: 1- 3: 6)
بعد هذه المقدمة، دخل بولس في موضوع رسالته. حصلت بلبلة في تسالونيكي حول مجيء ربنا يسوع المسيح وبحمّعنا لديه. وظنّ عدد من الناس أن يوم الربّ قد أتى (2: 1- 3 أ). لم يقولوا إنه "قريب"، بل "وصل، حلّ". هذا لا يعني أن المسيح قد عاد، لأن ذلك اليوم يبدأ بعلامات سابقة تنبئ به.
نبّه بولس المؤمنين وشرح لهم لماذا يخطئون حين يظنّون أن "اليوم" قد "أتى، حل". لما كان في تسالونيكي علّمهم أن هناك علامتين لا بدّ أن تحصلا قبل عودة المسيح: الجحود، وظهور إنسان الاثم (آ 3 ب- 5).
وفسّر الرسول بعد ذلك تأخّر المجيء. ما يمنع ظهوره هو شخص أو شيء. وحين يزول العائق، يظهر إنسان الاثم فيمحقه الربّ (آ 6- 8).
كان بولس قد تحدّث أولاً عن إنسان الاثم على أنه يناوئ الله، يعارض الله (آ 4). وها هو يعود إلى هذا الوجه النحس فيعطيه سمات الانتيكرست، المناوئ للمسيح. فهو يقود إلى الهلال أولئك الذين لا يملكون حبّ الحقيقة، وأخذوا جانب الشرّ (آ 9- 12).
ويقابل الرسول بين مصير الهالكين ومصير الذين اختارهم الله منذ بداية العالم لاقتناء المجد، فتعزّوا وتثبّتوا في الرجاء السعيد (آ 13- 17). ويختتم بولس هذا القسم الثاني بإرشاد حول السهر والصلاة (3: 1- 6).
ثالثاً: أهل البلبة والكسل (3: 7- 15)
وظلّت نقطه دقيقة وجب على الرسول أن يحسمها: هناك اخوة مبلبلين ومتكاسلين يقلقون الجماعة: فوبّخهم بولس بقساوة.
وفي النهاية، وحسب عادة نجدها في جميع الرسائل البولسيّة، أنهى الرسول كلامه بصلاة طلب فيها من الربّ أن يمنح مؤمنيه السلام، وبمباركة يدعو فيها نعمة الربّ لتكون "معكم أجمعين".
ب- الفن الأدبي
يرتبط المقطع الذي نتوقّف عنده بالفن الجلياني (كما في سفر الرؤيا). فمنذ سفر دانيال (168 ق. م.)، اعتاد اليهود على هذا العالم اللابيبلي في طريقته لعرض التاريخ كلّه: الماضي والحاضر والمستقبل. لا يتدخّل الماضي والحاضر إلاّ من أجل تعليم للأزمنة المقبلة. ولا سيّما تدخّل الله في نهاية الأزمنة. وبيّنت وثائق قمران كم اهتمّ اليهود بهذا الأدب. من كتب هذه الجماعة: "حرب أبناء النور ضد أبناء الظلمة" في اليوم الأخير. وهناك "سفر أخنوخ"، و"وصيّات الاباء الاثني العشر"، و"الكتب السيبليّة"، و"سفر عزرا الرابع". كلها تشكّل خلفيّة تساعدنا على تحديد الاطار الجليانيّ الذي أفادت منه الكنيسة الأولى.
الرؤيا هي وحي رمزي عن أمانة الله في المستقبل القريب والبعيد. يعود الكاتب إلى الماضي ويقرأ فيه الأحداث على ضوء كلمة الله. الله هو الفاعل الحقيقي من خلال تصرّفات البشر (والملوك) في التاريخ. هنا نعود إلى سفر دانيال الذي دوّن في القرن الثاني فذكر أموراً حصلت في القرون السابقة، منذ "نبوكدنصر" ودمار أورشليم سنة 587. إن تمثال الذهب والفضة والنحاس والحديد والطين الذي يتحطّم بفعل حجر صغير، يدلّ على دمار ممالك الأرض، ومجيء ملكوت لا ينتهي (دا 2: 14- 45). أما الحيوانات الأربعة فدلّت على ممالك أربع في الماضي وفي الحاضر. أما ابن الانسان فيمثّل شعب القديسين (دا 7: 1- 28). وأخيراً، تشكّل نبوءة السبعين أسبوعاً ذروة سفر دانيال (9: 1- 11: 39).
لا شكّ في أن العهد الجديد استلهم الأدب الجلياني اليهودي. فهناك سفر الرؤيا، والخطبة الاسكاتولوجيّة في الأناجيل الإزائية (مر 13؛ مت 24- 25؛ لو 21: 5- 36)، والمقطع الذي ندرس الآن. ولكننا لا نجد عنصر النظر في الخطبة الاسكاتولوجية وفي 2 تس، وهو عنصر يميّز هذا الفن الأدبي.
ج- محطات هذا المقطع
نجد ثلاث محطّات في هذا المقطع الذي نستطيع أن نقسمه ثلاثة أقسام: يوم الربّ، الجحود، الانتيكرست.
الأول: علامات يوم الرب. الجحود والاثم (2: 1- 5)
يشير النص بوضوح إلى موضوع المقطوعة. نحن أمام المجيء واجتماعنا بيسوع المسيح. ويبدأ جواب بولس مع "لا تكونوا سريعي التزعز" (آ 2). طلب بولس من المؤمنين أن لا يضطربوا، أن لا يقلقوا. وأشار إلى ثلاثة ينابيع ممكنة لهذا القلق: الروح (بنفما)، كلمة الوغوس)، رسالة (ابستولي) وصلت من الرسول. ويشير بولس إلى سبب هذه البلبلة مع جملة تقول: "كأن (لأن، على أن) يوم الربّ جاء" (آ 2). وقال بولس: لا يقلقكم أحد.
ويبدأ بولس جملته في آ 3. "لا يخدعكم أحد بوجه من الوجوه". فإن لم يأتِ أولاً الجحود، وإن لم يظهر إنسان الاثم، فلا خوف من أي شيء. وتتتابع الجملة فتصوّر الاثم. وفي النهاية يتوجّه بولس إلى مراسليه، فيذكّرهم أنه سبق وقال لهم هذه الأشياء.
الثاني: تفسير تأخير مجيء الربّ: العائق (2: 6- 8 أ)
لم يظهر بعد رجل الاثم، لم يكشف عن وجهه. لم تحصل العلامة. لماذا؟ لأن شيئاً أو شخصاً (كاتيكون، العائق) يمنع هذا الظهور، يعيقه. فللمناوئ للمسيح (انتيكرست) ساعة أو زمن حدّده الله. فالتاريخ والزمن هما في يد الله القديرة كل شيء يعود إلى الربّ، كما تقول النصوص الجليانيّة آ 11، هو الله يرسل قوّة ضلال تجعل الناس يصدّقون الكذب. ويتوسّع كل شيء حسب معرفة الله السابقة وتدبيره السابق. لسنا بعدُ في تلك الساعة، لأن هناك ما يعيق.
من الخطأ أن نقول إن العائق يعمل في الانتيكرست، فنقول: ما يعيقه، ما يجعل حاجزاً أمامه. عند ذاك نزيد الضمير الذي ليس بموجود في النص لا في آ 6 (كما يعوق، لا ما يعوقه) ولا في آ 7 (ما يعوق، العائق). لقد ميّز بولس تمييزاً واضحاً بين زمن الظهور والعمل الخفيّ والعميق الذي يعمله سر الاثم. هذا السرّ يعمل الآن. إنه يحرك قوّة تتعدّى قوّة البشر. ستقابلها قوّة عمل الله في آ 11. غير أن هناك ما يتوسّط هاتين القوّتين: قوّة الشيطان التي بها يظهر الانتيكرست ويجيء. فما يُعمل في الظلّ، في الخفاء، هو الاثم، هو العداء الجذري لله والمسيح، هو عمل إبليس. وقد يكون حصل ظهور إنسان الخطيئة لو لم يعق عائقٌ هذه القوّة الشيطانيّة من الظهور في وضح النهار.
هذا مستحيل الآن. وهو أثر يعرفه التسالونيكيّون. ولكن يأتي يوم تزول هذه القوة المناوئة للشيطان، فيظهر الاثم. هذا هو المعنى الأساسي لهذه الآيات التي سنفسّرها في ما بعد.
الثالث: مجيء الانتيكرست ومجيء الربّ (2: 8 ب- 12)
حين يقدّم بولس تعليماً، فهو لا يقدّم نظريات وحسب، وهو لا يريد أن يرضي فصولنا. إنه رسول ورجل عمل. لهذا فهو يُسقط تعليمه الرفيع والاسكاتولوجي على عالمنا الضيّق وداخل الظروف الشخصيّة لسامعين يتوجّه إليهم. فبعد أن شرح أن ظهور إنسان الاثم (الخطيئة) قد أعاقه "عائق"، شاهدَ اليوم الذي فيه تصل قوى الشرّ الهائجة إلى الصراع الكبير. هذا موضوع قديم في رؤى العهد القديم، وهو يتواجد في كل التقليد الجلياني.
بدا بولس متحفّظاً في تصويره. لا شكّ في أنه يدخل بشكل واضح إبليس، رئيس (اركون) هذا العالم (1 كور 2: 6). يرى "قدرته" تمالأ مجيء الاثم، يمنحه نسمته، روحه، قوته، علاماته، معجزاته. يرى الاثم ينجح في جرّ تبّاع الكذب إلى الدمار. ولكن سوف نرى البهاء في هذه المعارضة للمسيح الذي يتلخّص عمله ببعض كلمات مأخوذة من العهد القديم: يبيده بنفخة فمه. يلاشيه بسنى مجيئه (آ 8 ب).
هذه الآية التي تعلن النصر مسبقاً، هي في الوقت عينه نشيد للمسيح المنتصر. وهي تدلّ على عمق في النظرة إلى المسؤوليّة الفرديّة. فقاعدة الدينونة، والخطّ الفاصل في اليوم الأخير، هما حبّ الحقّ. فالذي مال إرادياً عن النور، صار لقمة سائغة في يد الضلال والخداع، وصار حزب الشرّ. حينئذ "يتركه" الله يقع في العقاب الذي هيأه لنفسه. وهكذا نجد أن هذه القطعة التي أرادت أن تهدئ الأفكار السلبية، قدّمت لنا في النهاية غذاء روحياً حيث خبز الحقيقة والمحبّة يسند المعمّدين الجدد في عالم من الكفر يضطهدهم.
2- تفسير النصّ
بعد هذه النظرة العامة إلى النصّ، نبدأ بتفسيره. ونقسم تفسيرنا ثلاثة أقسام: علامات يوم الربّ. تأخر المجيء. ظهور الانتيكرست.
أ- علامات يوم الربّ (آ 1- 5)
أولاً: يوم الرب (آ 1- 3 أ)
"يوم الرب" هو لفظة معروفة لدى الأنبياء منذ عاموس (5: 18- 20). وهو يوم ظهوره الأخير. استعاد يسوع هذه العبارة في مناسبات مختلفة ليدلّ على هذا المعنى. نقرأ في نهاية عظة الجبل: "كثيرون سيقولون لي في ذلك اليوم" (مت 7: 22) أي يوم الدينونة. وقال يسوع في نهاية التطويبات: "إفرحوا في ذلك اليوم وتهلّلوا لأن أجركم سيكون عظيماً في السماء" (لو 6: 23؛ رج 10: 12). في 1 تسى 5: 4 يتحدّث بولس عن "اليوم"، وفي 2 تس 1: 10 عن "ذلك اليوم"، وفي 1 تس 5: 2؛ 2 تس 2: 2 عن "يوم الربّ".
هكذا انتقلت العبارة من العالم اليهوديّ إلى العالم المسيحيّ. صارت: "يوم الربّ" في 1 تس، 2 تس. و "يوم ربنا يسوع المسيح" في 1 كور 1: 8؛ رج 2 كور 1: 14. وهكذا صرنا أمام عبارة مقبولة بحيث كتب بولس: "سيأتي اليوم... الليلة" (1 تس 5: 2).
هو يوم مجيء ربنا يسوع المسيح وجمعنا لديه. المجيء "باروسيا" يرد مراراً في العهد الجديد: 24 مرة. منها 14 عند بولس، 4 عند مت، 2 عند يع، 3 في 2 بط، مرة واحدة في 1 يو. إنه يدلّ على الحضور والوصول (أو: المجيء). انتشرت اللفظة انتشاراً واسعاً في العالم الهليني فدلّت على "دخول مبهج" للملك أو الامبراطور. وفي المعنى الديني، على ظهور خارق لسلطة الالهة، على وصولهم إلى الدوائر السماويّة.
أما لفظة "باروسيا" في معناها الدقيق فنجدها في 1 تس 2: 19 (أمام ربّنا يسوع المسيح عند مجيئه)؛ 3: 13 (عند مجيء ربّنا يسوع المسيح)؛ 4: 15 (مجيء الربّ)؛ 5: 23 (مجيء ربّنا يسوع المسيح)؛ 2 تس 2: 1، 8 (مجيء ربّنا يسوع المسيح، سنى مجيئه). هي تعود إلى المسيح على أنه الرب. أما في 2 تس 2: 9 فتعود إلى "المنافق" (انوموس). رج 1 كور 15: 23 (باكورة الذين للمسيح عند مجيئه)؛ مت 24: 3، 27، 37- 39؛ يع 5: 7، 8؛ 2 بط 1: 16؛ 3: 4، 12؛ 1 يو 2: 28.
كلمة هامة. ترافقها تعابير تدلّ على ألقاب يسوع. وترتبط بتجلّيات ساطعة: الفرح، إكليل الفخر، المجد (1 تس 2: 19)، جوق القديسين (1 تس 3: 13)، حضور القائم من الموت، حضور الأحياء (1 تس 4: 15)، القديسين (1 تس 5: 23). هذا يتمّ مع اجتماعنا بالربّ (2 تس 2: 1) الذي يحصل بعد صعود الاجساد المنبعثة للقائه على السحاب، في الهواء (1 تس 4: 17).
إن الاجتماع بالربّ يرتبط بالمجيء. وتجمّع اليهود في نهاية الأزمنة هو موضوع من المواضيع الجليانيّة. نقرأ في سي 36: 10: "إجمع كل قبائل يعقوب، وأعطهم حصتهم كما في البدء". ويما أش 27: 13: "وفي ذلك اليوم يُنفخ في بوق عظيم، فيجيء المشتّتون في أرض أشور، والمشرّدون في أرض مصر، ويسجدون للربّ على الجبل، في أورشليم". وفي 2 مك 2: 7: "فلما علم إرميا بذلك لامهم وقال لهم: هذا الموضع سيبقى مجهولاً إلى أن يجمع الله شمل شعبه ويرحمهم".
أما لفظة "أبيسيناغوغي" (جمع) فلا ترد إلاّ هنا في رسائل بولس، وفي عب 10: 25 (لا تهجروا اجتماعكم الخاص). أما استعمال الفعل "أبيسيناغو" الذي نجده في مواضع أخرى، فهو سيعيننا على تحديد موضع الاسم. "حينئذ يرسل الملائكة ويجمع مختاريه من مهاب الرياح الأربعة، مات أقصى الأرض إلى أقصى السماء" (مر 13: 27). "يرسل ملائكته بالبوق العظيم، فيجمعون مختاريه من مهاب الرياح الأربعة، من أقصى السماوات إلى أقصاها" (مت 24: 31).
إذن، لا نفصل بين المجيء (باروسيا) والاجتماع الأخير. فكلاهما يشكّلان حدثاً واحداً. ومجيء الربّ لا يكون حدثاً تاريخياً كما هو الأمر بالنسبة إلى نهاية أورشليم ودمارها.
"لا تتزعزعوا ولا ترتاعوا". إن مناسبة تدخّل الرسول هو البلبلة المزروعة في قلب الجماعة. تزعزعَ المؤمنون كالشجر في مهبّ الريح والعاصفة، وعرفرا البلبلة. يبدو أن بولس يستعيد هنا قولاً للربّ بمناسبة الخطبة الاسكاتولوجيّة: لا تقلقوا، لا ترتاعوا (مر 13: 7؛ مت 24: 6).
أما ينابيع هذا القلق فهي ثلاثة: الروح أو وحي مزعوم. خطبة شفهيّة. رسالة اعتبرت آتية من عند الرسول (رج 3: 17). كل هذا يتعلّق بالحضور الحالي ليوم الربّ. هذا اليوم "هو هنا". لا "هو قريب" أو "يقترب" (فل 4: 5؛ روم 13: 2) (تناهى الليل واقترب النهار). بيد أننا لا نقول إن الربّ قد عاد. باب: إن الأحداث الغريبة التي تميّز يومه قد ظهرت. ويشير بولس إلى المبلبلين فينبّه المؤمنين: "لا يخدعكم أحد" (آ 3 أ).
ثانياً: الجحود وإنسان الاثم (آ 3- 5)
تذكّرنا آ 3- 5 بتعاليم تلقّاها المؤمنون سابقاً (آ 5: تذكرون أني قلت لكم ذلك). إذن، نحن أمام توجيهات أدخلها بولس في كرازته: لا يأتي ذلك اليوم دون أن يسبقه الجحود وإنسان الاثم.
إن لفظة "ابوستاسيا" (جحود) تعني في اليوناني الدنيويّ ثورة مدنية أو عسكريّة. وفي يونانيّة السبعينية: تمرّد على الله. رج يش 22: 22 (كنا نتمرّد على الربّ)؛ إر 2: 19؛ 2 أخ 28: 19؛ 33: 19؛ 1 مك 1: 15؛ 2: 19. في العهد الجديد، اتخذ الفعل مدلولاً دينياً. رج أع 5: 37؛ 15: 38؛ 19: 9؛ عب 3: 12. في 1 تم 4: 1، تدلّ اللفظة على البدعة والهرطقة (رج لو 8: 13). فحسب التعليم المعروف في العهد الجديد، ستزداد الهجمات ضد الحقيقة المسيحيّة فتدلّ على نهاية الأزمنة (مت 24: 11- 13). إذن، لسنا هنا أمام هرطقة، بل أمام ابتعاد عام عن الخلاص.
إن "رجل الاثم" يلعب دوراً هاماً في هذا التمرّد النهائي. يصوّره بولس هنا كالمناوئ لله. بعد ذلك سيقول: "المنافق". اعتبر شعب إسرائيل الشريعة على أنها الخير الأسمى، فصار وضع الذي بلا شريعة شخصاً مكروهاً ومناوئاً للشريعة.
في العالم اليهودي صار "انوموس" الوثني. وقالت "مزامير سليمان" (17: 18) هو: بومبيوس الروماني الذي دخل فلسطين سنة 63 ق. م. وجعل مت 7: 23 من "انوميا" مرادفاً للاثم (7: 23) الذي سيصل إلى ذروته في نهاية الأزمنة (مت 24: 12). وربط بولس "انوميا" بشكل واضح بتأثير شيطاني (2 كور 6: 14- 16).
إنسان الاثم هو "ابن الهلاك ". نحن أمام تعبير سامي قديم يدل على إنسان سيهلك، ويكون ملاكه أبدياً.
وزاد بولس على هاتين التسميتين صورة عن الدور الشائن الذين يقوم به هذا "الهالك": معارضته المليئة بالكبرياء لكل ما هو إلهي أو قدسيّ. هجومه على الهيكل. اعتداده بأنه إله. إذن، نحن أمام انسان كافر، متكبّر، مجذف (أترى نحن أمام تلميح إلى امبراطور روماني فرض على الناسق أن يعبدوا تمثاله؟ كاليغولا مثلاً أو غيره).
إن لفظة "المضاد" (ذاك الذي يضاد، يعارض) تدل على عدوّ الله (زك 3: 1: واقف ليقاوم)، على أعداء يسوع في نهاية الأزمنة (لو 21: 15: لا يقوى على مقاومتها)، على إبليس (1 تم 5: 14: فلا يكون للمقاوم مأخذ علينا) الذي قد يكون بولس قد فكّر فيه فذكره في ما بعد. ولفظة "المنتصب، المترفّع، الذي يقف" تدلّ على تأثير من دانيال (11: 36). فهناك مقابلة على مستوى الجملة مع "ما يُدعى إلهاً". أجل، نتجنّب أن ندعو إلهاً ما ليس بإله، ما هو إله كاذب.
إن الخصم، المقاوم، يعتبر نفسه أنه حقاً "إله": يريد أن يضع يده على الهيكل ويقدّم نفسه على أنه الإله. تلك هي ذروة المعارضة والكبرياء: إن رجل الاثم جعل نفسه إلهاً (رج حز 28: 2 وما قاله ملك صور: أنا إله وعلى عرش إله جلست). دْاك هو مرمى الصورة: اشتعل بولس غيرة فما عاد يعرف أن ينهي جملته. فال: "أما تذكرون أني كنت أقول لكم ذلك" (آ 5)؟
كل هذا قد وعظ به بولس التسالونيكيين. أعلن لهم مجيء يوم الربّ. ولكنه زاد: إن هذا الظهور يسبقه الجحود وإنسان الاثم. فحين يترك (يجحد) الناس الله، يكون جحودهم ظاهرة إسكاتولوجيّه تحدّث عنها عالم الجليان اليهوديّ. ثم إن الجحود صار شخصاً حياً. وإنسان الكفر هو الكافر، وإنسان الهلاك هو الهالك.
ب- تأخّر المجيء (آ 6- 8)
أمام تزعزع هذه الجماعة التي ظنّت أن "اليوم" قد جاء، شرح بولس لماذا يتأخّر المجيء. بدأ فأدخل شيئاً جديداً لم يذكره بعد. ما يوقفه هو "العائق". إنسان أو شيء. ولولا هذا العائق الذي سيزول، لكان إنسان الاثم ظهر. فالكافر جزء من سرّ الكفر، سرّ الاثم. ومجيئه يتحدّد في ساعة لا تحصل قبل زوال هذا "العائق".
إن السرّ الذي تحدّث عنه بولس يقابل سرّ الله الذي كُشف للرسل. ويرى بولس أن الشيطان هو الذي يحرّك النشاط المناوئ للمسيح: الشيطان هو أركون هذا العالم (يو 12: 13). هو إله في هذا الزمان (2 كور 4: 4). يوزّع قدرته على من يشاء (لو 4: 6). ويريد أن يخضع لسطانه الضمائر والقلوب (لو 4: 7؛ مت 4: 9). جرّب الربّ نفسه. وسيطرده يسوعَ مراراً. هو سيد الكفر والظلمة واللا أمانة والوثنيّة (2 كور 6: 14- 17). إنه يعارض الانجيل، ويعارض رسل الانجيل (1 تس 2: 18؛ 3: 5؛ 2 تس 2: 3).
ولكن ما هو أو من هو الذي يعوقه؟ نحن هنا أمام لغز ما زال يحيّر الشرّاح. قيل هو قوّة سياسيّة تحافظ على النظام. هو ميخائيل. هو الروح القدس. هو يسوع المسيح. هو النشاط الرسولي. ولكن كل هذه الحلول تصطدم باعتراض بسيط: لماذا كل هذا السرّ تجاه واقع بهذه البساطة؟ أعلن أوغسطينس جهله، ونحن أيضاً. سنقدّم في ما بعد تفسيراً قد يساعد على طرح المشكلة.
ج- ظهور الانتيكرست (آ 9- 12)
إن التأكيد على تأخّر المجيء يشكّل انتقالة بين صورة المناوئ لله والمناوئ للمسيح (انتيكرست). وسياقابل بولس بين مجيء الانتيكرست ومجيء المسيح. نلاحظ أولاً استعمال "باروسيا" المنسوبة إلى الكافر. كزّ بولس الصورة على صورة مجيء يسوع. غير أن هذه اللفظة لا تعني فقط: ظهور، مجيء. بل تتضمّن كل النشاط الذي تحقّق "بقوّة إبليس". ويصوّر بولس نشاط الانتيكرست في ثلاث لحظات (آ 9- 10 أ): هو يعمل بقوة الشيطان. وتظهر هذه القوة بعلامات ومعجزات كاذبة. مثل هذه الأعمال تجرّ الناس إلى الشرّ.
ونلاحظ أيضاً كلمات تصدمنا: "انارغايا". لفظة محفوظة لنشاط فائق الطبيعة. "ديناميس". القوة التي تعارض قوة المسيح (كو 1: 11؛ روم 15: 19). "سامايا"، آيات ومعجزات. هي تذكّرنا بمعجزات يسوع. كل هذا يتمّ من أجل الكفر واللاإيمان الذي هو ثمرة خداع الانتيكرست فيعود إلى هلاكه.
وتنتهي صورة المناوئ لله وللمسيح بارشاد يشدّد على المسؤوليّة الفردية: "حتى يُدان جميع الذين لم يؤمنوا بالحقّ، بل ارتضوا بالاثم" (آ 12). فها نحن نعود إلى الانجيل وإلى الخيار الحاسم الذي أمامه تجعل الكرازةُ الانجيلية الانسان، كل إنسان. نحن هالكون إن لم نقبل الحقّ. أما الذين اختاروا الاثم، فقد أرسل الله إليهم "قوة تضليل" (آ 11).
إن محبّة الحقّ تقود إلى الخلاص (آ 10 ب). ونحن لا نفهم الحقّ في المعنى الفلسفيّ. ففي العالم اليهودي (دا 8: 12)، وفي قمران، الحقّ هو الطريق المستقيم. نحن نمارس الحقّ. نتنقّى بالحقّ. ننتمي إلى جماعة الحقّ.
إذا أردنا أن ندرك غنى هذا المدلول، ومكانته في الفكر البولسيّ، نعود إلى النصوص العديدة التي ترد فيها هذه الكلمة. الحقّ هو التعليم المسيحيّ (2 كور 13: 8). هو موضوع كرازة الرسول (2 كور 4: 2) الذي يجب أن نطيعه (روم 2: 8؛ 10) 16؛ غل 5: 7). فالانجيل هو كلمة الحقّ (2 كور 6: 7؛ كو 1: 5؛ أف 1: 13). والرسائل الرعائيّه تحدّد المسيحي على أنه ذاك الذي يدخل في معرفة الحق (1 تم 2: 4؛ 2 تم 3: 7). وتقدّم الكنيسة على أنها عمود الحقّ وأساسه (1 تم 3: 15). والوحي هو حقيقة الله (روم 1: 5). حقيقة المسيح (2 كور 11: 10). حقيقة الانجيل (غل 2: 5، 14؛ كو 1: 5).
وصاغ يوحنا لاهوت خلاص انطلاقاً من مدلول الحقّ: المسيح "مملوء نعمة حقاً" (يو 1: 14). وأعلن بولس أنه يجب أن نخضع ليسوع لأن فيه الحق (أف 4: 21). ودعا الوثنيّين إلى الخلاص، وهم الذين سجنوا الحقّ (روم 1: 18) وبادلوا حقيقة الله بالكذب (روم 1: 25). فطوبى للذين فعلوا كما فعل التسالونيكيون "فعرفوا الإله الحيّ والحقيقي" (1 تس 1: 9).
خاتمة
إن هذه الصفحة البولسية تنقل المسيحي إلى عالم لا نبلغ إليه إلاّ بالإيمان. فالفن الجلياني الذي ترتبط به، يحمل الحقيقة، ويعبر عنها بشكل خاص. فيبقى الأمر صعباً لكي نميّز هذه التأكيدات "الخياليّة" مع الواقع اليوميّ. لهذا نودّ أن نقدم خلاصة تلقي الضوء على تعليم بولس كما نجده في هذه المقطوعة.
يعلّم الكتاب المقدّس أن الألم والموت دخلا إلى العالم بسبب خطيئة الانسان وتمرّده على الله. هذا التعليم هو في أفق كل تاريخ الخلاص ولا سيما التاريخ الإنجيلي. وكل انتظار إسرائيل الاسكاتولوجي، وانتصار الله على أعدائه العلويّين والبشريّين، يتحدّد في منظار معارضة إبليس لله. وستتّخذ هذه المقاومة أوجهاً عدّة في الكتاب المقدّس: روحيّة وبشريّة، سياسيّة ودينيّة. وطنية وكونية. فرديّة وجماعيّة. وهي تخلق الشرّ والخداع. إذا كانت المقاومة الوطنية قد زالت في تعليم العهد الجديد، واذا كان الطابع السياسي قد ترك الطريق لطابع الخداع والاضطهاد، إلاّ أن الطابع الاسكاتولوجي بدا بارزاً جداً.
في هذا المنظار، يتكلّم بولس عن إنسان، عن مناوئ لله، عن مناوئ للمسيح الذي سيظهر قوّته في نهاية الأزمنة. فألقاب وأعمال إنسان الاثم تقدّم في تعارض مع ألقاب وأعمال المسيح (كما في سفر الرؤيا) فتطبع بطابعها ابن الهلاك، الخصم الذي يجعل نفسه إلهاً ويجترح المعجزات ويهيّئ المجيء.
كما أن العلامة، وبوق الله، وصوت رئيس الملائكة، والغمام، والسفر في السحاب (1 تس 4: 16- 17). كما أن مشروع الكافر بأن يجلس في الهيكل ويعارض كل موضوع عبادة، وكما أن إزالته بنفخة من فم الربّ، وكما أن العلامات الكاذبة المذكورة في 2 تس 2: 4- 9، قد أخذت من عالم الجليان، كيف نستطيع أن نكتشف فيها تعليماً موحى؟ هنا نعود إلى دانيال مع صورة خصم الله، خصم شعب الله.
نذكر في هذا المجال موضوع الوحش الذي يخضع للالوهة في بعض الميتولوجيات. وقد أخذ العالم اليهودي بهذا الموضوع فتحدّث عن "بهيموت" (البهيمة في المطلق) وعن "لاويتان" (الحيّة الملتويّة، التمساح) اللذين قهرا منذ بداية الكون وقيّدا (رج ما في سفر الرؤيا). سيحرّران في نهاية الأزمنة يزولان كما يزول البحر الذي يرمز إلى الشرّ (رؤ 21: 1).
ونطرح السؤال الأخير عن العائق. هل هو الامبراطوريّة الرومانيّة التي تحافظ على النظام فتمنع الثورات والحروب التي كانت تعتبر علامات عن النهاية؟ هذا ما قاله الشرّاح الأقدمون. حل هو الكرازة الرسولية ولا سيّما كرازة بولس؟ هنا نعود إلى الانجيل حيث لا حديث عن نهاية التاريخ قبل أن تعلن كلمة الله على جميع الأمم الوثنيّة (مر 13: 10؛ مت 24: 14). نحن هنا، كما قلنا، أمام لغز. وعلى كل حال، لسنا بحاجة إلى "حلّ لهذا اللغز" لنفهم مجمل فكر بولس: إن مجيء الربّ يسبقه الجحود ومجيء الكفر. لهذا، يجب أن نعيش في انتظار هذا المجيء الذي لا نعرف يومه ولا ساعته (مر 13: 18- 37 وز؛ 1 تس 5: 1- 11).
في هذا الاطار نتوقّف عند "سرّ الأثم" (آ 7). "السرّ" في الادب البولسي هو "شيء، شخص، تعليم سرّي لا تدركه المعرفة البشريّة، لأنه سرّ مخطّط الله، سرّ عمل الله في المجيئ". والاثم سرّ لأنه يدخل بشكل يحيّرنا فلا نفهمه، في مخطّط خلاص الله. هذا الاثم الذي هو الشر بكل أشكاله، لم يُكشف بعدُ كشفاً تاماً. وملكه ليس بعدُ كاملاً. ولن يظهر في وضح النهار، ولن يكون عمله شاملاً إلاّ حين يظهر الكافر. يظهر المنافق الذي يبيده الربّ بنفخة فيه.


Copyright © 2017 BOULOS FEGHALI. SITE by OSITCOM ltd
Webmaster by P. Michel Rouhana OAM